شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

ومنه يظهر الجواب على الاعتراض الثاني ؛ لأنّ النكتة مشتركة ، مضافا إلى منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيويّة ، بل سياقها سياق استعراض عدّة قوانين للجزاء الأخروي ، إذ وردت في سياق : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى )(١) ، فإنّ هذا شأن عقوبات الله في الآخرة لا في الدنيا.

وأمّا الجواب على الاعتراض الثاني فهو أنّه لا معنى لنفي الشأنيّة والاستحقاق عن الأمم السابقة فقط ، بل هذا اللسان يشمل الأمم السابقة واللاحقة ؛ لأنّ نفي الاستحقاق والشأنيّة إنّما هو بلحاظ الناس جميعا ، ولا معنى لتخصيصه بفئة خاصّة دون أخرى ؛ لأنّ لازمه أنّ الشارع ليس من شأنه أن يعذّب الأمم السابقة ، وإنّما من شأنه أن يعذّب الأمم اللاحقة عند عدم بعث الرسل ، وهذا غير معقول على الشارع ؛ لأنّ طريقة الشارع والمناسب لشأنه إمّا العذاب وإمّا عدم العذاب ولا معنى لفرض طريقتين مختلفتين للشارع ، إحداهما بلحاظ الأمم السابقة والأخرى بلحاظ الأمم اللاحقة ، بل الشارع يعطي قانونا كلّيّا عامّا يشمل كلّ الناس في كلّ زمان ومكان وهو من السنن الإلهيّة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ، فالآية تشمل جميع الناس.

والمنفي إن كان العذاب الدنيوي على فرض التسليم بذلك إلا أنّه لا معنى للوقوف عليه ؛ لأنّ عدم الشأنيّة والمناسبة كما ينفي العذاب الدنيوي ينفي العذاب الأخروي أيضا ، إذ لا فرق بينهما ، والنكتة فيهما واحدة وهي أنّ العذاب ليس من شأن المولى سواء كان في الدنيا أم في الآخرة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ ظاهر الآية وسياقها يدلّ على نفي العذاب الأخروي لا الدنيوي ؛ وذلك لأنّها وردت في سياق استعراض عدد من القوانين والسنن الإلهية من قبيل :

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) فإنّها ناظرة إلى أنّه في يوم القيامة والحساب لا تحاسب نفس عن نفس ، ولا تغني إحداهما عن الأخرى ، ولا تعاقب بدلا عنها ، وهذا السياق يتناسب مع العقوبات الأخرويّة لا الدنيويّة ، فيكون قوله : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) بمقتضى وحدة السياق أنّه لا يعذّب في الآخرة إلا بعد بعث الرسل.

ولا منشأ لدعوى النظر المذكور إلا ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله : ( وَما

__________________

(١) فاطر : ١٨.

٨١

كُنَّا ) ، وهذا بنكتة إفادة الشأنية والمناسبة ، ولا يتعيّن أن يكون بلحاظ النظر إلى الزمان الماضي خاصّة.

ثمّ إنّ المنشأ لتوهّم أنّ الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي ونفيه عن الأمم السابقة هو ورود التعبير بالنفي بصيغة الماضي : ( وما كنّا ) حيث يحمل على الزمان الماضي ، ويقال : إنّه في الماضي لم نعذّب الناس إلا بعد بعث الرسل ، ولذلك حمل نفي العذاب عنهم على العذاب الدنيوي لا الأخروي ؛ لأنّه لم يأت زمانه بعد ، إلا أنّ هذا التوهّم غير صحيح ، فإنّ هذا التعبير لا ينبغي حمله على الماضي خاصّة بل يشمل تمام الأزمنة ، وبالتالي يكون ناظرا إلى العذاب الأخروي ؛ لأنّنا قلنا : إنّ هذا التعبير كما هو شأن التعابير العرفيّة ينفي الشأنيّة والمناسبة ، وهذا يعني أنّ هذه الطريقة ليست من شأننا ولا تتناسب مع مقام الشارع ، فهي تفيد قانونا عامّا وكلّيّا يسري على تمام الناس في الماضي والحاضر والمستقبل ، فيكون العذاب المنفي ليس خصوص الدنيوي ، بل لعلّه مختصّ بالأخروي كما تقدّم.

ولكن يرد على الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدّم في الحلقة السابقة (١) : من أنّ الرسول إنّما يمكن أخذه كمثال لصدور البيان من الشارع لا للوصول الفعلي ، فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله.

والتحقيق أن يقال : إنّه مع ذلك لا يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة ؛ وذلك لأنّ المراد من البراءة التأمين عن التكليف حالة عدم وصوله إلى المكلّف ، لا التأمين عنه عند عدم صدوره من الشارع فقط.

والآية الكريمة ناظرة إلى حالة الصدور فقط ، وتنفي استحقاق العذاب عند عدم صدور التكليف فقط ، وليس فيها نظر إلى حالة صدور التكليف من الشارع مع عدم وصوله إلى المكلّف مع توفّر الدواعي لوصوله ووجود المانع من ذلك ، ويدلّ على ذلك أنّ بعث الرسول يكون لبيان الأحكام فهو مثال لصدور الأحكام من الشارع كالكتاب ، فإذا لم يصدر الحكم من الشارع لا في الكتاب ولا في السنّة تجري البراءة ، وأمّا مع صدوره فيهما وعدم وصول الحكم إلى المكلّف لسبب ما فهذا لا تنظر إليه الآية.

__________________

(١) في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

٨٢

والذي ينفعنا في المقام نفي العذاب وإثبات البراءة والتأمين عند عدم وصول التكليف أو عند الشكّ في ذلك ؛ لأنّ كلّ الأحكام قد بيّنت من الشارع وصدرت عنه كما هو مفاد كثير من الآيات ، وهذا المفاد غير ظاهر من الآية كما تقدّم ، إذ قد يصدر الحكم ويكون البيان تامّا عليه ولكنّه لم يصل إلى المكلّف ، ففي هذه الحالة ما هو الحكم والتكليف ووظيفة المكلّف؟

ثمّ إنّ البراءة إذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الدليل بمثابة الرسول أيضا.

النسبة بين البراءة والاحتياط بلحاظ هذه الآية :

ثمّ إنّه على تقدير الاستدلال بالآية على البراءة فيكون مفادها أنّه مع عدم إرسال الرسول الذي هو مطلق البيان تكون البراءة ثابتة ، وأمّا إذا ثبت البيان فالبراءة تنتفي لانتفاء موضوعها.

وحينئذ نقول : إذا تمّ الاستدلال من الأخبار على وجوب الاحتياط في مورد الشكّ في التكليف فهذا يعني أنّ البيان قد تمّ من الشارع ؛ لأنّ البيان كما تقدّم أعمّ من البيان بلسان الرسول أو الإمام أو الاحتياط ، وهنا المفروض ثبوت الاحتياط فيكون موضوع البراءة منتفيا ، وهذا يعني أنّ الاحتياط مقدّم على البراءة ؛ لأنّه بيان وهي مقيّدة بعدم البيان بحسب الفرض.

والحاصل : أنّنا حتّى لو استفدنا البراءة من الآية إلا أنّها لا تقاوم ولا تعارض أدلّة الاحتياط على تقدير تماميّة هذه الأدلّة كما سيأتي في محلّه.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(١) ، إذ دلّ على أنّ عدم الوجدان كاف في إطلاق العنان.

الآية الثالثة : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ ... ) وهذه الآية مفادها تعليم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّة المحاجّة مع اليهود الذين حرموا بعض المأكولات.

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

٨٣

وحاصله : أن يواجههم بالاستدلال على نفي التحريم بأنّه لم يجد ما حرّموه على أنفسهم محرّما في الشريعة ، وهذا يعني أنّ عدم الوجدان للحكم يكفي للحكم بالإباحة والحلّيّة ، وأنّه لا إلزام من جهته وهذا معناه ثبوت البراءة والتأمين عن الحكم المشكوك بمجرّد عدم وجدانه في الشريعة ، وإلا لما صحّ استدلال النبي على عدم الحرمة بمجرّد عدم وجدان الحكم في الشريعة.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ عدم وجدان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أوحي إليه يساوق عدم الحرمة واقعا.

وهنا عدّة اعتراضات على الاستدلال بالآية ، هي :

الاعتراض الأوّل : أنّ عدم وجدان النبي للحكم مساوق لعدم صدوره من الشارع واقعا ، فإذا لم يجد النبي هذا الشيء محرّما في الشريعة فهذا يعني أنّه لم يصدر من الشارع مثل هذا التحريم ، فيكون نظرها إلى الواقع وأنّ هذا الشيء مباح أو حلال واقعا ، لا مجرّد جعل حكم ظاهري بالإباحة والحلّيّة على الشيء الذي لم يجده النبي في الشريعة.

وبتعبير آخر : أنّ عدم وجدان النبي معناه عدم صدوره وجعله ؛ لأنّه هو المبلّغ عن الله تعالى أحكامه ، فإذا لم يكن هذا الحكم موجودا بين يديه فهذا يعني أنّه لم يصدر من الشارع أصلا.

إذا فالآية أجنبيّة عن المطلوب ، إذ نحن نريد إجراء البراءة التي هي حكم ظاهري عند الشكّ في التكليف ، بينما الآية مفادها النفي الواقعي والإباحة والحلّيّة الواقعيّة لهذا الشيء بمجرّد عدم وجدان النبي له الكاشف عن عدم الصدور والجعل واقعا ، ومحلّ كلامنا في عدم الوصول إلى المكلّف.

وثانيا : أنّه إن لم يساوق عدم الحرمة واقعا فعلى الأقلّ يساوق عدم صدور بيان من الشارع ، إذ لا يحتمل صدوره واختفاؤه على النبي ، وأين هذا من عدم الوصول الناشئ من احتمال اختفاء البيان؟

الاعتراض الثاني : أنّنا لو سلّمنا وتنزّلنا عن كون عدم الوجدان مساوقا لعدم الوجود الواقعي وقلنا بأنه يعني عدم الوصول ، إلا أنّه أيضا لا يتمّ الاستدلال بالآية

٨٤

على البراءة ، وذلك للفرق بين عدم وجدان النبي وبين عدم وجداننا.

وهو أنّ عدم وجدان النبي للحكم لا مبرّر له إلا عدم صدور البيان بشأنه ؛ إذ لو صدر البيان من الشارع لوصل إلى النبي ؛ لأنّه هو المبلّغ لأحكام الشارع ، فمن البعيد أو من غير المعقول صدوره من الله تعالى وعدم وصوله إلى النبي فيكون عدم وجدان النبي مساوقا لعدم الصدور إن لم نقل بأنّه مساوق لعدم الوجود الواقعي.

إلا أنّ هذا المعنى لا يتحقّق بالنسبة إلينا دائما ؛ لأنّنا قد نشكّ في الحكم نتيجة عدم صدوره ، وأخرى نشكّ به نتيجة عدم وصوله بعد فرض صدوره من الشارع إجمالا ، والاحتمال الثاني هو الغالب في حقّنا ؛ لأنّ أحكام الشريعة تامّة ، فمع عدم وجداننا للحكم لا يعني هذا عدم صدوره ، بل لعلّه صدر من الشارع ولكنّه لم يصلنا لأجل ضياعه أو اختفائه علينا ، فعدم وجداننا أعمّ من عدم الصدور ؛ لأنّه يتلائم مع عدم الوصول أيضا ، بينما عدم وجدان النبي فهو على الأقلّ يتلاءم مع عدم الصدور إن لم نقل مع عدم الوجود الواقعي.

وعليه فلا يتمّ استفادة البراءة ؛ لأنّنا نريد بها التأمين عن الحكم المشكوك عند عدم وصوله أيضا ، فالدليل أخصّ من المدّعى فلا يثبته.

وثالثا : أنّ إطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ أصل عملي قد يكون بلحاظ عمومات الحلّ التي لا يرفع اليد عنها إلا بمخصّص واصل.

الاعتراض الثالث : أنّ الآية الكريمة من المحتمل أن تكون ناظرة إلى شيء آخر غير البراءة أو الإباحة الظاهريّة ، وذلك بأن يقال : إنّ الآية تفيد أنّ عمومات ما دلّ على الحلّيّة والإباحة الواقعيّة للمأكولات ولما أخرج من الأرض لا يرفع اليد عنها إلا مع وجود مخصّص قطعي واصل إلى المكلّف ، فيكون العامّ هو الحجّة لإفادة الحلّيّة والإباحة لا البراءة.

فمثلا قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(١) يدلّ على أنّ كلّ شيء مباح وحلال للإنسان إلا ما دلّ عليه الدليل الخاصّ القطعي ، ولا يرفع اليد عن هذا الدليل الاجتهادي لمجرّد الشكّ في المخصّص مع عدم وصوله

__________________

(١) البقرة : ٥٩.

٨٥

القطعي ، فتكون الإباحة والحلّيّة الثابتة بهذا العموم إباحة وحلّيّة واقعيّة.

بينما المطلوب الاستدلال بالآية على الحلّيّة والإباحة والتأمين الظاهري عند عدم وجدان ما يصلح دليلا على الحكم المشكوك ، فالآية ناظرة إلى شيء آخر ولا أقلّ من احتمال ذلك فتكون مجملة ، وبالتالي لا يتمّ الاستدلال بها.

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(١).

وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الحلقة السابقة (٢).

الآية الرابعة للاستدلال على البراءة ، قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ... ) بتقريب أنّ الله سبحانه وتعالى نفى الإضلال بعد الهداية حتّى يبيّن للناس.

والمعنى المتحصّل هو أنّ الإضلال والخذلان لا يكون إلا بعد البيان ، وأمّا قبل البيان فلا إضلال ولا عذاب ، وهذا يعني التأمين من العقاب مع عدم البيان.

وفي مقامنا إذا لم يبيّن التكليف لهم ـ وبيانه لهم يعني وصوله إليهم ـ فلا عقاب عليهم وهو يعني البراءة ، فالاستدلال تامّ.

يبقى الكلام في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل هي معارضة لأدلّة الاحتياط على فرض تماميّتها ، أو أنّ أدلّة الاحتياط مقدّمة وحاكمة عليها باعتبارها بيانا؟

وهذا الأمر مرتبط بتفسير قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) ، وهنا يوجد احتمالان في تفسير هذا الاتّقاء هما :

وما يتّقى إن أريد به ما يتّقى بعنوانه انحصر بالمخالفة الواقعيّة للمولى ، فتكون البراءة المستفادة من الآية الكريمة منوطة بعدم بيان الواقع ، وإن أريد به ما يتّقى ولو بعنوان ثانوي ظاهري كعنوان المخالفة الاحتماليّة كان دليل وجوب الاحتياط واردا على هذه البراءة ؛ لأنّه بيان لما يتّقى بهذا المعنى.

الاحتمال الأوّل : أن يكون المراد من قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) العنوان الأوّلي ، وحينئذ يكون المعنى : أنّ الله لا يعاقب ولا يخزي قوما إلا بعد أن يبيّن لهم الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّها هي التي يجب على الناس اتّقاؤها وعدم مخالفتها ، وذلك

__________________

(١) التوبة : ١١٥.

(٢) في بحث الأصول.

٨٦

بالالتزام بها وامتثالها ، فإذا بيّن لهم هذه الأحكام ووصلت إليهم فمع مخالفتها يستحقّون العقاب ؛ لأنّهم خالفوا الأحكام الواقعيّة للمولى ومخالفتها توجب العقاب ، وأمّا إذا لم يبيّن لهم الأحكام الواقعيّة التي يجب عليهم اتّقاؤها فمع المخالفة الواقعيّة لها في هذه الحالة لا يستحقّون العقاب ؛ لأنّه لا عقاب إلا على مخالفة الأحكام الواقعيّة ، فتكون البراءة المستفادة من الآية بناء على هذا التفسير سنخ براءة ثابتة في مورد عدم بيان الحكم الواقعي ، وعليه فتكون أدلّة الاحتياط على فرض تماميّتها معارضة لهذه البراءة ؛ لأنّ موضوعهما واحد وهو عدم وصول التكليف الواقعي.

وبتعبير آخر : أنّ البراءة ثابتة مع عدم البيان على الواقع والاحتياط أيضا على فرض تماميّته ثابت في هذا المورد فيتعارضان.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) ما يشمل العنوان الثانوي الظاهري أيضا ، فيكون المعنى أنّه مع عدم بيان الحكم الواقعي والحكم الثانوي المجعول في ظرف الشكّ في الواقع ، والذي هو حكم ظاهري طريقي ، تكون البراءة ثابتة ؛ إذ لا خزي ولا عقاب مع عدم بيان هذين النحوين من الحكم ، وأمّا مع بيان الحكمين الواقعي أو الظاهري فالعقاب والخزي ثابت.

أمّا العقاب على الأوّل فواضح ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب الامتثال والطاعة لتكاليف المولى الواقعيّة ، ويحكم باستحقاق العقاب على مخالفتها ؛ لكون المخالفة خروج عن زيّ العبوديّة وتعدّ على حدود المولى.

وأمّا العقاب على الثاني فلأنّه طريق كاشف عن الواقع فهو ينجّز الواقع ، وتكون المخالفة هنا احتماليّة لا قطعيّة ، إذ لعلّ هذا الحكم الظاهري مخطئ غير مصيب للواقع ؛ لما تقدّم في محلّه من أنّ الأحكام الظاهريّة قد تصيب وقد تخطئ بناء على مذهب التخطئة ، فيكون العقاب حينئذ ثابتا في مورد المخالفة القطعيّة بأن يبيّن الحكم الواقعي ويخالفه ، وثابتة أيضا في مورد المخالفة الاحتماليّة بأن يبيّن الحكم الظاهري ويخالفه.

وحينئذ تكون البراءة المستفادة من الآية على هذا التفسير سنخ براءة مورودة للاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط على فرض تماميّة أدلّته معناه وصول الحكم الظاهري الذي

٨٧

يجب اتّقاؤه وعدم مخالفته لا لنفسه ، بل لكونه ينجّز الواقع كما تقدّم بيانه في الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري (١).

__________________

(١) والصحيح من هذين الاحتمالين برأي السيّد الشهيد هو الأوّل ؛ لأنّه الظاهر من الآية حيث إنّ الإضلال والخزي والعقاب لا يكون إلا بمخالفة الواقع قطعا ، وأمّا مخالفة الظاهر فهي لا توجب ذلك دائما ، بل قد توجبه إذا كان الحكم الظاهري مصيبا للواقع وقد لا توجبه إذا كان مخطئا ، وحيث إنّ الآية رتّبت الإضلال على بيان ما يتّقى ، فهذا يعني أنّها ناظرة إلى أنّه بمجرّد البيان لما يجب اتّقاؤه وعدم الالتزام به يترتّب الإضلال ، وهذه الكلّيّة لا تتحقّق إلا مع مخالفة الواقع دون الظاهر.

إلا أنّ السيّد الأستاذ يرى أنّ الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ البيان المأخوذ في لسان الآية مطلق وهو بذلك يشمل كلّ نوع من أنواع البيان الأعمّ من الظاهري والواقعي ؛ لأنّ كلا الحكمين يجب اتّقاؤه ومخالفته توجب العقاب.

٨٨

أدلّة البراءة من السنّة

٨٩
٩٠

أدلّة البراءة من السنّة

واستدلّ من السنّة بروايات :

منها : ما روي عن الصادق عليه‌السلام من قوله : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (١). وفي الرواية نقطتان لا بدّ من بحثهما :

أمّا السنّة فقد استدلّ بها على البراءة بروايات عديدة منها :

الرواية الأولى : قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ». وتقريب الاستدلال أنّ الإطلاق مساوق للسعة والتأمين فيكون المعنى أنّ التأمين ثابت في كلّ شيء ما لم يرد فيه نهي ، فإذا ورد النهي ارتفع التأمين ، وهذا هو معنى البراءة فإنّ مفادها التأمين في حالة عدم ورود النهي.

إلا أنّ هذا الاستدلال يتوقّف على تحقيق نقطتين :

الأولى : أنّ الورود هل هو بمعنى الوصول ليكون مفاد الرواية البراءة بالمعنى المقصود أو الصدور لئلاّ يفيد في حالة احتمال صدور البيان من الشارع مع عدم وصوله؟

النقطة الأولى : في أنّ الورود هل هو بمعنى الوصول أو بمعنى الصدور؟

فإن كان بمعنى الوصول تمّ الاستدلال بالآية على البراءة ؛ إذ يكون المعنى حينئذ أنّه مع عدم وصول البيان على التكليف فهو في سعة منه سواء كان في الواقع صادرا أم لا.

فإذا وصل التكليف إلى المكلّف ثبت الورود فلا سعة ولا تأمين.

وأمّا إذا لم يصل فهو في سعة ومؤمن حتّى لو احتمل صدور التكليف في الواقع ، لكنّه لم يصل لسبب من الأسباب كالضياع أو الاختفاء ونحوهما.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣١٧ / ٩٣٧.

٩١

وإن كان بمعنى الصدور لا يتمّ الاستدلال على البراءة المطلوبة ؛ وذلك لأنّ المعنى على هذا يكون أنّه إذا صدر التكليف ثبت الورود ، وأمّا إذا لم يصدر فهو في سعة منه ، وحينئذ إذا لم يصل التكليف لكن احتمل صدوره واختفاؤه لسبب ما فلا يمكن ثبوت السعة والتأمين إذ لعلّه صدر ، فيكون الشكّ هنا من الشبهة المصداقيّة للبراءة ؛ لأنّه يشكّ في أنّ موضوعها متحقّق أم لا ، ومعه لا يمكن التمسّك بدليل البراءة ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

والحاصل : أنّ الغاية التي هي الورود إن كانت بمعنى الوصول فمع عدم الوصول تنتفي الغاية فيبقى المغيّى ، ومع الوصول تتحقّق الغاية فينتفي المغيّى ، وإن كان بمعنى الصدور فالصدور يحقّق الغاية فينتفي المغيّى ، ومع عدم الصدور تنتفي الغاية فيبقى المغيّى ثابتا.

وعلى الأوّل يتمّ الاستدلال بالآية على البراءة دون الثاني ؛ لأنّ المراد بالبراءة التأمين عن التكليف المشكوك بمجرّد عدم وصوله سواء كان صادرا أم لا.

الثانية : أنّ النهي الذي جعل غاية هل يشمل النهي الظاهري المستفاد من أدلّة وجوب الاحتياط أو لا؟

فعلى الأوّل تكون البراءة المستفادة ثابتة بدرجة يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها ، وعلى الثاني تكون بنفسها نافية لوجوب الاحتياط.

النقطة الثانية : في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل تكون معارضة للاحتياط على فرض تماميّة دليله ، أو أنّها محكومة له؟

والجواب عن هذا السؤال يختلف حاله باختلاف المراد من ورود النهي الذي جعل غاية ، فإنّه يوجد فيه احتمالان :

الأوّل : أنّ يكون المراد من ورود النهي العنوان الأوّلي ، فيكون المعنى أنّ ورود النهي واقعا هو الغاية للسعة والإطلاق ، فما دام النهي الواقعي لم يرد فالسعة والإطلاق ثابتان ، وأمّا مع ورود النهي الواقعي فتتحقّق الغاية فينتفي المغيّى أي الإطلاق والسعة.

وهذا يعني أنّ البراءة تثبت ما دام النهي واقعا لم يرد على هذا الشيء المشكوك ، فتكون البراءة ثابتة في مورد الشكّ في الواقع الذي لم يرد ولم يصل إلى المكلّف ،

٩٢

وبهذا تكون البراءة معارضة للاحتياط ؛ لأنّه يثبت النهي الظاهري لا الواقعي ، فكلاهما موضوعهما واحد وهو الواقعة المشكوكة التي لم يرد فيه نهي واقعي.

الثاني : أن يكون المراد من ورود النهي الأعمّ من الورود الواقعي الأوّلي أو الظاهري الثانوي ، فالمجعول غاية حينئذ ورود النهي مطلقا واقعا أو ظاهرا ، فمع عدم ورود ما يفيد النهي مطلقا تثبت البراءة والسعة ، وأمّا مع ورود ما يفيد النهي ولو ظاهرا فالغاية تتحقّق فينتفي المغيّى ، وعلى هذا يكون دليل الاحتياط على فرض تماميّته واردا على دليل البراءة ؛ لأنّه يثبت النهي فيحقّق الغاية فتنتفي البراءة المغيّاة به.

وعلى هذا فالاستدلال بالآية على البراءة يتوقّف على أن يكون الورود بمعنى الورود الواقعي لا الأعمّ منه ومن الظاهري ، وإلا كانت البراءة مورودة لدليل الاحتياط.

أمّا النقطة الأولى : فقد يقال بتردّد الورود بين الصدور والوصول ، وهو موجب للإجمال الكافي لإسقاط الاستدلال.

تحقيق الحال حول النقطة الأولى ، وأنّ الورود ما ذا يراد به؟

قد يقال : إنّ الآية مجملة إذ كما يحتمل أن يكون المراد من الورود الوصول كذلك يحتمل أن يكون المراد منه الصدور ، وحيث إنّه لا معيّن لأحدهما على الآخر فتكون الآية مجملة لتردّد معنى الورود بينهما.

وهذا الإجمال والتردّد يكفي للمنع من تماميّة الاستدلال بالآية على البراءة ؛ لأنّه مبني على استظهار الوصول من الورود ، وهذا غير ظاهر لعدم الدليل عليه ، ومع الإجمال لا يتمّ الاستدلال.

وقد تعيّن إرادة الوصول بأحد وجهين :

وقد يقال : إنّ الوصول هو المتعيّن من كلمة الورود لا الصدور ، ويدلّ على ذلك وجهان :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّ المغيّى حكم ظاهري فيتعيّن أن تكون الغاية هي الوصول لا الصدور ؛ لأنّ كون الصدور غاية يعني أنّ الإباحة لا تثبت إلا مع عدم الصدور واقعا ، ولا يمكن إحرازها إلا بإحراز عدم الصدور ، ومع إحرازه لا شكّ فلا مجال للحكم الظاهري.

٩٣

الوجه الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله من تعيّن إرادة الوصول من الورود لا الصدور ؛ وذلك لأنّه إن أريد الصدور فالمغيّا وهو الإباحة والسعة إمّا أن تكون واقعيّة أو ظاهريّة.

فإن كانت واقعيّة فيكون المعنى أنّ الإباحة الواقعيّة ثابتة ومنوطة بعدم صدور النهي من الشارع ، وهذا غير معقول ؛ لأنّه من باب أخذ عدم الضدّ قيدا في الضدّ وهو محال ؛ لأنّ الإباحة ضدّ الحرمة كما هو واضح ، فتعليق الإباحة على عدم الحرمة من باب تعليق الضدّ على عدم ضدّه ، كما يقال إنّ الشيء الساكن يبقى كذلك إلى أن يتحرّك ، وهذا غير معقول للزوم الدور.

وإن كانت الإباحة ظاهريّة فيكون المعنى أنّ الإباحة الظاهريّة ثابتة عند عدم صدور النهي الواقعي من الشارع وهذا خلف ؛ لأنّ الإباحة الظاهريّة منوطة ومشروطة حينئذ بعدم الصدور ، فإذا أحرز عدم الصدور تثبت الإباحة الظاهريّة وإذا لم يحرز فلا تثبت.

وهذا لا فائدة منه ؛ لأنّه مع إحراز عدم الصدور للنهي فالإباحة الظاهريّة لا مجال لها إذ سوف يعلم حينئذ بأنّ الواقع ليس هو الحرمة ، بل الإباحة فتكون الإباحة واقعيّة لا ظاهريّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه خلف ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة منوطة بالشكّ في الواقع ولا تجري عند إحراز الواقع.

وبهذا يتّضح أنّه إذا حملنا الورود على الصدور لم يكن هناك معنى للإباحة لا الواقعيّة ولا الظاهريّة ، فيتعيّن حمله على الوصول ، وحينئذ يكون المراد من المغيّى هو الإباحة الظاهريّة ، فيكون المعنى أنّه مع عدم وصول النهي الواقعي من الشارع إلى المكلّف فيحكم بالإباحة ظاهرا ، وهذا يصدق مع الشكّ في الصدور الواقعي أيضا عند عدم الوصول.

فإن قيل : لما ذا لا يفترض كون المغيّى إباحة واقعيّة؟

كان الجواب منه : أنّ الإباحة الواقعيّة والنهي الواقعي الذي جعل غاية متضادّان ، فإن أريد تعليق الأوّلى على عدم الثاني حقيقة فهو محال ؛ لاستحالة مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر. وإن أريد مجرّد بيان أنّ هذا الضدّ ثابت حيث لا يكون ضدّه ثابتا فهذا لغو من البيان ؛ لوضوحه.

٩٤

فإن أشكل عليه بأنّنا نلتزم بأن يكون المراد من الغاية الصدور أي صدور النهي الواقعي من الشارع ، ونلتزم أيضا بأن يكون المراد من المغيّى الإباحة الواقعيّة ، فالإباحة الواقعيّة ثابتة إلى أن يصدر النهي الواقعي.

كان جوابه : أنّ هذا غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ الإباحة الواقعيّة والنهي الواقعي ضدّان ؛ لأنّهما حكمان تكليفيّان حقيقيّان متغايران لا يجتمعان على مورد واحد.

وحينئذ نسأل : ما هو المراد من جعل النهي الواقعي غاية للإباحة الواقعيّة؟

فإن كان المراد أنّ الإباحة الواقعيّة معلّقة واقعا وحقيقة على عدم صدور النهي الواقعي من الشارع ، بحيث يكون عدم صدور النهي الواقعي مقدّمة لثبوت الإباحة الواقعيّة ، فهذا مستحيل ؛ لما تقدّم في محلّه من استحالة أخذ عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر.

فكما يستحيل أن يقال : إنّ عدم السواد مقدّمة لثبوت البياض فكذلك الحال هنا ؛ لاستلزامه الدور إذ عدم السواد لو كان مقدّمة للبياض فيكون البياض أيضا مقدّمة لعدم السواد أو عدم البياض مقدّمة للسواد.

وهنا لو كان عدم الحرمة مقدّمة لثبوت الإباحة فهذا يعني أنّ الإباحة أخذ في موضوعها عدم الحرمة ، فلكي تثبت الإباحة لا بدّ من إحراز عدم النهي ، ولكي نحرز عدم النهي لا بدّ أن تثبت الإباحة ، فصارت الإباحة متوقّفة على نفسها ، وهو غير معقول ؛ لأنّ عدم الضدّ لا يكون موضوعا ومقدّمة لثبوت الضدّ الآخر.

وإن كان المراد أنّ الإباحة الواقعيّة إنّما تثبت عند عدم ثبوت الحرام الواقعي فهذا لغو ، لأنّه تحصيل للحاصل لأنّ هذا الشيء إمّا أن يكون واقعا مباحا وإمّا أن يكون حراما ، فيكون إفادة هذا المطلب لغوا ؛ لأنّه حاصل تكوينا.

وبهذا يتّضح أنّه لا معنى لحمل الإباحة إلا على الإباحة الظاهريّة ولا معنى لحمل الورود إلا على الوصول ، وبه يتمّ الاستدلال بالحديث على البراءة والإباحة الظاهريّة ؛ لأنّها تكون مجعولة عند عدم الوصول الواقعي للحرام أي في فرض الشكّ في الصدور مع عدم الوصول.

ويرد على هذا الوجه : أنّ النهي عبارة عن الخطاب الشرعي الكاشف عن

٩٥

التحريم وليس هو التحريم نفسه ، والتضادّ نفسه لا يقتضي تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، ولا على عدم الكاشف عن الضدّ الآخر ، ولكن لا محذور في أن توجد نكتة أحيانا تقتضي إناطة حكم بعدم الكاشف عن الحكم المضادّ له ، ومرجع ذلك في المقام إلى أن تكون فعليّة الحرمة بمبادئها منوطة بصدور الخطاب الشرعي الدالّ عليها ، نظير ما قيل : من أنّ العلم بالحكم من طريق مخصوص يؤخذ في موضوعه.

ويرد على هذا الوجه : أنّ التضادّ إنّما يكون بين الحكمين أي بين التحريم الواقعي وبين الإباحة الواقعيّة ، فنحن إذا اخترنا أنّ المراد من الغاية النهي الواقعي ومن المغيّى الإباحة الواقعيّة فلن يرد محذور التضادّ أي تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، وذلك إذا عرفنا ما يلي :

أوّلا : أنّ النهي ليس هو نفس التحريم وإنّما هو الكاشف عنه ، أي أنّ التحريم يبرزه الشارع بخطاب النهي فيكون هذا الخطاب كاشفا عن التحريم الواقعي وليس هو نفسه.

وثانيا : أنّ التضادّ لا يكون بين الإباحة الواقعيّة وبين النهي والخطاب الكاشف عن التحريم الواقعي ؛ لأنّ هذا لا يستلزم أن تكون الإباحة الواقعيّة معلّقة على عدم التحريم الواقعي ، بل على عدم إبرازه بالخطاب فقط ، وهذا أمر معقول في نفسه إذا فرض وجود نكتة لذلك.

وثالثا : أنّ التضادّ بين الإباحة والحرمة الواقعيّتين يقتضي استحالة تعليق ثبوت إحداهما على عدم الأخرى كما تقدّم ، ولكنّه لا يقتضي استحالة تعليق إحداهما على عدم الكاشف والمبرز للأخرى.

وفي مقامنا نقول : إنّ الحلّيّة والإباحة الواقعيّة ثابتة ما لم يصدر النهي والخطاب الدالّ على التحريم ، ولازمه أنّه إذا صدر هذا النهي الكاشف عن التحريم تصبح الحرمة فعليّة واقعا ، فترتفع الإباحة الواقعيّة لاستحالة اجتماع الحكمين التكليفيّين المتغايرين على شيء واحد واقعا.

وبتعبير آخر : تكون الحرمة الواقعيّة الفعليّة منوطة بصدور النهي والخطاب الكاشف عنها ، فإذا تمّ هذا النهي صارت الإباحة فعليّة ، وإلا فالإباحة هي التي تكون فعليّة ،

٩٦

وهذا لا مانع منه لوجود نكتة في المقام وهي أنّ الشارع قد يرى مصلحة في إناطة الحكم كالإباحة الواقعيّة بعدم صدور الكاشف عن الحكم المضادّ لها وهو الحرمة الواقعيّة ، ومرجع هذا التقييد في الحقيقة إلى أنّ الحرمة الفعليّة بمبادئها وملاكاتها معلّقة على صدور الخطاب الشرعي والنهي الدالّ عليها ، فإذا لم يصدر هذا الخطاب الشرعي فالحرمة شأنيّة فقط وتكون الإباحة الواقعيّة فعليّة.

وهذا نظير ما تقدّم سابقا من إمكان أخذ العلم بالحكم عن طريق خاصّ في موضوع الحكم ، فإنّ مرجعه إلى أنّ الحكم لا يكون فعليّا بمبادئه وملاكاته إلا إذا علم من هذا الطريق ، وأمّا إذا علم من طريق آخر فلا يكون فعليّا ، فإنّه أمر معقول ثبوتا وإن لم يتمّ إثباتا ، كما ادّعي ذلك بالنسبة للأحكام الشرعيّة حيث قال الأخباريّون بأنّ فعليّة الأحكام قد أخذ في موضوعها أن يعلم بها عن طريق الشرع لا العقل ، بمعنى أنّه إذا دلّ الخطاب الشرعي على الحكم صار فعليّا وإن دلّ عليه العقل فلا يكون فعليّا ، فهذا معقول ثبوتا ولكنّه لا دليل عليه إثباتا.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّه إذا صدر الخطاب الشرعي بالنهي صارت الحرمة الواقعيّة فعليّة فترتفع الإباحة والحلّيّة الواقعيّة ؛ لأنّهما ضدّان وإذا لم يصدر الخطاب الشرعي بالنهي لا تكون الحرمة فعليّة ، بل الإباحة تكون هي الفعليّة.

وهذا معناه أنّ الإباحة الواقعيّة منوطة ومعلّقة على عدم صدور النهي الكاشف عن التحريم لا على عدم التحريم ليقال بالاستحالة.

الثاني : أنّ الورود يستبطن دائما حيثيّة الوصول ، ولهذا لا يتصوّر بدون مورود عليه.

ولكن هذا المقدار لا يكفي أيضا ، إذ يكفي لإشباع هذه الحيثيّة ملاحظة نفس المتعلّق مورودا عليه.

الوجه الثاني لاستظهار الوصول من الورود ما يقال : من أنّ الورود يستبطن حيثيّة الوصول ؛ لأنّ الورود بمعنى الوفود فيقال : ورد علينا ضيف أي وفد علينا ووصل ، وكما يقال : وردت على الماء أي وصلت إليه.

وحينئذ يتعيّن الوصول لا الصدور ؛ لأنّه لا يفي بحيثيّة الوفود المستبطنة في الورود.

مضافا إلى أنّ الورود يحتاج إلى مورود عليه ، أي لا بدّ أن يكون هناك شيء يرد

٩٧

عليه شيء آخر ، فعند ما يقال : وردنا ضيف يوجد وارد وهو الضيف ويوجد مورود عليه وهو المضيف ، ولا يتصوّر ورود الضيف من دون تصوّر وجود المضيف.

وهنا عند ما يرد النهي لا بدّ من مورود عليه ليرده النهي ، فهناك طرف آخر يصل إليه النهي ليتحقّق أنّه ورد النهي ، وهذا الطرف هو المكلّف فإذا وصله النهي تحقّق وروده وإلا فلا.

وجوابه : أنّنا لو سلّمنا أنّ الورود يستبطن حيثيّة الوصول ، وأنّه لا بدّ من مورود عليه إلا أنّه مع ذلك لا يتعيّن ما ذكر ؛ وذلك لأنّه يكفي في ورود النهي صدوره من الشارع ووصوله إلى الشيء ، فإنّه هو الذي يردّه النهي لا المكلّف.

وبتعبير آخر : أنّ النهي يرد على الشيء لا على المكلّف ، فيكفي أن يصل النهي إلى الشيء ووصوله إلى الشيء يعني صدور تشريع وخطاب يفيد التحريم ، فإنّه يتحقّق أنّ هذا الشيء ورد فيه النهي.

وحينئذ لا يتعيّن ما ذكر ؛ لأنّ هذا المعنى محتمل أيضا في نفسه ، ولا أقلّ من الإجمال وهو كاف لمنع الاستدلال.

فالاستدلال بالرواية إذن غير تامّ ، وعليه فلا أثر للحديث عن النقطة الثانية.

وبهذا يظهر أنّ النقطة الأولى وهي أنّ الورود بمعنى الوصول غير تامّ ، ولذلك لا يتمّ الاستدلال بالحديث على البراءة ؛ لأنّ المراد بها التأمين عند عدم وصول التكليف سواء صدر أم لا ، لا التأمين عند عدم صدوره ؛ لأنّه مع العلم بعدم صدوره فلا معنى للبراءة إذ لا شكّ حينئذ.

وعليه ، فلا حاجة للبحث عن النقطة الثانية من أنّ البراءة المستفادة من الحديث هل هي معارضة للاحتياط أم مورودة له؟ ؛ لأنّ هذا فرع استفادة البراءة أوّلا وقد تبيّن عدم إمكان استفادتها.

ومنها : حديث الرفع المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصّه : « رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (١) ، والبحث حول هذا الحديث يقع على ثلاث مراحل :

__________________

(١) الخصال : ٤١٧. التوحيد : ٣٥٣.

٩٨

الرواية الثانية : الحديث المشهور بحديث الرفع ، والاستدلال به على البراءة بفقرة « وما لا يعلمون » ، والبحث يقع في عدّة مراحل كلّها ترتبط بالاستدلال وهي :

المرحلة الأولى : في فقه الحديث على وجه الإجمال ، والنقطة المهمّة في هذه المرحلة تصوير الرفع الوارد فيه ، فإنّه لا يخلو عن إشكال ؛ لوضوح أنّ كثيرا ممّا فرض رفعه في الحديث أمور تكوينيّة ثابتة وجدانا ، ومن هنا كان لا بدّ من بذل عناية في تصحيح هذا الرفع.

المرحلة الأولى في فقه الحديث عموما وإجمالا ، فإنّ هذا الحديث اشتمل على عدّة أمور أكثرها أمور تكوينيّة موجودة في الخارج وجدانا ، كالخطأ والنسيان والفعل المكره أو المضطرّ ، واشتمل على أمور ليست تكوينيّة كالنسيان وما لا يعلمون ، ونسب الرفع إلى الجميع بسياق واحد ، ومن هنا قد يستشكل في معنى الرفع المقصود هنا ، إذ كيف يمكن تصوير رفع الفعل الموجود في الخارج بالوجدان؟

ولذلك لا بدّ من توضيح المراد بالرفع بنحو يتلاءم مع جميع الفقرات الموجودة في هذا الحديث ، وهذا لا يتمّ إذا حمل الرفع على معناه الحقيقي ، إذ الشيء الموجود في الخارج لا يرتفع بمجرّد تشريع ارتفاعه ، فلا بدّ من عناية لتصحيح الرفع ، ولذلك نقول :

وذلك إمّا بالتقدير بحيث يكون المرفوع أمرا مقدّرا قابلا للرفع حقيقة كالمؤاخذة مثلا.

وإمّا بجعل الرفع منصبّا على نفس الأشياء المذكورة ، ولكن بلحاظ وجودها في عالم التشريع بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ومتعلّقه في هذا العالم ، فشرب الخمر المضطرّ إليه يرفع وجوده التشريعي بما هو متعلّق للحرمة ، وروح ذلك رفع الحكم.

وإمّا بصبّ الرفع على نفس الأشياء المذكورة بوجوداتها التكوينيّة ، ولكن يفترض أنّ الرفع تنزيلي وليس حقيقيّا ، فالشرب المذكور نزّل منزلة العدم خارجا ، فلا حرمة ولا حدّ.

وهذه العناية المصحّحة يمكن تصويرها بأحد وجوه ثلاثة :

٩٩

الأوّل : أن يكون المرفوع أمرا مقدّرا يقبل الرفع الحقيقي كعنوان المؤاخذة والعقاب ، فيكون المراد أنّ الخطأ مثلا مرفوع حكمه والمؤاخذة عليه ، والفعل المضطرّ إليه لا عقاب عليه

ولا مؤاخذة ، وهكذا.

الثاني : أن يكون المرفوع نفس الأشياء لكن لا بوجودها التكويني الخارجي بل بوجودها التشريعي ، فالفعل المضطرّ إليه مرفوع لا بنفسه إذ هو واقع من المكلّف حقيقة ، وإنّما هذا الفعل مرفوع في عالم التشريع أي أنّه في عالم التشريع لا يكون هذا الفعل المضطرّ إليه ثابتا ، وعدم ثبوته في عالم التشريع إمّا أنّه ليس موضوعا للحكم أو ليس متعلّقا له.

وتوضيحه : أنّ شرب الخمر متعلّق للحرمة ، أي أنّ الحرمة في عالم التشريع تعلّقت بشرب الخمر ، ولكن شرب الخمر المضطرّ إليه أو المكره عليه ليس متعلّقا للحرمة شرعا ، وصدور البيع في الخارج بنحو الإكراه والاضطرار ليس موضوعا شرعا للحكم بالنقل والانتقال ، وإنّما الموضوع هو البيع الصادر اختيارا.

وهذا اللسان من رفع الموضوع أو المتعلّق للحكم يرجع في حقيقته إلى رفع الحكم أيضا ، بمعنى أنّ صدور البيع أو شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لا يوجب تحقّق الحكم الشرعي المترتّب على البيع وشرب الخمر اختيارا. نظير ما يقال : إنّه لا رهبانية في الإسلام ، أي أنّه لا يشرّع هذا الموضوع.

الثالث : أن يكون المرفوع نفس الأشياء بوجودها التكويني ، ولكنّ الرفع لا يكون حقيقيّا وإنّما تعبّدي وتنزيلي ، فشرب الخمر المضطرّ إليه وصدور البيع المكره عليه ليسا موجودين في الخارج تعبّدا وتنزيلا ، أي أنّ الشارع نزّل هذا الفعل منزلة العدم وكأنّه لم يصدر أصلا ، ولذلك فلا تترتّب عليه الآثار الشرعيّة من الحرمة أو الحدّ أو النقل والانتقال.

والحاصل : أنّ العناية يمكن تصويرها بأحد هذه الوجوه :

إمّا بتقدير محذوف يتلاءم مع هذه الأشياء كالحكم أو المؤاخذة.

وإمّا بالرفع التشريعي أي أنّ هذا الموجود ليس هو موضع أو متعلّق الحكم شرعا.

وإمّا بالرفع التنزيلي أي أنّ هذا الموجود كالمعدوم فكأنّه لم يصدر في الخارج.

١٠٠