شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

شيء من الأطراف مخالف للعلم الإجمالي بوجود النجس فيها ، فيتعيّن إسقاطها جميعا.

والحاصل : أنّ هذه الاطمئنانات لو سلّمنا وجودها الفعلي إلا أنّها ساقطة عن الحجّيّة ؛ للتعارض فيما بينها الحاصل من العلم الإجمالي المذكور ، ولا يمكن الجمع بين حجّيّة الاطمئنانات جميعا وبين العلم الإجمالي ؛ لأنّه من باب اجتماع السالبة الكلّيّة والموجبة الجزئيّة ، وهما نقيضان فاجتماعهما مستحيل.

والجواب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي بكذب بعض الأمارات إنّما يؤدّي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجّيّة لأحد سببين :

الأوّل : أن يحصل بسبب ذلك تكاذب بين نفس الأمارات ، فيدلّ كلّ واحدة منها بالالتزام على وجود الكذب في الباقي ، ولا يمكن التعبّد بحجّيّة المتكاذبين.

الثاني : أن تؤدّي حجّيّة تلك الأمارات ـ والحالة هذه ـ إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال.

والجواب : أنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءات وبالتالي العلم بكذب إحدى الأمارات والإحرازات ، إنّما يؤدّي إلى حصول التكاذب والتعارض والتساقط بين هذه الإحرازات والأمارات فيما إذا تحقّق أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون هناك تناف وتكاذب بين نفس الإحرازين والأمارتين ، بأن كان كلّ واحد منهما يدلّ بالمطابقة على مؤدّاه وبالالتزام على نفي مؤدّى الآخر ، فإنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا ترجيح أحدهما على الآخر فيتعيّن سقوطهما.

كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فهنا الدليل الدالّ على وجوب الظهر يدلّ بالمطابقة على وجوبها وبالالتزام على عدم وجوب الجمعة ، وكذا الكلام في الجمعة ، فهنا لا يمكننا الأخذ بكلا الدليلين ؛ لأنّ أحدهما يكذّب الآخر ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ؛ لأنّه بلا مرجّح فيتعارضان ويتساقطان.

الثاني : أن يكون التعبّد بحجّيّة هذه الأمارات أو الإحرازات مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإنّ مثل هذا اللازم لا يمكن الالتزام به للتنافي بين الترخيص القطعي في المخالفة القطعيّة وبين المعلوم بالإجمال.

كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين وكان في كلّ منهما أصل أو أمارة يثبت

٣٦١

الطهارة ، فهنا الالتزام بكلتا الأمارتين يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة المعلومة إجمالا ، والالتزام بأحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطهما للتعارض بينهما.

وكلا السببين غير متوفّر في المقام.

وفي مقامنا حيث يجري في كلّ طرف اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال موجودا في سائر الأطراف الأخرى ، سوف لن يتحقّق شيء من هذين السببين ، وبيانه :

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ اطمئنان لا يوجد ما يكذبه بالدلالة الالتزاميّة ، لأنّنا إذا أخذنا أي اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل أن يكونا معا صادقين ، فلما ذا يتكاذبان؟

وإذا أخذنا مجموعة الاطمئنانات الأخرى لم نجد تكاذبا أيضا ؛ لأنّ هذه المجموعة لا تؤدّي إلى الاطمئنان بمجموع متعلّقاتها ، أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الأطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها ؛ وذلك لما برهنا عليه من أنّ كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان الاطمئنان بالقضيّة الشرطيّة لا يؤدّي اجتماعهما إلى الاطمئنان بالمجموع. والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل كما عرفت.

أمّا السبب الأوّل ـ وهو التكاذب بين الإحرازين في المدلول الالتزامي ـ فهذا غير موجود في مقامنا ؛ وذلك : لأنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف مدلوله المطابقي هذا المقدار ، وأمّا مدلوله الالتزامي فهو أحد أمرين :

الأوّل : أن يقال : إنّ المدلول الالتزامي للاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هو انطباقه على الطرف الآخر وهو الإناء الثاني الذي نضمّه إلى الإناء الأوّل ، فكلّ منهما يكذّب الآخر بمدلوله الالتزامي فلا يمكن اجتماعهما ولا يمكن ترجيح أحدهما فيحكم بتساقط الاطمئنانين معا.

وهذا غير تامّ ؛ لأنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في الإناء الأوّل يمكن اجتماعه مع الاطمئنان بعدم الانطباق في الإناء الثاني ؛ إذ المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد الإناءات قد يكون في الإناء الثالث أو غيره لا في خصوص الأوّلين ، ولذلك لا مانع من صدق الاطمئنانين الأوّل والثاني ، وعليه فلا تكاذب بينهما بمعنى أنّ أحدهما

٣٦٢

يثبت النجاسة في الآخر بخصوصه ليحصل التنافي والتكاذب في المدلول الالتزامي فيهما.

الثاني : أن يقال إنّ المدلول الالتزامي للاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هو كون المعلوم بالإجمال في مجموع الأطراف الأخرى ككلّ لا خصوص كلّ طرف طرف منها ، بمعنى أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف لازمه وجود الانطباق في مجموع الأطراف ، وحيث إنّ مجموع الأطراف ينتج لنا الاطمئنان بعدم الانطباق فيها ؛ لأنّنا لو ضممنا الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف منه حصل لنا الاطمئنان الفعلي بالمجموع وهذا لازمه أنّ المعلوم بالإجمال موجود في الطرف الأوّل ، وعندئذ يحصل التكاذب بين هذا الطرف من جهة مدلوله الالتزامي وبين مجموع الأطراف من جهة مدلولها الالتزامي ، ولا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر ، فيحكم بتساقط الاطمئنانات في الجميع.

وهذا أيضا غير تامّ ؛ لأنّه مبني على أن يكون ضمّ الاطمئنان في كلّ طرف إلى الاطمئنان في الطرف منتجا للاطمئنان بالمجموع ، وهذا إنّما يكون فيما لو كان كلّ اطمئنان ثابتا ومحرزا لمتعلّقه بنحو القضيّة الشرطيّة ، أي يثبت ويحرز متعلّقه على جميع التقادير وعلى مختلف الاحتمالات والتقديرات.

إلا أنّ الصحيح كما تقدّم أنّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف ليس مطلقا ، بل هو مشروط ولذلك لا ينتج من ضمّ اطمئنان إلى آخر الاطمئنان في المجموع ، وعليه فمجموع الاطمئنانات في سائر الأطراف لا ينتج لنا الاطمئنان الفعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الجميع ، أي أنّه لا يوجد لها مدلول التزامي يكذّب المدلول الالتزامي في الطرف الأوّل ، ولذلك لا يحصل التكاذب والتنافي والتساقط.

والوجه في ذلك ما تقدّم البرهان عليه من أنّ كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان ولا يستبطنان الاطمئنانين بالقضيّة الشرطيّة ، أي الاطمئنان المطلق. وعلى جميع التقادير لا يكون اجتماعهما مؤدّيا إلى الاطمئنان الفعلي بالمجموع ، ومقامنا من هذا القبيل ، أي اطمئنان لا يستبطن القضيّة الشرطيّة ؛ لأنّه مبني على حساب الاحتمالات كما تقدّم ، وهو لا ينتج إلا الاطمئنان المشروط فقط لا المطلق.

وحينئذ يمكن اجتماع الاطمئنانين الفعلي بعدم الانطباق على هذا الطرف مع

٣٦٣

مجموع الاطمئنانات الفعليّة في سائر الأطراف ؛ لأنّ مجموعها لن يؤدّي إلى الاطمئنانين بالمجموع ، فلن يحصل المدلول الالتزامي فيها وبالتالي لا تكاذب.

وبهذا ظهر أنّ سبب التكاذب الناشئ من المدلول الالتزامي للاحرازين أو للأمارتين غير موجود في مقامنا ، فلا تكاذب ولا تعارض من هذه الجهة.

وأما الثاني : فلأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة إنّما يلزم لو كان دليل حجّيّة هذه الاطمئنانات يقتضي الحجّيّة التعيينيّة لكلّ واحد منها ، غير أنّ الصحيح إنّ مفاده هو الحجّيّة التخييريّة ؛ لأنّ دليل الحجّيّة هنا هو السيرة العقلائيّة وهي منعقدة على الحجّيّة بهذا المقدار.

وأمّا السبب الثاني ـ وهو أن يكون التعبّد بحجّيّة الإحرازات مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ـ فهذا غير موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ حجّيّة الإحراز في مقامنا ـ وهو الاطمئنان ـ إنّما هو السيرة العقلائيّة ، وهي تفيد حجّيّة الاطمئنان تخييرا لا تعيينا.

بمعنى أنّ العقلاء يرون أن تطبيق الاطمئنان بعدم الانطباق على هذا الطرف جائز وعلى ذاك جائز ، إلا أنّ

تطبيق الاطمئنان على المجموع غير جائز ، فيلزم أن تكون الاطمئنانات جميعا حجّة بنحو التخيير ، إذ لو كانت الحجّيّة تعيينيّة للزم أن يكون كلّ اطمئنان حجّة بنفسه ويؤخذ به.

وبالتالي تكون جميع الأطراف الاطمئنان فيها حجّة تعيينا ، فيقع التكاذب بين هذه الاطمئنانات للعلم بكذب بعضها ، وحيث إنّه غير معلوم فيكون كذب هذا البعض بخصوصه دون الآخر ترجيحا بلا مرجّح ، وعدم كذب شيء منها يؤدّي إلى التعارض بين حجّيّتها التعيينيّة وبين العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، فيتعيّن رفع اليد عن بعضها غير المعيّن وهو معنى الحجّيّة التخييريّة ، أي يجوز له الأخذ بأي طرف شاء ولكن لا يجوز الأخذ بجميع الأطراف.

والوجه في هذا هو حساب الاحتمالات ؛ لأنّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف كان مستندا إلى حساب الاحتمالات كما تقدّم ، بناء على ضآلة القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال في هذا الطرف ، فلو كان لدينا مائة ألف إناء كانت القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال عليه ١ / ١٠٠٠٠٠ وتزداد ضآلة كلّما ازدادت الأطراف كثرة.

٣٦٤

وأمّا لو أردنا أن نأخذ القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال ضمن الإناءين معا ، فهنا سوف تزداد القيمة الاحتماليّة للانطباق من ١ / ١٠٠٠٠٠ ، إلى ١ / ٥٠٠٠٠ ، فإذا كانت ثلاثة صارت ١ / ٣٣٣٣٣ ، فاذا كانت أربعة صارت ١ / ٢٥٠٠٠ ، فإذا كانت عشرة صارت ١ / ١٠٠٠٠ وهكذا ، أي أنّنا كلّما ضممنا طرفا إلى طرف ازدادت القيمة الاحتماليّة بحيث تصبح معتدّا بها عقلائيّا.

وبهذا ظهر أنّ ضمّ طرف إلى طرف لا ينتج الاطمئنان بالمجموع ، وحينئذ لن يحصل التعارض بين الاطمئنان الفعلي في هذا الطرف مع مجموع الأطراف ؛ لأنّ المجموع لا يوجد اطمئنان فعلي بعدم الانطباق عليه.

التقريب الثاني : أنّ الركن الرابع من أركان التنجيز المتقدّمة مختلّ ؛ وذلك لأنّ جريان الأصول في كلّ أطراف العلم الإجمالي لا يؤدّي إلى فسح المجال للمخالفة القطعيّة عمليّا والإذن فيها ؛ لأنّنا نفترض كثرة الأطراف بدرجة لا تتيح للمكلّف اقتحامها جميعا ، وفي مثل ذلك تجري الأصول جميعا بدون معارضة.

التقريب الثاني لعدم وجوب الموافقة القطعيّة أن يقال : إنّ الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ـ وهو كون جريان الأصول الترخيصيّة في جميع الأطراف مؤدّيا إلى الترخيص القطعي في المخالفة العمليّة ـ غير تامّ ؛ وذلك لأنّنا نفترض أطراف الشبهة غير المحصورة كثيرة جدّا ، بحيث لا يتمكّن المكلّف بحسب العادة من ارتكابها جميعا ، كما لو علمنا إجمالا بنجاسة إناء من مليون إناء فإنّه لن يتمكّن بحسب العادة من ارتكاب الجميع ، وهذا يعني أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ طرف طرف لن يؤدّي فعلا إلى المخالفة القطعيّة عمليّا للمعلوم الإجمالي ؛ لأنّ المكلّف سوف يترك بعض الأطراف لا محالة ، وفي مثل هذه الحالة لا مانع من جريان الأصول ، وبالتالي لا منجّزيّة للعلم الإجمالي لكافّة أطرافه.

وهذا نظير العلم إجمالا إمّا بحرمة الشرب من هذا الإناء وإمّا بوجوب الشرب منه ، أي الدوران بين المحذورين كما سيأتي ، فإنّه لا محذور في جريان الأصول الترخيصيّة عن الوجوب والحرمة معا ؛ لأنّه لن يلزم من ذلك المخالفة العمليّة ؛ لأنّه في الواقع إمّا أن يشرب أو لا يشرب ، فهو يمتثل أحدهما ويخالف آخر ولا يمكنه مخالفتهما معا عمليّا.

٣٦٥

والحاصل : أنّه مع اختلال الركن الرابع لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ، وفي الشبهة غير المحصورة حيث إنّ الأطراف بالغة من الكثرة حدّا لا يمكن للمكلّف اقتحامها جميعا عمليّا فلن يكون هناك محذور في جريان الأصول الترخيصيّة فيها جميعا ، فإذا جرت فعلا في الجميع كان العلم الإجمالي ساقطا عن المنجّزيّة.

وهذا التقريب متّجه على أساس الصيغة الأصليّة التي وضعناها للركن الرابع فيما تقدّم.

وأمّا على أساس صياغة السيّد الأستاذ له السالفة الذكر فلا يتمّ ؛ لأنّ المحذور في صياغته الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ، وهو حاصل من جريان الأصول في كلّ الأطراف ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة لعدم القدرة عليها.

ومن هنا يظهر أنّ الثمرة بين الصيغتين المختلفتين للركن الرابع تظهر في تقييم التقريب المذكور إثباتا ونفيا.

وهذا التقريب أي اختلال الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، بسبب جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف المؤدّي إلى فسح المجال للوقوع في المخالفة القطعيّة ، إنّما يتّجه ويكون صحيحا بناء على صياغة المشهور للركن الرابع من أركان المنجّزيّة ، حيث تقدّم أنّه توجد صياغتان لهذا الركن :

إحداهما عن المشهور ، ومفادها : أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مؤدّيا إلى المخالفة القطعيّة ، أو على الأقلّ يتيح للمكلّف ارتكاب الجميع على شرط أن يكون ارتكاب الجميع ممكنا وقوعه من المكلّف ، ولذلك فإذا كان عاجزا عن ارتكاب الجميع ، إمّا لعدم قدرته على ذلك بأن كانت الأطراف كثيرة جدّا ، أو خروج بعضها عن مورد الابتلاء ، أو تلف بعضها فلا محذور في جريان الأصول الترخيصيّة في جميع الأطراف ، فهذا الركن بهذه الصياغة ينهدم في موردنا ؛ لأنّ الشبهة غير المحصورة أطرافها كثيرة جدّا بحيث لا يتمكّن المكلّف من ارتكابها جميعا ، فتجري الأصول الترخيصيّة بلا محذور ؛ لأنّ جريانها لن يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة في الخارج.

وأمّا بناء على صياغة السيّد الخوئي لهذا الركن ، والتي كانت تتّجه إلى أنّ المحذور من جريان الأصول الترخيصيّة هو الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة سواء خالف عمليّا أم لا ، وسواء تمكّن من المخالفة أم كان عاجزا عنها.

٣٦٦

فهنا وإن لم يكن المكلّف قادرا على ارتكاب جميع الأطراف لكثرتها ، إلا أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف يؤدّي إلى القطع بصدور الترخيص في أطراف الشبهة جميعا ، وهذا محال صدوره ؛ لأنّه لا يجتمع مع العلم الإجمالي بالتكليف ضمن هذه الأطراف ، فلا يمكن القطع بالترخيص ؛ لأنّه قطع باجتماع النقيضين ، والقطع باجتماع المتناقضين كاجتماعهما مستحيل ، والقطع بالمستحيل محال.

ومن هنا قد يقال : إنّ الثمرة العمليّة بين الصياغتين تظهر في هذا التقريب الثاني.

فعلى صياغة المشهور يكون هذا التقريب تامّا ؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة لانهدام ركنه الرابع.

وعلى صياغة السيّد الخوئي يكون هذا التقريب غير تامّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي باق على منجّزيّته ؛ إذ الركن الرابع غير منهدم هنا.

غير أنّ السيّد الأستاذ (١) حاول أن ينقض على من يستدلّ بهذا التقريب ، وحاصل النقض : أنّ الاحتياط إذا كان غير واجب في الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلّف على المخالفة القطعيّة يلزم عدم وجوب الاحتياط في كلّ حالة تتعذّر فيها المخالفة القطعيّة ولو كان العلم الإجمالي ذا طرفين أو أطراف قليلة ، حيث تجري الأصول جميعا ولا يلزم منها الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة.

ومثاله : أن يعلم إجمالا بحرمة المكث في آن معيّن في أحد مكانين ، مع أنّ القائلين بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك في نظائر هذا المثال.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله قد نقض على هذا التقريب على فرض التسليم بصياغة المشهور.

وحاصل النقض : أنّنا لو سلّمنا بأنّ الركن الرابع هو أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مؤدّيا إلى إمكان المخالفة القطعيّة ووقوعها من المكلّف في الخارج ، فهذا الركن كما ينهدم في موارد الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلّف على ارتكاب جميع الأطراف ؛ لأنّها بالغة من الكثرة حدّا لا يمكن معه

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٣٧٤.

٣٦٧

ارتكابها جميعا ؛ لعدم القدرة أو لخروج بعضها عن محلّ الابتلاء فعلا ، فكذلك ينهدم في موارد الشبهة المحصورة الدائرة بين طرفين أو أطراف قليلة جدّا لو فرض عدم قدرة المكلّف وعجزه عن ارتكاب جميع الأطراف ، فإنّه ما دام الملاك لانهدام الركن الرابع هو عدم التمكّن من المخالفة القطعيّة أو عدم القدرة عليها ، فهذا الملاك موجود في الصورتين معا ، فهل يلتزم بسقوط العلم الإجمالي فيهما أم لا؟!

فمثلا : إذا علم إجمالا بلزوم المكث في أحد مكانين في الساعة الواحدة ، فهذه شبهة محصورة بلا إشكال إلا أنّ المكلّف غير قادر على المكث في المكانين في الوقت الواحد ، فهل ينهدم الركن الرابع وتجري الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين؟

والجواب : أنّه لا يمكن الالتزام بذلك ، بل يقولون : إنّ هذا العلم الإجمالي منجّز ، مع أنّ المكلّف غير قادر على المخالفة القطعيّة ، فليكن هناك أي في الشبهة غير المحصورة العلم الإجمالي منجّزا أيضا.

والحاصل : أنّه لا فرق بين الشبهتين المحصورة وغير المحصورة في ذلك ما دام الركن الرابع منهدم فيهما معا.

فإن قيل بالتفصيل بين الشبهتين كان الركن الرابع بالصياغة المذكورة عند المشهور غير صحيح ، بل الصحيح هو صياغته بما ذكرنا من لزوم القطع بالمخالفة وإن لم يخالف واقعا ، فإنّ هذا الركن موجود في الشبهتين معا ولذلك يتنجّزان ، ولا مجال للتفصيل بينهما إذ لا مبرّر له لا على صياغتنا ولا على صياغة المشهور ، بمعنى إمّا أن يلتزم بالتنجيز في الشبهتين أو يلتزم بعدم التنجيز فيهما معا ، فعلى صياغة المشهور يجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة في الحالتين ولا معنى للتفصيل بالتنجيز في الشبهة المحصورة وعدم التنجيز في الشبهة غير المحصورة ؛ لأنّ الملاك موجود فيهما معا.

وعلى صياغتنا يلتزم بالمنجّزيّة في الشبهتين معا ؛ لأنّ القطع بالمخالفة هو الملاك للركن الرابع ، ولذلك يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في الشبهتين لأدائها إلى الترخيص القطعي في المخالفة وهو مستحيل.

والتحقيق : أنّ الصيغة الأصليّة للركن الرابع يمكن أن توضّح بأحد بيانين :

البيان الأوّل : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعيّة يجعل جريان الأصول في

٣٦٨

جميع الأطراف ممكنا ؛ لأنّه لا يؤدّي ـ والحالة هذه ـ إلى الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها غير ممكنة حتّى يتصوّر الترخيص فيها.

وهذا البيان ينطبق على كلّ حالات العجز عن المخالفة القطعيّة ، ولذلك يعتبر النقض واردا عليه.

والتحقيق أن يقال : إنّ الركن الرابع يمكن أن يبيّن بأحد بيانين :

البيان الأوّل عليهم‌السلام أن يكون المراد من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف وأدائها إلى الترخيص في المخالفة وإلى إمكان وقوعها من المكلّف في الخارج ، أنّه مع عدم القدرة على المخالفة القطعيّة يصبح جريان الأصول الترخيصيّة ممكنا ولا مانع منه ، حيث لا يؤدّي جريانها في جميع الأطراف إلى محذور الترخيص العملي للتكليف المعلوم بالإجمال ، إذ في فرضنا تكون المخالفة العمليّة غير ممكنة للمكلّف ؛ لأنّه غير قادر عليها ، فلا يتصوّر الترخيص في المخالفة ليقال باستحالته.

وبتعبير آخر : إنّ المانع من جريان الأصول الترخيصيّة في أطراف الشبهة ، لو كان هو الوقوع في المخالفة القطعيّة والترخيص العملي للتكليف المعلوم بالإجمال ، فهذا المانع سوف يرتفع في حالات العجز وعدم القدرة على ارتكاب جميع الأطراف كما هو الحال في الشبهة غير المحصورة ، ومع ارتفاع هذا المانع سوف تجري الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف فعلا ؛ لأنّ المقتضي لجريانها موجود ؛ إذ المورد مشكوك والمانع مفقود ، وهذا مبني على تصوّرات المشهور من أنّ الترخيص مستحيل فعلا لاستلزامه الترخيص في المخالفة والمعصية القبيحة عقلا ، لأنّ الترخيص في القبيح قبيح عقلا.

وحينئذ سوف يكون نقض السيّد الخوئي واردا ؛ لأنّ الملاك وهو عدم القدرة موجود في كلتا الشبهتين ، والمانع من جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين وهو الترخيص العملي مفقود ، لعدم قدرته في الشبهتين على المخالفة القطعيّة عمليّا. فيكون هذا البيان عامّا وشاملا لكلّ مورد لا يتمكّن فيه المكلّف من ارتكاب جميع الأطراف لسبب من الأسباب ، وحينئذ ينبغي الالتزام بعدم المنجّزيّة حتّى في الشبهة المحصورة أيضا ، وهذا ممّا لا يقوله أحد.

إلا أنّ البيان المذكور غير صحيح ؛ لأنّ المحذور في جريان الأصول في جميع

٣٦٩

أطراف العلم الإجمالي هو أنّ تقديم المولى لأغراضه الترخيصيّة على أغراضه اللزوميّة الواصلة بالعلم الإجمالي على خلاف المرتكز العقلائي كما تقدّم توضيحه سابقا (١). ومن الواضح أنّ شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف يعني ذلك ، ومجرّد اقترانه صدفة بعجز المكلّف عن المخالفة القطعيّة لا يغيّر من مفاد الدليل ، فالارتكاز العقلائي إذا حاكم بعدم الشمول كذلك.

وهذا البيان غير صحيح : وذلك لأنّه يفترض أنّ المحذور في جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف هو أداؤه إلى المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ، ولذلك فمع عدم المخالفة لا محذور في جريانها ، إلا أنّ الصحيح في عدم إمكان جريان الأصول الترخيصيّة في جميع أطراف العلم الإجمالي هو ما تقدّم منّا سابقا من أنّ جريان الأصول في جميع الأطراف معناه تقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللزومية ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة كلّها تنشأ من الغرض الأهمّ بنظر الشارع ، إلا أنّ تقديم الأغراض الترخيصيّة في موارد العلم الإجمالي على خلاف المرتكزات العقلائيّة الحاكمة بأنّ الأغراض الترخيصيّة لا تصل إلى مستوى المساواة مع الأغراض اللزوميّة فضلا عن أهمّيّتها عليها ، ولذلك يكون هذا المرتكز العقلائي حاكما على أدلّة الأصول الترخيصيّة وقرينة متّصلة لبّيّة على تقييد إطلاقها ، ولذلك يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ممنوعا عقلائيّا ، إذ لا أهمّيّة لها بنظر العقلاء لكي تتقدّم على الأغراض اللزوميّة المعلومة ولو إجمالا.

نعم ، هذا الترخيص مقبول عقلا ؛ لأنّ العقل لا يرى فرقا بين تقديم ملاكات اللزوم والتي ستفوت ملاكات الترخيص وبين تقديم ملاكات الترخيص المفوتة لملاكات الإلزام ؛ لأنّ الأهمّيّة تستدعي ذلك.

وعليه ، ففي موارد الشبهة غير المحصورة حيث لا قدرة على ارتكاب جميع الأطراف ، أيضا نمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها يعني تقديم الغرض الترخيصي على الغرض اللزومي ، وهو مخالف للارتكاز العقلائي.

__________________

(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ضمن مباحث حجّيّة القطع ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

٣٧٠

فظهر أنّ الملاك في جريان الأصول الترخيصيّة وعدم جريانها هو كونها أهمّ من الغرض اللزومي.

نعم ، في موارد الشبهة المحصورة لا تكون الأطراف الترخيصيّة هي الأهمّ ، ولذلك لا تجري الأصول الترخيصيّة فيها.

البيان الثاني : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعيّة إذا نشأ من كثرة الأطراف أدّى إلى إمكان جريان الأصول فيها جميعا ، إذ في غرض لزومي واصل كذلك ـ بوصول مردّد بين أطراف بالغة هذه الدرجة من الكثرة ـ لا يرى العقلاء محذورا في تقديم الأغراض الترخيصيّة عليه ؛ لأنّ التحفّظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراض ترخيصيّة كثيرة ، ومعه لا يبقى مانع عن شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف.

وهذا هو البيان الصحيح للركن الرابع ، وهو يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، ولا يرد عليه النقض.

البيان الثاني : أن يقال : إن المقصود من الركن الرابع هو أنّ الأصول الترخيصيّة يمنع من جريانها إذا أدّت إلى المخالفة القطعيّة الواقعيّة ، ولا يمنع من جريانها إذا لم تؤدّ إلى ذلك ، وعدم إمكان المخالفة القطعيّة لجميع الأطراف تارة ينشأ من عجز المكلّف نفسه وعدم قدرته على إيقاع هذه المخالفة ؛ لعدم تمكّنه من الوصول إلى بعضها أو لخروج بعضها عن محلّ ابتلائه أو لتلف بعضها ونحو ذلك ، وأخرى ينشأ من مجرّد كثرة الأطراف فقط مع أنّ المكلّف قادر على ارتكابها جميعا لو أتيح له ذلك.

فهنا لا يوجد عجز تكويني ولا استحالة عقليّة في عدم إمكان المخالفة القطعيّة ، بل هي مقدور عليها وليست مستحيلة ، غاية الأمر العادة تقتضي أنّه لا يمكن المخالفة مع هذه الأطراف البالغة من الكثرة حدّا كبيرا.

وحينئذ نقول : إنّ عدم القدرة والعجز إذا نشأ من كثرة الأطراف فهنا تجري الأصول الترخيصيّة بلا محذور ، بخلاف ما لو نشأ العجز من خروج أحدهما عن محلّ الابتلاء أو تلفه أو عدم تمكن المكلّف من ارتكابه لخروجه عن قدرته فعلا.

٣٧١

والوجه في ذلك أنّ المانع الثاني عارض وليس أصليّا ولذلك كان الغرض اللزومي باقيا على أهمّيّته عقلائيّا ، ولا يتقدّم عليه الغرض الترخيصي عندهم حتّى لو طرأ هذا العارض والمانع.

وأمّا المانع الأوّل أي كثرة الأطراف فهو دخيل في تركيب الشبهة ، أي أنّ العلم الإجمالي انصبّ على هذه الشبهة ، أو أنّ هذه الشبهة حصلت بعد العلم ، لكن أصل الشبهة هي الأطراف الكثيرة ، فالكثرة دخيل في الذات والماهيّة.

وعليه ، فالعقلاء إذا لاحظوا هذه الشبهة مع كثرة أفرادها وجدوا أنّه يدور الأمر بين رفع اليد عن كلّ هذه الأطراف والاحتياط وعدم ارتكاب شيء منها مقابل الحفاظ على غرض لزومي واحد ، وبين رفع اليد عن هذا الغرض اللزومي الواحد وتقديم الأغراض الترخيصيّة الكثيرة جدّا بعدد الأطراف ، ولا إشكال عندهم في تقديم الأغراض الترخيصيّة البالغة هذا الحدّ من الكثرة على الغرض اللزومي الواحد ، ولا يرون أهمّيّة لهذا الغرض ؛ لأنّ الحفاظ عليه يعني ترك الحفاظ على أغراض ترخيصيّة كثيرة جدّا ، فالبناء العقلائي والسيرة العقلائيّة جارية فعلا على أنّه إذا دار الأمر في وجود قاطع الطريق في أحد الطرق الألف ، أو وجود أسد في أحد هذه المائة ألف طريق ، فإنّهم لا يمتنعون عن الجميع ، بل لا يرون من يفعل ذلك عاقلا وحكيما ، وهذا البناء العقلائي يشهد له قوله ( عليه‌السلام ) : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين » (١).

وحيث إنّ المانع من جريان الأصول الترخيصيّة كان هو المرتكز العقلائي الحاكم بأنّ الأغراض اللزوميّة أهمّ من الأغراض الترخيصيّة ، فهنا يوجد مرتكز عقلائي آخر وهو أنّ الأغراض الترخيصيّة هي الأهمّ من الأغراض اللزوميّة.

ومن الواضح أنّ المرتكزات العقلائيّة لا تبتني على التعبّد المحض ، وإنّما من أجل الحيثيّة الكاشفة في كلّ أصل وقاعدة ، وهذا يفرض علينا الجمع بين هذين الارتكازين ، بأن نقول : إنّ تقديم الأغراض اللزوميّة عندهم إنّما يكون في الشبهات المحصورة ، وأمّا تقديم الأغراض الترخيصيّة فيكون في الشبهة غير المحصورة ، فيكون هناك ارتكازان عقلائيّان لكلّ واحد منهما مورده وحيثيّة كشفه الخاصّة به.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٥.

٣٧٢

وهذا البيان هو الوجه الفنّي لصياغة الركن الرابع على مسلك المشهور ، وبه يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهات غير المحصورة.

ولا يرد عليه نقض السيّد الخوئي للفرق بين الشبهتين في الملاك وفي الحيثيّة الكاشفة.

ففي الشبهة غير المحصورة الملاك هو كثرة الأطراف ، وهذا يقتضي تقديم الأغراض الترخيصيّة عقلائيّا.

بينما في الشبهة المحصورة لا يتمّ هذا الملاك ؛ لأنّ الأطراف قليلة ، وهذا يقتضي تقديم الأغراض اللزوميّة عقلائيّا.

وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، غير أنّهما يختلفان في بعض الجهات.

فالتقريب الأوّل مثلا يتمّ حتّى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل مؤمّن ؛ لأنّ التأمين فيه مستند إلى الاطمئنان لا إلى الأصل ، بخلاف التقريب الثاني كما هو واضح.

والحاصل : أنّه يوجد تقريبان لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة :

أحدهما : ما تقدّم من وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف طرف.

والثاني : ما ذكرناه من سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي لانهدام الركن الرابع.

إلا أنّ هذين التقريبين يختلفان من جهات أخرى منها :

أنّ التقريب الأوّل أي حجّيّة الاطمئنان الموجود في كلّ طرف ، يجري سواء كان هناك أصل ترخيصي جار في الأطراف أم لم يكن هناك أصل كذلك ؛ لأنّ التأمين بناء على هذا التقريب يستند إلى حجّيّة الاطمئنان لا إلى الأصل ليكون وجوده وعدمه مؤثّرا سلبا أو إيجابا.

فلو افترضنا أنّ أطراف الشبهة يجري فيها أصالة الطهارة مثلا ، كالعلم إجمالا بنجاسة إناء من إناءات كثيرة جدّا ، جرى التقريب الأوّل ، وكذلك يجري لو افترضنا الأطراف لا يجري فيها الأصل رأسا أو جرى وسقط بالمعارضة ، كما إذا كان كلّ طرف مجرى لاستصحاب النجاسة ، وكما إذا كانت الأطراف مشكوكة النجاسة الذاتيّة وعلم إجمالا بنجاسة أحدها بالدم ، فهنا لا تجري أصالة الطهارة فيها ؛ لأنّ

٣٧٣

دليلها قاصر عن ذلك ؛ لأنّه مختصّ بالشكّ في الطهارة العرضيّة بعد إحراز الطهارة الذاتيّة ، وكما إذا علم بوجود إكرام العالم وشكّ في مصداقه في الخارج ، وكانت أطراف الشكّ كثيرة جدّا ، فهنا لا يجري الأصل المؤمّن أي البراءة في أطراف الشكّ ؛ لأنّ البراءة لا تجري في الشكّ في المكلّف به.

وأمّا على التقريب الثاني أي سقوط الركن الرابع فهو يفترض مسبقا جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّه مبني على أنّ جريانها كذلك لا يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة ، وهذا يقتضي أن يكون كلّ طرف مجرى للأصل الترخيصي وإلا لم يتمّ هذا التقريب أصلا (١).

٨ ـ إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور :

قد يفرض أنّ ارتكاب الواقعة غير مقدور ويعلم إجمالا بحرمتها أو حرمة واقعة أخرى مقدورة ، وفي مثل ذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزا. وتفصيل الكلام في ذلك : أنّ القدرة تارة تنتفي عقلا ، كما إذا كان المكلّف عاجزا عن الارتكاب حقيقة ، وأخرى تنتفي عرفا بمعنى أنّ الارتكاب فيه من العنايات المخالفة للطبع والمتضمّنة للمشقّة ما يضمن انصراف المكلّف عنه ، ويجعله بحكم العاجز عنه عرفا وإن لم يكن عاجزا حقيقة ، كاستعمال كأس من حليب في بلد لا يصل إليه عادة ، ويسمّى هذا العجز العرفي بالخروج عن محلّ الابتلاء.

الحالة الثامنة : أن يكون أحد الطرفين غير مقدور على ارتكابه :

تارة يعلم المكلّف بحرمة الشرب من أحد هذين الإناءين الموجودين فعلا أمامه ، وهذا يعني أنّه قادر على شربهما معا وعلى تركهما كذلك ، فهنا لا إشكال في منجّزيّة العلم الإجمالي لترك كلا الإناءين.

__________________

(١) ومنها : أنّه بناء على التقريب الأوّل أي حجّيّة الاطمئنان قلنا : إنّ حجّيّته تخييريّة لا تعيينيّة ، وهذا يعني أنّه يجوز ارتكاب مقدار من الأطراف يوجد معها الاطمئنان ، أمّا المقدار الذي لا يكون فيه اطمئنان فلا يجوز ارتكابه ؛ لأنّ مقتضي الحجّيّة لا يكون موجودا فيه حينئذ.

بينما على التقريب الثاني يجوز ارتكاب أي مقدار شاء من الأطراف شرط ألاّ يقع في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، أي يجب أن يترك مقدارا مساويا للمقدار المعلوم بالإجمال وغيره يكون مخيّرا في ارتكابه وعدم ارتكابه كذلك.

٣٧٤

وأخرى يعلم بحرمة الشرب من أحد إناءين أحدهما مقدور على ارتكابه والآخر غير مقدور على ارتكابه ، فهنا هل يكون العلم الإجمالي منجّزا أم لا؟

والجواب : أنّه لا يكون منجّزا ، هذا بشكل عامّ ، وأمّا تفصيل الكلام في المسألة فهو يستدعي التفصيل في عدم القدرة ، ولذلك نقول : إنّ عدم القدرة على الارتكاب له سببان أو منشآن :

الأوّل : عدم القدرة بمعنى العجز التكويني ، بأن لا يكون المكلّف قادرا على الارتكاب بحكم العقل ، فهنا القدرة منتفية حقيقة لعجزه تكوينا عن ارتكابه ، كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر في مكان مجهول فعلا ، أو في مكان معلوم لكن لا يمكن الوصول إليه أصلا.

الثاني : عدم القدرة بمعنى العجز العرفي ، بأن كان المكلّف قادرا بحكم العقل على الارتكاب بأن كان يقدر على الوصول إليه ، إلا أنّ الوصول إليه يحتاج إلى بذل جهد ومشقّة وعناية زائدة ينزّل معها هذا الإناء منزلة الإناء غير المقدور حقيقة ، بحيث تكون هناك عنايات مخالفة للطبع العرفي وليست مألوفة عند العقلاء ، فإنّه وإن كان من الممكن حصولها لكنّه يعتبر شيئا مستهجنا وغريبا وغير مألوف ، وهذا ما يسمّى بخروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين إمّا الإناء الذي أمامه أو الإناء الذي في البلد الآخر ، بحيث لم يكن الوصول إلى البلد الآخر متعذّرا وغير مقدور عليه عقلا ، بل كان الوصول إليه يحتاج إلى مشقّة وعناية خارجة عن المألوف والعرف ، أو كان هذا الإناء الآخر تحت يد السلطان في بلده فإنّه يقدر عقلا على ارتكابه لعدم العجز الحقيقي ، إلا أنّ الوصول إليه يحتاج إلى طرق وعنايات ليست مألوفة عرفا.

وعلى كلّ حال سوف نتحدّث عن كلّ واحدة من الحالتين بنحو مستقلّ فنقول :

فإن حصل علم إجمالي بنجاسة أحد مائعين مثلا ، وكان أحدهما ممّا لا يقدر المكلّف عقلا على الوصول إليه ، فالعلم الإجمالي غير منجّز ، ويقال في تقريب ذلك عادة ، إنّ الركن الأوّل منتف لعدم وجود العلم بجامع التكليف ؛ لأنّ النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر المكلّف على ارتكابه فليس موضوعا للتكليف الفعلي ؛ لأنّ التكليف الفعلي مشروط بالقدرة ، فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي إذن.

٣٧٥

الصورة الأولى : أن يكون أحد الطرفين غير مقدور على ارتكابه عقلا :

كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر لا يمكن الوصول إليه ؛ للجهل بمكانه مثلا أو لكونه في مكان بعيد جدّا لا يمكن الوصول إليه عقلا ، فهنا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ولذلك يجوز ارتكاب الإناء الذي أمامه.

وأمّا توجيه عدم المنجّزيّة فقد قال المشهور في ذلك إنّ الركن الأوّل من أركان العلم الإجمالي مختلّ ، بمعنى أنّه لا يوجد علم بجامع التكليف على كلّ تقدير.

وتوضيحه : أنّ النجس المعلوم إجمالا إن كان هو الإناء الموجود فعلا عند المكلّف العالم بالإجمال فالتكليف ثابت وفعلي ، إلا أنّه إن كان في الإناء الآخر غير المقدور عليه فالتكليف وإن كان ثابتا فيه لكنّه ليس فعليّا ؛ لأنه يشترط في فعليّة التكليف أن يكون مقدورا عليه ، إذ التكليف بغير المقدور مستحيل عقلا.

فمع انتفاء القدرة ينتفي التكليف الفعلي ، وحينئذ يدور الأمر بين ثبوت التكليف الفعلي وبين عدم ثبوته ، أي إنّه ثابت على بعض التقادير لا على جميع التقادير ، ومن الواضح أنّ العلم الدائر بين ثبوت التكليف وعدم ثبوته لا يعتبر علما بجامع التكليف على كلّ حال وعلى جميع التقادير ، بل إمّا أن يوجد التكليف أو لا يوجد فهناك شبهة بدوية إذن ، فتجري فيها الأصول الترخيصيّة بلا مانع.

ومن هنا قالوا بأنّ التكليف الدائر بين المقدور وغير المقدور غير مقدور.

وكأنّ أصحاب هذا التقريب جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه ، فكما لا ينجّز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرف معيّن منه ـ على ما مرّ في الحالة الثانية ـ كذلك لا ينجّز مع الاضطرار العقلي إلى تركه ؛ لأنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وكلّ من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف ثابتا على كلّ تقدير.

ولعلّ الداعي الذي من أجله ذهب المشهور إلى هذا القول هو ما تقدّم سابقا في الحالة الثانية ، من أنّ أحد الطرفين إذا كان المكلّف مضطرّا إلى ارتكابه قبل العلم الإجمالي ثمّ علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة الإناء الآخر غير المضطرّ إليه ، فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا لاختلال ركنه الأوّل ؛ لأنّه دائر بين ثبوت التكليف الفعلي إذا كان النجس في الإناء غير المضطرّ إليه ، وبين عدم ثبوته إذا كان في الإناء المضطرّ

٣٧٦

إليه ؛ لأنّ التكليف الفعلي يشترط فيه عدم الاضطرار ؛ لأنّه مع الاضطرار لا يكون قادرا على تركه.

فجعلوا مقامنا كالمقام السابق ، أي جعلوا الاضطرار إلى الترك وعدم القدرة على الارتكاب ـ كما هنا ـ كالاضطرار إلى الفعل والارتكاب ـ كما هناك ـ لأنّ كلاّ منهما يسلب قدرة المكلّف ، غاية الأمر أنّه هنا يكون مسلوب القدرة على الفعل بينما هناك يكون مسلوب القدرة على الترك ، إلا أنّهما معا يحقّقان مصداقا لعدم القدرة ، وحيث إنّ التكليف الفعلي شرطه القدرة فمع انتفائها ينتفي ، فيدور الأمر في الموردين بين ثبوت التكليف على أحد التقديرين وعدم ثبوته على التقدير الآخر ، ولذلك لا يكون علما بجامع التكليف على كلّ تقدير وفي جميع الحالات ، بل على بعض التقادير ، وحيث إنّ هذا البعض غير معلوم فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

والتحقيق : أنّ الاضطرارين يتّفقان في نقطة ويختلفان في أخرى :

فهما يتّفقان في عدم صحّة توجّه النهي والزجر معهما ، فكما لا يصحّ أن يزجر المضطرّ إلى شرب المائع عن شربه ، كذلك لا يصحّ أن يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعني أنّه لا علم إجمالي بالنهي في كلتا الحالتين.

والصحيح أنّ هذا التقريب غير تامّ للفارق بين مقامنا وبين المقام السابق من جهة رغم اتّفاقهما من جهة أخرى.

فالاضطرار إلى الارتكاب يشترك مع الاضطرار إلى الترك في جهة ويختلف معه من جهة أخرى.

أمّا الجهة التي يشتركان فيها فهي عدم صحّة توجّه النهي إلى كلا المضطرّين.

فالمضطرّ إلى شرب الإناء النجس المعيّن لا يصحّ توجيه النهي إليه وخطابه بالزجر عنه ؛ لأنّ المضطرّ لا تكليف بحقّه أي أنّ التكليف مرتفع عنه وساقط لا يصحّ توجّهه إليه ؛ لأنّه سوف يفعل لا محالة ، فزجره عنه لا فائدة منه لأنّه لن ينزجر تكوينا ، فلا يكون لخطاب النهي محرّكيّة أصلا.

وكذلك الحال في المضطرّ إلى ترك النجس ، فإنّه لا يصحّ زجره عن ارتكابه وخطابه بحرمة الارتكاب ؛ لأنّه سوف يتركه ويجتنبه تكوينا ؛ لأنّه غير قادر على

٣٧٧

ارتكابه وشربه ، فلا يكون للخطاب محرّكيّة أصلا ، بل يكون لغوا ؛ لأنّه خطاب بشيء حاصل ، وطلب تحصيل الحاصل لغو.

وهذا يعني أنّه لا يوجد للمكلّف المضطر إلى الفعل أو المضطرّ إلى الترك علم إجمالي بتوجّه النهي وخطاب الزجر إليه على جميع التقادير ، فيكون الخطاب ساقطا لا محالة ، ومع سقوطه لا يوجد علم إجمالي بجامع التكليف من جهة الخطاب والنهي.

فإذا لاحظنا هذه الجهة صحّ تقريب المشهور باختلال الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي في مقامنا ، إلا أنّه توجد جهة أخرى يمتاز فيها مقامنا عن المقام السابق ، وهذه الجهة تجعل العلم الإجمالي بجامع التكليف محفوظا حتّى مع سقوط الخطاب ، وهذه الجهة هي :

ولكنّهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضيّة ، فإنّ الاضطرار إلى الفعل يشكّل حصّة من وجود الفعل مغايرة للحصّة التي تصدر من المكلّف بمحض اختياره ، فيمكن أن يفترض أن الحصّة الواقعة عن اضطرار كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضيّة فيها ، وإنّما المفسدة والمبغوضيّة في الحصّة الأخرى.

وأمّا الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكّل حصّة خاصّة من وجود الفعل على النحو المذكور ، فلا معنى لافتراض أنّ الفعل غير المقدور للمكلّف ليس واجدا لمبادئ الحرمة وأنّه لا مفسدة فيه ولا مبغوضيّة ؛ إذ من الواضح أنّ فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقّق المبغوض.

وأمّا الجهة التي يفترقان فيها فهي بلحاظ المبادئ.

وتوضيحه : أنّ الاضطرار إلى الفعل والارتكاب كما لا علم إجمالي بجامع التكليف فيه ، كذلك لا علم إجمالي بجامع الملاك والمبادئ فيه أيضا ؛ لأنّ كلّ خطاب فيه تكليف بالمدلول المطابقي وفيه مبادئ بالمدلول الالتزامي ، فالخطاب بالنهي يدلّ بالمطابقة على الحرمة والزجر ، ويدلّ بالالتزام على المفسدة والمبغوضيّة للفعل.

وعليه ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى تناول النجس فهنا كما ينتفي الخطاب من جهة مدلول المطابقي أي النهي والحرمة ، كذلك ينتفي الخطاب من جهة مدلوله الالتزامي أي المبغوضيّة والمفسدة.

٣٧٨

فكما لا يصحّ أن يكون المضطرّ إلى الفعل مخاطبا بالنهي والحرمة ، كذلك لا يصحّ أن تكون مبادئ النهي والحرمة من المفسدة والمبغوضيّة ثابتة في المورد المضطرّ إليه ؛ وذلك لأنّ الاضطرار إلى الفعل يجعل الفعل ذا حصّتين إحداهما الحصّة المقدور على فعلها وتركها وهي الحصّة غير المضطرّ إليها ، والأخرى الحصّة غير المقدور على تركها وهي الحصّة المضطرّ إلى فعلها وارتكابها.

والخطاب كما يسقط عن الحصّة المضطرّ إليها بلحاظ مدلوله المطابقي أي النهي والحرمة ، فكذلك يحتمل ثبوتا أن يكون ساقطا عنها بلحاظ مبادئه من مفسدة ومبغوضيّة ، بأن لا يكون هناك مفسدة ومبغوضيّة أصلا في شرب النجس عند الاضطرار إليه ، فإنّ هذا الاحتمال ممكن ثبوتا.

وكما لا يسقط عن الحصّة الأخرى غير المضطرّ إليها بلحاظ النهي والحرمة ، فكذلك لا يسقط عنها بلحاظ مبادئ النهي والحرمة.

وحينئذ يدور الأمر بلحاظ عالم المبادئ والملاكات بين ثبوت الملاكات والمبادئ فيما إذا كان الخطاب ثابتا في الحصّة الأخرى غير المضطرّ إليها ، وبين احتمال عدم ثبوت الملاكات والمبادئ فيما إذا كان الخطاب ساقطا في الحصّة المضطرّ إليها.

وهذا يعني أنّه يدور الأمر بين ثبوت المبادئ وبين احتمال عدم ثبوتها ، وحيث إنّ احتمال عدم ثبوت المبادئ مساوق للجزم والقطع بعدمها ، فيكون الأمر دائرا بين الوجود للمبادئ وبين عدم وجودها ، ومثل هذا لا يسمّى علما إجماليّا بجامع المبادئ ؛ لأنّ المبادئ ليست محفوظة على جميع التقادير ، بل يحتمل أن يقطع بعدمها على بعض التقادير.

ولذلك يكون الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ساقطا.

وأمّا الاضطرار إلى الترك وعدم الفعل والعجز عن الارتكاب فهو وإن كان يشترك مع السابق في عدم توجّه النهي والحرمة أي سقوط المدلول المطابقي ، إلا أنّ المدلول الالتزامي أي المفسدة والمبغوضيّة ليست ساقطة جزما ولا يحتمل سقوطها أصلا.

والوجه في ذلك أنّ الاضطرار إلى الترك لا يجعل الفعل ذا حصّتين ، حصّة مضطرّ إلى تركها وحصة غير مضطرّ إلى تركها ، بل هناك حصّة واحدة من الفعل على كلا التقديرين ، وهي أنّ هذا الإناء لو كان تحت تصرّفه لكان قادرا ومختارا وغير مضطرّ

٣٧٩

إلى شيء من الترك أو الفعل فيه ، ولذلك فالإناء الموجود أمامه فيه مبادئ النهي والحرمة من مفسدة ومبغوضيّة فيما لو فعل وارتكب ، وكذلك الإناء الآخر البعيد عنه والذي لا يتمكّن من الوصول إليه ، فإنّه واجد لمبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة ، ولذلك لو قدّر له الوصول إليه ـ ولو محالا ـ فهو مبغوض وفي ارتكابه مفسدة.

ولذلك كما يعلم المكلّف بوجود مبادئ المفسدة والمبغوضيّة في الإناء الموجود أمامه ، فكذلك يعلم بوجودها في الإناء الآخر ، وهذا يعني العلم بجامع المبادئ والملاكات ، فالركن الأوّل محفوظ وليس مختلاّ.

فكم فرق بين من هو مضطرّ إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ، ومن هو عاجز عن أكله لوجوده في مكان بعيد عنه؟!

فأكل لحم الخنزير عن اضطرار إليه قد لا يكون فيه مبادئ النهي أصلا فيقع من المضطرّ بدون مفسدة ولا مبغوضيّة ، وأمّا أكل لحم الخنزير البعيد عن المكلّف فهو واجد للمفسدة والمبغوضيّة لا محالة ، وعدم النهي عنه ليس لأنّ وقوعه لا يساوق الفساد ، بل لأنّه لا يمكن أن يقع.

وعلى أساس الجهة التي يفترقان فيها يمكننا أن نصل إلى النتيجة التالية وهي :

أنّ لحم الخنزير مثلا إذا اضطر لأكله يختلف عن لحم الخنزير المضطرّ إلى عدم أكله لبعده ؛ وذلك لأنّ الأوّل قد لا يكون فيه شيء من مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة لما ذكرناه من أنّ الاضطرار إلى الفعل يحصّص الفعل إلى حصّتين حصّة واجدة للمبادئ وللنهي ، وحصّة فاقدة للنهي ويحتمل أن تكون فاقدة للمبادئ أيضا.

بينما الثاني لا تزال فيه مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة محفوظة وإن سقط الخطاب بالنهي والزجر فيه ؛ لأنّ ترك أكل لحم الخنزير بسبب بعده لا يعني أنّه قد زالت عنه مبادئ الحرمة وصار فيه مصلحة ، أو أنّه صار مباحا للمكلّف ، بل هو على مبادئ المفسدة والمبغوضيّة ، ولذلك لو قدّر له الوصول إليه ـ ولو محالا ـ فهو مبغوض.

وأمّا سقوط الخطاب بالنهي والزجر عنه فهو ليس لأجل أنّه صار حلالا أو مباحا ، بل لأنّ المكلّف لا يمكنه أن يأكله ، أي أنّ سقوط النهي كان من أجل أنّ المفسدة لا تقع من المكلّف ؛ لأنّه غير قادر على أكله ، لا لأنّ المفسدة زالت عنه وأنّه لا بغض ولا فساد فيه.

٣٨٠