شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

يفهم في حدود الأحكام الظاهريّة العرضيّة ، أي التي يكون الموضوع فيها نحوا واحدا من الشكّ.

الجواب عن هذا الاعتراض بأنّه لا اجتماع لحكمين ظاهريّين متنافيين إذا عرفنا ما يلي :

أوّلا : أنّ البراءة الثانية المراد إجراؤها عن الحجّيّة المشكوكة نسبتها إلى الحجّيّة المشكوكة كنسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ، فكما أنّ مورد جريان الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي كذلك البراءة الثانية مورد جريانها الشكّ في الحجّة المشكوكة ، وكما أنّ الحكم الظاهري مبادئه هي الحفاظ على الملاكات الواقعيّة كذلك البراءة الثانية مبادئها الحفاظ على الأحكام الظاهريّة.

وحينئذ نقول : إنّه كما لا منافاة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري كذلك لا منافاة بين البراءة الثانية وبين الحجّة المشكوكة على تقدير ثبوتها ؛ وذلك لأنّ البراءة الثانية موضوعها الشكّ في الحجّيّة ، بينما الحجّيّة المشكوكة على تقدير ثبوتها يكون موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، ولذلك لم يجتمع حكمان ظاهريّان على موضوع واحد ، بل الموضوع فيهما مختلف.

وعلى هذا فيمكن أن يجعل الشارع براءة ثانية عند الشكّ في الحجّيّة الظاهريّة ، وذلك إذا كانت ملاكات الترخيص هي الأهمّ.

وثانيا : أنّ ما تقدّم في الجزء السابق من أنّ الأحكام الظاهريّة متنافية بوجوداتها الواقعيّة لا بوصولها ، كان يقصد منه أنّ الشارع لا يصدر منه حكمان ظاهريّان على موضوع واحد سواء وصلا إلى المكلّف أم لا ؛ لأنّ التنافي بينهما واقعي بقطع النظر عن مرحلة الوصول ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري يكشف عن الواقع ، فإذا جعل البراءة والاحتياط على موضوع واحد حصل التكاذب والتنافي بلحاظ الواقع ؛ لأنّهما يكشفان عن كون الأهمّ بنظر الشارع الترخيص والإلزام وهما متكاذبان لا يمكن اجتماعهما ولحاظهما معا ، سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

إلا أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ في الأحكام الظاهريّة العرضيّة أي التي يكون موضوعها وموردها واحدا ، فالبراءة والاحتياط المجعولان عند الشكّ في الحكم الواقعي مستحيلان ؛ لأنّهما في عرض واحد وعلى موضوع واحد.

٤١

وأمّا البراءة الثانية المجعولة عند الشكّ في الحجّيّة المشكوكة فلا تنافي الحجّيّة المشكوكة على تقدير ثبوتها ؛ وذلك لعدم وحدة الموضوع بينهما ، إذ موضوع البراءة الثانية الشكّ في الحجّيّة ، بينما موضوع الحجيّة على تقدير ثبوتها الشكّ في الحكم الواقعي ، وهذا يعني أنّ البراءة الثانية في طول الحجّيّة ، فإذا ثبتت الحجّيّة ارتفع موضوع البراءة ، وإذا جرت البراءة الثانية فهذا يعني أنّ الحجّيّة غير ثابتة بحقّ المكلّف وغير واصلة إليه ، وبالتالي لا تناف بينهما لاختلاف الموضوع فيهما ، وشرط التنافي وحدة الموضوع.

وقد يعترض على إجراء براءة ثانية بأنّها لغو ؛ إذ بدون إجراء البراءة عن نفس الحكم الواقعي المشكوك لا تنفع البراءة المؤمّنة عن الحجّيّة المشكوكة ، ومع إجرائها لا حاجة إلى البراءة الثانية ؛ إذ لا يحتمل العقاب إلا من ناحية التكليف الواقعي وقد أمّن عنه.

وهنا اعتراض آخر على إجراء البراءة عن الحجّة المشكوكة مفاده أنّها لغو ؛ وذلك لأنّه إن أريد إجراء البراءة الثانية فقط من دون إجراء البراءة الأولى التي موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي فهذه البراءة لا تنفع شيئا ؛ لأنّه من دون التأمين مسبقا عن الحكم الواقعي لا يفيدنا التأمين عن الحجّة المشكوكة ، إذ مع فرض ثبوت التأمين عن الحجّة المشكوكة إلا أنّ هذا لا يؤمّن عن الحكم الواقعي المشكوك والذي من المحتمل أن يكون منجّزا ، فالتأمين المراد إثباته بالبراءة الثانية لا يكفي ما دام الشكّ في الحكم الواقعي موجودا والذي يعني أنّ احتمال المنجّزيّة لا يزال على حاله ، فجعلها يكون لغوا إذ لا أثر لها.

وإن أريد إجراء البراءة الثانية بعد إجراء البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك فهذه البراءة لا فائدة منها أيضا ؛ لأنّها تحصيل للحاصل ؛ لأنّه مع إجراء البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك يثبت التأمين من ناحية الحكم المشكوك ، فالمكلّف إذا ترك الواجب أو فعل الحرام حينئذ يكون معذورا لقيام المؤمّن الشرعي عنده فلا يكون مستحقّا للعقاب ، وعليه فلا داعي لإجراء براءة ثانية عن الحجّة المشكوكة ؛ لأنّه قد ثبت لديه مسبقا التأمين وعدم استحقاق العقاب ، والمطلوب من البراءة حين إجرائها إثبات هذا الأمر لا أكثر ، فمع ثبوتهما يكون إجراؤها لغوا

٤٢

وتحصيلا للحاصل ، ولذلك لا تجري البراءة في المكروهات والمستحبّات ؛ إذ لا إلزام ولا عقاب فيهما ليؤمّن عنهما.

وبهذا يظهر أنّه لا معنى محصّل لإجراء براءة ثانية ، بل تكفي البراءة الأولى.

والجواب على ذلك : أنّ احتمال ذات التكليف الواقعي شيء ، واحتمال تكليف واقعي واصل إلى مرتبة من الاهتمام المولوي التي تعبّر عنها الحجّيّة المشكوكة شيء آخر ، والتأمين عن الأوّل لا يلازم التأمين عن الثاني.

ألا ترى أنّ بإمكان المولى أن يقول للمكلّف : كلّما احتملت تكليفا وأنت تعلم بعدم قيام الحجّة عليه فأنت في سعة منه ، وكلّما احتملت تكليفا واحتملت قيام الحجّة عليه فاحتط بشأنه.

والجواب على هذا الاعتراض أنّ البراءة الثانية المراد إجراؤها عن الحجّيّة المشكوكة تختلف عن البراءة الأولى التي تجري عن الحكم الواقعي المشكوك ، ووجه الاختلاف بينهما هو الاختلاف في التأمين عن الاحتمال المنجّز.

وتوضيحه : أنّ البراءة الأولى تجري لنفي التكليف المشكوك والتأمين عنه عند احتماله ، بينما البراءة الثانية تنفي المنجّز عن هذا التكليف ، فيوجد احتمالان :

أحدهما : احتمال التكليف الواقعي بذاته ، والآخر : احتمال قيام الحجّة والمنجّز على هذا التكليف ؛ والثاني يعني أنّه إذا ثبتت الحجّيّة وتمّت المنجّزيّة فهذا يعني الكشف عن اهتمام المولى بملاكات الإلزام ، ولذلك أصدر إلزاما ظاهريّا للحفاظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة.

وحينئذ نقول : إنّ الاحتمال الأوّل على فرض ثبوته فهو يثبت الحكم الواقعي ابتداء ، فتكون المنجّزيّة لذات التكليف والبراءة الجارية هنا تؤمّن المكلّف من هذه الناحية.

بينما الاحتمال الثاني على فرض ثبوته فهو يثبت الحجّة والمنجّز الشرعي الظاهري ، والذي يعني أنّ ملاكات الإلزام هي الأهمّ بنظر المولى من غيرها ، فالمنجّزيّة هنا لأجل هذا الأمر ، والبراءة عند ما يراد إجراؤها هنا تؤمّن عن المنجّزيّة وعن التكليف بهذا المعنى ، أي أنّ المولى لا يهتمّ باحتمال التكليف ، وإنّما المهمّ بنظره ملاكات الترخيص والتسهيل.

٤٣

ولهذا كان للبراءة الثانية فائدة سواء جرت البراءة الأولى أم لا ، وليست لغوا وتحصيلا للحاصل أو لا أثر لها ، بل تفيد شيئا جديدا لم يكن موجودا حين إجراء البراءة الأولى ، وهو التأمين لنفي الاهتمام المولوي بملاكات الإلزام ، فالتأمين الثاني ليس نفس الأوّل ، والتأمين الأوّل لا يلزم منه حصول التأمين الثاني.

ومن هنا نتعقّل أن يقول الشارع : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وعلم بعدم قيام الحجّة الظاهريّة عليه فهو في سعة منه ، بينما يقول في مجال آخر : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وشكّ أو لم يعلم بعدم الحجّة الظاهريّة عليه فاللازم عليه الاحتياط.

وحينئذ فالمراد من إجراء البراءة الثانية التأمين من جهة الاحتياط الذي من الممكن أن يكون ثابتا عند الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة ، بينما البراءة الأولى تفيد التأمين من جهة نفس الحكم الواقعي ، فهناك منجّزيّتان محتملتان إحداهما منجّزيّة الحكم الواقعي والأخرى منجّزيّة الاحتياط الظاهري والبراءة الأولى تجري للتأمين عن المنجّزيّة الأولى ، والبراءة الثانية تجري للتأمين عن المنجّزيّة الثانية ، ولا تلازم بين المنجّزيّتين وليست إحداهما نفس الأخرى كما هو واضح.

ولكنّ التحقيق مع ذلك : أنّ إجراء البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك يغني عن إجراء البراءة عن الحجّيّة المشكوكة ، وذلك بتوضيح ما يلي :

أوّلا : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ؛ لأنّ موضوعهما معا الشكّ في الواقع ، خلافا للبراءة عن الحجّيّة المشكوكة فإنّها ليست في درجتها كما عرفت.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ البراءة الأولى تغني عن البراءة الثانية ، فإذا جرت البراءة لنفي التكليف الواقعي المشكوك كفى ذلك في إثبات التأمين ونفي المنجّزيّة ، وبالتالي نفي الحجّيّة المشكوكة ، ولا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية لنفي الحجّيّة المشكوكة.

والدليل على ذلك يتّضح من مجموع أمور :

الأوّل : أنّ البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ، فهنا دعويان :

٤٤

أمّا أنّهما حكمان ظاهريّان فلأنّ البراءة والحجّيّة المشكوكة كلاهما يعالجان الشكّ ويحدّدان الموقف والوظيفة العمليّة للمكلّف في طرف الشكّ ، وأمّا أنّهما عرضيّان فلأنّ موضوعهما معا واحد ، وهو الشكّ في الحكم الواقعي ؛ لأنّ البراءة الأولى يراد إجراؤها عن الحكم الواقعي المشكوك للتأمين عنه ، والحجّيّة المشكوكة يراد بها على فرض ثبوتها تنجيز الحكم الواقعي المشكوك أيضا ، فهما إذا حكمان ظاهريّان عرضيّان.

وأمّا البراءة الثانية فهي حكم ظاهري ولكنّها ليست في عرض الحجّيّة المشكوكة ؛ وذلك لأنّ موضوعهما مختلف ، فالحجّيّة المشكوكة موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي كما تقدّم ، بينما البراءة الثانية موضوعها الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة على الحكم الواقعي المشكوك ، فهي إذا في طول الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّها متأخّرة رتبة عنها من حيث الموضوع.

ثانيا : أنّ الحكمين الظاهريّين المختلفين متنافيان بوجوديهما الواقعيّين ، سواء وصلا أم لا ، كما تقدّم في محلّه.

الأمر الثاني : أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة متنافية واقعا ، ولذلك كما أنّه يستحيل وجود حكمين واقعيّين على موضوع واحد كذلك يستحيل صدور حكمين ظاهريّين على موضوع واحد ، سواء وصلا معا إلى المكلّف أم لا ؛ وذلك لأنّ الشارع الحكيم لا يصدر منه تشريعين متنافيين على واقعة واحدة.

وهذا الأمر واضح في الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّه يلزم منه اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة والمصلحة والمفسدة على شيء واحد ، وأمّا في الأحكام الظاهريّة فلأنّها كما تقدّم تكشف عن الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في نظر الشارع عند الشكّ والاشتباه ، فيستحيل أن يكون المهمّ بنظره الإلزام والترخيص معا للتكاذب والتنافي بينهما.

ثالثا : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي منافية ثبوتا للحجّيّة المشكوكة على ضوء ما تقدّم.

الأمر الثالث : أنّ البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة بما أنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وفي عرض واحد ، كما تقدّم في الأمرين السابقين ، فهذا يعني أنّه يستحيل اجتماعهما ، ولذلك إذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر ، وعليه فإذا جرت البراءة الأولى

٤٥

لنفي الحكم الواقعي المشكوك كان معناه أنّه يستحيل ثبوت الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّه على فرض ثبوتها سوف يثبت حكمان ظاهريّان عرضيّان على شيء واحد ، وهو مستحيل بمقتضى الأمر الثاني وتنافيهما ـ كما قلنا ـ ثبوتي أي بلحاظ مرحلة الواقع والتشريع سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

رابعا : أنّ مقتضى المنافاة أنّها تستلزم عدم الحجّيّة واقعا ونفيها.

الأمر الرابع : أنّ المنافاة بين البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة تستلزم أنّه إذا جرت البراءة عن الحكم الواقعي المشكوك كان من المستحيل ثبوت الحجّيّة المشكوكة واقعا ، أي أنّ ثبوت البراءة يقتضي نفي الحجّيّة المشكوكة واقعا ؛ للاستحالة المتقدّمة في الأمر الثاني والثالث.

خامسا : أنّ الدليل الدالّ على البراءة عن التكليف الواقعي يدلّ بالالتزام على نفي الحجّيّة المشكوكة.

الأمر الخامس : أنّ الدليل الذي يدلّ على البراءة كحديث الرفع مثلا أو الآيات الكريمة له مدلولان :

أحدهما : المدلول المطابقي وهو البراءة والتأمين والذي معناه أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ واقعا.

والثاني : المدلول الالتزامي وهو أنّ ملاكات الإلزام ليست هي الأهمّ بنظر الشارع في هذه الواقعة ، والذي معناه أنّ الشارع لم يصدر منه ما ينجّز الواقع ، فتكون الحجّيّة المشكوكة منفية بالمدلول الالتزامي لدليل البراءة.

وهذا يعني : أنّنا بإجراء البراءة عن التكليف الواقعي سنثبت بالدليل نفي الحجّيّة المشكوكة ، فلا حاجة إلى أصل البراءة عنها وإن كان لا محذور فيه أيضا.

والنتيجة على ضوء ما تقدّم هي : أنّنا إذا أجرينا البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك فسوف يثبت أوّلا التأمين ، والذي يعني أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ بنظر الشارع واقعا.

وسوف يثبت ثانيا أنّ الحجّيّة المشكوكة منتفية على أساس أنّ دليل البراءة يدلّ بالالتزام على أنّ ملاكات الإلزام ليست مهمّة بنظر الشارع ؛ ولأنّها تنافي ثبوت البراءة واقعا ؛ لأنّهما حكمان ظاهريّان عرضيّان ، وحينئذ لا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية عند

٤٦

الشكّ في الحجّيّة المشكوكة ؛ إذ لا موضوع لهذه البراءة أصلا ؛ لأنّ هذه الحجّيّة قد انتفت مسبقا ، فلا معنى للشكّ فيها مجدّدا ، فيكون إجراء براءة ثانية للتأمين عن شيء غير ثابت أصلا.

ولذلك لا معنى ولا فائدة من البراءة الثانية لمحذور اللغويّة وانتفاء الموضوع.

وما ذكره السيّد الشهيد من أنّه لا محذور في إجرائها لكن لا حاجة لذلك فيه مسامحة واضحة.

ويمكن تصوير وقوع الأحكام الظاهريّة موردا للأصول العمليّة في الاستصحاب ، إذ قد يجري استصحاب الحكم الظاهري لتماميّة أركان الاستصحاب فيه وعدم تماميّتها في الحكم الواقعي ، كما إذا علم بالحجّيّة وشكّ في نسخها فإنّ المستصحب هنا نفس الحجّيّة لا الحكم الواقعي.

بعد أن عرفنا أنّ البراءة الثانية لا تجري عند الشكّ في قيام الحجّة لعدم إمكانيّة تصوير معقول لها ، إلا أنّه يمكن إجراء الاستصحاب في الأحكام الظاهريّة فيما إذا كانت أركانه تامّة فيها.

فمثلا إذا علم بقيام الحجّة الظاهريّة على الحكم الواقعي المشكوك ثمّ شككنا في نسخها ، فهنا يمكننا إجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري دون الواقعي.

وتوضيحه : أنّ الحكم الواقعي مشكوك ابتداء فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ لعدم تماميّة أركانه فيه ، بناء على القول بأنّ الاستصحاب لا يجري عند الشكّ في الشبهة الحكميّة.

وأمّا الحكم الظاهري فأركان الاستصحاب فيه تامّة ؛ لأنّه متيقّن سابقا ومشكوك لاحقا مع وحدة القضيّة فيهما ووجود الأثر العملي التنجيزي لهذا الاستصحاب ، فيجري استصحاب بقاء الحجّيّة عند الشكّ في نسخها (١).

__________________

(١) طبعا النسخ معناه انتهاء سعة المجعول بلحاظ عمود الزمان ؛ لأنّ النسخ بمعناه الحقيقي محال على المولى ؛ لأنّه يلزم منه الجهل تعالى الله عن ذلك.

فإذا علمنا أنّ الشارع جعل الحجّيّة لأمارة ما ثمّ شككنا في نسخ هذه الحجّيّة وعدمه فيجري استصحاب بقاء حجّيّتها ، ومن الواضح أنّ الحجّيّة حكم ظاهري إلا أنّ أركان الاستصحاب تامّة بلحاظها ، وأمّا بالنسبة للحكم الواقعي فهو مشكوك ابتداء ولا يقين سابق فلا يجري استصحابه.

٤٧
٤٨

١ ـ الوظيفة العمليّة

في حالة الشكّ

١ ـ الوظيفة في حالة الشكّ البدوي

٢ ـ الوظيفة في حالة العلم الإجمالي

٣ ـ الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

٤ ـ الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر

الوظيفة في حالة الشكّ البدوي

١ ـ الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ

٢ ـ الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

٤٩
٥٠

الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ

كلّما شكّ المكلّف في تكليف شرعيّ ولم يتأتّ له إقامة الدليل عليه إثباتا أو نفيا فلا بدّ من تحديد الوظيفة العمليّة تجاهه. ويقع الكلام أوّلا في تحديد الوظيفة العمليّة تجاه التكليف المشكوك بقطع النظر عن أي تدخّل من الشارع في تحديدها ، وهذا يعني التوجّه إلى تعيين الأصل الجاري في الواقعة بحدّ ذاتها ، وليس هو إلا الأصل العملي العقلي.

ويوجد بصدد تحديد هذا الأصل العقلي مسلكان :

ذكرنا مرارا أنّ المكلّف الذي اختلطت عليه الملاكات ولم يميّز بينها نتيجة الشكّ والاشتباه ، لا بدّ له من الاستناد إلى أصل يحدّد له الموقف العملي تجاه هذا الواقع المشكوك من أجل التنجيز أو التعذير عنه ، وذكرنا أنّ الأصول العمليّة التي يلجأ إليها المكلّف على قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة العقليّة ، وهي التي يدركها العقل ويحكم بها على أساس إدراكه لثبوت حقّ الطاعة أو عدم ثبوته.

والآخر : الأصول العمليّة الشرعيّة وهي التي يجعلها الشارع لعلاج الشكّ وتحديد موقف المكلّف.

ومن خلال ما تقدّم ظهر لدينا أنّ الأصول العقليّة متقدّمة على الأصول الشرعيّة ، لأنّها موجودة في كلّ واقعة بحدّ ذاتها ، بينما الأصول الشرعيّة ليس من الضروري وجودها في كلّ واقعة.

فالبحث ينبغي إذا أن ينصبّ حول مقامين :

الأوّل : في تحديد الوظيفة العمليّة العقليّة ، أي الأصل الذي يحكم به العقل بقطع النظر عن وجود أصل شرعي إثباتا أو نفيا ، فيبحث عن مقتضى الأصل

٥١

الأوّلي بلحاظ الواقعة المشكوكة بحدّ ذاتها.

الثاني : في تحديد الوظيفة العمليّة الشرعيّة ، أي الأصل الذي جعله الشارع في الواقعة المشكوكة فقد يكون مطابقا للأصل العقلي وقد يكون مخالفا له.

ومن أجل تحديد الأصل العملي العقلي يوجد مسلكان :

المسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ، والذي يؤمّن بالبراءة كأصل أوّلي.

والمسلك المختار القائل بأنّ العقل يحكم بالاحتياط على أساس حقّ الطاعة للمولى.

وحينئذ لا بدّ من استعراض المسلكين لنرى ما هو الصحيح منهما ، فنقول :

١ ـ مسلك قبح العقاب بلا بيان :

إنّ مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المسلك المشهور ، وقد يستدلّ عليه بعدّة وجوه :

الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) من أنّه لا مقتضي للتحرّك مع عدم وصول التكليف ، فالعقاب حينئذ عقاب على ترك ما لا مقتضي لإيجاده وهو قبيح.

وقد عرفت في حلقة سابقة (٢) أنّ هذا الكلام مصادرة ؛ لأنّ عدم المقتضي فرع ضيق دائرة حقّ الطاعة وعدم شمولها عقلا للتكاليف المشكوكة ؛ لوضوح أنّه مع الشمول يكون المقتضي للتحرّك موجودا ، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

المسلك الأوّل : هو المسلك المشهور القائل بأنّ العقل يحكم بقبح العقاب مع عدم البيان ، والذي مفاده أنّه مع عدم بيان التكليف للمكلّف يقبح عقابه على عدم التحرّك عنه فعلا أو تركا ، فيكون العقل حاكما بالتأمين ونافيا للعقاب مع عدم علم المكلّف بالتكليف ، وهو المطلوب.

وقد استدلّوا على ذلك بوجوه منها :

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ٣٦٥.

(٢) في بحث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الأوّليّة في حالة الشكّ.

٥٢

الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ التكاليف إنّما تكون محرّكة للمكلّف فيما إذا كانت واصلة إليه ، وأمّا وجودها الواقعي من دون وصول فلا يكفي للتحرّك ، كما هو الحال في الأمور التكوينيّة ، فإنّ الإنسان إذا علم بوجود الأسد في مكان فإنّه يتحرّك عنه فلا يقترب من المكان ، وأمّا إذا لم يعلم بوجوده فلن يتحرّك عنه ، بل يقتحم ذلك المكان ، وهذا يعني أنّ الوجود الواقعي ليس هو المحرّك ، بل المحرّك هو الوصول والعلم.

وفي مقامنا إذا لم يعلم المكلّف بالتكليف فلن يكون لديه مقتضي التحرّك عنه فعلا أو تركا ؛ لأنّ مقتضي التحرّك كما تقدّم هو الوصول والعلم ، والمفروض انتفاؤه هنا ، وحينئذ فإن عوقب على ترك التحرّك عمّا يقتضيه التكليف كان العقاب ثابتا من دون مقتضي لثبوته.

ومن الواضح أنّ ثبوت العقاب مع عدم ثبوت موجبه ومقتضيه قبيح ، إذ لازمه العقاب على ترك التحرّك عن تكليف لا يعلم بوجوده ، وهو محال صدوره من الشارع الحكيم ، وأمّا إذا علم بالتكليف ومع ذلك لم يتحرّك عنه فهو مستحقّ للعقاب ؛ لأنّه قد ترك التحرّك عن التكليف الواصل إليه والمعلوم عنده ، فيكون العقاب ثابتا لثبوت مقتضيه وموجبه ، وبالتالي لا يكون قبيحا.

وهكذا يتّضح أنّ التحرّك فرع وجود موجب ومقتضي التحرّك ، وأنّ استحقاق العقاب مترتّب على ذلك نفيا وإثباتا ، وأنّ وصول التكليف والعلم به هو الذي يحقّق مقتضي التحرّك ، ومع عدم الوصول والعلم لا يكون مقتضي التحرّك واستحقاق العقاب ثابتا.

والجواب عنه : أنّه مصادرة على المطلوب ، أي أنّ الدليل عين المدّعى.

وتوضيح ذلك : أنّ العقل عند ما يواجه واقعة مشكوكة ينصبّ حكمه حول وجود حقّ الطاعة أو عدم وجوده ، بمعنى أنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى بحكم مولويّته هل يشمل كلّ انكشاف للتكليف ، أم يختصّ بالتكاليف المعلومة فقط؟

فإن قيل باختصاصه بالتكاليف المعلومة كان معناه أنّ دائرة حقّ الطاعة ضيقة ، وإن قيل بشموله كان معناه أنّ دائرة حقّ الطاعة واسعة.

وحينئذ نقول : إنّ وجود مقتضي التحرّك وعدم وجوده فرع تحديد دائرة حقّ

٥٣

الطاعة سعة وضيقا في مرحلة سابقة ، فإن قيل بسعتها وشمولها للتكاليف المشكوكة أيضا كان مقتضي التحرّك موجودا ، وبالتالي يحكم العقل باستحقاق العقاب على ترك التحرّك ، وإن قيل بضيقها واختصاصها بالتكاليف المعلومة فمقتضى التحرّك عند الشكّ وعدم العلم غير موجود فلا استحقاق للعقاب.

وهكذا يتّضح أنّ مصبّ البحث إنّما هو في تحديد دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا ، لنرى أنّ مقتضي التحرّك موجود أم لا.

وأما الاستدلال على البراءة بأنّ مقتضي التحرّك غير موجود في التكاليف المشكوكة من دون البحث عن دائرة حقّ الطاعة أوّلا فهو مصادرة على المطلوب ؛ لأنّ المطلوب وهو إثبات البراءة بعدم التحرّك مترتّب على ثبوت ضيق دائرة حقّ الطاعة والتي لم يسلّم بضيقها بعد.

الثاني : الاستشهاد بالأعراف العقلائيّة ، وقد تقدّم (١) أيضا الجواب بالتمييز بين المولويّة المجعولة والمولوية الحقيقية.

الدليل الثاني : الاستدلال على البراءة وكونها الحكم الأوّلي عند الشكّ في التكليف بما هو متعارف عند العقلاء ، فإنّ سيرة العقلاء انعقدت على أنّ كلّ آمر يتعامل مع مأموريه وفق الطرق والأساليب التي من شأنها أن تنجّز التكليف على مأموره ، بحيث يستحقّ العقاب على مخالفة التكليف.

والعقلاء يرون أنّ الآمر لا يحقّ له أن يعاقب عبيده على مخالفة تكليف لم يصلهم فينجّز بشأنه ، بل يرونه قبيحا وظلما ، وهذا يعني أنّ القاعدة من المرتكزات العقلائيّة مضافا إلى كونها عقليّة أيضا.

وعلى هذا فتكون التكاليف المعلومة والواصلة هي المنجّزة والتي يستحقّ المكلّف العقاب على مخالفتها ؛ لأنّ الشارع قد أمضى هذا البناء العقلائي إذ لم يعلم بوجود طريق خاصّ للشارع في هذا الصدد.

والجواب : أنّ هذا مبني على كون المولويّة الشرعيّة كالمولويّة العرفيّة ، إلا أنّه غير تامّ ؛ وذلك :

أوّلا : أنّ نفس المولويّة مفهوم كلّي مشكّك وليست بمعنى واحد ، أي أنّها تختلف

__________________

(١) في نفس البحث من الحلقة الثانية وتحت نفس العنوان.

٥٤

سعة وضيقا من وال إلى آخر ، فيحقّ لكلّ وال أن يضع الطريق الذي يختاره حجّة ومنجّزا بينه وبين مأموريه ، ولذلك يعقل أن يتّفق مع مواليه على أنّ كلّ انكشاف واحتمال للتكليف فهو منجّز عليهم ، وبالتالي فكلّ من يخالف سوف يكون مستحقّا للعقاب بحكم العقل وإن لم يكن التكليف معلوما لديه.

وبهذا يكون حقّ المولويّة مختلفا سعة وضيقا في نفسه ، فلا بدّ أن نبحث في أنّ الشارع هل جعل حقّ مولويّته وطاعته واسعا ليشمل كلّ انكشاف ، أم جعله ضيّقا مختصّا بالتكاليف المعلومة فقط؟

وثانيا : أنّ نفس قياس المولويّة العرفيّة على المولويّة الحقيقيّة قياس مع الفارق ؛ وذلك لأنّ المولويّة العرفيّة مجعولة من الغير بينما المولويّة الحقيقيّة ذاتيّة للشارع بحكم خالقيّته لنا.

وحينئذ يمكن أن تكون المولويّة المجعولة في حدود التكاليف المعلومة فقط ، بينما تكون المولويّة الحقيقيّة الذاتيّة شاملة لكلّ انكشاف للتكليف.

والخلط بين المولويّتين هو الذي أدّى إلى قياس إحداهما على الأخرى.

الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله (١) من أنّ كلّ أحكام العقل العملي مردّها إلى حكمه الرئيسي الأوّلي بقبح الظلم وحسن العدل. ونحن نلاحظ أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبوديّة ، وهو ظلم من العبد لمولاه ، فيستحقّ منه الذمّ والعقاب ، وأنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم ، إذ ليس من زىّ العبوديّة ألاّ يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر ، فلا يكون ذلك ظلما للمولى ، وعليه فلا موجب للعقاب بل يقبح ، وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.

الدليل الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله من إرجاع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى قاعدة العدل والظلم العقليّين.

وبيانه : أنّ العقل يحكم بقبح الظلم وحسن العدل ، وكلّ ما يدخل فيهما يحقّق الصغرى ، فالكذب ظلم إذا فهو قبيح ، والصدق والإحسان عدل فهما حسن ، وهكذا.

__________________

(١) نهاية الدراية ٤ : ٨٤.

٥٥

وهذه القاعدة من مدركات العقل العملي القاضي بما ينبغي أن يكون عند ما يواجه قضيّة ما.

وفي مقامنا نقول : إنّ المكلّف إذا خالف ما قامت عليه الحجّة من تكاليف المولى كان خارجا عن زيّ العبوديّة فيكون ظالما لمولاه ، حيث لم يطعه حيث تجب طاعته ، فيكون مستحقّا للذمّ والعقاب ؛ لأنّه فعل قبيحا وظلما ، وأمّا إذا خالف ما لم تقم الحجّة عليه من تكاليف كأن فعل في مورد الحرمة أو ترك في مورد الوجوب مع عدم قيام الدليل والحجّة عليهما ، فلا يكون خارجا عن زيّ العبوديّة ولا يكون ظالما لمولاه ، لأنّه ليس من رسم العبوديّة أن يطيع العبد مولاه فيما لا يعلمه من تكاليف أو يخالفه في تكاليفه الواقعيّة الثابتة في نفس الأمر واللوح المحفوظ مع جهله بها ، ولذلك لا تكون مخالفته هنا ظلما ولم يفعل قبيحا ، بل يقبح حينئذ عقابه وذمّه.

فإذا ثبت ذلك ظهر أنّه ما لم يقم البيان والعلم لدى المكلّف على التكاليف فلا يكون تركه ومخالفته الواقعيّة مع عدم وصولها إليه ظلما وقبحا ، بل الظلم والقبح أن يؤاخذ على ذلك ويعاقب.

وبهذا ظهر أنّ مرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى كونها فردا ومصداقا للقضيّة العقليّة التي يدركها العقل العملي من حسن العدل وقبح الظلم ، بحيث يدور الأمر حول تحقّق الظلم وعدم تحقّقه.

والتحقيق : أنّ ادّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح عموما ، وأنّها كلّها تطبيقات له ، وإن كان هو المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحقّقين إلا أنّه لا محصّل له ؛ لأنّنا إذا حلّلنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنّه عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقّه ، وهذا يعني افتراض ثبوت حقّ في المرتبة السابقة ، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي ، فلو لا أنّ للمنعم حقّ الشكر في المرتبة السابقة لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره ، فكون شيء ظلما وبالتالي قبيحا مترتّب دائما على حقّ مدرك في المرتبة السابقة ، وهو في المقام حقّ الطاعة.

فلا بدّ أن يتّجه البحث إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف

٥٦

الواصلة بالوصول الاحتمالي ، أو يختصّ بما كان واصلا بالوصول القطعي ، بعد الفراغ عن عدم شموله للتكليف بمجرّد ثبوته واقعا ولو لم يصل بوجه؟

والتحقيق في الجواب عن هذا الاستدلال أن يقال : إنّ الادّعاء المذكور من أنّ الأساس للأحكام العقليّة هو قبح الظلم ، وأنّ كلّ الأحكام العقليّة التي يدركها العقل العملي ترجع في عمومها إلى كون الظلم متحقّقا أم لا ، بمعنى أنّ كلّ الأحكام العقليّة تكون تطبيقات للظلم فإذا ثبت كونها مصداقا له كانت قبيحة ، وإلا فلا ، فهذا الادّعاء على شهرته بين الأصوليّين وغيرهم إلا أنّه لا معنى محصّل له.

وبيانه : أنّ قبح الظلم الذي هو الأساس في الأحكام العقليّة من القضايا البديهيّة المسلّمة ، إلا أنّ مفهوم الظلم نفسه عبارة عن الاعتداء على حقّ الغير أو سلب الغير حقّه ، وهذا يفترض مسبقا ثبوت الحقّ للغير ليكون سلبه والاعتداء عليه ظلما وبالتالي قبيحا.

وحينئذ نقول : إنّ الحقّ الثابت للمولى يكون الاعتداء عليه ظلما وقبيحا ؛ لأنّ هذا الحقّ ثابت للمولى بحكم مولويّته وخالقيّته وإنعامه على عبيده ، بحيث لزمهم الشكر على ذلك بحكم العقل وترك الشكر يعتبر ظلما وقبحا ، وهذا كلّه واضح ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ هذا الحقّ الثابت للمولى والذي أدركه العقل العملي ما هو؟

والجواب : أنّ هذا الحقّ هو لزوم الطاعة للمولى على عبيده شكرا منهم له على خلقه وإنعامه.

وحينئذ لا بدّ أن ينصبّ البحث حول تحديد دائرة هذا الحقّ لنرى ما هو الواجب على العبيد التزامه وأداء مراسم الشكر والطاعة فيه؟

وبهذا يتّجه البحث مجدّدا إلى أنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى هل دائرته تختصّ في لزوم إطاعته بما علم المكلّف من التكاليف أي التكاليف الواصلة للمكلّف عن طريق القطع فقط ، أو أنّها تشمل كلّ ما يحتمله المكلّف من تكاليف للمولى أي التكاليف المنكشفة لديه ولو بنحو الاحتمال؟

فإن قيل بالأوّل ثبت أنّ العقاب مع عدم البيان ووصول التكليف لدى المكلّف قبيح وظلم ، وإن قيل بالثاني لم يكن عقابه على ترك ما يحتمله وجوبه أو فعل ما

٥٧

يحتمل حرمته قبيحا وظلما وإن لم يكن عالما به ؛ لأنّ المفروض على هذا الاحتمال أنّ حقّ الطاعة يشمل كلّ انكشاف وأنّ العبد مطالب بالإطاعة في ذلك.

وهكذا يكون هذا الدليل كالدليل السابق في كونه مصادرة على المطلوب ، إذ الدليل عين المدّعى المتنازع فيه والذي لم يفرغ عنه بعد.

الرابع : ما ذكره المحقّق الأصفهاني (١) أيضا تعميقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على أساس مبنىّ له في حقيقة التكليف ، حاصله : أنّ التكليف إنشائي وحقيقي ، فالإنشائي ما يوجد بالجعل والإنشاء وهذا لا يتوقّف على الوصول ، والحقيقي ما كان إنشاؤه بداعي البعث والتحريك وهذا متقوّم بالوصول ؛ إذ لا يعقل أن يكون التكليف بمجرّد إنشائه باعثا ومحرّكا ، وإنّما يكون كذلك بوصوله ، فكما أنّ بعث العاجز غير معقول كذلك بعث الجاهل.

وكما يختصّ التكليف الحقيقي بالقادر كذلك يختصّ بمن وصل إليه ليمكنه الانبعاث عنه ، فلا معنى للعقاب والتنجّز مع عدم الوصول ؛ لأنّه يساوق عدم التكليف الحقيقي ، فيقبح العقاب بلا بيان لا لأنّ التكليف الحقيقي لا بيان عليه ، بل لأنّه لا ثبوت له مع عدم الوصول.

الدليل الرابع : ما ذكره المحقّق الأصفهاني كتعميق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، مستندا في ذلك على أساس مبنى له في تفسير حقيقة التكليف والحكم ، وحاصله أن يقال : إنّ التكليف أو الحكم الواقعي على قسمين :

الأوّل : الحكم الإنشائي ، ويراد به الحكم الذي يجعل وينشأ في عالم التشريع والواقع واللوح المحفوظ ، وهذا الحكم يشترك فيه العالم والجاهل والغافل والملتفت ، وهذا الحكم في هذه المرتبة لا يتوقّف ثبوته على وصوله لدى المكلّف كما هو واضح ، بل هو ثابت بمجرّد جعله وإنشائه.

الثاني : الحكم الحقيقي ، وهو الحكم الذي ينشأ ويجعل بداعي البعث والتحريك ، وهذا الحكم يتقوّم بالوصول إلى المكلّف ؛ لوضوح أنّ البعث والتحرّك من المكلّف لا يتحقّق إلا بأن يكون التكليف واصلا وفعليّا ، ولا يكفي مجرّد إنشائه وجعله لتحقّق التحرّك والبعث خارجا.

__________________

(١) نهاية الدراية ٤ : ٨٣.

٥٨

وحينئذ نقول : إنّ الحكم الحقيقي والتكليف مقيّد عقلا بالقدرة عليه ، ولذلك لا يعقل تكليف العاجز غير القادر على البعث والتحرّك ؛ لأنّه طلب للمحال وهو محال ، وكذلك يكون التكليف مقيّدا بمن وصل إليه التكليف ؛ لأنّ من لم يصل إليه التكليف لا يمكنه التحرّك والانبعاث ، ففعليّة الحكم الواقعي الحقيقي مقيّدة بوصول الحكم والتكليف لدى المكلّف ، فإذا لم يصل إليه فلا معنى لذمّه وعقوبته ؛ لأنّه يكون عقابا على ترك التحرّك والانبعاث مع عدم وصول التكليف إليه ، والذي هو الداعي للتحرّك والانبعاث.

وبتعبير آخر : أنّ التكليف مع عدم وصوله لا يكون منجّزا على المكلّف ، وبالتالي لا يكون فعليّا فلا تحرّك ولا انبعاث إذ لا مقتضي لهما ، وعليه فالعقاب على المخالفة في هذا المورد قبيح كما هو الحال في مخالفة العاجز وعدم تحرّكه ، فإنّ عقابه قبيح.

إلا أنّ قبح العقاب هنا لا لأجل أنّه لا بيان للتكليف ؛ إذ البيان الواقعي للتكليف ثابت في مرحلة الإنشاء كما تقدّم ؛ لأنّ الحكم محفوظ بحقّ العالم والجاهل كما قلنا ، بل لا عقاب على المخالفة ؛ لأنّه لا تكليف أصلا على من لم يصل إليه الحكم ؛ لأنّنا قلنا : إنّ الحكم الحقيقي هو المتقوّم بالوصول ، فمع عدم الوصول لا تكليف حقيقة ، بمعنى أنّ الداعي الذي من أجله كان الحكم غير متحقّق ، إذ لا بعث ولا تحريك وهما أساس الحكم الحقيقي ، فمع عدمهما ينعدم الحكم الحقيقي ويبقى الحكم الإنشائي.

غير أنّ الحكم الإنشائي لا يفيد ؛ لأنّه لم يجعل بداعي البعث والتحريك ، فعدم انبعاث وتحرّك المكلّف لأجل أنّ الحكم الموجود هو الحكم الإنشائي وهو لم يجعل بداعي التحرّك والبعث ، والحكم الذي فيه هذا الداعي هو الحكم الحقيقي ، وهذا متقوّم بالوصول ، فمع عدم وصوله لا يثبت التحرّك والبعث ، وبالتالي ينتفي ثبوت هذا الحكم الحقيقي.

والحاصل : أنّ العقل يحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلّف لا من ناحية قبح العقاب بلا بيان ، إذ البيان موجود واقعا بالحكم الإنشائي ، بل لأنّه لا تكليف حقيقة إذ لا وصول للحكم كما هو المفروض.

٥٩

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ حقّ الطاعة إن كان شاملا للتكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي فباعثيّة التكليف ومحرّكيّته مولويّا مع الشكّ معقولة أيضا ؛ وذلك لأنّه يحقّق موضوع حقّ الطاعة.

وإن لم يكن حقّ الطاعة شاملا للتكاليف المشكوكة فمن الواضح أنّه ليس من حقّ المولى أن يعاقب على مخالفتها ؛ لأنّه ليس مولى بلحاظها ، بلا حاجة إلى هذه البيانات والتفصيلات.

وهكذا نجد مرّة أخرى أن روح البحث يجب أن يتّجه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ الوصول الذي يتقوّم به الحكم الحقيقي ما المراد منه؟ هل المراد منه الوصول القطعي أو الوصول الأعمّ منه ومن الاحتمالي الذي يجتمع مع الشكّ أيضا؟

فإن قيل : إنّ الوصول معناه مطلق الوصول الأعمّ من القطعي والاحتمالي ، فهذا يعني أنّ المحرّكيّة والباعثيّة التي يجعل التكليف من أجلها موجودة في حالة الشكّ في التكليف واحتماله ؛ لأنّه بحسب الفرض يكون الوصول موجودا باحتمال التكليف ، وحينئذ يكون المطلوب من المكلّف التحرّك والانبعاث عمّا يقتضيه الوصول الاحتمالي للتكليف ، وبالتالي يكون مستحقّا للعقوبة على مخالفته لهذا الاحتمال فلا يكون عقابه قبيحا ؛ وذلك لأنّ موضوع حقّ الطاعة ثابت ومتحقّق بالوصول الاحتمالي ، فالعقاب كان حقّا للمولى ؛ لأنّه يعقل على هذا الفرض إيجاد الباعثيّة والمحرّكيّة المولويّة في فرض الوصول الاحتمالي ما دام حقّ الطاعة شاملا للتكاليف الواصلة بمطلق الوصول الشامل للشكّ والاحتمال ، وبهذا لا يكون الاستدلال المذكور تامّا.

وأمّا إن قيل بأنّ الوصول معناه الوصول القطعي للتكليف بحيث لا يشمل الظنّ والشكّ والاحتمال ، كان معناه أنّ حقّ الطاعة موضوعه التكاليف المقطوعة فقط ولا يشمل غيرها ، أي أنّ حقّ الطاعة لا يطال هذه التكاليف المحتملة والمشكوكة ، فهي خارجة تخصّصا.

وحينئذ يكون العقاب على مخالفة التكاليف المشكوكة قبيحا ؛ لا لأنّه لا بيان ولا

٦٠