شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

أحدهما : أنّه علم بالجامع ، والآخر : أنّه علم بالواقع بنحو الحكاية الإجماليّة.

فبناء عليه تكون الصورة العلميّة التي تعلّق بها العلم الإجمالي مركّبة من جزءين : أحدهما واضح وجلي وهو الجامع ، والآخر غامض ومشوب وهو الفرد الواقعي ، فيكون عنصر الوضوح مندمجا مع عنصر الغموض ولذلك تكون الصورة العلميّة إجماليّة ، بخلاف العلم التفصيلي فإنّ الصورة العلميّة فيه واضحة تماما فهي صورة جليّة وتفصيليّة تماما.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الصورة الإجماليّة وإن كانت مطابقة للواقع بحدّه الشخصي إلا أنّها مطابقة غير واضحة بل غامضة في جانب ، وواضحة وجليّة في جانب آخر ، والمقدار الذي يتنجّز هنا هو المقدار المطابق لجانب الوضوح ؛ لأنّه بهذا المقدار يكون قد تمّ البيان والكشف ، دون المقدار المطابق لجانب الخفاء والغموض ؛ لأنّه يكون عندئذ مظلما غير بيّن ولا منكشف.

والدليل على ذلك : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تخرج من دائرتها إلا المقدار الذي تمّ عليه البيان والعلم ، أي المقدار المنكشف والواضح دون المقدار الغامض والمبهم والمشوب ، فإنّه لا انكشاف ولا إرادة بلحاظه.

والمقدار الواضح والمبيّن هنا هو الجامع فقط دون الفرد ؛ لأنّه لا بيان ولا وضوح في تعلّق العلم بالفرد بحدّه الشخصي وإلا لصار العلم تفصيليّا.

وبتعبير آخر : أنّه يوجد في الصورة العمليّة المعلومة بالعلم الإجمالي جانبان :

أحدهما مبيّن وهو الجامع ، والآخر مجمل وهو الفرد ، أمّا الجانب المبيّن فيخرج عن دائرة القاعدة ؛ لأنّه قد تمّ عليه البيان ، وأمّا الجانب المجمل فيبقى داخلا في القاعدة ؛ لأنّه لم يتمّ عليه البيان وإلا لكان هناك علم تفصيلي بالفرد الواقعي وهو خلف.

فتحصّل أنّ المقدار المنجّز هو الجامع ؛ لأنّه المطابق لجانب الوضوح والبيان ، فلا يجب إلا تحقيق الجامع وهذا يتمّ بالإتيان بأحد الفردين ، فهو كالمبنى الأوّل في النتيجة العمليّة.

وعليه ، فالمنجّز مقدار الجامع لا أكثر على جميع المباني المتقدّمة ، وعليه فالعلم الإجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة.

وبهذا ظهر أنّه على جميع المسالك في تفسير حقيقة العلم الإجمالي يكون المنجّز مقدار الجامع فقط ، والجامع يتحقّق بالإتيان بفرد من أفراده.

٢٠١

وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته لا يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة ، سواء كان علما بالجامع أو بالواقع أو بالفرد المردّد ، وإنّما لم يذكر الفرد المردّد هنا فلأنّه غير معقول في نفسه إلا أن يرجع إلى الجامع الانتزاعي فيكون كالمبنى الأوّل.

هذا تمام الكلام في كون العلم الإجمالي منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة دون الموافقة القطعيّة في نفسه وبقطع النظر عن الأصول الترخيصيّة.

إلا أنّه يمكن أن يقال بأنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة لا لنفسه وإنّما لدليل من الخارج ؛ ولذلك قال :

ويوجد تقريبان لإثبات أنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة :

الأوّل : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقّق الأصفهاني (١) ، وحاصله مركّب من مقدّمتين :

الأولى : أنّ ترك الموافقة القطعيّة بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة احتماليّة للجامع ؛ لأنّ الجامع إن كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد خولف وإلا فلا.

والثانية : أنّ المخالفة الاحتماليّة للتكليف المنجّز غير جائزة عقلا ؛ لأنّها مساوقة لاحتمال المعصية ، وحيث إنّ الجامع منجّز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتماليّة.

التقريب الأوّل : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقّق الأصفهاني ، بمعنى أنّه لم يصرّح بذلك وإنّما ظاهر بعض عباراته تدلّ على ذلك ، وهذا التقريب مركّب من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : إذا قلنا : إنّ الموافقة القطعيّة غير واجبة فمعناه أنّه يجوز الإتيان بأحد الفردين دون الآخر ، وحينئذ يمكن أن يكون الجامع قد امتثل ضمن الفرد الذي أتى به بأن كان الوجوب متعلّقا به في الواقع فتتحقّق الموافقة ، إلا أنّه يمكن أيضا أن يكون الطرف الآخر هو الواجب واقعا فلا يكون الجامع قد امتثل.

وهذا يعني أنّ ترك الموافقة القطعيّة لازمه المخالفة الاحتماليّة للتكليف المعلوم أي الجامع.

المقدّمة الثانية : أنّ المخالفة الاحتماليّة للتكليف المعلوم أي الجامع غير جائزة ؛ وذلك

__________________

(١) راجع : نهاية الدراية ٣ : ٩١ ـ ٩٥.

٢٠٢

لأنّ مخالفة التكليف المعلوم ولو احتمالا تساوق احتمال الوقوع في المعصية ، وهي قبيحة عقلا.

والنتيجة : هي أنّ الجامع ما دام قد تنجّز وقد علم اشتغال الذمّة به ، وما دامت المخالفة الاحتماليّة تساوق الوقوع في المعصية القبيحة عقلا ، فاللازم الإتيان بكلا الفردين لكي يتحقّق إبراء الذمّة يقينا ممّا اشتغلت به ، ولكي لا يقع في المعصية القبيحة عقلا ، فيكون العلم الإجمالي منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة حينئذ.

ويندفع هذا التقريب بمنع المقدّمة الأولى ، فإنّ الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحدّه فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفة احتماليّة له ؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين ، والمفروض أنّ العلم واقف على الجامع بحدّه ، وأن التنجّز تابع لمقدار العلم ، فلا مخالفة احتماليّة للمقدار المنجّز أصلا.

ويرد على هذا التقريب : أنّ المقدّمة الأولى غير تامّة ، بمعنى أنّه لا يوجد مخالفة احتماليّة للجامع فيما إذا امتثل أحد الفردين وترك الآخر.

وتوضيح ذلك : أنّ المقدار المنجّز هنا المفروض أنّه الجامع ، وحينئذ يطرح السؤال التالي وهو أن الجامع المنجّز ما المراد به؟

فإن كان المقصود به الجامع الموجود ضمن الفرد فهذا معناه أنّ المنجّز هو الفرد لا الجامع ، وهو مسلك المحقّق العراقي كما تقدّم ، وهذا لا يقول به المحقّق الأصفهاني.

وإن كان المقصود به الجامع بحدّه الجامعي ـ كما هو مقصود المحقّق الأصفهاني ـ على أساس المبنى الأوّل ، فحينئذ نقول : إنّ الجامع بحدّه الجامعي من دون نظر إلى الفرد مطلقا لا الفرد الواقعي ولا الفرد المردّد ، إذا تنجّز فهو لا يقتضي أكثر من الإتيان بالجامع ، وامتثال الجامع لا يكون إلا بامتثال أحد أفراده ؛ لأنّه يتحقّق في الخارج ضمن الفرد.

وعليه فإذا امتثل أحد الفردين وترك الآخر يكون قد حقّق موافقة الجامع قطعا لا احتمالا ؛ لأنّ الجامع صار موجودا وممتثلا ضمن الفرد الذي أتى به ، فلا يكون تركه للفرد الآخر مخالفة أصلا ولو احتمالا.

٢٠٣

والوجه في ذلك : أنّ التنجّز يتحدّد بالمقدار الذي تمّ عليه العلم والبيان كما تقدّم ، وهو هنا الجامع بحدّه الجامعي فقط ، فيكون الواجب على المكلّف موافقة هذا الجامع فقط ، وهذا يتحقّق بامتثال فرد من أفراده ، وبالتالي تحصل الموافقة القطعيّة بالإتيان بفرد واحد ، ولا تحصل المخالفة أصلا ولو الاحتماليّة.

وبكلمة أخرى : أنّ الإتيان بفرد وترك الفرد الآخر يحتمل أن يكون فيه موافقة للواقع ويحتمل أن يكون فيه مخالفة للواقع ، إلا أنّ المفروض هنا أنّ الواقع ليس هو المنجّز ؛ لأنّ المحقّق الأصفهاني لا يقول بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد لا الواقعي ولا المردّد وإنّما يقول بتعلّقه بالجامع فقط ، والجامع كما قلنا يتحقّق وجوده وامتثاله في الخارج بالإتيان بفرد من أفراده ، والمفروض أنّه قد أتى به فلا مخالفة أصلا.

ففرق بين مخالفة الواقع وبين مخالفة الجامع ، فإنّ مخالفة الواقع القطعيّة تكون بترك الطرفين والاحتماليّة تكون بترك فرد والإتيان بفرد.

وأمّا مخالفة الجامع فهي لا تكون إلا بعدم الإتيان بالفردين فقط ، وأمّا الإتيان بفرد وترك الآخر أو الإتيان بالفردين معا فهذه تعتبر موافقة قطعيّة للجامع ؛ لأنّه يتحقّق ضمن الفرد الأوّل في الخارج ولا حاجة للفرد الثاني سواء وجد أم لا.

الثاني : ما ذهبت إليه مدرسة المحقّق النائيني (١) ( قدس الله روحه ) ، فإنّها مع اعترافها بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة بصورة مباشرة ؛ لأنّه لا ينجّز أزيد من الجامع ، قامت بمحاولة لإثبات استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية :

التقريب الثاني : ما أفادته مدرسة الميرزا ، فهي بعد اعترافها بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه إنّما ينجّز مقدار الجامع فقط ، والجامع يكفي في إيجاده وتحقّقه أي فرد من أفراده ، إلا أنّها مع ذلك قامت بالاستدلال على وجوب الموافقة القطعيّة لأطراف العلم الإجمالي بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة تقع في نقاط أربع :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة.

__________________

(١) راجع : أجود التقريرات ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

٢٠٤

ثانيا : يترتّب على ذلك عدم إمكان جريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف ؛ لأنّه يستوجب الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ثالثا : يترتّب على ذلك أنّ الأصول المذكورة تتعارض فلا تجري في أي طرف ؛ لأنّ جريانها في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجّح ، وجريانها في الكلّ غير ممكن.

رابعا : ينتج من كلّ ذلك أنّ احتمال التكليف في كلّ طرف يبقى بدون أصل مؤمّن ، وكلّ احتمال للتكليف بدون مؤمّن يكون منجّزا للتكليف ، فتجب عقلا موافقة التكليف المحتمل في كلّ طرف باعتبار تنجّزه ، لا باعتبار وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي بعنوانها.

حاصل التقريب أن يقال :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة كما تقدّم سابقا ؛ لأنّه ينجّز مقدار الجامع فصار الجامع داخلا في الذمّة والعهدة ، فيحكم العقل بقبح معصيته ، ومعصية الجامع تتحقّق ضمن ترك كلّ الأطراف ؛ لأنّه إذا ترك كلّ الأطراف فسوف يترك الجامع المنجّز عليه قطعا فيكون عاصيا فيستحق العقاب ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وثانيا : أنّنا إذا قلنا بحرمة ترك كلّ الأطراف فلازمه أنّ الأصول الترخيصيّة لا يمكن جريانها في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة وارتكاب المعصية قطعا ، وهذا قبيح بحكم العقل. فلا تجري الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف ؛ لأنّها تؤدّي إلى الترخيص في المعصية القبيحة عقلا.

وثالثا : أنّنا اذا قلنا بعدم إمكان جريان الأصول في تمام الأطراف فلازم ذلك أن تتعارض الأصول فيما بينها ، وبالتالي تساقطها ؛ وذلك لأنّ كلّ طرف في نفسه مشمول للأصل المؤمّن ، باعتباره مشكوكا ، وحيث إنّ الأصول لا يمكن جريانها في تمام الأطراف ؛ لأنّها تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وحيث إنّ جريانها في بعض الأطراف دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيلزم من ذلك القول بتعارضها ، ومقتضى التعارض التساقط ؛ لأنّه الأصل الأوّلي عند التعارض كما سيأتي في محلّه.

ورابعا : والنتيجة على ضوء ما ذكرنا هي : أنّ كلّ طرف من أطراف العلم

٢٠٥

الإجمالي لا مؤمّن عليه فعلا ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة قد سقطت عن الحجّيّة فعلا بلحاظ هذه الأطراف.

وفي هذه الحالة يحكم العقل بالتنجيز على أساس وجوب دفع العقاب والضرر المحتمل عن النفس ، فإنّنا في كلّ طرف نحتمل التكليف ولا يوجد مؤمّن لنا بلحاظه فنحن نحتمل الضرر والعقاب إذا تركناه ، واحتمال الضرر والعقاب ينجّز التكليف المحتمل ؛ لأنّ العقل يستقلّ بذلك.

والنتيجة العمليّة هي : أنّ كلّ طرف يكون منجّزا بمنجّز عقلي فتجب موافقته وتحرم مخالفته ، وهذه هي الموافقة القطعيّة إلا أنّها ليست ناشئة من نفس العلم الإجمالي ، وإنّما هي ناشئة من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

والتحقيق : أنّ المقصود بتعارض الأصول المؤمّنة في الفقرة الثالثة إن كان تعارض الأصول بما فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، على أساس أنّ جريانها في كلّ من الطرفين غير ممكن وفي أحدهما خاصّة ترجيح بلا مرجّح ، فهذا غير صحيح ؛ لأنّ هذه القاعدة نجريها ابتداء فيما زاد على الجامع.

والتحقيق أن يقال : ما هو المقصود من تعارض الأصول؟

والجواب على ذلك فيه احتمالان :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المقصود أنّ الأصول العقليّة الترخيصيّة الشاملة للبراءة العقليّة تتعارض فيما بينها بلحاظ جريانها في تمام الأطراف ، فهذا غير صحيح ؛ وذلك لأنّنا نجري البراءة العقليّة ابتداء ومباشرة في تمام الأطراف بوصفها مشكوكة ؛ لأنّ هذا المقدار زائد عن الجامع المعلوم والذي تمّ عليه البيان.

فكلّ طرف من الأطراف تجري فيه البراءة ؛ لأنّه مشكوك ، أي هذا الطرف في نفسه وبقطع النظر عن الجامع المعلوم يكون موردا للبراءة ؛ لأنّ موضوعها متحقّق بلحاظه ، وأمّا الجامع فبما أنّه معلوم وقد تمّ البيان عليه فلا تجري فيه البراءة لخروجه عن دائرتها.

فإذا نظرنا إلى كلّ طرف طرف كانت البراءة جارية فيه ولا تعارض بين الأطراف في ذلك ، وأمّا مقدار الجامع فلا تجري فيه البراءة أصلا ، ولتوضيح المطلب أكثر نقول :

وبعبارة أخرى : أنّنا عند ما نعلم إجمالا بوجوب الظهر أو وجوب الجمعة ، يكون

٢٠٦

كلّ من الوجوبين بما هو وجوب لهذا الفعل أو لذاك بالخصوص موردا للبراءة العقليّة ، وبما هو وجوب مضاف إلى الجامع خارجا عن مورد البراءة فيتنجّز الوجوب بمقدار إضافته إلى الجامع ؛ لأنّ هذا هو المقدار الذي تمّ عليه البيان ، ويؤمّن عنه بما هو مضاف إلى الفرد.

وبعبارة أخرى أوضح : أنّنا في المثال المذكور أي العلم بوجوب صلاة الظهر أو وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ، يكون لدينا خصوصيّتان بلحاظ كلّ طرف على هذا النحو.

فوجوب صلاة الجمعة تارة ينظر إليه في نفسه فهو وجوب مشكوك ، وأخرى ينظر إليه بما هو مضاف إلى الجامع أي بما هو فرد للجامع الذي تنجّز ، وهكذا الحال بالنسبة لصلاة الظهر توجد فيها هاتان الخصوصيّتان.

وحينئذ نقول : إنّ كلّ واحد من الوجوبين بحده الشخصي وبما هو في نفسه إذا نظرنا إليه كذلك فلا يخرج عن كونه وجوبا مشكوكا بهذه الخصوصيّة ، إذ لا علم لنا بوجوب الظهر بحدّه وخصوصيّاته ولا بوجوب الجمعة كذلك ، وهنا تجري البراءة العقليّة للتأمين عن كلّ فرد من الفردين بلحاظ نفسه ؛ لأنّه مشكوك والبراءة موردها الشكّ وعدم البيان.

وأمّا إذا نظرنا إلى كلّ واحد من الوجوبين بما هو فرد من أفراد الجامع المنجّز فهنا لا تجري البراءة عن كلّ واحد من الوجوبين ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يمكن أن يكون هو المحكي عنه بالجامع فيكون منجّزا ، فإذا جرت البراءة في كلّ منهما كان لازم ذلك ترك امتثال الجامع ؛ لأنّه إنّما يمتثل في الخارج ضمن أحد الوجوبين ، فيكون تركهما معا تركا لمقدار الجامع أي ( وجوب صلاة ما ).

والحاصل : أنّنا نجري البراءة في الخصوصيّة المشكوكة لا في الخصوصيّة المعلومة ، وهنا كل فرد بلحاظ نفسه فهو مشكوك فيكون مجرى للبراءة ، وبلحاظ إضافته للجامع فهو معلوم ؛ لأنّ وجوب الظهر يعتبر مصداقا لوجوب صلاة ما وكذا وجوب الجمعة ، أي كلّ وجوب بعنوانه الخاصّ ( الظهر والجمعة ) مشكوك ولكن بعنوانه العامّ الجامعي ( صلاة ما ) فهو معلوم وليس مشكوكا ، فتجري البراءة عن الفرد بلحاظه الأوّل دون لحاظه الثاني ، وهذا نتيجته التبعيض في جريان البراءة حتّى بلحاظ الفرد

٢٠٧

الواحد إذا كان مشتملا على خصوصيّتين إحداهما مشكوكة والأخرى معلومة ، ولذلك نقول :

وهذا التبعيض في تطبيق البراءة العقليّة معقول وصحيح ، بينما لا يطّرد في البراءة الشرعيّة ؛ لأنّها مفاد دليل لفظيّ وتابعة لمقدار ظهوره العرفي ، وظهوره العرفي لا يساعد على ذلك.

فإن قيل : إنّ لازم هذا القول التبعيض في جريان البراءة حتّى بلحاظ الفرد الواحد ، وهو غير معقول في نفسه.

كان الجواب : أنّ التبعيض في البراءة العقليّة معقول وصحيح ؛ وذلك لأنّ موضوعها مبني على الدقّة العقليّة لا على المسامحة العرفيّة ، بمعنى أنّ العقل إذا أدرك البيان في شيء فإنّه يحكم باستحقاق العقاب على مخالفته ؛ لأنّه يكون منجّزا ، وإذا أدرك أنّه لا بيان في هذا المورد فيحكم بالبراءة والتأمين.

فحكم العقل تابع لإدراك الموضوع وهو ناشئ من ثبوت حقّ الطاعة وعدم ثبوته المترتّب على وجود البيان وعدمه.

ولذلك تكون الموضوعات بالنسبة للأحكام العقليّة بمثابة العلل ، وحيث إنّه في هذا الفرد يوجد خصوصيّتان إحداهما مشكوكة إذا نظرنا إليه بنفسه والأخرى معلومة إذا نظرنا إليه بما هو فرد للجامع المعلوم والمنجّز ، فلا محالة يستتبع ذلك حكم العقل بالبراءة بلحاظ الجهة المشكوكة ، وبالتنجيز أو عدم التأمين بلحاظ الجهة المعلومة.

فالتبعيض هو المتعيّن والصحيح.

وأمّا البراءة الشرعيّة فلا يعقل فيها التبعيض هنا ، بل هي إمّا أن تجري بلحاظ كلتا الخصوصيّتين وإمّا أن لا تجري كذلك ، والوجه هو أنّ البراءة الشرعيّة مجعولة بدليل شرعي لفظي كالآيات والروايات فيكون مفادها ودائرتها محدّدة بحدود ما لهذا الدليل من ظهور عرفي ، وعليه فلا بدّ أن نعرف ما هو هذا الظهور العرفي؟ وهل هو مبني على الدقّة في ملاحظة الخصوصيّات أو على المسامحة؟

والجواب : أنّ الظهور العرفي مبني على المسامحة وعدم الدقّة والتحليل ، بمعنى أنّ العرف إذا نظر إلى الفرد في مثالنا إمّا أن يحكم بجريان البراءة والتأمين وإمّا ألاّ يحكم بذلك ، من دون التفصيل بين كون هذا الفرد فيه خصوصيّتان إحداهما مشكوكة

٢٠٨

والأخرى معلومة ؛ لأنّ هذا التفصيل مبني على الدقّة العقليّة البالغة والتي يتغافل عنها العرف ولا يدركها.

والحاصل : أنّ العرف عند ما ينظر إلى الفرد بما هو كذلك من دون نظر إلى خصوصيّاته ، إمّا أن يحكم بأنّه مورد للبراءة أو مورد للتنجيز ولا يفصّل بين الأمرين.

وإن كان المقصود التعارض بين الأصول المؤمّنة الشرعيّة خاصّة فهو صحيح ، ولكن كيف يرتّب على ذلك تنجّز التكليف بالاحتمال مع أنّ الاحتمال مؤمّن عنه بالبراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود من تعارض الأصول تعارض الأصول الترخيصيّة الشرعيّة فقط ، كالبراءة الشرعيّة أو أصالة الحلّ أو أصالة الطهارة أو الاستصحاب النافي للتكليف.

وهذا صحيح لما ذكرناه من أنّ هذه الأصول الشرعيّة تابعة لمقدار الظهور العرفي من دليلها ، والظهور العرفي لا ينظر إلى الطرف بما هو مركّب من خصوصيّتين إحداهما معلومة والأخرى مشكوكة ، وإنّما ينظر إلى الطرف بما هو طرف ، وحينئذ تجري الأصول الترخيصيّة الشرعيّة بلحاظ كلّ طرف وتتعارض ، ومقتضى التعارض التساقط.

إلا أنّه بعد التساقط لا ينتهي الأمر إلى التنجيز العقلي كما هو المدّعى في هذا التقريب ، وإنّما تجري هنا البراءة العقليّة ؛ لأنّ هذا التقريب مبني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعندئذ يجري الكلام المتقدّم من التبعيض.

وصفوة القول : أنّه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض في البراءة العقليّة ، بل لا معنى لذلك ؛ إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليّين ، فإن كان ملاك حكم العقل وهو عدم البيان تامّا في كلّ من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين ، وإلا لم تجر البراءة ؛ لعدم المقتضي لا للتعارض.

وصفوة القول : أنّه يمكننا القول كاعتراض على المقدّمة الثالثة بأنّ الأصول الترخيصيّة المتعارضة إن كان المقصود بها الأصول الترخيصيّة العقليّة بما فيها البراءة العقليّة أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يمكن تصوّر التعارض ؛ وذلك لأنّ الأحكام العقليّة معلولة لموضوعاتها ، فإن أدرك العقل ثبوت الموضوع حكم بالبراءة والترخيص.

٢٠٩

وإن لم يدرك الموضوع لم يحكم بالبراءة أصلا.

وهنا موضوع البراءة ـ وهو عدم البيان ـ والذي هو الملاك للحكم العقلي بالبراءة إن كان تامّا وثابتا في كلّ الأطراف فسوف يحكم العقل بالبراءة في كلّ الأطراف ، من دون تعارض أو تصادم.

وإن لم يكن الموضوع تامّا وثابتا فالعقل لن يحكم بالبراءة أصلا ، لا أنّه يحكم بها ولكنّها تسقط بسبب المعارضة ، أي أنّ سقوطها حينئذ يكون من باب عدم المقتضي لثبوتها لا من باب وجود المانع بعد الفراغ عن وجود المقتضي.

وفي مقامنا حيث إنّ كلّ طرف فيه خصوصيّتان : إحداهما مشكوكة وهي وجوب كلّ واحد من الفردين بخصوصيّاته وحدوده ، والأخرى معلومة وهي كونه فردا للجامع أي مصداقا لوجوب صلاة ما ، وحينئذ تجري البراءة للتأمين عن كلّ فرد بخصوصيّته ؛ لأنّها مشكوكة ولكنّها لا تجري للتأمين أيضا عن كلّ فرد بما هو منسوب ومضاف ومصداق للجامع ؛ لأنّه بهذا اللحاظ يكون معلوما.

والنتيجة النهائيّة هي : أنّ المنجّزيّة ثابتة للجامع بمعنى أنّه لا يجوز تركه بترك كلا الفردين ، والتأمين ثابت بلحاظ كلّ فرد بخصوصيّته ، فيجوز ترك كلّ الأفراد بلحاظ خصوصيّاتها ، ولكن لا يجوز تركها جميعا بلحاظ الجامع ، فيكون الجامع المنجّز مانعا من ترك الجميع فعلا بعد أن كان المقتضي للترك فيها جميعا ثابتا.

وبتعبير آخر : يجوز الترك بلحاظ كلّ فرد فرد إلا أنّه لا يجوز الجمع بين هذه التروك ، أما الأوّل فلجريان البراءة ؛ لأنّ كلّ فرد مشكوك ، وأمّا الثاني فلأنّ منجّزيّة الجامع تقتضي حرمة ترك الجميع ، فينتج أنّه يجوز ترك البعض ويجوز فعل البعض ، لا أنّه يجب فعل الجميع كما هو المدّعى في هذا التقريب.

وهكذا يتّضح أنّه على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ، وهذا بنفسه من المنبّهات إلى بطلان القاعدة المذكورة.

وهكذا يتّضح لنا أنّه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكنا تخريج وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ، لا مباشرة ولا بصورة غير مباشرة ، بخلافه على مسلك حقّ الطاعة فإنّ الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي واجبة ؛ لأنّه بعد تعارض

٢١٠

الأصول الترخيصيّة الشرعيّة وتساقطها يحكم العقل بالتنجيز ؛ لأنّ كلّ طرف في نفسه مشكوك ومحتمل التكليف ، واحتمال التكليف بنفسه منجّز ما لم يصدر الترخيص ، والمفروض أنّ الترخيص لم يثبت بسبب التعارض والتساقط.

ويمكننا أن نجعل هذا المورد من الشواهد والقرائن المنبّهة على بطلان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يوجد اتّفاق عرفي ومتشرّعي على أنّه في موارد العلم الإجمالي تجب الموافقة القطعيّة.

نعم ، إذا نشأ العلم الإجمالي من شبهة موضوعيّة تردّد فيها مصداق قيد من القيود المأخوذة في الواجب بين فردين وجبت الموافقة القطعيّة حتّى على المسلك المذكور ، كما إذا وجب إكرام العالم وتردّد العالم بين زيد وخالد ، فإنّ كون الإكرام إكراما للعالم قيد للواجب فيكون تحت الأمر وداخلا في العهدة ، ويشكّ في تحقّقه خارجا بالاقتصار على إكرام أحد الفردين ، ومقتضى قاعدة أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وجوب الاحتياط حينئذ.

هذا كلّه فيما يتعلّق بالأمر الأوّل.

يبقى مطلب : وهو أنّ وجوب الموافقة القطعيّة لا يمكن تخريجها على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إلا أنّ هذا لا يشمل جميع الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، بل يختصّ في الشبهات الحكميّة وبعض الشبهات الموضوعيّة ؛ إذ يوجد بعض الشبهات الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي تجب فيها الموافقة القطعيّة حتّى على مسلك المشهور ، وذلك فيما إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعيّة دائرا بين فردين أو أكثر وكان الحكم المعلوم بالإجمال مقيّدا بقيد قد اشتغلت به الذمّة يقينا ، بحيث يكون الشكّ في كون أحد الفردين هو المحقّق لمصداق هذا القيد خارجا.

ومثاله : ما إذا علمنا بوجوب إكرام العالم فهنا الحكم المعلوم هو وجوب الإكرام المقيّد بقيد ، وهذا القيد هو كون الإنسان الذي يجب إكرامه عالما ، فإذا شككنا في مصداق هذا القيد بين فردين في الخارج فهل زيد هو العالم ليجب إكرامه ويكون إكرامه محقّقا للأمر ومفرّغا للذمّة بما اشتغلت به أو هو خالد؟

فهنا يجب الموافقة القطعيّة بإكرام كلا الفردين ؛ وذلك لأنّ الخصوصيّة وهي ( كون الإنسان عالما ) قد اشتغلت بها الذمّة يقينا ، فلكي يتحقّق الفراغ اليقيني لا بدّ من

٢١١

إكرامهما معا ؛ لأنّه إذا اقتصر على إكرام أحدهما فلا يعلم بأنّه قد حقّق الوجوب المقيّد بقيد العالم ، إذ لعلّه موجود في الفرد الآخر.

وبهذا يتّضح أنّه إذا شكّ في الشبهات الموضوعيّة تجب الموافقة من باب أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فيجب الاحتياط بامتثال كلا الفردين ، والميزان لذلك أنّ الذمّة قد اشتغلت بالحكم المقيّد بحيث إنّ القيد صار تحت الأمر ودخيلا في العهدة.

وأمّا إذا لم يكن الحكم مقيّدا بقيد ولم يكن القيد دخيلا في العهدة فلا يجب الاحتياط والموافقة القطعيّة.

وهذا مثاله واضح في الشبهات الحكميّة بشكل عامّ ، كما إذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة ؛ لأنّ قيد الجمعة أو الظهر ليس دخيلا في العهدة وليس تحت الأمر ، وإنّما الداخل في العهدة هو الحكم المطلوب أي وجوب الصلاة ، وهذا يتحقّق بامتثال أحد الفردين.

وهكذا الحال في الشبهات الموضوعيّة التي لم يقيّد فيها الحكم بقيد ، كما إذا دار الأمر بين وجوب التصدّق عند مجيء زيد أو وجوب الإكرام عند مجيء خالد ، وعلمنا إجمالا بمجيء أحدهما ، فهنا لا تجب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا يعلم الحكم بخصوصيّته وإنّما الذي يعلم هو ( وجوب ما ) أي أحد الوجوبين ، وهذا العنوان يتحقّق بامتثال أحدهما في الخارج ؛ لأنّه يكون مصداقا لوجوب ما أو لأحدهما ، وليس ذلك إلا لأنّه لا يعلم بالخصوصيّة الواجبة هل هي الإكرام أو هي التصدّق؟

وبهذا ينتهي الكلام حول الأمر الأوّل أي حول منجّزيّة العلم الإجمالي بنفسه وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعيّة.

* * *

٢١٢

٢ ـ جريان الأصول

في

جميع الأطراف وعدمه

٢١٣
٢١٤

٢ ـ جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثاني وهو جريان الأصول الشرعيّة في جميع أطراف العلم الإجمالي ، فقد تقدّم الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام الإثبات معا في مباحث القطع (١) ، واتّضح أنّ المشهور بين الأصوليّين استحالة جريان الأصول في جميع الأطراف ؛ لأدائه إلى الترخيص في المعصية للمقدار المعلوم أي في المخالفة القطعيّة ، وأنّ الصحيح هو إمكان جريانها في جميع الأطراف عقلا غير أنّ ذلك ليس عقلائيّا.

ومن هنا كان الارتكاز العقلائي موجبا لانصراف أدلّة الأصول عن الشمول لجميع الأطراف.

وينبغي أن يعلم أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الأصول الشرعيّة المؤمّنة.

وأمّا الأمر الثاني : فهو البحث حول جريان الأصول الشرعيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي وعدم جريانها.

وهذا البحث تارة يقع في مرحلة الثبوت أي الإمكان في مقابل الامتناع والاستحالة ، وأخرى يبحث فيه في مرحلة الإثبات أي بعد التسليم بأنّه ممكن عقلا فهل هو واقع في الخارج أم لا؟

والكلام عن ذلك تقدّم سابقا عند الحديث عن منجّزيّة القطع الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، وهناك قلنا : إنّه يوجد قولان في المسألة :

القول الأوّل : ما هو المشهور من أنّه يستحيل عقلا وثبوتا جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ، ووجهه هو أنّ الترخيص لتمام الأطراف يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو الجامع الذي تمّ عليه البيان

__________________

(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

٢١٥

والعلم والذي صار منجّزا على المكلّف وداخلا في العهدة ، فتكون مخالفته القطعيّة قبيحة عقلا ويستحقّ عليها العقاب ؛ لأنّه قد خالف ما تمّ عليه البيان ، مضافا إلى التضادّ بين الترخيص والتنجيز.

وحينئذ لا داعي للبحث الإثباتي ما دام العقل يحكم باستحالة جريانها كذلك.

والقول الثاني : ما هو الصحيح من أنّه لا مانع عقلا في جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ حكم العقل بقبح المخالفة وكونها معصية إنّما هو لأجل الحفاظ على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، وهذا الحقّ كما تقدّم في محلّه ثابت له في كلّ مورد وانكشاف ما لم يأذن هو نفسه بالترخيص ؛ لوضوح أنّه إذا أذن بالترخيص فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله وقبح معصيته ؛ لأنّ إذنه كذلك يعتبر إسقاطا لحقّه في هذا الصدد.

وتقدّم أنّ الشارع يمكنه الترخيص في موارد الانكشاف غير القطعي أي كلّ ما ليس قطعا ، وقلنا : إنّ القطع الإجمالي يمكن الترخيص فيه ؛ لأنّه ليس علما تفصيليّا ، أي أنّ العالم بالإجمال يحتمل ألاّ يكون معلومه في هذا الطرف بخصوصه أو في ذاك بخصوصه ، ولذلك يعقل في حقّه الترخيص من أجل الحفاظ على ملاكات الإباحة الاقتضائيّة في مقابل الإلزام والاحتياط من أجل الحفاظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة الاقتضائيّة.

فلا مانع منه ثبوتا وعقلا إلا أنّه على خلاف الارتكاز العقلائي ؛ لأنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص تكون بدرجة من الأهمّيّة تفوق أو تساوي ملاكات الإلزام ، بل هي دائما أقلّ أهمّيّة منها ، وهذا معناه أنّهم لا يتعقّلون الترخيص في تمام الأطراف ؛ لأنّ ملاكاته بنظرهم ليست هي الأهمّ ، بل إمّا مساوية على أحسن تقدير ، وإمّا أقلّ أهمّيّة عادة وغالبا.

ومن هنا كان الارتكاز العقلائي والذي يعتبر قرينة لبّيّة متّصلة بخطابات الترخيص مقيّدا متّصلا لإطلاق هذه الأدلّة ، وصارفا لظهورها إلى غير موارد العلم الإجمالي أيضا.

هذا كلّه تقدّم في الجزء السابق ، إلا أنّ هذا كان بالنسبة للأصول الشرعيّة الترخيصيّة والمؤمّنة فقط.

٢١٦

وأمّا الأصول الشرعيّة المنجّزة للتكليف فلا محذور ثبوتا ولا إثباتا في جريانها في كلّ أطراف العلم الإجمالي بالتكليف إذا كان كلّ طرف موردا لها في نفسه ، حتّى ولو كان المكلّف يعلم بعدم ثبوت أكثر من تكليف واحد ، كما إذا علم بوجود نجس واحد فقط في الإناءات المعلومة نجاستها سابقا فيجري استصحاب النجاسة في كلّ واحد منها.

وأمّا الأصول الشرعيّة المنجّزة : فلا إشكال في جريانها في أطراف العلم الإجمالي بتمامها ، ولا محذور في ذلك لا في عالم الثبوت ولا في عالم الإثبات.

أمّا المحذور الثبوتي فكان إشكال التضادّ بين الإلزام الواقعي والترخيص الظاهري ، وهنا لا يوجد ترخيص ظاهري ، بل إلزام ظاهري فلم يجتمع الضدّان ، وكان أيضا إشكال الترخيص في المخالفة القطعيّة القبيحة عقلا ، وهنا نريد إثبات الموافقة القطعيّة بتنجّز كلّ الأطراف وهي حسنة عقلا وليست قبيحة.

وأمّا المحذور الإثباتي فكان الارتكاز العقلائي القاضي بأنّ الأغراض الترخيصيّة ليست أهمّ من الأغراض الإلزاميّة ، فكيف تقدّم على الإلزام؟

وهنا نريد إثبات أهمّيّة الأغراض الإلزاميّة بإجراء الأصول التنجيزيّة في تمام الأطراف فهو موافق للارتكاز العقلائي.

وحينئذ نقول : إذا دار الأمر بين نجاسة هذا الإناء أو ذاك بالنجاسة البوليّة ، ونفرض أنّهما كانا معا سابقا نجسين بالدم مثلا وشككنا في بقائهما على نجاستهما السابقة ، فيمكننا هنا إجراء استصحاب بقاء النجاسة السابقة في كلّ واحد من الطرفين ؛ لأنّه في نفسه مشمول لمورد الأصل ؛ لأنّ أركان الاستصحاب تامّة في كلّ منهما والنتيجة هي تنجّز كلا الطرفين.

ولا منافاة بين تنجّز جميع الأطراف بالأصول الشرعيّة المنجّزة وبين العلم بوجود نجاسة واحدة فقط ضمن دائرة الأطراف جميعا ، إذ قد يتوهّم أنّه ما دام لنا علم بنجاسة واحدة فقط فتنجيز تمام الأطراف بالأصول المنجّزة يتنافى مع العلم بطهارة ما عدا الواحد المعلوم نجاسته إجمالا.

وجوابه : أنّ تنجيز تمام الأطراف كان لأجل جريان الأصول المنجّزة والتي هي أحكام ظاهريّة المقصود منها إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، بينما طهارة غير الإناء

٢١٧

النجس طهارة واقعيّة غير معلومة بالتفصيل ، ولا تضادّ بين الحكمين الواقعي والظاهري كما تقدّم في محلّه.

ومنه يعلم : أنّه لو لم تكن النجاسة الفعليّة معلومة أصلا أمكن أيضا إجراء استصحاب النجاسة في كلّ إناء ما دامت أركانه تامّة فيه ، ولا ينافي ذلك العلم إجمالا بطهارة بعض الأواني وارتفاع النجاسة عنها واقعا ؛ لأنّ المنافاة : إمّا أن تكون بلحاظ محذور ثبوتي بدعوى المنافاة بين الأصول المنجّزة للتكليف والحكم الترخيصي المعلوم بالإجمال ، أو بلحاظ محذور إثباتي وقصور في إطلاق دليل الأصل.

ذكرنا أنّه إذا كان لدينا إناءان حالتهما السابقة النجاسة ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة أحدهما ، فإنّ الأصول المنجّزة كالاستصحاب تجري فيهما معا ولا محذور في ذلك لا ثبوتا ولا إثباتا.

وهنا صورة أخرى وهي أن يكون لدينا إناءان حالتهما السابقة النجاسة أيضا ثمّ نعلم إجمالا بطهارة أحدهما ، فهنا أيضا تجري الأصول المنجّزة كالاستصحاب ولا محذور في ذلك لا ثبوتا ولا إثباتا.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بطهارة أحد الإناءين إجمالا لا يمنع من جريان الاستصحاب المنجّز في كلا الطرفين ما دامت أركانه تامّة فيهما.

وقد يقال : إنّ العلم بطهارة أحد الإناءين إجمالا يتنافى مع استصحاب النجاسة فيهما ؛ لأنّنا نقطع بارتفاعها عن أحدهما فكيف يحكم بنجاستهما معا؟

وهذه المنافاة تارة يقال بوجودها بلحاظ عالم الثبوت وأخرى يقال بوجودها بلحاظ عالم الإثبات ، بمعنى أنّه يوجد تضادّ بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وهو طهارة أحد الإناءين ، وبين الحكم بنجاسة كلا الإناءين ؛ لأنّه سوف يجتمع وصفا الطهارة والنجاسة على الإناء الطاهر واقعا ، وهما حكمان وضعيّان متضادّان يستحيل اجتماعهما على موضوع واحد ، وهذا محذور بلحاظ عالم الثبوت.

أو يقال : إنّ أدلّة الأصول المنجّزة كالاستصحاب مثلا قاصرة عن الإطلاق والشمول للفرد الطاهر واقعا ؛ لأنّه ما دام معلوم الطهارة فلا يرفع اليد عنه إلا بالعلم بنجاسته ، وهنا لا علم لنا بنجاسته فلا تشمله أدلّة الاستصحاب ، وبالتالي لا تجري إلا

٢١٨

في الطرف الآخر ، أي أنّها تجري في أحد الطرفين لا فيهما معا ، وإلا كان ذلك من باب نقض اليقين بما ليس يقينا.

والصحيح أنّ شيئا من هذين المحذورين غير تامّ ، وتوضيحه :

أمّا الأوّل : فقد يقرّب بوقوع المنافاة بين الإلزامات الظاهريّة والترخيص الواقعي الثابت في مورد بعضها على سبيل الإجمال جزما.

أمّا المحذور الثبوتي فتقريبه دعوى المنافاة والتضادّ بين الإلزام الظاهري لكلّ الأطراف وبين الطاهر الواقعي في أحد هذه الأطراف ؛ لأنّهما سوف يجتمعان في الطرف الطاهر واقعا فيكون نجسا وطاهرا ، وهذا يعني اجتماع حكمين متضادّين على مورد واحد وهو مستحيل.

فيلزم ألاّ تكون الأصول الشرعيّة المنجّزة جارية في تمام الأطراف لئلاّ نقع في محذور الاستحالة ، بمعنى أنّها تجري فيما عدا الطاهر الواقعي.

وحيث إنّ كلّ واحد من الأطراف يحتمل كونه الطاهر الواقعي فتتعارض وتتساقط فيما بينها ؛ لأنّ جريانها في الجميع يؤدّي إلى التضادّ وجريانها في البعض دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن تساقطها ، وبالتالي لا يتنجّز إلا مقدار الجامع فقط والذي لا يستدعي الموافقة القطعيّة.

والجواب : أنّ المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعي إن كانت بملاك التضادّ بين الحكمين فيندفع بعدم التضادّ ما دام أحدهما ظاهريّا والآخر واقعيّا ، وإن كانت بملاك ما يستتبعان من تحرّك أو إطلاق عنان ، فمن الواضح أنّ الترخيص المعلوم إجمالا لا يستتبع إطلاق العنان الفعلي ؛ لعدم تعيّن مورده ، فلا ينافي الأصول المنجّزة في مقام العمل.

والجواب عنه : أنّ التضادّ تارة يكون بلحاظ المبادئ والملاكات ، وأخرى يكون بلحاظ مقام العمل والامتثال.

فإن كان المقصود من التضادّ والتنافي عالم الملاكات والمبادئ ، فقد تقدّم في الجزء السابق أنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة زائدة عن ملاكات الحكم الواقعي ، أي أنّه لم ينشأ من ملاكات خاصّة في متعلّقه.

ولذلك لا تضادّ ولا تنافي بين الطاهر الواقعي وبين النجس الظاهري ؛ لأنّ المراد

٢١٩

بالنجس الظاهري إبراز أنّ ملاكات النجاسة الواقعيّة هي الأهمّ ، ولكي يحافظ عليها يصدر إلزاما ظاهريّا بالتجنّب عن جميع الأطراف المشكوكة النجاسة من أجل إحراز أنّه قد تجنّب فعلا عن النجس الواقعي ، وهذا لا يعني أنّ الطرف الطاهر واقعا صار نجسا وفيه ملاكات النجاسة ، بل هو باق على طهارته واقعا ، وليس فيه سوى هذه الملاكات لا أكثر فلا منافاة.

وإن كان المقصود من ذلك أنّه في عالم الامتثال والتحرّك يكون بينهما تناف ، حيث إنّ النجاسة تستدعي التحرّك بنحو يختلف عن التحرّك المستتبع في الطهارة ، فهذه تطلق العنان وتلك تمنع منه ، فهذا غير تامّ أيضا ؛ إذ لا منافاة عمليّا بين الحكم بطهارة أحد الإناءات واقعا وبين الحكم بنجاستها ظاهرا ؛ لأنّ هذا الطرف الطاهر حتّى لو كان معلوما بالتفصيل ومشخّصا فهذا لا يستتبع وجوب ارتكابه ، بل يجوز الشرب والوضوء منه.

بمعنى أنّ المكلّف إن شاء فعل ذلك وإن لم يشأ لم يفعل ، فهو لا يستتبع وجوب التحرّك الفعلي ، وعليه فلا مانع من كون التحرّك عنه تركا يصبح واجبا بدليل آخر وهو استصحاب النجاسة السابقة في مفروض كلامنا ؛ لأنّه لو كان معيّنا لما وجب التحرّك عنه فضلا عمّا إذا لم يكن مشخّصا في طرف معيّن كما هو محلّ البحث.

وهكذا يتّضح أنّه لا وجه للمنافاة والتضادّ لا في عالم الملاكات ولا في عالم الامتثال.

وأمّا الثاني : فقد يقرّب بقصور في دليل الاستصحاب ، بدعوى أنّه كما ينهى عن نقض اليقين بالشكّ كذلك يأمر بنقض اليقين باليقين ، والأوّل يستدعي إجراء الاستصحاب في تمام الأطراف ، والثاني يستدعي نفي جريانها جميعا في وقت واحد ؛ لأنّ رفع اليد عن الحالة السابقة في بعض الإناءات نقض لليقين باليقين.

وأمّا المحذور الإثباتي فتقريبه دعوى أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن الشمول لهذه الصورة.

وبيان ذلك : أنّ ألسنة الاستصحاب مفادها عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ووجوب نقضه بيقين آخر ، كما في قوله ( عليه‌السلام ) : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ولكن انقضه بيقين آخر » ، فإنّ هذا اللسان فيه أمران :

٢٢٠