شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

ويعني ذلك أنّ المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كلّ طرف ، ولا يتوقّف دفعه على إلغاء الأصل رأسا. ولا شكّ في أنّ رفع اليد عن شيء من مفاد الدليل لا يجوز إلا لضرورة ، والضرورة تقدّر بقدرها ، فلما ذا لا نجري الأصل في كلّ من الطرفين ولكن مقيّدا بترك الآخر؟

ثمّ إنّ هناك اعتراضا مشهورا وجّهه المحقّق العراقي إلى هذا البرهان ، وحاصله أن يقال : إنّنا إذا قلنا بمسلك الاقتضاء كانت منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة معلّقة على جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها يستلزم الوقوع في المخالفة القطعيّة المحرّمة قطعا ، فلا بدّ من رفع اليد عنها لئلاّ يلزم المحذور ، فيجوز رفع اليد عن إجراء الأصول في تمام الأطراف.

ثمّ بعد ذلك يقال : إنّ جريان الأصول في البعض دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، أو يقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل لهذا الطرف مع إطلاقه لسائر الأطراف ، فيؤول الأمر إلى التساقط ، وينتج عدم جريان الأصول في بعض الأطراف.

إلا أنّ هذا غير صحيح ؛ وذلك لأنّ دليل الأصل الترخيصي كحديث الرفع مثلا له نحوان من الإطلاق :

الأوّل : الإطلاق الإفرادي ، أي شموله لكلّ فرد فرد ، ولكلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي في نفسه.

الثاني : الإطلاق الأحوالي ، أي شموله لهذا الفرد والطرف في كلّ الحالات سواء شمل الطرف والفرد الآخر أم لا ، وسواء ارتكب الطرف الآخر أم لا.

وعليه ، فالمحذور إنّما يلزم فيما إذا كان الأصل شاملا لكلّ فرد في جميع حالاته أي سواء ارتكب الآخر أم لا ؛ لأنّه إذا كان شاملا للفرد مطلقا كان لازمه أنّ كلّ فرد فيه أصل مؤمّن في نفسه ، وثابت حتّى مع جريانه في الفرد الآخر فيلزم منه المحذور المذكور.

وبتعبير آخر : أنّ محذور الوقوع في المخالفة نشأ من الأخذ بالإطلاق الأحوالي لدليل الأصل ، والذي يعني أنّه مطلق وفي جميع الحالات ؛ والتي منها حالة الترخيص وارتكاب الآخر.

وأمّا إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الأحوالي ، وقلنا : إنّ دليل الأصل وإن كان يشمل

٢٤١

كلّ طرف وفرد في نفسه أي بلحاظ الإطلاق الأفرادي تامّ ، إلا أنّ شموله لهذا الفرد مقيّد بأن لا يرتكب الفرد الآخر وكذا العكس.

فيكون هناك ترخيصان مشروطان ، كلّ واحد منهما مشروط بعدم ارتكاب الآخر ، فيجري الأصل في كلّ فرد في نفسه لكن لا مطلقا وفي جميع الحالات وإنّما في حالة عدم ارتكاب الفرد الآخر ، أي أنّه إذا لم يجر الأصل في هذا فله إجراؤه في ذاك والعكس ، وهذا الترخيص لا يؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه لن يتحقّق الأخذ بالأصل في كلا الطرفين حيث إنّ المفروض كون كلّ منهما مشروطا بعدم الآخر ، فإذا ارتكب أحدهما ارتفع موضوع الآخر فلا يجري الأصل فيه ؛ لعدم تحقّق شرطه وقيده الموجب لانتفاء الموضوع.

بعد ذلك نعود ونقول : إنّ محذور الوقوع في الترخيص في المخالفة القطعيّة ما دام يرتفع برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل كما تقدّم ، فلما ذا يقال بوجوب رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي أيضا أي عدم شمول دليل الأصل لكلّ فرد فرد بنفسه؟

مع أنّ المحذور كما يندفع برفع اليد عن دليل الأصل رأسا ( أي رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي فيه ) ، كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي ، فيكون كلّ واحد من الطرفين مشمولا لدليل الأصل في بعض الحالات لا في جميع الحالات كما ذكرنا.

وحيث إنّ الإطلاق الأفرادي أشدّ مئونة من الإطلاق الأحوالي فيكون رفع اليد عنه بحاجة إلى عناية زائدة ، وهي غير موجودة في المقام ، فإذا دار الأمر بينهما كان رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي هو المتعيّن وذلك تطبيقا للقاعدة القائلة بـ ( أنّ الضرورات تقدّر بقدرها ).

وحيث إنّ الضرورة في المقام وهي الترخيص في المخالفة القطعيّة تندفع بالإطلاق الأحوالي الأخفّ مئونة فيقتصر في دفعها عليه ؛ لأنّ الأكثر من ذلك فيه مئونة زائدة وعناية أشدّ تحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير موجود.

وبهذا يظهر أنّ هذا البرهان المدّعي لقصور أدلّة الأصول الترخيصيّة عن الشمول لبعض الأطراف غير تامّ ؛ لأنّه بالإمكان تصحيح شمولها لبعض الأطراف دون الوقوع في المخالفة القطعيّة أو الترجيح بلا مرجّح.

٢٤٢

ومنه يتّضح أنّه بناء على مسلك الاقتضاء لا يكون العلم الإجمالي موجبا لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ما دامت منجّزيّته لذلك معلّقة على تعارض الأصول وتساقطها في جميع الأطراف ، وعلى كون الأخذ بالبعض ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّه يعقل الشمول لبعض الأطراف من دون محذور.

وهذا يعتبر نقضا ومنبّها أيضا على بطلان الاقتضاء وعلى صحّة مسلك العلّيّة ؛ لأنّه على الأوّل لا تجب الموافقة القطعيّة بينما على الثاني تكون واجبة ، والمفروض أنّ الوجدان والعرف يقضيان بوجوبها كما هو مسلّم حتّى عند القائلين بالاقتضاء أيضا.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ (١) من أنّ الجمع بين الترخيصين المشروطين المذكورين وإن كان لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، ولكنّه يؤدّي إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ، وذلك فيما إذا ترك الطرفين معا ، وهو مستحيل.

الجواب الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي في الدراسات ، وحاصله : أنّ المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال على نحوين :

الأوّل : المخالفة القطعيّة العمليّة ، من قبيل ارتكاب كلا الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما ، فإن ارتكابهما معا مخالفة قطعيّة عمليّة ، ولذلك لا تجري الأصول الترخيصيّة فيهما معا ؛ لأنّها تؤدّي إلى المخالفة العمليّة.

الثاني : المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، وهي الترخيص القطعي في ارتكاب كلا الإناءين ، وذلك بأن يرخّص الشارع في ارتكابهما سواء ارتكبهما المكلّف أم لا ، فإنّ نفس صدور مثل هذا الترخيص مستحيل ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة والاعتقاد بذلك مستحيل كالسابق ؛ لأنّ الترخيص في نفسه غير معقول سواء أدّى إلى المخالفة أم لا.

بعد أن اتّضح ذلك نقول : إنّ ما ذكره المحقّق العراقي من شمول الأصول الترخيصيّة لبعض الأطراف بنحو يكون شمولها لكلّ طرف في نفسه مشروطا ومقيّدا بترك الآخر وعدم ارتكابه ، إنّما يرفع المخالفة القطعيّة العمليّة فقط ؛ وذلك لأنّه

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٣٥٥.

٢٤٣

إذا كان كلّ طرف مشروطا بترك ارتكاب الآخر فإذا ارتكب أحدهما ارتفع موضوع الأصل في الطرف الآخر ؛ لأنّ شرطه منتف ، فلا يجري الأصل في الطرف الآخر ، ولذلك لا تحصل المخالفة في مقام العمل ؛ لأنّ النتيجة هي ارتكاب أحدهما فقط لا كليهما.

إلا أنّه لا يرفع المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، لأنّنا يمكننا أن نفترض أنّ المكلّف قد ترك كلا الإناءين ولم يرتكب شيئا منهما ، ففي هذه الحالة يتحقّق كلا الشرطين في الطرفين.

أمّا الطرف الأوّل فتجري فيه البراءة ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم ارتكاب الآخر.

وأمّا الطرف الثاني فتجري فيه أيضا ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم ارتكاب الأوّل ، وهذا نتيجته أن يعتقد المكلّف بالترخيص في كلا الطرفين ويلتزم بالترخيص فيهما ، وهذا غير معقول في نفسه ؛ لأنّ صدور الترخيص في كلا الطرفين محال في نفسه وإن لم يؤدّ إلى المخالفة العمليّة ، إذ يستحيل صدور مثل هذا الترخيص من الشارع ؛ لأنّه يتنافى مع الاعتقاد بنجاسة أحدهما.

وبهذا ظهر أنّ المحذور لا يزال على حاله ، ولا ينفع الجواب المذكور من المحقّق العراقي لدفعه كلّيّا وإن دفعه جزئيّا.

ويرد عليه : أنّ الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلا ، وإنّما يمتنع إذا كان منافيا للحكم الواقعي ، والمفروض عدم المنافاة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ مبادئه ، فلم يبق إلا التنافي بلحاظ عالم الامتثال.

وقد فرضنا هنا أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة قابل للرفع بالترخيص الشرعي على خلافه ، فلم يبق هناك تناف بين الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة والتكليف المعلوم بالإجمال في أي مرحلة من المراحل.

وهذا الجواب غير تامّ ؛ إذ لا معنى لكون الترخيص القطعي في المخالفة في نفسه مستحيلا ، وإنّما يكون الترخيص القطعي في المخالفة مستحيلا إذا أدّى إلى التنافي بينه وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، وهذا التنافي غير موجود في المقام.

وتوضيح ذلك : أنّ التنافي بين الحكم الظاهري وهو هنا ( إجراء أصالة البراءة في

٢٤٤

كلّ من الطرفين بنحو مشروط ) وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وهو هنا ( نجاسة أحد الإناءين مثلا ) إنّما يتصوّر في ثلاث مراحل :

الأولى : أن يكون التنافي بلحاظ نفس جعل الحكمين الترخيصي الظاهري والإلزامي الواقعي على مورد واحد ، فإنّ الترخيص والإلزام من الأحكام التكليفيّة المتضادّة في نفسها ، فيستحيل اجتماعهما معا على مورد واحد.

الثانية : أن يكون التنافي بلحاظ المبادئ والملاكات التي ينشأ منها الحكمين الترخيصي والإلزامي ، فإنّ الترخيص ينشأ من ملاكات واقعيّة في أن يكون المكلّف مطلق العنان ، أو من خلوّ الفعل من مصلحة ملزمة أو من مفسدة ملزمة.

بينما الإلزام ينشأ من ملاكات واقعيّة في وجود مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة ، ولا يمكن أن يجتمع في شيء واحد مبادئ وملاكات الترخيص والإلزام ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع المصلحة أو المفسدة مع التسهيل وإطلاق العنان في وقت واحد ، وهو مستحيل.

الثالثة : أن يكون التنافي بين الترخيص والإلزام بلحاظ عالم المتطلّبات والامتثال ، فإنّ فعليّة الترخيص معناها أن يكون المكلّف مطلق العنان إن شاء فعل وإن شاء ترك ، بينما فعليّة الإلزام معناها لزوم الإتيان بالفعل أو لزوم تركه ، ولذلك لا يمكن اجتماعهما معا للتنافي بين الإلزام في الفعل أو الترك وبين الترخيص في الفعل والترك ؛ إذ لا يمكن أن يكون شيء واحد يجوز فعله وتركه ويجب فعله أو تركه في آن واحد.

وفي مقامنا لا يوجد تناف بين الحكمين الظاهري والواقعي في شيء من هذه المراحل الثلاث.

أمّا المرحلة الأولى : فلا تناف بين نفس جعل الحكم الظاهري وبين نفس جعل الحكم الواقعي ؛ لأنّ الجعل على رأي السيّد الخوئي عبارة عن الاعتبار وهو سهل المئونة ، إذ لا تناف بين الترخيص والإلزام ما داما لفظيّين اعتباريّين خاليين عن أي معنى ومضمون.

وأمّا المرحلة الثانية : فلا تناف في المبادئ والملاكات بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي ؛ لأنّ المتعلّق لهذه المبادئ والملاكات مختلف بينهما كما هو

٢٤٥

مسلك السيّد الخوئي ؛ لأنّ مبادئ الحكم الواقعي في المتعلّق بينما مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله وتشريعه ، فالجهة مختلفة فلم تتّحد المبادئ المتنافية في مصبّ واحد.

وأما المرحلة الثالثة : فالتنافي بين الحكم الظاهري الترخيصي والحكم الواقعي الإلزامي في عالم الامتثال والمتطلّبات في الخارج ، إنّما يكون فيما لو كان الحكم الظاهري الترخيصي جاريا في كلّ طرف من الأطراف بنحو مطلق غير مشروط.

فإذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين فهنا علم إجمالي بوجود نجاسة واقعيّة في أحدهما.

فإذا قلنا : إنّ أصالة البراءة تجري في كلّ من الإناءين مطلقا فهذا يتنافى مع وجود النجاسة الواقعيّة في مقام العمل ؛ لأنّ الترخيص في الطرفين معا لازمه جواز الارتكاب لأي الإناءين أراد ، بينما وجود النجاسة لازمها الامتناع عن أحدهما على الأقلّ.

وأمّا إذا قلنا : إنّ جريان الحكم الظاهري كالبراءة في الطرفين مشروط بأنّه إذا أجراها في هذا ألاّ يجريها في ذاك ، فإذا ارتكب أحدهما يشترط ألاّ يرتكب الآخر ، فهنا لن يحصل التنافي في مقام الامتثال ؛ لأنّه إذا أجرى البراءة في هذا الطرف وارتكبه سوف يرتفع موضوعها بلحاظ الطرف الآخر ؛ لارتفاع شرطه وهو ألاّ يرتكب الأوّل والحال أنّه ارتكبه.

والحاصل : أنّه لن يرتكب إلا طرفا واحدا وهذا لا يتنافى مع النجاسة الواقعيّة ؛ لأنّها موجودة في أحدهما لا فيهما معا ، أي أنّها تمنع عن أحدهما فقط لا عنهما معا ، وهذا حاصل.

هذا كلّه بناء على أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة من باب الاقتضاء لا العلّيّة ، أي أنّه حكم معلّق على عدم ورود الترخيص ، فإذا ورد الترخيص ارتفع موضوع حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ، وفي موردنا يكون إجراء البراءة في الطرفين كلّ منهما مشروط بترك الآخر من قبيل ورود الترخيص الرافع لحكم العقل بوجوب الموافقة.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد تناف بين الحكم الظاهري المفروض في مقامنا وهو

٢٤٦

الترخيص في الطرفين كلّ منهما مشروط بعدم الآخر وبين الإلزام الواقعي في جميع مراحل الحكم : الجعل والمبادئ والامتثال (١).

هذا على أنّ بالإمكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا يمكن أن تصبح كلّها فعليّة في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ، وذلك بأن تفترض أطراف العلم الإجمالي ثلاثيّة ، ويفترض أنّ الترخيص في كلّ طرف مقيّد بترك أحد بديليه وارتكاب الآخر.

ثمّ إنّنا لو سلّمنا بأنّ المخالفة القطعيّة العمليّة مستحيلة في نفسها سواء حصل منها مخالفة عمليّة واقعيّة أم لا ، فهذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان الترخيص المشروط بها على هذا النحو.

فإذا كان لدينا علم إجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر وكان تصوير البراءة على أنّه يجوز ترك الظهر إذا لم يترك الجمعة والعكس ، فإنّه إذا صلّى الصلاتين فيكون شرط جريان البراءة في كلّ منهما محقّق ؛ إذ شرط جريان البراءة في صلاة الظهر ألاّ يترك الجمعة ، والمفروض أنّه لم يتركها ؛ لأنّه صلاّها فيكون مرخّصا في الظهر ، وشرط جريان البراءة في الجمعة ألاّ يترك الظهر والمفروض أنّه صلاّها فيكون مرخّصا في الجمعة.

وهذا يعني أنّه إذا صلاّهما معا يكون مرخّصا في تركهما وغير واجبين عليه ، وهذا تناقض بلحاظ الاعتقاد لا العمل.

__________________

(١) فلا يبقى وجه لما ذكره السيّد الخوئي إلا القول بأن نفس الترخيص القطعي في المخالفة مستحيل صدوره ، سواء أدّى إلى المخالفة الواقعيّة العمليّة أم لا ، وهذا الوجه لا محصّل له إذ لا معنى لافتراض الاستحالة في الحكم الترخيصي في نفسه ، وإن لم يؤدّ إلى المخالفة العمليّة الواقعيّة.

بل إنّ هذا الفرض ممنوع في نفسه ؛ لأنّ المكلّف إذا علم بصدور الترخيص القطعي في المخالفة كان مستحيلا ، وأمّا إذا لم يعلم به فلا يكون صدوره مستحيلا ، إذ مع عدم علمه به لن يقطع بالترخيص القطعي ، فهذا من تعليق الاستحالة على فرض العلم مع أنّ الاستحالة من الأمور الواقعيّة.

فإنّ النقيضين مثلا لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما سواء علم المكلّف بذلك أم لا ، ولا مدخليّة لعلمه أو جهله في ثبوتها أو ارتفاعها.

٢٤٧

وأمّا إذا كان تصوير الترخيص المشروط بنحو آخر فلا يلزم منه لا المخالفة العمليّة ولا الترخيص القطعي في المخالفة.

وهذا يتمّ فيما لو كانت أطراف العلم الإجمالي أكثر من اثنين ، فلو فرضنا العلم إجمالا بنجاسة أحد هذه الإناءات الثلاثة أمكن إجراء البراءة في كلّ طرف ، ولكن مشروط بترك الثاني وفعل الثالث لا ترك الثاني والثالث معا ، وحينئذ لن تتحقّق لا المخالفة العمليّة ولا المخالفة القطعيّة الاعتقاديّة.

أمّا أنّه لا تتحقّق المخالفة العمليّة فلأنّه إذا ارتكب اثنين فإنّه يبطل جريان الأصل في الثالث ؛ لأنّ شرطه وهو ترك الثاني وفعل الأوّل غير محقّق ، ولذلك لن تتحقّق المخالفة العمليّة بارتكاب الثلاثة ، بل إمّا أن يرتكب اثنين أو واحدا فقط ؛ لأنّ البراءة تجري في الأوّل مع تركه للثاني وفعله للثالث ، وتجري في الثاني ؛ لأنّه فعل الثالث وترك الأوّل ، ولكنّها لا تجري في الثالث ؛ لأنّه قد فعل الأوّل والثاني ولم يترك شيئا منهما.

وأمّا أنّه لا تتحقّق المخالفة في الالتزام والاعتقاد فلأنّه لو ترك الجميع فلن يتحقّق شرط جريان البراءة في كلّ من الأطراف ؛ لأنّ الشرط مركّب من فعل وترك ، وكذا لو ارتكب كلّ الأطراف فلا تجري البراءة في شيء منها لعدم تحقّق الشرط ، وهذا يعني أنّ القطع والترخيص في كلّ الأطراف لن يتحقّق أبدا فلا محذور إذن.

الثاني : ما ذكره السيّد الأستاذ أيضا ، من أنّه إذا أريد إجراء الأصل مقيّدا في كلّ طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الأصل في كلّ طرف مقيّدا بترك الآخر ، أو بأن يكون قبل الآخر أو بأن يكون بعد الآخر ، فأي مرجّح لتقييد على تقييد؟

الجواب الثاني : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا من أنّ التقييد الذي ذكره المحقّق العراقي لا موجب له ، إذ كما يمكننا رفع اليد عن المخالفة القطعيّة العمليّة بما ذكره من تقييد ، أي تقييد جريان البراءة في أحد الطرفين مشروطا بترك الطرف الآخر ، كذلك يمكننا ذلك بنحوين آخرين :

أحدهما : أن يقال : إنّ دليل البراءة مقيّد بأن يكون جريانها في كلّ طرف قبل ارتكاب الطرف الآخر ، فهنا إذا جرت البراءة في الطرف الأوّل لا تجري في الطرف

٢٤٨

الثاني ؛ لأنّ جريانها في الطرف الأوّل كان الشرط فيه متحقّقا ؛ لأنّه قبل ارتكاب الطرف الثاني.

بينما جريانها في الطرف الثاني لا يكون الشرط فيه متحقّقا ؛ لأنّه لم يكن قبل الأوّل بل بعده ، ولذلك لن تحصل المخالفة القطعيّة العمليّة ، وهذا يفرض فيما إذا ارتكبهما معا فيكون الأوّل جائزا والثاني محرّما.

والثاني : أن يكون دليل البراءة مقيّدا بأن يكون جريانها في هذا الطرف بعد ارتكاب الآخر ، فهنا لا تجري في الأوّل بينما تجري في الثاني عكس الصورة السابقة.

أمّا عدم جريانها في الأوّل ؛ لأنّه ارتكبه قبل الثاني لا بعده ، والشرط أن يكون ارتكابه بعد الآخر لا قبله ، وأمّا الثاني فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه ارتكبه بعد الأوّل فشرطها فيه متحقّق ، وهذا يكون فيما لو ارتكب كلا الإناءين فيكون الأوّل منهما محرّما دون الثاني ، فلا مخالفة قطعيّة عمليّة.

وحينئذ نقول : إنّه ما دام يمكن رفع اليد عن المحذور وهو الترخيص في المخالفة القطعيّة ممكنا بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، فلما ذا يعيّن الوجه الذي ذكره المحقّق العراقي دون هذين الوجهين؟

وليس هذا إلا ترجيحا له من دون مرجّح وهو باطل ، وحيث لا ترجيح لإحدى هذه الحالات على الأخرى يحكم بتعارض الأحوال وتساقطها ، وبالتالي لا يبقى إلا رفع اليد عن أصل جريان البراءة في الطرفين مطلقا.

ويرد عليه : أنّ التقييد إنّما يراد لإلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل ، وإبقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لا معارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر ، وأمّا حالة كونه قبل الآخر مثلا فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه.

وهذا الجواب غير صحيح ؛ لأنّ التقييد الذي ذكره المحقّق العراقي له مرجّح على التقييدين اللذين ذكرهما السيّد الخوئي ، وهذا المرجّح هو أنّ التقييد بترك ارتكاب الآخر لا معارض له ، بينما التقييد بأن يكون قبل الآخر أو بعد الآخر له معارض.

والوجه في ذلك : أنّ دليل البراءة في كلّ طرف له إطلاقات أحواليّة ثلاثة :

١ ـ أنّ دليل البراءة يجري في هذا الطرف سواء ارتكب الطرف الآخر أم لا.

٢٤٩

٢ ـ أنّ دليل البراءة يجري في الطرف سواء كان ارتكابه قبل الآخر أم لا.

٣ ـ أنّ دليل البراءة يجري في الطرف سواء كان ارتكابه بعد الآخر أم لا.

وحينئذ نقول : إنّ الإطلاق الأحوالي الأوّل إذا رفعنا اليد عنه وقلنا : إنّ جريان الأصل في هذا الطرف مقيّد بعدم ارتكاب الآخر ، فلن يكون لهذا التقييد معارض ؛ لأنّ الطرف الآخر مقيّد أيضا بعدم ارتكاب الطرف الأوّل ؛ لأنّه لو كان الطرف الثاني مطلقا لحالة ارتكاب الطرف الأوّل أيضا لزم منه الترخيص في الطرفين معا ، وهو ممتنع لاستلزامه الوقوع في المخالفة القطعيّة العمليّة للمعلوم بالإجمال.

وهذا يعني أنّ دليل البراءة لا إطلاق له أصلا لحالة ارتكاب كلا الطرفين للمحذور العقلي المذكور المانع من انعقاد الأصل.

وبهذا يتّضح أنّ جريان الأصل في كلّ من الطرفين مقيّد بترك ارتكاب الآخر تقييد بلا مانع عقلا وبلا معارض ؛ لأنّه يمكن الأخذ بالتقييد المذكور في كلا الطرفين من دون معارض ؛ لأنّه إذا جرى في أحدها لا يجري في الآخر لارتفاع موضوعه ، وهذا من الجمع بين الدليلين كما سيأتي في باب التعارض.

وأمّا الإطلاق الأحوالي الثاني وهو شمول دليل البراءة لحالة ارتكاب الطرف قبل الآخر أم لا ، فرفع اليد عنه معناه تقييد جريان البراءة في الطرف حالة كون ارتكابه قبل الآخر ، إلا أنّ هذا التقييد يتعارض مع الإطلاق الأحوالي الثالث ، وهو شمول دليل البراءة للطرف سواء كان بعد ارتكاب الطرف الأوّل أم لا.

وهكذا الكلام بالنسبة للإطلاق الأحوالي الثالث فإنّه يتعارض مع الإطلاق الأحوالي الثاني.

وبهذا يظهر أنّ التقييد بما ذكر له معارض.

وعليه ، فإذا دار الأمر بين التقييد الذي لا معارض له وبين التقييد الذي له معارض تعيّن الأوّل دون الثاني ؛ لأنّ التقييد الثاني سوف يسقط بالمعارضة فلا فائدة منه ، بخلاف التقييد الأوّل فيكون تقديمه ترجيحا مع وجود المرجّح.

الثالث : ما ذكره أيضا من أنّ لدليل الأصل إطلاقا أفراديّا لهذا الطرف ولذاك ، وإطلاقا أحواليّا في كلّ من الفردين لحالة ترك الآخر وفعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين معا كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق

٢٥٠

الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصّة ، فأي مرجّح لأحد الدفعين على الآخر؟

الجواب الثالث : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا : من أنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي في كلّ من الطرفين كما هو مدّعى المحقّق العراقي ليس بأولى من رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحدهما فقط ، فإنّ المحذور كما يندفع بما ذكره كذلك يندفع بهذا المقدار ، فيكون دليل البراءة مثلا جاريا في أحد الطرفين في جميع حالاته ، بينما لا يجري في الطرف كذلك ، والنتيجة جواز ارتكاب أحدهما فقط ؛ لأنّ الآخر لا يشمله إطلاق دليل الأصل.

وتوضيحه : إنّ لدليل الأصل إطلاقين أحدهما إطلاق أفرادي والآخر إطلاق أحوالي.

والإطلاق الأفرادي معناه الشمول لكلّ فرد بخصوصه ، والأحوالي معناه الشمول لكلّ فرد في كل حالاته.

ومحذور المخالفة القطعيّة كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأفراديّين ، وكما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين ، كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين فقط ، بأن يقال : إنّ دليل الأصل لا يشمل أحد الطرفين في جميع حالاته أي لا يجري فيه مطلقا سواء ترك الآخر أم لا وسواء كان قبله أم بعده ، فأي مرجّح لأحدهما على الآخر؟

وما دام لا مرجّح فيلزم تعارض هذه الإطلاقات ؛ وبالتالي تساقطها ، والنتيجة عدم جريان الأصل رأسا وهو المطلوب.

ويرد عليه : أنّ المرجّح هو أنّ ما يبقى تحت دليل الأصل بموجب الدفع الأوّل للمحذور ليس له معارض أصلا ، وما يبقى تحته بموجب الدفع الآخر الذي يقترحه له معارض.

والجواب : إنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي في كلّ من الطرفين كما ذكره المحقّق العراقي معناه أن يكون دليل الأصل شاملا لكلّ فرد بشرط ترك ارتكاب الآخر ، وهذا المقدار لا يوجد له معارض ؛ لأنّ الأصل لن يجري في الطرف الثاني حين جريانه في الطرف الأوّل الذي ارتكبه ؛ لعدم تحقّق شرط جريانها ، فيجري الأصل في أحدهما من دون معارض.

٢٥١

وأمّا رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين فإن كان المراد به أحدهما المعيّن لزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة الأصل إلى الطرفين على حدّ واحد ، وكذلك نسبة إطلاق دليل الأصل إليهما فإنّها على حدّ واحد أيضا.

وإن كان المراد به أحدهما على نحو التخيير فيكون إبقاء الإطلاقين الأفرادي والأحوالي في هذا الطرف معارضا بإبقائهما في ذاك الطرف ، أي أنّ ما يبقى بعد التقييد له معارض.

وحينئذ يأتي الكلام السابق من أنّ التقييد الذي ليس له معارض أولى من التقييد الذي له معارض ، فيكون ترجيحه بموجب وبمرجح (١).

الرابع : أنّ الحكم الظاهري يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي ، والترخيص المشروط ليس كذلك ؛ لأنّ ما هو ثابت في الواقع : إمّا الحرمة المطلقة وإمّا الترخيص المطلق.

الجواب الرابع : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا : من أنّ الترخيص المشروط يستحيل صدوره من الشارع ؛ وذلك لأنّ الترخيص المفروض هنا حكم ظاهري لا واقعي.

والحكم الظاهري يشترط في صدوره من الشارع أن يكون من المحتمل موافقته للواقع ، إذ لو كان محرز المخالفة للواقع فلا معنى لجعله وتشريعه ؛ لأنّه يكون من باب تشريع المخالفة للواقع وهو محال صدوره من الشارع الحكيم.

__________________

(١) وثانيا : أنّ التقييد يجب أن يتحدّد بمقدار الضرورة والمحذور ، والمحذور نشأ من الإطلاق الأحوالي في الطرفين لا من الإطلاق الأفرادي ، ولذلك لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لا فيهما ولا في أحدهما ؛ لأنّه بلا مبرّر.

وثالثا : أن الإطلاق الأحوالي ساقط على كلّ حال ، أي سواء رفعنا اليد عن الإطلاق الأفرادي أم لا ؛ لأنّه إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الأفرادي فيهما أو في أحدهما فالإطلاق الأحوالي ساقط لا محالة ؛ لانتفاء موضوعه.

وإذا أبقينا الإطلاق الأفرادي في كلّ منهما فالإطلاق الأحوالي ساقط أيضا ؛ لأنّ بقاءه يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة والترخيص في الطرفين الممنوع عقلا على مسلك المشهور ، فلا معنى لفرض سقوط الإطلاق الأفرادي أيضا لا فيهما ولا في أحدهما.

أمّا الأوّل فلأنّه عناية زائدة عن مقدار الضرورة كما تقدّم سابقا ، وأمّا الثاني فلأنّه ترجيح لسقوطه في أحدهما دون الآخر من دون مرجّح كما تقدّم آنفا.

٢٥٢

وعليه ، فإذا كان هذا الشرط موجودا كان الترخيص المشروط معقولا في نفسه وإلا فهو محال.

وفي مقامنا إذا قلنا بأنّ البراءة تجري في كلّ من الطرفين بشرط ترك ارتكاب الآخر ، فهذا يعني صدور حكم ظاهري ترخيصي مشروط وليس مطلقا ، فلا بدّ أن يكون هذا الترخيص المشروط محتمل المطابقة للواقع لكي يكون صدوره ممكنا ، والحال أنّ الواقع لا يخلو من أمرين لا ثالث لهما وهما :

إمّا أن يكون الإناء الأوّل طاهرا مطلقا والآخر نجسا مطلقا.

وإمّا أن يكون الأوّل نجسا مطلقا والثاني طاهرا مطلقا.

والوجه في ذلك : أنّنا نعلم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر ، فالنجس نجس مطلقا سواء ارتكبه مع الآخر أو قبله أو بعده ، أم لم يرتكب الآخر أصلا ، والطاهر طاهر مطلقا كذلك.

ولا يوجد لدينا طاهر مشروط ونجس مشروط في الواقع ، وهذا معناه أنّ الترخيص المشروط يحرز مخالفته للواقع ولا يحتمل موافقته أصلا ، فيكون تشريعه ممتنعا.

ويرد عليه : أنّه لا برهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط فيه أمران : أحدهما أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا ، والآخر أن يكون الحكم الظاهري صالحا لتنجيزه أو التعذير عنه.

وجوابه : أنّه لا دليل على هذا الشرط في جعل الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط في الحكم الظاهري أمران :

الأوّل : أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا غير معلوم ، أي أنّ مورد جريان الحكم الظاهري هو الشكّ في الواقع ، وهذا الشرط محقّق في مقامنا ، فإنّنا لا نعلم النجس الواقعي في هذا الطرف أو في ذاك بخصوصيّتهما ، وإنّما نعلم إجمالا بوجود النجس فيهما من دون تعيين ، فيكون كلّ طرف في نفسه موردا للحكم الظاهري ؛ لأنّه مشكوك ولا يعلم حكمه الواقعي من الطهارة أو النجاسة.

الثاني : أن يكون الحكم الظاهري صالحا للتنجيز أو التعذير ، بمعنى أنّ الحكم الظاهري لا بدّ أن يكون إمّا منجّزا وإمّا معذّرا ؛ لأنّ هذا هو مقتضى جعل الحجّيّة له ؛ لأنّه إمّا أن يبرز الترخيص أو الإلزام ، وهذا الشرط محفوظ ؛ لأنّنا إذا قلنا بأنّ البراءة

٢٥٣

تشمل الطرفين ، كلّ منهما مشروط بترك ارتكاب الآخر ، فسوف يكون إجراء البراءة في أحدهما معذّرا وعدم جريانها في الآخر منجّزا له على أساس حكم العقل بذلك عند عدم وجود المؤمّن ، ولا دليل على اشتراط شيء آخر زائدا عمّا ذكر.

نعم ، إذا أحرز أنّ الحكم الظاهري مخالف للواقع فلا يؤخذ به من باب مخالفته للعلم المذكور لا من باب أنّه يشترط فيه الموافقة الاحتماليّة للواقع ، إذ مع مخالفته للعلم لا يكون منجّزا ولا معذّرا كما هو واضح.

الخامس : وهو التحقيق في الجواب ، وحاصله : أنّ مفاد دليل الترخيص الظاهري ومدلوله التصديقي هو إبراز عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي ، ومعنى افتراض ترخيصين مشروطين كذلك أنّ عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي في كلّ طرف منوط بترك الآخر ، وأنّه في حالة تركهما معا لا اهتمام له بالتحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا.

وكلّ هذا لا محصّل له ؛ لأنّ المعقول إنّما هو ثبوت مرتبة ناقصة من الاهتمام للمولى تقتضي التحفّظ الاحتمالي على الواقع المعلوم بالإجمال.

واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما بإطلاق دليل الأصل لا يمكن إلا بالتأويل وإرجاعهما إلى الترخيص في الجامع أي في أحدهما.

وهذه العناية لا يفي بها إطلاق دليل الأصل.

الجواب الخامس : ما هو التحقيق والصحيح في الجواب عن اعتراض المحقّق العراقي ، وهذا الجواب يمكن تحليله وبيانه ضمن النقاط التالية :

الأولى : تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة مجعولة في مقام الشكّ والاشتباه وعدم تمييز الملاكات الواقعيّة ، فيكون الحكم الظاهري مبرّزا لما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة بمدلوله المطابقي ، وبمدلوله الالتزامي ينفي اهتمام المولى بغير هذه الملاكات.

فالترخيص الظاهري معناه أنّ المولى يهتمّ بملاكات الترخيص الواقعيّة ، ولا يهتمّ بملاكات الإلزام ، ثمّ إنّ درجة اهتمامه بالترخيص تختلف شدّة وضعفا أي أنّه يوجد مرتبتان من الترخيص :

١ ـ إحداهما المرتبة العليا من الترخيص وهي تقتضي الترخيص في كلّ الأطراف ،

٢٥٤

وهذا الذي لازمه عدم التحفّظ على شيء من احتمالات الإلزام في كلّ طرف. وعليه ، فلا مانع عقلا من صدور الترخيص في كلّ الأطراف كما تقدّم سابقا.

٢ ـ الثانية المرتبة الناقصة من الترخيص وهي الترخيص في بعض الأطراف دون البعض الآخر ، وهذا يعني الحفاظ على شيء من محتملات الإلزام في بعض الأطراف. وعليه ، فتكفي الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة دون وجوب الموافقة القطعيّة التي تعني أهمّيّة ملاكات الإلزام ، ودون جواز المخالفة القطعيّة التي تعني أهمّيّة ملاكات الترخيص بالمرتبة العليا لا الناقصة كما هو المفروض.

فإن كانت الدرجة العليا هي الأهمّ رخّص في المخالفة القطعيّة ولم يوجب الموافقة القطعيّة ، وإن كان الدرجة الناقصة هي الأهمّ رخّص في بعض الأطراف فقط ، فيحرّم المخالفة القطعيّة ولكنّه لا يوجب الموافقة القطعيّة بل يكتفي بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، وهذا يقتضي الترخيص بالجامع أي عنوان بعض الأطراف أو أحدها.

الثانية : أنّ افتراض ترخيصين مشروطين ـ كما هو مفاد اعتراض المحقّق العراقي ـ معناه أنّ المولى يهتمّ بملاكات الترخيص وأنّه لا يهتمّ بملاكات الإلزام ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ مرتبة الترخيص التي يهتمّ بها المولى هي تلك المرتبة التي لا تتحقّق إلا بترك الآخر ، فالمولى إنّما يكون له اهتمام بالترخيص وعدم اهتمام بالإلزام فيما إذا ارتكب المكلّف أحدهما وترك الآخر.

ولازم ذلك : أنّه في حالة تركهما معا لا يكون للمولى اهتمام في التحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا ؛ لأنّه سوف يتحقّق كلا الشرطين للترخيصين المشروطين.

الثالثة : أنّ الترخيصين المشروطين لا يحقّقان المرتبة الناقصة من الترخيص ، بل المرتبة العليا من الترخيص ؛ لأنّه في حالة تركهما يتحقّق شرطهما فيكون مرخّصا في كلا الإناءين ، مع أنّ المطلوب هو ثبوت المرتبة الناقصة من الترخيص ومن الاهتمام المولوي التي تجتمع مع الحفاظ على الغرض اللزومي ولو احتمالا ؛ لأنّ المرتبة الناقصة كما قلنا معناها الموافقة الاحتماليّة والمخالفة الاحتماليّة ، والتي تقتضي عدم وجوب الموافقة القطعيّة مع حرمة المخالفة القطعيّة للواقع المعلوم بالإجمال.

٢٥٥

والحاصل إنّه في مقام التصوّر وعالم الإنشاء والجعل والتشريع يمكن تصوّر الاهتمام المولوي بأحد نحوين :

أحدهما : المرتبة العليا من الترخيص والتي تستدعي جواز المخالفة القطعيّة وهذه قلنا : إنّها معقولة ثبوتا إلا أنّها مخالفة للمرتكز العقلائي القاضي بعدم وصول الأغراض الترخيصيّة إلى هذه المرتبة من الأهمّيّة في موارد العلم الإجمالي.

والثاني : هو المرتبة الناقصة من الترخيص التي تستدعي عدم وجوب الموافقة القطعيّة والتي لازمها المحافظة الاحتماليّة على الأغراض الواقعيّة ، وهذه معقولة ثبوتا وإثباتا.

الرابعة : أنّ الدليل على استفادة المرتبة الناقصة من الترخيص لا يكون إلا بإصدار التخيير من الشارع ، وهذا التخيير لا يكون متعلّقا إلا بالجامع لا بالترخيص المشروط ؛ وذلك لأنّ الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما من خلال إطلاق دليل البراءة مثلا لا يفيان بهذه المرتبة كما تقدّم في النقطة الثالثة.

مضافا إلى أنّ الاهتمام المولوي في الواقع إمّا أن يكون بلحاظ ملاكات الإلزام بتمامها فيوجب الموافقة القطعيّة ، وإمّا أن يكون بلحاظ ملاكات الترخيص بتمامها فيجوّز المخالفة القطعيّة ، وإمّا أن يكون بلحاظهما معا فيحرّم المخالفة القطعيّة ولا يوجب الموافقة القطعيّة ، بل يكتفي بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، والتي هي المرتبة الناقصة من الترخيص ، وهذه إنّما يمكن إبرازها بالتخيير المتعلّق بالجامع لا بالترخيص المشروط ، إذ لا وجود له في عالم الاهتمام المولوي بنفسه.

نعم ، يمكن استفادة المرتبة الناقصة من الترخيص على أساس الترخيصين المشروطين بعد إعمال التأويل وإرجاعهما إلى الجامع أي عنوان أحدهما ، فيقال : معنى الترخيصين المشروطين ارتكاب أحدهما وترك الآخر.

الخامسة : أنّ دليل الأصل قاصر عن إفادة هذه العناية ؛ وذلك لأنّ مثل قوله : « رفع ما لا يعلمون » ناظر إلى كلّ فرد مشكوك في نفسه ، وكذا قوله : « كلّ شيء لك طاهر » أو « حلال » ناظر إلى الفرد الخارجي لا إلى الجامع.

وبهذا يتّضح أنّه ثبوتا وإن كان من الممكن تصوّر الترخيص المشروط إلا أنّه ليس موجودا بنفسه في عالم الاهتمام المولوي ، وإنّما المتصوّر وجوده هناك هو التخيير المتعلّق بالجامع أي عنوان أحدهما.

٢٥٦

والقول بإرجاع الترخيص المشروط إلى الجامع لا يمكن إلا بعناية وتأويل ؛ لأنّ أدلّة الأصول الترخيصيّة ناظرة إلى الأفراد الخارجيّة لا إلى الجامع ولا إلى الترخيص المشروط ، فلا يمكن استفادة تعلّق الترخيص بالجامع من أدلّة الأصول فضلا عن استفادة الترخيص المشروط منها ؛ لأنّ أدلّة الأصول مطلقة وليست مشروطة ؛ ولأنّها متعلّقة بالفرد لا بالجامع.

فتحصّل أنّ هذا التقييد ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وبالتالي لا يمكن جريان الأصول في بعض الأطراف على مسلك المشهور ، بل تتعارض وتتساقط ، وبالتالي يحكم العقل بمنجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المانع مفقود.

وفي ضوء ما تقدّم قد يقال : إنّه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء ، إذ على كلّ حال لا يجري الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، ولكن سيظهر فيما يأتي تحقّق الثمرة في بعض الحالات.

قد يقال : إنّه لا فرق بين المسلكين ؛ لأنّه على كلّ تقدير يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ، إمّا من باب العلّيّة وإمّا من باب تعارض الأصول وتساقطها ، ولا يجري الأصل المؤمّن في بعض الأطراف على المسلكين ، أمّا على العلّيّة فواضح لعدم إمكان التفكيك بين العلّة أي العلم الإجمالي وبين المعلول أي وجوب الموافقة القطعيّة ، وأمّا على الاقتضاء فلأنّ إجراء الأصل في بعض الأطراف ترجيح بلا مرجّح ؛ ولأنّه لا يمكن الترخيص المشروط ولا التخيير المتعلّق بالجامع.

إلا أنّ الصحيح وجود بعض الثمرات والفوارق بين المسلكين ، وستأتي الإشارة إليها في تنبيهات العلم الإجمالي (١).

__________________

(١) وعلى سبيل المثال : إذا دلّ دليل قطعي السند والدلالة على عدم وجوب الموافقة القطعيّة في مورد من موارد العلم الإجمالي كما ادّعي ذلك في جوائز السلطان مثلا ، فعلى القول بالاقتضاء يكون المورد من باب وجود المانع من تأثير المقتضي فيؤخذ بالدليل بلا إشكال ، فإنّ المنع من جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف كان لأجل محذور الترجيح بلا مرجّح.

وأمّا على القول بالعلّيّة لا بدّ من تأويل هذا الدليل وتخريجه بنحو يتناسب مع عدم إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول ؛ لأنّ هذا الدليل بظاهره يفكّك بين العلّة أي العلم الإجمالي وبين المعلول أي الموافقة القطعيّة ، والمفروض أنّ التفكيك بينهما ممتنع.

٢٥٧
٢٥٨

جريان الأصل في

بعض الأطراف بلا معارض

٢٥٩
٢٦٠