شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

للقيود والشروط ، وكلّ ما هو موجود فعلا في الخارج فهو جزئي ؛ لأنّه متشخّص.

وحينئذ نقول : إنّه في الشبهة الحكميّة يكون الشكّ في الحكم بمعنى الجعل ، فمن يشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال معنى شكّه هذا أنّ الجعل هل صدر من الشارع أم لا؟ فهو شكّ في الجعل.

وفي الشبهة الموضوعيّة يكون الشكّ في الحكم بمعنى المجعول ؛ لأنّه من يشكّ في كون هذا السائل خمرا فهو يشكّ في ثبوت الحرمة فعلا لهذا السائل بعد علمه بجعلها في عالم التشريع ، فهو شكّ في فعليّة الحكم ؛ لأنّه يشكّ في تحقّق قيوده وشروطه.

وبهذا ظهر أنّ الشكّ في الحكم موجود في الشبهتين معا ، فيكون استعمال الهيئة في الإسناد الحقيقي متحقّقا بلحاظ كلتا الشبهتين ولا محذور.

والجواب : أنّ هذا التصوير معقول ثبوتا بناء على القول بأنّه يوجد نحوان من الحكم أحدهما الجعل والآخر المجعول ، إلا أنّ الصحيح أنّ الحكم له وجود واحد حقيقي وهو الوجود في عالم التشريع أي الحكم بلحاظ عالم الجعل فقط ، وأمّا الحكم بلحاظ مرحلة المجعول فهو وجود اعتباري ؛ إذ لا وجود حقيقي للمجعول مستقلاّ عن الجعل ، وإنّما هو تعبير آخر عن الجعل بلحاظ بعض مراتبه ومراحله ، وعليه فإرادة الحكم المجعول الاعتباري فيه عناية زائدة ؛ لأنّه منزّل منزلة الجعل الذي له وجود حقيقي وهذه عناية مجازيّة ، فيبقى الإشكال على حاله.

وأمّا الأمر الثاني : فقد يقال بوجود قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة من ناحية وحدة السياق ، كما يدّعى العكس ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في الحلقة السابقة (١) ، واتّضح أنّه لا قرينة على الاختصاص ، فالإطلاق تامّ.

الأمر الثاني بالنسبة لوجود القرينة فهناك قولان :

أوّلا : أنّه يوجد قرينة في الحديث تجعله مختصّا بالشبهة الموضوعيّة فقط ، وهذه القرينة هي وحدة السياق ، فإنّ ما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه وما أكرهوا عليه ، إنّما هو الفعل الخارجي ، فيكون المراد من اسم الموصول في « رفع ما لا يعلمون » الفعل الخارجي أيضا حفاظا على وحدة السياق.

__________________

(١) في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

١٢١

وثانيا : أنّه يوجد قرينة على اختصاص « رفع ما لا يعلمون » بالشبهة الحكميّة دون الموضوعيّة ؛ وذلك لأنّ الحكم إذا شكّ فيه فيصدق عنوان « رفع ما لا يعلمون » ؛ لأنّ المرفوع هو الحكم والمشكوك وغير المعلوم هو الحكم أيضا ، فالرفع حقيقي ، وأمّا الموضوع فلا يشكّ فيه من ناحية وجوده إذ المفروض وجود الموضوع في الخارج ، وإنّما يشكّ فيه من ناحية كونه عنوانا للجعل الكلّي ، أي هل هو موضوع أو متعلّق لذلك الجعل الكلّي أم لا؟ وإلا فهو بنفسه ممّا لا يشكّ فيه ؛ لأنّه موجود فعلا في الخارج فإسناد الرفع إليه باعتبار عنوانه لا باعتبار نفسه وذاته ، وهذا رفع عنائي.

والصحيح عدم صحّة هذين الادّعاءين.

أمّا الأوّل فلأنّ وحدة السياق لا تنثلم حتّى لو كان المراد من اسم الموصول الشبهة الحكميّة أيضا ؛ وذلك لأنّنا قلنا : إنّ اسم الموصول مستعمل في معناه العامّ والمبهم وهو عنوان الشيء مثلا ، وهذا العنوان موجود في جميع الفقرات ، غاية الأمر أنّ المراد الجدّي كان مختلفا فيها ، وهذا لا يضرّ بالاستعمال ؛ لأنّه لا ينظر إلى عالم الصدق الخارجي وإنّما ينظر إلى عالم المفاهيم والصور الذهنيّة والمفروض وحدة الموصول هناك.

وأمّا الثاني فيرد عليه أنّ الموضوع الموجود في الخارج وإن كان موجودا فعلا وغير مشكوك إلا أنّه من ناحية أخرى غير معلوم ؛ إذ العنوان التفصيلي مشكوك وهذا كاف لتحقّق عدم العلم ، فيصدق الرفع على الموضوع بهذا اللحاظ.

مضافا إلى أنّ المراد هنا كما تقدّم إمّا الشيء وإمّا التكليف وكلاهما يصدق على الحكم وعلى الموضوع.

أمّا عنوان الشيء فواضح ؛ لأنّ الحكم والموضوع يصدق عليهما عنوان الشيء ، وأمّا عنوان التكليف فلأنّ الحكم تكليف بمعنى الجعل الكلّي ، والموضوع تكليف بمعنى المجعول الجزئي كما تقدّم.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد في الحديث قرينة تخصّص إطلاق الحديث بإحدى الشبهتين ، فالحديث يشمل كلا الموردين بإطلاقه.

وبهذا ينتهي الكلام عن حديث الرفع.

١٢٢

وهناك روايات أخرى استدلّ بها للبراءة ، تقدّم الكلام عن جملة منها في الحلقة السابقة (١) وعن قصور دلالتها أو عدم شمولها للشبهات الحكميّة ، فلاحظ.

وهناك روايات أخرى استدلّ بها ، لكنّها إمّا قاصرة من حيث الدلالة عن إفادة البراءة ، وإمّا قاصرة عن الشمول للشبهات الحكميّة ، وقد تقدّم جملة منها في الحلقة الثانية نذكر منها ما يلي :

١ ـ حديث الحجب ، وهو تامّ الدلالة على البراءة إلا أنّه يختصّ بالشبهات الحكميّة ؛ لأنّ قوله « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » مختصّ بما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع بما هو شارع أي التكليف.

٢ ـ حديث الحلّيّة ، وهو ليس دالاّ على البراءة أصلا ؛ لأنّ مفاد قوله « كلّ شيء حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » إفادة مطلب وقاعدة شرعيّة فقهيّة ، وهي أصالة الحلّيّة في الأشياء.

كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب ، وذلك بإجراء استصحاب عدم جعل التكليف أو استصحاب عدم فعليّة التكليف المجعول ، وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الأوّل بداية الشريعة ، وبلحاظ الاستصحاب الثاني زمان ما قبل البلوغ مثلا ، بل قد يكون زمان ما بعد البلوغ أيضا ، كما إذا كان المشكوك تكليفا مشروطا وشكّ في تحقّق الشرط بعد البلوغ فبالإمكان استصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.

قد يقال بأنّ الاستصحاب يقوم مقام البراءة في النتيجة العمليّة أي إثبات التأمين وإطلاق العنان وإيجاد المعارض لأدلّة الاحتياط لو تمّت ، وهذا الاستصحاب له ثلاث صور :

الأولى : أن نستصحب عدم جعل التكليف بلحاظ بداية الشريعة ؛ وذلك بأن يلتفت المكلّف إلى الحكم المشكوك في بداية التشريع فيقول : إنّ هذا الحكم المشكوك لم يجعل في بداية التشريع أو ما قبل التشريع ؛ لأنّ الأحكام نزلت تدريجيّا كما هو واضح ، فالحالة السابقة المتيقّنة هي عدم جعل التكليف ، والآن يشكّ في جعله فيستصحب عدمه ، وبذلك يثبت التأمين.

__________________

(١) في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

١٢٣

الثانية : أن يستصحب عدم فعليّة التكليف المجعول بلحاظ زمان ما قبل البلوغ ، فإنّ المكلّف إذا شكّ في وجوب شيء أو عدمه أمكنه استصحاب عدم فعليّة التكليف ؛ لأنّ فعليّته لم تكن متحقّقة قبل البلوغ فلم يكن التكليف فعليّا بحقّه ، والآن يشكّ في فعليّته فيستصحب عدمها ، سواء كان الحكم ثابتا في عالم الجعل أم لا.

فالنظر هنا إلى عالم تحقّق فعليّة الحكم بتحقّق موضوعه المتوقّف على توفّر كلّ الشروط والقيود المأخوذة فيه.

الثالثة : أن نستصحب عدم فعليّة التكليف المجعول أيضا بلحاظ ما بعد البلوغ ، كمن يشكّ بعد بلوغه في وجوب الحجّ عليه وعدمه ، وذلك من جهة تحقّق الاستطاعة بحقّه وعدمها ، فهنا إذا التفت إلى قبل بلوغه فالشرط أي الاستطاعة لم يكن متحقّقا بحقّه فيمكن استصحاب عدمها ، وبالتالي ينتفي المشروط وهو الحجّ لانتفاء شرطه.

وفرق هذا عن السابق أنّه هنا نستصحب عدم الشرط قبل البلوغ إلى ما بعد البلوغ فينتفي المشروط ، بينما في السابق كنّا نستصحب عدم فعليّة الحكم المجعول ؛ لأنّه لم يكن فعليّا قبل البلوغ فنستصحب عدم فعليّته إلى ما بعده. وهذا الاستصحاب موضوعي بخلاف السابقين.

* * *

١٢٤

الاعتراضات العامّة

١٢٥
١٢٦

الاعتراضات العامّة

ويعترض على أدلّة البراءة المتقدّمة باعتراضين أساسيّين :

أحدهما : أنّها معارضة بأدلّة تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل هذه الأدلّة حاكمة عليها ؛ لأنّها بيان للوجوب وتلك تتكفّل جعل البراءة في حالة عدم البيان.

بعد الفراغ عن ثبوت البراءة الشرعيّة من الآيات والروايات قد يعترض عليها باعتراضين مهمّين هما :

الاعتراض الأوّل : أنّ البراءة المستفادة من الآيات والروايات معارَضة بأدلّة تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الأدلّة حاكمة ومقدّمة على أدلّة البراءة.

وتوضيح ذلك : أنّ البراءة إذا كان مفادها أنّ التأمين وإطلاق العنان مجعول في مورد الشكّ في الحكم الواقعي والجهل به ، فهذا يعني أنّ موضوعها عدم العلم بالواقع فتكون معارضة بأدلّة الاحتياط التي موضوعها أيضا عدم العلم ، فيكون لدينا حكمان ظاهريّان متغايران منصبّان على موضوع واحد.

وأمّا إذا كانت البراءة والتأمين مجعولة في مورد عدم العلم والبيان الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فهذا يعني أنّه مع عدم بيان الحكم الواقعي ، ومع عدم بيان الاحتياط تكون البراءة ثابتة ، فهنا تكون أدلّة الاحتياط حاكمة ومقدّمة ؛ لأنّها تثبت البيان الظاهري ، فيرتفع موضوع البراءة.

والحاصل : أنّ كون أدلّة الاحتياط معارضة أو حاكمة مرتبط بالدليل الدالّ على البراءة ، فإن كان الدليل مثل قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) كان الاحتياط رسولا وبيانا فيكون حاكما ، وإن كان الدليل مثل قوله ( عليه‌السلام ) : « رفع ما لا يعلمون » كان الاحتياط معارضا ؛ لأنّ موضوعه عدم العلم الواقعي.

١٢٧

والاعتراض الآخر : أنّ أدلّة البراءة تختصّ بموارد الشكّ البدوي ، والشبهات الحكميّة ليست مشكوكات بدوية ، بل هي مقرونة بالعلم بالإجمالي بثبوت تكاليف غير معيّنة في مجموع تلك الشبهات.

الاعتراض الثاني : أنّ البراءة كما سيأتي مختصّة في موارد الشكّ البدوي لا الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، فمثلا إذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان شكّا بدويّا ، بينما إذا شكّ في نجاسة أحد هذين الإناءين فهذا شكّ مقرون بالعلم الإجمالي بوجود نجاسة في أحدهما المردّدة بينهما ، والبراءة تجري في الأوّل دون الثاني.

إلاّ أنّه في الشبهات الحكميّة عموما يوجد علم إجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة هذه الشبهات ، وهذا العلم الإجمالي منجّز ، ومنجّزيّته تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، فيمتثل لما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته.

ودائرة هذا العلم الإجمالي هو مجموع الشبهات المشكوكة ، فإنّنا إذا لاحظنا هذه الشبهات بمجموعها سوف يحصل لنا العلم بوجود تكاليف إلزاميّة وجوبيّة أو تحريميّة فيها ، ولكنّها ليست معلومة تفصيلا ، وهذا العلم الإجمالي ينجّز لنا كلّ الأطراف فيكون الحكم هو الاحتياط العقلي بالامتثال أو الترك لما يحتمل وجوبه أو حرمته.

أمّا الاعتراض الأوّل فنلاحظ عليه عدّة نقاط :

الأولى : أنّ ما استدلّ به على وجوب الاحتياط ليس تامّا ، كما يظهر باستعراض الروايات التي ادّعيت دلالتها على ذلك ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة (١) استعراض عدد مهمّ منها مع مناقشة دلالتها ، نعم جملة منها تدلّ على الترغيب والحثّ عليه ، ولا كلام في ذلك.

أمّا الاعتراض الأوّل فيرد عليه عدّة نقاط :

الأولى : أنّ هذه الأدلّة التي ادّعيت دلالتها على وجوب الاحتياط ليست تامّة كما تقدّم ذلك سابقا في الحلقة الثانية ، حيث استعرضنا هناك تلك الأدلّة وقلنا : إنّ بعضها غير تامّ السند ، وبعضها غير تامّ الدلالة على الوجوب ، نعم بعض تلك الأدلّة يدلّ على

__________________

(١) في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

١٢٨

حسن الاحتياط وكونه مرغوبا فيه ، وهذا المقدار لا إشكال فيه ؛ وذلك لحكم العقل بحسن الاحتياط.

الثانية : أنّ أدلّة وجوب الاحتياط المدّعاة ليست حاكمة على أدلّة البراءة المتقدّمة ، لما اتّضح سابقا من أنّ جملة منها تثبت البراءة المنوطة بعدم وصول الواقع ، فلا يكون وصول وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها ، بل يحصل التعارض حينئذ بين الطائفتين من الأدلّة.

النقطة الثانية : أنّنا لو سلّمنا بتماميّة الأدلّة على وجوب الاحتياط لكنّها لا تكون حاكمة على أدلّة البراءة والترخيص.

وتوضيح ذلك : أنّ بعض أدلّة البراءة كانت تثبت البراءة في فرض عدم العلم والبيان الأعمّ من الواقعي والظاهري ، وهذه الأدلّة محكومة لأدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّها تثبت البيان الظاهري فيرتفع موضوع أدلّة البراءة.

إلا أنّ البعض الآخر من أدلّة البراءة كانت تثبت البراءة في فرض عدم العلم بالواقع فقط ، أي أنّ موضوعها الجهل والشكّ في الحكم الواقعي كحديث الرفع مثلا وكقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ).

وهذه الأدلّة لا تكون محكومة لأدلّة وجوب الاحتياط بل تكون معارضة لها ؛ وذلك لأنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وموضوعهما واحد ، وهو الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي ، فهما إذا في رتبة عرضيّة واحدة وليس أحدهما في طول الآخر ليكون حاكما ، وحينئذ يحكم بتعارضهما.

الثالثة : إذا حصل التعارض بين الطائفتين فقد يقال بتقديم أدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّ ما يعارضها من أدلّة البراءة القرآنيّة الآية الأولى على أساس الإطلاق في اسم الموصول فيها للتكليف ، وهذا الإطلاق يقيّد بأدلّة وجوب الاحتياط ، وما يعارضها من أدلّة البراءة في الروايات حديث الرفع وهي أخصّ منه أيضا ، لورودها في الشبهات الحكميّة وشموله للشبهات الحكميّة والموضوعيّة فيقيّد بها.

النقطة الثالثة : أنّه بعد وقوع المعارضة بين أدلّة البراءة وأدلّة وجوب الاحتياط ، فهل يحكم بالتساقط كما هو مقتضى الأصل الأوّلي في التعارض أو يكون بينهما جمع عرفي فيرتفع التعارض لكونه غير مستقرّ؟

١٢٩

قد يقال : إنّ التعارض بين أدلّة البراءة والاحتياط من التعارض غير المستقرّ ؛ لأنّه يمكن الجمع بينهما جمعا عرفيّا وبه ينحلّ التعارض.

وتوضيحه : أنّ أدلّة وجوب الاحتياط يعارضها من أدلّة البراءة نوعان : هما البراءة المستفادة من الآيات ، والبراءة المستفادة من الروايات.

أمّا البراءة المستفادة من الآيات فهي البراءة المستفادة من قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ، ) وهذه الآية يمكن الجمع بينها وبين أدلّة وجوب الاحتياط ؛ وذلك لأنّ أدلّة وجوب الاحتياط مختصّة بالتكاليف والأحكام أي الشبهات الحكميّة ، بينما الآية كانت بإطلاقها شاملة للمال والفعل والتكليف أي الحكم ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ؛ لأنّ مورد الاحتياط أخصّ ومورد الآية أعمّ منه ومن غيره.

والوجه بينهما بتخصيص وتقييد الآية في غير مورد الاحتياط فيخرج التكليف من موضوع الآية ، وبهذا يكون الاحتياط هو المقدّم ؛ لأنّ الآية بعد الجمع بينها وبين أدلّة الاحتياط سوف تشمل خصوص المال والفعل دون التكليف ، فإنّه يكون داخلا في أدلّة الاحتياط ؛ لأنّها نصّ فيه.

وهذا نظير ورود دليل مطلق ( أكرم العالم ) ودليل مقيّد ( لا تكرم الفاسق ) فإنّه يخصّص مورد الدليل المطلق بالعادل فقط.

وأمّا البراءة المستفادة من الروايات فكانت مستفادة من قوله ( عليه‌السلام ) : « رفع ما لا يعلمون » كما تقدّم.

وقلنا : إنّ هذا الحديث يشمل الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة معا ، بينما أدلّة الاحتياط مختصّة في الشبهات الحكميّة فتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق أيضا ، وهنا تكون النتيجة لصالح أدلّة الاحتياط ؛ لأنّ مقتضى الجمع العرفي هو حمل العامّ على الخاصّ وإخراج مورد الخاصّ من دائرة العامّ ، وبالتالي سوف يكون حديث الرفع مقيّدا بالشبهات الموضوعيّة بعد أن كان شاملا للشبهات الحكميّة أيضا.

ولكنّ التحقيق : أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط والآية الكريمة هي العموم من وجه ؛ لشمول تلك الأدلّة موارد عدم الفحص واختصاص الآية بموارد الفحص

١٣٠

كما تقدّم عند الكلام عن دلالتها (١) ، فهي كما تعتبر أعمّ بلحاظ شمولها للفعل والمال كذلك تعتبر أخصّ بلحاظ ما ذكرناه ، ومع التعارض بالعموم من وجه يقدّم الدليل القرآني لكونه قطعيّا.

والتحقيق : أنّ النسبة بين أدلّة البراءة القرآنيّة وبين أدلّة الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه وليس العموم والخصوص مطلقا.

وتوضيح ذلك : أنّ الآية الكريمة : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) كما أنّها تشمل المال والفعل والتكليف فتكون أعمّ من مورد أدلّة الاحتياط المختصّة بالشبهات الحكميّة ، إلا أنّها من جهة أخرى تكون أخصّ من أدلّة الاحتياط ؛ وذلك لأنّ الآية الكريمة مختصّة بما بعد الفحص ولا تشمل ما قبل الفحص كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ الإيتاء للتكليف يكفي فيه أن يصدر التشريع في مظانّه من الكتاب والسنّة ، فلا بدّ من البحث عنه هناك وهذا هو معنى الفحص ، بينما أدلّة الاحتياط تشمل ما قبل الفحص وما بعده فهي أعمّ من هذه الجهة.

وفي موارد التعارض بالعموم من وجه يكون كلّ دليل حجّة في مورد افتراقه عن الآخر ، فتكون أدلّة الاحتياط حجّة في الشبهات الحكميّة قبل الفحص ؛ لأنّها ليست مشمولة للآية ، وتكون الآية حجّة في المال والفعل لعدم شمولهما لأدلّة الاحتياط.

وأمّا في مورد الاجتماع وهو الشبهات الحكميّة بعد الفحص فيقع التعارض بينهما بلحاظه ، وهنا يقدّم الدليل القرآني على الدليل الروائي ، لكونه قطعيّا من حيث السند والصدور ، بخلاف الدليل الروائي الدالّ على الاحتياط فإنّه ظنّي السند ؛ إذ أدلّة الاحتياط من الأخبار لا تبلغ درجة التواتر لتكون قطعيّة.

مضافا إلى أنّ خبر الواحد يشترط في حجّيّته ألاّ يكون مخالفا للكتاب ، وهنا أدلّة الاحتياط مخالفة للكتاب فتسقط عن الحجّيّة بلحاظ مورد الاجتماع.

كما أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط وحديث الرفع العموم من وجه أيضا ؛ لعدم شموله موارد العلم الإجمالي وشمول تلك الأدلّة لها ، ويقدّم حديث الرفع في مادّة الاجتماع والتعارض ؛ لكونه موافقا لإطلاق الكتاب ومخالفه معارض له.

__________________

(١) ضمن استعراض أدلّة البراءة الشرعيّة ، تحت عنوان : أدلّة البراءة من الكتاب.

١٣١

وهكذا الحال بالنسبة لأدلّة البراءة من الروايات ، فإنّ النسبة بينها وبين أدلّة وجوب الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه لا العموم والخصوص المطلق.

وبيان ذلك : أنّ حديث الرفع كما أنّه يشمل الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا فيكون أعمّ من أدلّة الاحتياط المختصّة في الشبهات الحكميّة ، إلا أنّه من جهة أخرى يكون أخصّ من أدلّة الاحتياط لكونه لا يشمل الشكّ في موارد العلم الإجمالي ، وإنّما يختصّ في موارد الشكّ البدوي كما تقدّم ؛ لأنّه في موارد العلم الإجمالي يصدق العلم.

بينما أدلّة الاحتياط كما تشمل موارد الشكّ البدوي كذلك تشمل موارد العلم الإجمالي فهي أعمّ من هذه الجهة ، وحينئذ يكون التعارض بينهما من باب العموم من وجه.

وهنا نقول : إنّ أدلّة البراءة تكون حجّة في مورد افتراقها عن أدلّة الاحتياط وهي موارد الشبهة الموضوعيّة ؛ لعدم شمول أدلّة الاحتياط لها ، وتكون أدلّة الاحتياط حجّة في مورد افتراقها عن أدلّة البراءة وهي موارد الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، لعدم شمول أدلّة البراءة له.

يبقى مورد الاجتماع وهو الشبهات الحكميّة المشكوكة شكّا بدويّا ، فإنّ أدلّة البراءة تشملها كما تشملها أدلّة الاحتياط ، فيقع التعارض بينهما بلحاظها ، وهنا أيضا تقدّم أدلّة البراءة ؛ لأنّ حديث الرفع موافق للكتاب بينما أدلّة البراءة مخالفة للكتاب ، وسوف يأتي الترجيح بما يكون موافقا للكتاب على ما يكون مخالفا له ، فيقدّم حديث الرفع لوجود مرجّح فيه بخلاف أدلّة الاحتياط.

ولو تنزّلنا عمّا ذكرناه ممّا يوجب ترجيح دليل البراءة وافترضنا التعارض والتساقط أمكن الرجوع إلى البراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمكن الرجوع إلى دليل الاستصحاب كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة (١).

ثمّ إنّنا لو سلّمنا بالتعارض بين أدلّة الاحتياط والبراءة ، وتنزّلنا عن وجود المرجّح في أدلّة البراءة ، فمع هذا يكون التعارض لصالح أدلّة البراءة ؛ وذلك لأنّنا إذا قلنا بالتعارض المستقرّ ثمّ حكمنا بالتساقط ، فلا بدّ أن نرجع إلى ما كان حجّة في موارد الشبهات الموضوعيّة والحكميّة المشكوكة شكّا بدويّا.

__________________

(١) في نهاية ما جاء تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

١٣٢

وعليه فنقول : أمّا على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالمرجع عندهم هو البراءة العقليّة ؛ لأنّه في موارد الشكّ والشبهات يصدق عدم العلم والبيان وجدانا وتعبّدا.

أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّ المفروض هو الشكّ في الواقع ، وأمّا الثاني فلعدم تماميّة الأدلّة الشرعيّة على الاحتياط ؛ لمعارضتها بالأدلّة الشرعيّة على البراءة وتساقطهما معا ، فيكون حكم العقل ثابتا لتحقّق موضوعه ، والنتيجة هي البراءة.

وأمّا على مسلك حقّ الطاعة القائل بأنّه في موارد الشبهات البدويّة يحكم العقل بالاحتياط فالنتيجة لصالح البراءة أيضا ؛ وذلك لأنّنا قلنا : إنّ حكم العقل هذا معلّق وليس مطلقا ، فإذا لم يرد الترخيص والإذن من الشارع فحكم العقل ثابت ، وأمّا إذا ورد الترخيص والإذن فحكم العقل يرتفع لارتفاع موضوعه.

وهنا بعد الحكم بسقوط البراءة والاحتياط لتعارض أدلّتهما يمكننا التمسّك بالاستصحاب المتقدّم ، أي استصحاب عدم التكليف إمّا بمعنى عدم الجعل الكلّي ، وإمّا بمعنى عدم فعليّة المجعول الجزئي ، وهنا الاستصحاب دليل شرعي فيكون إذنا وترخيصا فيرفع به حكم العقل ، والنتيجة العمليّة هي الترخيص والإباحة والتأمين وهذه هو معنى البراءة (١).

__________________

(١) وأمّا كيفيّة التمسّك بالاستصحاب وكونه حجّة في المقام وعدم دخوله في المعارضة فوجهه هو : أنّ دليل الاستصحاب عامّ يشمل كلّ ما كان متيقّنا سواء الموضوع أم الحكم وسواء الترخيص أم الإلزام ، فهو أعمّ من البراءة لعدم شمولها للإلزام ، وأعمّ من الاحتياط لعدم شموله للترخيص.

وهذا الدليل العامّ يبقى حجّة في عمومه وشموله لكلّ الموارد الداخلة تحته إلى أن يحرز وجود المخصّص له ، فإن أحرز المخصّص يخرج عن عمومه مورد الخاصّ.

وهنا كما يصلح دليل الاحتياط لتخصيص الاستصحاب وإخراج الشبهات الحكميّة لتنجيزها ، كذلك يصلح دليل البراءة لتخصيصه وإخراج الشبهات الحكميّة للترخيص فيها ، إلا أنّ المفروض تعارض هذين المخصّصين في أنفسهما وبعد الحكم بتساقطهما لا يبقى المخصّص حجّة ليخصّص به دليل الاستصحاب العامّ ، وبهذا يبقى عموم الاستصحاب حجّة لعدم المخصّص الحجّة ، وبهذا ينجو دليل الاستصحاب عن التخصيص ، وأمّا أنّه لا يدخل في المعارضة فلأنّه ليس في عرضهما ، وإنّما المرتبة بينه وبينهما طوليّة.

١٣٣

وأمّا الاعتراض الثاني بوجود العلم الإجمالي فقد أجيب عليه بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في دائرة أخبار الثقات ؛ وفقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ؛ لتوفّر كلا شرطي القاعدة فيها ، فإنّ أطراف العلم الصغير بعض أطراف الكبير ، ولا يزيد عدد المعلوم بالعلم الكبير على عدد المعلوم بالعلم الصغير ؛ ومع الانحلال تكون الشبهة خارج نطاق العلم الصغير بدويّة ، فتجري البراءة في كلّ شبهة لم يقم على ثبوت التكليف فيها أمارة معتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، وهذا هو المطلوب.

وأما الاعتراض الثاني من وجود علم إجمالي منجّز فقد أجيب عليه بجوابين :

الجواب الأوّل : دعوى الانحلال الحقيقي ، ببيان : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بعلم إجمالي أضيق دائرة منه ، وهذا يتوقّف على توفّر شرطين هما :

١ ـ أن تكون أطراف العلم الإجمالي الصغير داخلة في العلم الإجمالي الكبير.

٢ ـ أن يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير أقلّ أو مساويا للمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة إناءين من عشرة إجمالا ثمّ بعد ذلك علمنا بنجاسة إناءين من خمسة إناءات ضمن العشرة ، فهنا ينحلّ العلم الإجمالي بنجاسة إناءين من العشرة إلى علم إجمالي بنجاسة إناءين من الخمسة ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ هذه الخمسة كانت ضمن العشرة ؛ ولأنّ المعلوم بالإجمال في العلمين متساو وهو الإناءان.

وفي مقامنا نطبّق هذه الفكرة لتوفّر كلا الشرطين فنقول : إنّ العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة مجموع الشبهات منحلّ إلى علم إجمالي صغير أضيق دائرة منه ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة الشبهات التي ورد فيها خبر الثقة ، أو غيره من الأصول والأمارات المنجّزة كالاستصحاب مثلا.

والمفروض أنّ دائرة الشبهات التي قام على تنجيزها خبر معتبر داخلة ضمن دائرة الشبهات المعلومة بالعلم الإجمالي الكبير هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير وهو وجود مائة أو ألف تكليف منجّز موجود أيضا في العلم الإجمالي الصغير إمّا بنحو مساوي أو أكثر.

١٣٤

وحينئذ تبطل منجّزيّة العلم الإجمالي الكبير بالنسبة للشبهات الأخرى التي لم يقم خبر أو أمارة أو أصل على تنجيزها ، فتكون مشكوكة بدوا ، ولذلك تجري البراءة فيها ، وهذا هو المطلوب من البراءة أي التأمين بلحاظ الشبهات المشكوكة ابتداء والتي لم يثبت تنجيزها بأمارة أو أصل ، ولا يجب فيها الاحتياط عقلا لعدم العلم الإجمالي بلحاظها.

وهذا الجواب ليس تامّا ؛ إذ كما يوجد علم إجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات المعتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، كذلك يوجد علم إجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات غير المعتبرة ، إذ لا يحتمل ـ عادة وبحساب الاحتمالات ـ كذبها جميعا.

فهناك إذن علمان إجماليّان صغيران ، والنطاقان وإن كانا متداخلين جزئيّا ـ لأنّ الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة قد تجتمع ـ ولكن مع هذا يتعذّر الانحلال.

ويرد على هذا الجواب : بأنّه كما يوجد لدينا علم إجمالي صغير ضمن نطاق أخبار الثقات ، فكذلك يوجد لدينا علم إجمالي صغير ضمن نطاق أخبار غير الثقات ، فلما ذا يقال بانحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات ، ولا يقال بانحلاله ضمن أخبار غير الثقات؟!

وتوضيح ذلك : أنّنا كما ذكرنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن مجموع الشبهات ، وقلنا : إنّ هذا العلم منجّز لجميع الشبهات ، ثمّ أجيب بأنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ حقيقة ضمن دائرة الثقات للعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة فيها لا تقلّ عن التكاليف المعلومة إجمالا في العلم الإجمالي الكبير.

وهذا الكلام لا يتمّ ؛ لأنّنا أيضا نعلم بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن أخبار غير الثقات ؛ إذ ليس كلّها مقطوعا كذبها إذ هذا بعيد بحساب الاحتمال ، ولذلك نعلم إجمالا بصدق بعضها ومطابقته للواقع ، وهذا البعض الصادق يوجد فيه تكاليف إلزاميّة ، فلما ذا لا ينحلّ العلم الإجمالي الكبير ضمن هذا العلم الإجمالي الصغير؟

ثمّ إنّ هذين العلمين الإجماليّين الصغيرين متداخلان جزئيّا ، بمعنى أنّ بعض الشبهات التي يوجد فيها خبر ثقة يثبت الإلزام كذلك يوجد فيها خبر غير ثقة يثبت

١٣٥

الإلزام أيضا ، وإن كانا يفترقان أيضا ، فالنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه ، فقد يكون هناك شبهة فيها خبر ثقة فقط ، أو خبر غير ثقة فقط ، أو هما معا ، فدائرتهما متداخلة جزئيّا لا كلّيّا.

وحينئذ نقول : إنّ الانحلال الحقيقي غير تامّ ؛ وذلك لاختلال أحد الشرطين المتقدّمين ، وتوضيحه :

لأنّ المعلومين بالعلمين الإجماليّين الصغيرين إن لم يكن من المحتمل تطابقهما المطلق فهذا يعني أنّ عدد المعلوم من التكاليف في مجموع الشبهات أكبر من عدد المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير المفترض في دائرة أخبار الثقات ، وبذلك يختلّ الشرط الثاني من الشرطين المتقدّمين لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير.

والوجه في عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير ضمن دائرة أخبار الثقات هو : أنّ المفروض وجود علم إجمالي صغير آخر ضمن دائرة أخبار غير الثقات ، والمعلوم بالإجمال في هذا العلم الإجمالي تارة يكون مطابقا للمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير الأوّل ضمن أخبار الثقات ، وأخرى لا يكون المعلومان بالإجمال فيهما متطابقين ، فهنا فرضيّتان :

الأولى : أن نفترض عدم التطابق بين المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي ضمن دائرة أخبار الثقات وبين المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالي ضمن دائرة أخبار غير الثقات.

فمثلا تكون التكاليف الإلزاميّة في أخبار الثقات مائة والتكاليف الإلزاميّة في أخبار غير الثقات مائة ، غير أنّ هذه المائة ليست داخلة كلّها ضمن المائة بل بعضها فقط.

وهنا لن يكون هناك انحلال حقيقي للعلم الإجمالي الكبير الذي دائرته مجموع الشبهات بالعلم الإجمالي الصغير الذي دائرته أخبار الثقات فقط ؛ وذلك لأنّ الركن الثاني مختلّ ؛ لأنّ عدد المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقلّ من عدد المعلوم في العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ المفروض أنّ الصغير يشتمل على مائة تكليف إلزامي ، وهذه المائة ليست المعلومة إجمالا في الكبير ؛ إذ يوجد بعض التكاليف في

١٣٦

العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار غير الثقات لا تزال معلومة إجمالا ، وليست كلّها داخلة في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات (١).

وإن كان من المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفّران بالنسبة إلى كلّ من العلمين الإجماليّين الصغيرين في نفسه ، فافتراض أنّ أحدهما يوجب الانحلال دون الآخر بلا موجب.

الثانية : أن نفترض التطابق بين المعلومين بالإجمال في العلمين الإجماليّين الصغيرين.

فهنا الانحلال الحقيقي كما يتمّ في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات لكون أطرافه بعض أطراف الكبير ولكون المعلوم بالإجمال فيه لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال في الكبير ، كذلك يتمّ في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار غير الثقات لتوفّر كلا الركنين فيه ، فلما ذا يقال بانحلاله في الأوّل دون الثاني؟

فإنّ انحلاله في أحدهما المعيّن وهو أخبار الثقات ترجيح بلا مرجّح ، وانحلاله فيهما معا يوجب حجّيّة أخبار غير الثقات وهو لا يقوله أحد ، فيتعيّن القول بعدم انحلاله في شيء منهما.

وبهذا ظهر أنّ دعوى الانحلال الحقيقي غير تامّة ، فالعلم الإجمالي الكبير لا يزال منجّزا لجميع الشبهات المشكوكة.

الجواب الثاني : أنّ العلم الإجمالي الذي تضمّ أطرافه كلّ الشبهات يسقط عن المنجّزيّة باختلال الركن الثالث من الأركان الأربعة التي يتوقّف عليها تنجيزه ، وقد تقدّم شرحها في الحلقة السابقة (٢).

__________________

(١) لا يمكن القول هنا بأنّ العلم الإجمالي الكبير ينحلّ بكلا العلمين الإجماليين الصغيرين بدعوى أنّ المعلوم بالإجمال فيهما مساو أو أكثر من المعلوم بالإجمال فيه.

لأنّه يجاب عن ذلك بأنّ هذين العلمين الإجماليّين الصغيرين إذا اجتمعا معا فإنّهما نفس العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ مجموع الشبهات إمّا أن يوجد فيها خبر ثقة ونحوه ، وإمّا أن يوجد فيها خبر غير ثقة ونحوه فهما تعبير آخر عنه.

مضافا لاستلزامه حجّيّة أخبار غير الثقات أيضا ، وهذا لا يقوله أحد.

(٢) في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الأصول العمليّة تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

١٣٧

وذلك لأنّ جملة من أطرافه قد تنجّزت فيها التكاليف بالأمارات والحجج الشرعيّة المعتبرة من ظهور آية وخبر ثقة واستصحاب مثبت للتكليف ، وفي كلّ حالة من هذا القبيل تجري البراءة في بقيّة الأطراف ، ويسمّى ذلك بالانحلال الحكمي كما تقدّم.

الجواب الثاني : دعوى الانحلال الحكمي ، ويوجد تقريبان لبيان دعوى الانحلال هذه.

التقريب الأوّل : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا ـ بناء على مسلك الاقتضاء ـ فيما إذا توفّرت شروط أربعة هي :

١ ـ العلم بالجامع ، وإلا لكانت الشبهة بدويّة فتجري فيها البراءة.

٢ ـ عدم سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، وإلا لكان الفرد المعيّن منجّزا دون غيره.

٣ ـ أن تجري الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، أي لا يكون هناك مانع من جريانها في نفسها بلحاظ كلّ طرف.

٤ ـ أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف موجبا للمخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

وهنا نقول : إنّ العلم الإجمالي الكبير ليس منجّزا لاختلال الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ وذلك لأنّ هذا العلم الإجمالي شامل لكلّ الشبهات ، أي أنّنا نعلم بتكاليف إلزاميّة في مجموع الشبهات ، إلا أنّ بعض هذه الشبهات قد تنجّزت.

إمّا لوجود دليل قرآني يثبت التكليف الإلزامي كحرمة لحم الكلب والخنزير مثلا ، أو وجوب الصلاة والصوم ونحوها.

وإمّا لوجود دليل روائي كقيام خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة.

وإمّا لوجود أصل عملي يثبت التنجيز كالاستصحاب المثبت للإلزام أي الوجوب والحرمة فيما إذا كانتا متيقّنتين سابقا. وإلى غير ذلك من الحجج والأمارات والأصول.

وحينئذ فإنّ هذه الشبهات التي تنجّزت سوف تخرج عن العلم الإجمالي ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري فيها ؛ لكونها منجّزة على المكلّف فلم تعد مشكوكة.

وأمّا الشبهات الأخرى فتجري فيها الأصول الترخيصيّة من دون معارض ؛ لكونها

١٣٨

مشكوكة ابتداء ، وهكذا ينحلّ العلم الإجمالي من حيث المنجّزيّة لا حقيقة ، إذ هو موجود واقعا إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة ليس بثابت ، هذا هو معنى الانحلال الحكمي.

وبتعبير آخر : إنّ بعض أطراف العلم الإجمالي قد تنجّز بالآيات والروايات والأصول المثبتة للتكليف فلا تشملها الأصول الترخيصيّة ، وهذا يعني أنّ الشرط الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف غير متحقّق ، والمفروض أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تتوقّف على تواجد الشروط الأربعة ، فمع فقد أحدها لا منجّزيّة له وإن كان موجودا واقعا.

وفي مقامنا حيث ثبتت بعض التكاليف الإلزاميّة فقد خرجت من دائرة العلم الإجمالي ، إذ لم تعد مشكوكة لتنجّزها بحسب الفرض ، وعليه فتجري الأصول الترخيصيّة في الأطراف الأخرى ، وهذا انحلال حكمي.

وقد قيل في تقريب فكرة الانحلال الحكمي في المقام ـ كما عن السيّد الأستاذ ـ بأنّ العلم الإجمالي متقوّم بالعلم بالجامع والشكّ في كلّ طرف ، ودليل حجّيّة الأمارة المثبتة للتكليف في بعض الأطراف لمّا كان مفاده جعل الطريقيّة فهو يلغي الشكّ في ذلك الطرف ويتعبّد بعدمه ، وهذا بنفسه إلغاء تعبّدي للعلم الإجمالي.

التقريب الثاني للانحلال الحكمي بناء على تصوّرات مدرسة الميرزا ، وحاصله : أنّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو العلم بالجامع ، وكذا الركن الثاني وهو الشكّ في الفرد كلاهما مختلّ في المقام ، وذلك بناء على مسلك الميرزا من جعل الطريقيّة والعلميّة للأمارات والأصول.

فيقال : إنّ العلم الإجمالي الكبير ضمن دائرة مجموع الشبهات لا يكون منجّزا اذا اختلّ ركناه الأوّل والثاني ، وهنا إذا قامت الأمارات والأصول على التنجيز لبعض الشبهات والتي تثبت التكليف الإلزامي فيها توجب زوال الركنين الأوّل والثاني ؛ وذلك لأنّ جعل الحجّيّة للأمارات والأصول معناه جعلها علما تعبّدا.

فإذا أخبر الثقة بالوجوب أو الحرمة أو قام الأصل لإثبات التكليف فمعنى حجّيّته أنّه علم ، وهذا يعني أنّ هذه الشبهات قد صار حكمها معلوما تعبّدا فيلغى الشكّ

١٣٩

بلحاظها تعبّدا أيضا ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي تعبّدا ؛ لأنّ العلم بالجامع سرى إلى الفرد فصار هناك علم تفصيلي بالفرد.

وأمّا الأفراد والشبهات الأخرى فهي مشكوكة بدوا ؛ لأنّ العلم زال عن الجامع فتجري فيها الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

وبتعبير آخر : كما أنّ العلم الوجداني يوجب انحلال العلم الإجمالي كذلك العلم التعبّدي ، غاية الأمر أنّ الانحلال في الأوّل حقيقي بينما في الثاني حكمي.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ علمنا بنجاسة هذا الإناء بعينه بنفس النجاسة المعلومة بالإجمال فهذا انحلال حقيقي لسريان العلم من الجامع إلى الفرد حقيقة ، وكذا في المثال المذكور إذا أخبرنا الثقة بأنّ هذا الإناء هو النجس دون ذاك ، فإنّه على مسلك العلميّة والطريقيّة يوجب العلم التعبّدي ويلغي الشكّ تعبّدا فيسري العلم من الجامع إلى الفرد تعبّدا ، ولذلك يسمّى بالانحلال التعبّدي أو الحكمي.

ومقامنا من هذا القبيل ؛ لأنّ حجّيّة الأمارات والأصول معناها جعلها علما تعبّدا فيسري العلم من الجامع إلى كلّ شبهة ثبت فيها الأصل أو الأمارة المثبتان للتكليف ، وبالتالي تكون الشبهات الأخرى مشكوكة بدوا ، إذ العلم بالجامع قد سرى إلى الفرد بحسب الفرض.

ويرد على هذا التقريب :

إنّ الملاك في وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي هو التعارض بين الأصول في أطرافه كما تقدّم (١) ، وليس هو العلم الإجمالي بعنوانه ، فلا أثر للتعبّد بإلغاء هذا العنوان وإنّما يكون تأثيره عن طريق رفع التعارض ، وذلك بإخراج موارد الأمارات المثبتة للتكليف عن كونها موردا لأصالة البراءة ؛ لأنّ الأمارة حاكمة على الأصل ، فتبقى الموارد الأخرى مجرى لأصالة البراءة بدون معارض ، وبذلك يختلّ الركن الثالث ويتحقّق الانحلال الحكمي من دون فرق بين أن نقول بمسلك جعل الطريقيّة وإلغاء الشكّ بدليل الحجّيّة أو لا.

__________________

(١) في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان :

تحديد أركان هذه القاعدة.

١٤٠