شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

وهنا ذهب الميرزا ومدرسته إلى سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي في الفرض المذكور ، وذلك لاختلال الركن الثالث من أركان منجّزيّته ؛ وذلك لأنّ هذا الركن كانت صياغته على مسلك المشهور هي جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، وهنا لا تجري الأصول الترخيصيّة في الطرف المشترك.

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة الأسود أو الأحمر ، فهنا على أساس العلم الإجمالي المتقدّم قد جرت الأصول الترخيصيّة في كلا الإناءين الأبيض والأسود وتساقطت بسبب المعارضة فيما بينها.

فإذا علمنا إجمالا بنجاسة إمّا الأسود وإمّا الأحمر ، فهنا الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء الأحمر لا معارض لها ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة في الإناء الأسود قد سقطت سابقا لمعارضتها بالأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض ، وبهذا تكون الأصول المؤمّنة في الطرف الأحمر المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر جارية بلا معارض ، فينحلّ العلم الإجمالي بلحاظها ويسقط عن المنجّزيّة فيها ، ويمكن تصوير اختلال الركن الثالث على صياغة المحقّق العراقي أيضا.

فنقول : إنّ العلم الإجمالي المتقدّم قد نجّز معلومه على كلّ تقدير ، أي سواء كانت ضمن الأبيض أو الأسود لصلاحيّة وقابليّة كلّ منهما لذلك ، وأمّا العلم الإجمالي المتأخّر فلا يمكنه تنجيز معلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّه على تقدير كونه في الإناء الأسود المشترك فهو قد تنجّز سابقا بالعلم الإجمالي السابق ، والمنجّز لا يمكن أن يتنجّز مرّة أخرى ، فيكون العلم الإجمالي الثاني ساقطا عن المنجّزيّة ؛ لأنّه غير صالح لتنجيز معلومه على جميع التقادير وإنّما على بعض التقادير فقط ، وهذا البعض غير معلوم ، بل هو مشكوك فتجري فيه الأصول المؤمّنة بلا محذور.

ولكنّ الصحيح عدم السقوط عن المنجّزيّة ، وبطلان التقريبين السابقين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الأوّل لا يوجب التنجيز في كلّ زمان ، وتعارض الأصول في الأطراف كذلك إلا بوجوده الفعلي في ذلك الزمان لا بمجرّد حدوثه ولو في زمان سابق.

وعليه ، فتنجّز الطرف المشترك بالعلم الإجمالي السابق في زمان حدوث العلم

٣٤١

المتأخّر ، إنّما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق إلى ذلك الحين ، لا بمجرّد حدوثه ، وهذا يعني أنّ تنجّز الطرف المشترك فعلا له سببان :

أحدهما : بقاء العلم السابق.

والآخر : حدوث العلم المتأخّر ، واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فينجّزان معا ، وبذلك يبطل التقريب الثاني.

والصحيح عدم سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ لعدم اختلال الركن الثالث بصيغتيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي إذا توفّرت فيه الأركان الأربعة كان منجّزا للطرفين ، وكان موجبا لتعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في الطرفين أيضا ، إلا أنّ منجّزيّته لهما وإيجابه لتعارض الأصول فيهما ليست بمعنى أنّه بمجرّد أن يحدث علم إجمالي فيكون منجّزا للطرفين على امتداد الزمان ولو زال بقاء ، فإنّ هذا واضح البطلان ، وإنّما منجّزيّته فرع أن يكون موجودا فعلا في كلّ زمان وفي كلّ آن.

وبتعبير آخر : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي ليست مطلقة ؛ ليقال : إنّه بمجرّد أن يحدث فهو منجّز ولو لم يكن موجودا بقاء ، بل منجّزيّة العلم الإجمالي مشروطة ومقيّدة بوجوده الفعلي في كلّ آن من آنات الزمان.

وعلى هذا نقول : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي بناء على صياغة المحقّق العراقي فرع كونه منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، وهذا الركن موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الأوّل الدائر بين الإناءين الأبيض والأسود ، إنّما يوجد التنجيز لو كان هذا العلم في كلّ آن صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ، وهذا فرع وجوده الفعلي في كلّ آن ولا يكفي حدوثه سابقا فقط.

وعليه ، ففي الآن الذي يحدث فيه العلم الإجمالي الثاني الدائر بين الإناءين الأسود والأحمر يكون كلّ منهما صالحا لتنجيز الإناء المختصّ بلا إشكال ، وكذلك يكونان صالحين لتنجيز الإناء المشترك أي الأسود ؛ لأنّه في هذا الآن من الزمان لم يكن منجّزا بمنجّز آخر غير هذين العلمين ، وإنّما يتنجّز في هذا الآن فعلا بسبب وجود هذين العلمين ؛ لأنّهما بلحاظ هذا الآن ليس أحدهما أسبق عن الآخر ، وإنّما هما موجودان معا.

٣٤٢

ولذلك لا يمكن القول بأنّ الإناء المشترك في هذا الآن منجّز بالعلم الإجمالي السابق دون المتأخّر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وكذلك العكس ، ولا يمكن القول بأنّه لا منجّز له في هذا الآن ؛ لأنّه خلف العلم الإجمالي ، فلا بدّ من القول بأنّه منجّز بهما معا ، وهذا يعني أنّه في هذا الآن من الزمان يكون اجتمع على الطرف المشترك منجّزان فعليّان في عرض واحد ، فيؤخذ بمنجّزيّتهما معا.

وبتعبير آخر : إنّه بلحاظ الآن الذي حدث فيه العلم المتأخّر كان العلم الإجمالي السابق موجودا أيضا ، فهما موجودان معا في عرض واحد وليس أحدهما متقدّما والآخر متأخّرا ، فيتنجّز الطرف المشترك بهما معا.

وأمّا مجرّد كون العلم الأوّل موجودا في السابق فهذا لا يكفي لكونه أسبق من العلم المتأخّر ؛ لأنّ الأسبقيّة لا بدّ أن تلحظ بنفس الزمان ؛ ولأنّ العلم الإجمالي لا يكفي فيه الحدوث كما قلنا بل لا بدّ من وجوده الفعلي ، فإذا لاحظنا الوجود الفعلي للعلم الإجمالي في عمود الزمان وجدنا أنّه بلحاظ هذا الآن الزماني يوجد فيه فعلا علمان إجماليّان وهما في عرض واحد ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر في التنجيز ليؤخذ به دون الآخر ، وبهذا يبطل التقريب الثاني.

كما أنّ الأصل المؤمّن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كلّ آن ، وهذا الاقتضاء يؤثّر مع عدم التعارض ، ومن الواضح أنّ جريان الأصل المؤمّن في الطرف المشترك في الفترة الزمنيّة السابقة على حدوث العلم الإجمالي المتأخّر كان معارضا بأصل واحد ـ وهو الأصل في الطرف المختصّ بالعلم السابق ـ غير أنّ جريانه في الفترة الزمنيّة اللاحقة يوجد له معارضان وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصّين معا ، وبذلك يبطل التقريب الأوّل ، فالعلمان الإجماليّان منجّزان معا.

وأمّا التقريب المشهور لصياغة الركن الثالث فكان جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، وهذا محفوظ في مقامنا ؛ وذلك لأنّه يراد بجريان الأصول الترخيصيّة أن تكون جارية فعلا في كلّ آن من آنات الزمان على امتدادها ، ولا يكفي أن تكون جارية في الآن السابق لبقاء المنجّزيّة مع زوال جريانها في الآن اللاحق.

وهذا يعني أنّ جريان الأصول وتعارضها لا بدّ أن يكون بلحاظ كلّ زمان بالفعل.

وحينئذ نقول : إنّه في الزمان السابق على العلم الإجمالي الثاني لم يكن لدينا إلا

٣٤٣

طرفان فقط وهما الإناءان الأبيض والأسود ، ولذلك كانت الأصول الترخيصيّة في الإناء الأسود معارضة بالأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض.

وهذه المعارضة تبقى على حالها في كلّ زمان وفي كلّ آن ما دامت الأصول الترخيصيّة جارية في الطرفين ، فإذا وصلنا إلى الزمان الذي حدث فيه العلم الإجمالي الثاني الدائر بين الإناءين الأحمر والأسود ، وجدنا أنّ الأصول الترخيصيّة الجارية فعلا في الإناء الأسود المشترك بين العلمين لها معارضان :

الأوّل : الأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض المختصّ بالعلم السابق. والثاني : الأصول الترخيصيّة في الإناء الأحمر المختصّ بالعلم اللاحق ؛ لأنّه في هذا الآن المعيّن من الزمان كان لدينا تعاصر بين العلمين ؛ لأنّهما موجودان في عرض واحد.

وهذا يعني أنّهما بالتحليل يرجعان إلى علم إجمالي واحد دائر بين الإناء الأسود من جهة وبين الإناءين الأبيض والأحمر من جهة أخرى ، فإنّنا نعلم إجمالا بثبوت تكليف واحد في الإناء المشترك أو بثبوت تكليفين مختصّين في الإناءين الآخرين ، والأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المشترك معارضة بالأصول الترخيصيّة الجارية في الإناءين المختصّين معا ، ولا معنى لتوهّم معارضة الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المشترك بالأصول الترخيصيّة في أحد الإناءين المختصّين ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

إذ المفروض أنّه في هذا الآن الزماني يوجد موضوعان للأصول الترخيصيّة : أحدهما الإناء الأبيض ، والآخر الإناء الأحمر ، فتخصيص المعارضة بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن كون المعارضة من جهة بين الأصول الجارية في الإناء الأسود المشترك ، ومن جهة أخرى بين الأصول الترخيصيّة في الإناءين المختصّين الأبيض والأحمر ، وهذا يعني أنّ الركن الثالث لا يزال محفوظا ولم ينهدم ليقال ببطلان المنجّزيّة (١).

__________________

(١) بقي شيء ، وهو أنّ الميرزا ادّعى هنا الانحلال الحقيقي ، وأنّ العلم الإجمالي المتأخّر ليس علما في التكليف ليكون منجّزا.

ببيان : أنّه إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود فهذا علم إجمالي بالتكليف منجّز لتماميّة أركانه ، فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأسود أو الأحمر فهذا ليس علما إجماليّا بالتكليف ، فلا يكون منجّزا وإن كانت أركانه تامّة ؛ لأنّ العلم الإجمالي المنجّز هو العلم بالتكليف كما تقدّم.

٣٤٤

٦ ـ حكم ملاقي أحد الأطراف :

إذا علم المكلّف إجمالا بنجاسة أحد المائعين ولاقى الثوب أحدهما المعيّن حصل علم إجمالي آخر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر ، وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة.

وفي مثل ذلك قد يقال بعدم تنجيز العلم الإجمالي الآخر ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب وإن وجب الاجتناب عن المائعين ، وذلك لأحد تقريبين :

الحالة السادسة : فيما هو حكم ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي.

فإذا علم المكلّف بنجاسة أحد المائعين حصل له علم إجمالي بنجاسة أحدهما ، فإذا لاقى الثوب ونحوه أحد هذين الطرفين سوف يحصل لنا علم إجمالي آخر وهو نجاسة الثوب أو الإناء الآخر ؛ وذلك لأنّ النجاسة إن كانت في الإناء الملاقي للثوب فالثوب نجس ، وإن كانت في الآخر فالثوب طاهر ، فبعد الملاقاة لا يعلم هل الثوب نجس أم الإناء الآخر؟ وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة.

وفي هذه الحالة قد يقال : إنّ العلم الإجمالي الثاني ليس منجّزا لنجاسة الثوب ، وإنّما المنجّز هو العلم الإجمالي السابق ، فيجب الاجتناب عن كلا الإناءين ؛ للعلم بنجاسة أحدهما ، ولكن لا يجب الاجتناب عن الثوب ؛ لأنّ العلم الإجمالي فيه ليس منجّزا.

__________________

وهنا إن فرض أنّ النجاسة المعلومة إجمالا بالعلم اللاحق كانت في الأسود وكانت النجاسة المعلومة سابقا بالأسود أيضا فلا تكليف جديد ، وإن كانت في الطرف المختصّ في كلّ منهما فهنا يوجد تكليف ، وكذا لو كانت في الإناء المشترك في أحدهما والمختصّ في الآخر ، وهذا يعني أنّه لا يعلم بالتكليف على جميع التقادير وإنّما على بعض التقادير يوجد علم إجمالي دونه على البعض الآخر ، حيث إنّ هذا البعض غير معلوم فلا يكون العلم الإجمالي اللاحق منجّزا.

وفيه : إنّه لا يشترط في العلم الإجمالي أكثر من كونه علما بما يساوق التكليف لا علما بالتكليف مباشرة ، وهذا محفوظ في مقامنا ؛ لأنّه يلزم من وقوع القطرة في الإناء المختصّ التكليف كما هو الحال فيما إذا كان لدينا علم إجمالي دائر بين طرفين : أحدهما مشكوك النجاسة ، فإنّه منجّز لهما مع أنّه قد تكون النجاسة في الإناء المشكوك نجاسته فلا تكليف جديد ، مضافا إلى أنّه في العلم اللاحق نعلم إجمالا بثبوت أصل التكليف أي الجامع ، وهذا المقدار كاف في المنجّزيّة.

٣٤٥

والوجه في عدم منجّزيّته أحد تقريبين :

الأوّل : تطبيق فرضيّة العلمين الإجماليين المتقدّم والمتأخّر في المقام ، بأن يقال : إنّه يوجد لدى المكلّف علمان إجماليّان بينهما طرف مشترك وهو المائع الآخر ، فينجّز السابق منهما دون المتأخّر.

وهذا التقريب إذا تمّ يختصّ بفرض تأخّر الملاقاة أو العلم بها على الأقلّ عن العلم بنجاسة أحد المائعين ، ولكنّه غير تامّ كما تقدّم.

التقريب الأوّل : أن يقال : إنّ العلمين الإجماليّين هنا من العلمين المشتركين في طرف واحد وأحدهما متقدّم على الآخر ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بنجاسة أحد المائعين ثمّ حصل علم إجمالي آخر متأخّر دائر بين نجاسة الثوب أو نجاسة الإناء الآخر الموجود في العلم الإجمالي السابق.

فالإناء الآخر مشترك بين العلمين الإجماليّين المتقدّم والمتأخّر ، وفي هذه الحالة لا يكون العلم الإجمالي المتأخّر منجّزا لطرفيه ؛ لاختلال الركن الثالث بصيغتيه كما تقدّم ، فإنّ الطرف المشترك منجّز بالعلم الإجمالي السابق فلا يتنجّز بالعلم الإجمالي اللاحق ، أو لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في أحدهما دون الآخر ، فإنّها لا تجري في الطرف المشترك لسقوطها فيه. وفيه :

أوّلا : ما تقدّم من منجّزيّة العلمين الإجماليّين المشتركين في أحد الأطراف ، وعدم انهدام الركن الثالث.

وثانيا : لو سلّم عدم منجّزيّة العلم المتأخّر فهذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت نفس الملاقاة بين الثوب وأحد المائعين متأخّرة عن العلم الإجمالي السابق ، أو على الأقلّ كان العلم بالملاقاة متأخّرا عن العلم الإجمالي السابق وإن كانت نفس الملاقاة حاصلة قبله أو مقارنة له ، ولا يتمّ فيما إذا كانت الملاقاة والعلم بها متقدّما على العلم الإجمالي الأوّل ؛ لأنّ العلم الإجمالي يكون متعلّقا بثلاثة أطراف من أوّل الأمر فيتنجّز الثوب أيضا.

الثاني : أنّ الركن الثالث منهدم ؛ لأنّ أصل الطهارة يجري في الثوب بدون معارض ؛ وذلك لأنّه أصل طولي بالنسبة إلى أصل الطهارة في المائع الذي لاقاه الثوب ـ ولنسمّه المائع الأوّل ـ فأصالة الطهارة في المائع الأوّل تعارض أصالة

٣٤٦

الطهارة في المائع الآخر ، ولا تدخل أصالة الطهارة للثوب في هذا التعارض لطوليّتها ، وبعد ذلك تصل النوبة إليها بدون معارض وفقا لما تقدّم في الحالة الأولى من حالات الاستثناء من تعارض الأصول وتساقطها.

التقريب الثاني : أن يقال : إنّ الركن الثالث منهدم على أساس أنّه يوجد لدينا علم إجمالي له طرفان : أحدهما يجري فيه أصل ترخيصي واحد ، والآخر يجري فيه أصلان ترخيصيان طوليّان ، أي أحدهما مقدّم على الآخر ، إمّا لنكتة الحكومة وإمّا لنكتة عرفيّة كما سيأتي التعرّض له في بحث التعارض ، فيدخل المقام في الحالة الأولى من الحالات الثلاث المتقدّمة في جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي الدائر بين الإناءين يوجب التعارض والتساقط بالنسبة للأصول الترخيصيّة الجارية في الإناءين وهي أصالة الطهارة ، وأمّا الثوب الملاقي لأحدهما المعيّن فالأصول الترخيصيّة فيه لا تدخل في المعارضة ولا تسقط ، فيؤخذ بها إذ لا معارض لها ؛ لأنّها في طول الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المعيّن الذي لاقاه الثوب ، وما يكون في طول غيره لا يكون معه في رتبته ، بل يكون متأخّرا عنه في الوجود ، بمعنى أنّ عدمه يكون قيدا أو شرطا لثبوته.

فالإناء الأوّل الملاقي مع الثوب تجري فيه أصالة الطهارة وهي مقدّمة على أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها بالنسبة إلى الثوب من قبيل الأصل السببي والمسبّبي.

فإنّنا لو أجرينا أصالة الطهارة في الإناء لكانت طهارة الثوب محرزة تعبّدا ، ولا تحتاج إلى إجراء أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّ التعبّد بطهارة الماء معناه التعبّد بطهارة المغسول به أيضا. نعم ، إذا لم تجر أصالة الطهارة في الإناء كانت أصالة الطهارة في الثوب جارية.

وبهذا تكون أصالة الطهارة في الثوب في طول أصالة الطهارة في الإناء الملاقي للثوب وفرع عدم وجودها ، ولذلك تكون أصالة الطهارة في الإناء الآخر معارضة لأصالة الطهارة في الإناء الأوّل فقط ، ولا تدخل في المعارضة أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها فرع عدم وجود أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وعدم وجوده فرع سقوطه بالمعارضة ، فلا تدخل في المعارضة لذلك ، وبعد المعارضة وسقوط الأصول الترخيصيّة في الإناءين تجري أصالة الطهارة في الثوب بلا معارض.

٣٤٧

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي الثاني ليس منجّزا لنجاسة الثوب.

وهذا التقريب إذا تمّ يجري سواء اقترن العلم بالملاقاة مع العلم بنجاسة أحد المائعين أو تأخّر عنه ، فالتقريب الثاني إذن أوسع جريانا من التقريب الأوّل.

وهذا التقريب يتمّ سواء كان العلم بالملاقاة أو كانت الملاقاة نفسها متقدّمة أم متأخّرة عن العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين ؛ وذلك لأنّ فرض الطوليّة وتوقّف أحد الأصلين على عدم جريان الآخر تتصوّر في كلّ التقادير المفترضة للمسألة. فما دام الأصل الجاري في الثوب لا يدخل في المعارضة ؛ لأنّه في طول الأصل الجاري في الإناء الملاقي معه ، فلا فرق في ذلك بين كون الملاقاة حاصلة قبل العلم أو بعده أو معه ؛ إذ لا يؤثّر هذا شيئا في الطوليّة وعدمها.

وقد يقال : إنّ هناك بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، وذلك فيما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع الأوّل ، ثمّ علم بأنّ الثوب كان قد لاقى المائع الأوّل ، ففي هذه الحالة لا يجري التقريب الأوّل ؛ لأنّ العلم الإجمالي المتقدّم ليس منجّزا لاختلال الركن الثالث فيه كما تقدّم ، فلا يمكن أن يحول دون تنجيز العلم الإجمالي المتأخّر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر الموجود فعلا.

ولا يجري التقريب الثاني ؛ لأنّ الأصل المؤمّن في المائع الأوّل لا معنى له بعد تلفه ، وهذا يعني أنّ الأصل في المائع الآخر له معارض واحد وهو الأصل المؤمّن في الثوب ، فيسقطان بالتعارض.

ثمّ إنّهم ذكروا بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، فيكون الملاقي لأحد الطرفين منجّزا.

منها : ما إذا كان لدينا إناءان وكان الثوب قد لاقى أحدهما المعيّن في الواقع ، ثمّ تلف هذا الإناء الذي لاقى مع الثوب ، وبعد ذلك علمنا إجمالا بنجاسة أحد المائعين هذا الإناء أو الإناء التالف فعلا الملاقي مع الثوب ، وعلمنا أيضا بالملاقاة ، ففي هذه الحالة لا يتمّ كلا التقريبين المتقدّمين :

أمّا التقريب الأوّل : فكان تطبيق فرضيّة العلمين الإجماليّين المشتركين في طرف واحد ، والتي كانت تقتضي بطلان منجّزيّة العلم المتأخّر استنادا إلى كون الطرف

٣٤٨

المشترك متنجّزا بالعلم المتقدّم ، فهذا غير تامّ في المقام ؛ لأنّ العلم المتقدّم ليس منجّزا لطرفيه ؛ وذلك بسبب اختلال الركن الثالث.

أي أنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لا ينجّزهما ؛ وذلك بسبب تلف أحدهما قبل حدوث هذا العلم.

وقد تقدّم سابقا أنّ التلف كالاضطرار إذا حصل قبل العلم الإجمالي فهو يوجب سقوطه عن المنجّزيّة ؛ لاختلال الركن الثالث ، فإنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء التالف ؛ إذ لا موضوع لجريانها فيه ؛ ولأنّه لا أثر فعلا لجريانها فيه ، ولذلك يكون العلم الإجمالي المتأخّر الدائر بين نجاسة الإناء الموجود وبين الثوب الملاقي مع الإناء التالف منجّزا لكلا طرفيه ، ولا مانع من هذه المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في كلا الطرفين ويؤدّي جريانها كذلك إلى التعارض فتتساقط.

وأمّا التقريب الثاني : فكان تطبيق الطوليّة بين الأصلين الجاريين في الإناء والثوب ، وهذا لا يتمّ هنا ؛ لأنّ المفروض أنّ الإناء التالف لا تجري الأصول الترخيصيّة فيه ؛ إذ لا موضوع ولا أثر لجريانها ، وهذا يعني أنّها ساقطة فتجري الأصول الترخيصيّة في الثوب ، وتكون معارضة للأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء الموجود ، ومقتضى التعارض التساقط.

وبكلمة ثانية : إنّ الطوليّة تقتضي عدم جريان المتأخّر مع جريان المتقدّم ، وهنا الأصل المتقدّم ساقط ؛ لأنّه لا موضوع ولا أثر له ، ومع سقوطه لن يكون هناك محذور في جريان الأصل المتأخّر ، ومع جريانه يتعارض مع الأصل في الإناء الآخر فيتساقطان.

ولكنّ الصحيح : أنّ التقريب الثاني يجري في هذه الحالة أيضا ؛ لأنّ تلف المائع الأوّل لا يمنع عن استحقاقه لجريان أصل الطهارة فيه ما دام لطهارته أثر فعلا ، وهو طهارة الثوب ، فأصل الطهارة في المائع الأوّل ثابت في نفسه ويتولّى المعارضة مع الأصل في المائع الآخر في المرتبة السابقة ، ويجري الأصل في الثوب بعد ذلك بلا معارض.

والصحيح في هذه الحالة أن يقال : إنّ التقريب الثاني وهو الطوليّة بين الأصلين يجري.

٣٤٩

وتوضيحه : أنّ الإناء الأوّل الملاقي للثوب والذي تلف سابقا تجري فيه أصالة الطهارة ؛ لأنّه يوجد لجريانها فيه أثر عملي فعلي حتّى مع تلفه ، وإنّما يمنع من جريانها فيه فيما إذا لم يكن لجريانها فائدة ولا أثر لا مطلقا.

وهنا نقول : لو جرت أصالة الطهارة في الإناء الأوّل الملاقي مع الثوب فسوف نحصل على طهارة تعبّديّة للمغسول بالمائع الموجود في هذا الإناء ، ومع هذه الطهارة سوف لا نحتاج إلى إجراء أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها تحصيل للحاصل ، فهناك فائدة إذن وهي الحكم بطهارة المغسول أو الملاقي مع هذا الإناء.

وحينئذ فيكون الأصل الترخيصي في الإناء التالف موجودا ، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأصل الترخيصي في الثوب ؛ لأنّه في طول الأوّل ومتأخّر عنه وفرع عدم وجوده ، وهذا يعني أنّه لا يوجد لدينا إلا أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وهذه معارضة بأصالة الطهارة في الإناء الآخر فيتساقطان ، وبعد سقوطهما تجري أصالة الطهارة في الثوب بلا معارض لتماميّة موضوعها فعلا ، ولعدم المعارض إذ المعارض ساقط في الرتبة السابقة.

٧ ـ الشبهة غير المحصورة :

إذا كثرت أطراف العلم الإجمالي بدرجة كبيرة سمّيت بالشبهة غير المحصورة.

والمشهور بين الأصوليّين سقوطه عن المنجّزية لوجوب الموافقة القطعيّة ، وهناك من ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعيّة.

الحالة السابعة : الشبهة غير المحصورة.

وذلك يكون فيما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرة جدّا كالعلم مثلا بنجاسة إناء من ألف إناء.

فهنا ذهب مشهور الأصوليّين إلى سقوط العلم الإجمالي عن وجوب الموافقة القطعيّة.

وأمّا حرمة المخالفة القطعيّة ، فهناك قولان :

أحدهما : سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لحرمة المخالفة القطعيّة ، فيجوز ارتكاب تمام أطراف العلم الإجمالي.

والآخر : عدم سقوطه عن ذلك فيحرم ارتكاب الجميع.

٣٥٠

أمّا عدم وجوب الموافقة القطعيّة فللإجماع على ذلك ، ولعدم اعتناء العقلاء بمثل هذا الاحتمال ؛ لضعفه بسبب كثرة الأطراف.

ولكن يجب الالتفات هنا إلى أمر وهو :

ويجب أن نفترض عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثير في إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، دون أن ندخل في الحساب ما قد يقارن افتراض الكثرة من أمور أخرى ، كخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

وهنا نكتة وهي أنّنا نتحدّث عن الشبهة غير المحصورة بنفسها ، أي بما تحتمل من الكثرة العدديّة فقط ، فنقول : إنّ هذه الكثرة العدديّة هل توجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أو لا؟ بقطع النظر عن وجود قرائن خارجيّة وأمور أخرى قد توجد مع الكثرة العدديّة من خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ؛ بأن كان بعض هذه الأطراف في بلد آخر أو تحت يد السلطان ، ومن الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، ومن العسر والحرج من ترك الجميع ونحو ذلك.

فمحلّ الكلام إذا هو الكثرة العدديّة فقط ، وهل تكون مؤثّرة في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أو لا؟

وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرّب عدم وجوب الموافقة القطعيّة وجواز اقتحام بعض الأطراف بتقريبين :

وهنا يوجد تقريبان لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بلحاظ الموافقة القطعيّة ، ويكفي أن نستدلّ على عدم حرمة المخالفة في بعض الأطراف فإنّ لازمها عدم وجوب الموافقة أيضا ، ولذلك نقول :

التقريب الأوّل : أنّ هذا الاقتحام مستند إلى المؤمّن وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف المقتحم ، إذ كلّما زادت أطراف العلم الإجمالي تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق على كلّ طرف ، حتّى تصل إلى درجة يوجد على خلافها اطمئنان فعلي.

التقريب الأوّل : دعوى وجود مؤمّن بلحاظ كلّ طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة ، وهذا المؤمّن هو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف يراد ارتكابه ، ومنشأ هذا الاطمئنان هو حساب الاحتمالات.

٣٥١

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا بنجاسة إناء من ضمن آلاف الأواني كعشرة آلاف مثلا ، فهنا رقم اليقين يرمز إليه بواحد ، وهذا الرقم ينقسم بالتساوي على كلّ الأطراف ، فكلّ طرف قيمته الاحتماليّة تساوي ١ / ١٠٠٠٠ من حيث انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وفي المقابل يكون هناك ٩٩٩٩ / ١٠٠٠٠ من حيث عدم الانطباق ، وهذا الرقم يوجب الاطمئنان العرفي في كونه طاهرا.

وهذا الاطمئنان العرفي حجّة ؛ لأنّ العقلاء قد انعقدت سيرتهم على العمل بالاطمئنان ، والشارع قد أمضى هذه السيرة العقلائيّة بسكوته وعدم الردع عنها ، فيكون الاطمئنان العقلائي العرفي حجّة شرعا يجوز التعويل عليه.

وإذا فرضنا الأطراف بنحو من الكثرة تبلغ مئات الآلاف ، كانت القيمة الاحتماليّة للانطباق على كلّ طرف ضئيلة جدّا ممّا يقطع بخلافها ، أو على الأقلّ يوجد هناك اطمئنان فعلي بعدم الانطباق ، وهكذا الحال في كلّ طرف طرف ، فتكون النتيجة جواز ارتكاب جميع الأطراف ؛ لأنّه يطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف طرف يلحظ وحده دون أن يكون منضمّا إلى غيره ، وبالتالي سوف يخالف المعلوم بالإجمال قطعا فيما لو ارتكب جميع الأطراف ، إلا أنّ هذه المخالفة جائزة شرعا بسبب الاطمئنان الموجود فعلا بلحاظ كلّ طرف طرف.

والحاصل : أنّه يطمأنّ بعدم التكليف في كلّ طرف طرف بناء على حساب الاحتمالات ، وهذا لازمه أنّه لا عقاب بلحاظ كلّ طرف طرف ، فمخالفة المعلوم بالإجمال لا عقاب عليها ؛ لأنّه لا تكليف بلحاظ الأطراف نفسها.

وقد استشكل المحقّق العراقي (١) وغيره باستشكالين على هذا التقريب :

أحدهما : محاولة البرهنة على عدم وجود اطمئنان فعلي بهذا النحو ؛ لأنّ الأطراف كلّها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق ، ولو وجدت اطمئنانات فعلّية بهذا النحو في كلّ الأطراف لكان مناقضا للعلم الإجمالي بوجود النجس مثلا في بعضها ؛ لأنّ السالبة الكلّيّة التي تتحصّل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة الجزئيّة التي يكشفها العلم الإجمالي.

ذكر المحقّق العراقي وغيره إشكالين على هذا التقريب هما :

__________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٢٤٢.

٣٥٢

الإشكال الأوّل : بالمنع عن وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف عن أطراف الشبهة غير المحصورة.

وبيانه : أنّ كل طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة يوجد فيه هذا الاطمئنان الفعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه ؛ إذ وجوده في بعض الأطراف فقط ترجيح بلا مرجّح ، وعدم وجوده في شيء منها يعني زوال هذا الاطمئنان ، ولازمه منجّزيّة العلم الإجمالي لكلّ الأطراف ، وهو خلف المفروض ، ولذلك سوف يجري هذا الاطمئنان بكلّ الأطراف ، ونتيجة ذلك عدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ هذه الأطراف ؛ لأنّ ضمّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف إلى سائر الأطراف ينتج الاطمئنان الفعلي بعدم ثبوت المعلوم بالإجمال في شيء من هذه الأطراف بنحو السالبة الكلّيّة ، ومن المعلوم أنّ السالبة الكلّيّة نقيضها الموجبة الجزئيّة ولا يمكن اجتماعهما.

وفي مقامنا حيث ثبت من مجموع الاطمئنانات الفعليّة قضيّة سالبة كلّيّة مفادها :

أنّه لا شيء من هذه الأطراف بنجس ، فسوف يحصل التناقض مع الموجبة الجزئيّة التي مفادها : وجود طرف نجس من بين هذه الأطراف.

وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن إحدى هاتين القضيّتين ، ولمّا كانت الموجبة الجزئيّة معلومة يقينا ، فنرفع اليد عن السالبة الكلّيّة ، فيتحصّل عدم ثبوت الاطمئنانات الفعليّة في كلّ الأطراف ، وثبوت الاطمئنان في بعضها فقط ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطه عنها جميعا.

والجواب على ذلك : أنّ الاطمئنانات المذكورة إذا أدّت بمجموعها إلى الاطمئنان الفعلي بالسالبة الكلّيّة فالمناقضة واضحة ، ولكنّ الصحيح أنّها لا تؤدّي إلى ذلك ، فلا مناقضة.

والجواب عن هذا الإشكال أن نقول : إنّ هذا الإشكال يتمّ فيما لو كان مجموع الاطمئنانات الفعليّة يؤدّي في نهاية الأمر إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة ، وأنّه لا شيء من الإناءات بنجس ، وأمّا لو فرض أنّ هذه الاطمئنانات بمجموعها لا تؤدّي إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة فلا تناقض حينئذ.

وبتعبير آخر : إنّه يوجد نحوان :

٣٥٣

الأوّل : أن يكون الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف وذاك وهكذا سائر الأطراف مؤدّيا إلى الاطمئنان بعدم الانطباق مطلقا ، وأنّه لا شيء من الأواني بنجس.

الثاني : ألاّ يكون الاطمئنان المذكور بمجموعه يؤدّي إلى الاطمئنانات بنحو السالبة الكلّيّة.

وعليه ، فإشكال المحقّق العراقي إنّما يتمّ في النحو الأوّل لا الثاني ، ومقامنا من النحو الثاني لا الأوّل.

إذا فلا تناقض ؛ لأنّنا نفرض الاطمئنان الفعلي بنحو ينسجم مع العلم الإجمالي بوجود نجس في الأطراف كما سيأتي توضيحه.

وقد تقول : كيف لا تؤدّي إلى ذلك؟ أليس الاطمئنان بـ ( ألف ) والاطمئنان بـ ( باء ) يؤدّيان حتما إلى الاطمئنان بمجموع ( الألف والباء )؟ وكقاعدة عامّة أنّ كلّ مجموعة من الإحرازات تؤدّي إلى إحراز مجموعة المتعلّقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الإحراز.

وقد يعترض على ما ذكرناه من وجود نحوين أحدهما يؤدّي إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة ، والآخر لا يؤدّي إلى ذلك ، بأنّه لا يوجد إلا نحو واحد فقط ، وهو أنّ الاطمئنان بعدم وجود النجس في هذا الطرف زائد الاطمئنان بعدم وجود النجس في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف يؤدّي حتما إلى الاطمئنان بعدم وجود النجس في كلّ الأطراف ، أي إلى السالبة الكليّة فتحصل المناقضة حينئذ.

وبشكل عامّ فإنّ كلّ الإحرازات أي الاطمئنانات إذا ضمّت إلى بعضها البعض سوف نحصل على إحراز نهائي مستفاد من مجموع هذه الإحرازات والاطمئنانات ، ومفاده أنّ النتيجة النهائيّة هي حاصل مجموع المقدّمات ، أي يكون الحاصل النهائي نفس مجموع المقدّمات التي أدّت إليه.

فمثلا إنّ ١+ ١ = ٢ أي الحاصل عبارة عن مجموع الشيئين المنضمّين.

وهنا الاطمئنان في هذا الطرف وفي ذاك وهكذا في سائر الأطراف ينتج أنّه كلّ الأطراف يطمأنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، فتحصل المناقضة بين هذه

٣٥٤

السالبة الكلّيّة وبين الموجبة الجزئيّة المعلومة وجدانا بالعلم الإجمالي وهي نجاسة أحد الأطراف.

ونجيب على ذلك :

أوّلا : بالنقض ، وتوضيحه : أنّ من الواضح وجود احتمالات لعدم انطباق المعلوم الإجمالي بعدد أطراف العلم الإجمالي ، وهذه الاحتمالات والشكوك فعليّة بالوجدان ، ولكنّها مع هذا لا تؤدّي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فإذا صحّ أنّ ( ألف ) محتمل فعلا و ( باء ) محتمل فعلا ، ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع ( ألف ) و ( باء ) ، فيصحّ أن يكون كلّ منهما مطمئنّا به ولا يكون المجموع مطمئنّا به.

الجواب الأوّل : نقضي ، ومفاده أنّنا إذا قلنا بعدم وجود اطمئنان فعلي ، كما هو مقتضى الاستشكال الأوّل على أساس أنّ ضمّ الاطمئنان في كلّ طرف إلى الاطمئنان في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف ، سوف ينتج لنا الاطمئنان فعلا بالمجموع ، وأنّه لا شيء من الأطراف ينطبق عليه المعلوم بالإجمال ، وهذا مناقض للعلم الإجمالي بوجود نجاسة في أحدهما.

فهذا الكلام يجري أيضا في الشكّ والاحتمال والذي هو مجرى للأصل المؤمّن على أساس أنّ كلّ طرف يحتمل ألاّ يكون هو المعلوم بالإجمال ، فهو مشكوك النجاسة فنجري فيه البراءة ونحوه من الأصول الترخيصيّة.

فإذا ضمّ هذا الاحتمال والشكّ إلى الاحتمال والشكّ في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف ، سوف ينتج لنا أنّ مجموع هذه الأطراف مشكوكة ، ومن المحتمل عدم انطباق التكليف عليها فنجري البراءة عن الجميع ، وهذا مناقض للعلم الإجمالي.

مع أنّهم يقبلون جريان الأصل المؤمّن بلحاظ كلّ طرف طرف للاحتمال والشكّ الموجودين فعلا بالوجدان ، ولكنّهم مع ذلك لا يقولون بأنّ مجموع الأطراف مشكوك ومحتمل عدم الانطباق ، ولذلك لا يجرون البراءة ونحوها في المجموع من حيث هو مجموع.

وهذا التفصيل بين كلّ طرف طرف وبين المجموع مرجعه بالدقّة إلى أنّ الاحتمال

٣٥٥

الفعلي الموجود في هذا الطرف إذا ضمّ إلى الاحتمال الفعلي في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف لا ينتج لنا الاحتمال الفعلي في المجموع.

ولذلك نقول : إنّ هذا التفصيل إذا تمّ وصحّ هنا فيتمّ ويصحّ أيضا في مقامنا ، بحيث يكون كلّ طرف بنفسه يطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه إلا أنّ المجموع لا يطمأن فيه كذلك ، وإذا لم يتمّ التفصيل في مقامنا فلا يتمّ هناك أيضا ، مع أنّهم يقبلونه هناك ، والحال أنّه لا فرق بين المقامين من حيث كون كلّ واحد منهما إحرازا لوجود متعلّقه ، غاية الأمر الفرق بينهما في درجة هذا الإحراز فقط ، وهذا غير مانع.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّ القاعدة المذكورة إنّما تصدق فيما إذا كان كلّ من الإحرازين يستبطن ـ إضافة إلى إحراز وجود متعلّقه فعلا ـ إحراز وجوده على تقدير وجود متعلّق الإحراز الآخر على نهج القضيّة الشرطيّة ، فمن يطمئنّ بأنّ ( ألف ) موجود حتّى على تقدير وجود ( باء ) أيضا ، وأنّ ( باء ) موجود أيضا حتّى على تقدير وجود ( ألف ) ، فهو مطمئنّ حتما بوجود المجموع.

الجواب الثاني : حلّي ، ومفاده أنّه يوجد لدينا نحوان من الإحراز :

الأوّل : الإحراز الذي يستبطن وجود متعلّقه على جميع التقادير.

والثاني : الإحراز الذي لا يستبطن ذلك ، وإنّما يحرز متعلّقه فعلا على بعض التقادير لا مطلقا.

أمّا الإحراز الأوّل فالمقصود به أن يحرز وجود المتعلّق على نهج القضيّة الشرطيّة ، بمعنى أنّه متى ما تحقّق الإحراز فيتحقّق وجود المتعلّق فعلا على جميع التقادير ، فمثلا إذا أحرز وجود زيد في المسجد وكان إحراز وجوده مستبطنا لوجوده فعلا في المسجد على جميع التقادير سواء كان هناك فرد آخر معه أم لا ، فمثل هذه الإحراز يسمّى بالإحراز المطلق.

وأمّا الإحراز الثاني فالمقصود به أن يحرز وجود المتعلّق على بعض التقادير ، بمعنى أنّه إذا تحقّق أحد التقادير فيكون وجود المتعلّق محرزا ، وأمّا إذا لم يتحقّق فلا يكون وجوده محرزا ، فمثلا إذا أحرز وجود زيد في المسجد على تقدير عدم دخول عمرو إليه للعلم بدخول أحدهما فقط لم يكن وجود زيد في المسجد محرزا حتّى على تقدير دخول عمرو إليه ، ومثل هذا الإحراز يسمّى بالإحراز المشروط.

٣٥٦

وعليه ، فنقول : إنّ قاعدة ضمّ إحراز إلى إحراز آخر يساوي إحراز المجموع ، إنّما تصدق فيما إذا كان الإحراز مطلقا لا مشروطا.

وتوضيحه : أنّنا إذا أحرزنا وجود زيد في المسجد مطلقا وأحرزنا وجود عمرو في المسجد مطلقا أيضا وهكذا سوف نحصل على إحراز بوجود مجموع هذه الأفراد في المسجد ؛ لأنّ كلّ إحراز فيها كان مطلقا ، بمعنى أنّه يثبت وجود متعلّقه على جميع التقادير سواء وجد مع غيره أم لا ، فتكون النتيجة المذكورة واضحة وصحيحة ؛ لأنّ كلّ إحراز كان مستقلاّ عن الإحراز الآخر وغير مرتبط به وجودا أو عدما ، نظير العلم بوجود ألف درهم مع زيد ، والعلم بوجود ألف درهم مع عمرو وهكذا ، فإنّ النتيجة تكون العلم بوجود آلاف الدراهم مع المجموع.

وأمّا إذا أحرزنا وجود زيد في المسجد على تقدير عدم وجود عمرو فيه أو العكس وهكذا في سائر الأطراف ، فهنا سوف لن نحصل على إحراز بوجود المجموع ؛ لأنّ الإحراز في كلّ فرد لم يكن مطلقا ، بل كان مشروطا ومقيّدا بعدم الآخر ، فإحراز المجموع معا يعني عدم تحقّق الشرط في شيء من الأفراد ، فمثلا إذا علمنا إجمالا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا إحراز كون الداخل إلى المسجد هو زيد مشروطا بأن لا يكون الداخل عمرو وهكذا العكس.

ولذلك فيكون إحراز وجود زيد وإحراز وجود عمرو كلّ منهما مشروطا بعدم الآخر ، فهو ثابت على بعض التقادير لا مطلقا ، وليس أحدهما ثابتا بنحو الاستقلال وبقطع النظر عن الآخر ، بل يرتبط صدق كلّ واحد منهما بعدم الآخر. وعليه ، فلا يمكننا إحراز دخول زيد وعمرو إلى المسجد معا بنفس الإحراز الموجود في كلّ منهما أو أزيد منه ، بل إمّا أن يكون إحراز المجموع مساويا لإحراز أحدهما فقط أو أقلّ منه ، ولا يمكن أن يكون إحراز المجموع مساويا لمجموع الإحرازين.

ولتوضيحه أكثر نقول : إنّنا إذا علمنا بدخول أحد الفردين زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا رقم اليقين عبارة عن واحد وهذا يوزّع بالتساوي على الاحتمالات الموجودة ، وهي أربعة :

إمّا أن يكون الداخل إلى المسجد زيد فهذا قيمته الاحتمالية أو الإحرازيّة عبارة عن ١ / ٤.

٣٥٧

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد عمرو ، وهذا قيمته الإحرازيّة ١ / ٤ أيضا.

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد كلاهما ، وهذا قيمته الإحرازيّة ١ / ٤ أيضا.

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد لا زيد لا عمرو ، وهذا قيمته الإحرازيّة ١ / ٤ أيضا.

إلا أنّ الاحتمال الأخير ساقط للعلم إجمالا بدخول أحدهما ، فهذه القيمة الإحرازيّة أي ( ١ / ٤ ) سوف توزّع بالتساوي على الاحتمالات الثلاثة الأولى فتكون القيمة في كلّ منها ( ١ / ٣ ).

وهنا القيمة الإحرازيّة لدخول زيد هي ( ١ / ٣ ) إذا ضمّت إليها القيمة الإحرازيّة لدخول عمرو وهي ( ١ / ٣ ) لا ينتج لنا أنّ القيمة الاحتماليّة لدخولهما إلى المسجد هي ( ٢ / ٣ ) بل هي ( ١ / ٣ ) أيضا.

والوجه في ذلك أنّ القيمة الإحرازيّة في كلّ من الفردين لم تكن ثابتة مطلقا وعلى جميع التقادير ، بل على تقدير عدم دخول الآخر.

إذا اتّضح ذلك نقول في مقامنا :

وفي المقام : الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أيّ طرف وإن كان موجودا فعلا ، ولكنّه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتّى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر.

والسبب في ذلك : أنّ هذا الاطمئنان إنّما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في الأطراف الأخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف ، فتلك الاحتمالات إذن هي الأساس في تكوّن الاطمئنان ، فلا مبرّر إذن للاطمئنان بعدم الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر ؛ لأنّ هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الأساس في تكوّن الاطمئنان بعدم الانطباق.

توضيح الجواب الحلّي : أنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف ليس من الاطمئنان المطلق ، بل من الاطمئنان المشروط ؛ وذلك لأنّنا إنّما نطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال في الأطراف الأخرى كمجموع ، إذ لو كنّا نطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال

٣٥٨

على سائر الأطراف لم يحصل لنا اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف.

فالاطمئنان الفعلي في هذا الطرف مشروط بأن لا يطمأنّ فعلا بعدم الانطباق في مجموع الأطراف الأخرى. وليس هذا الاطمئنان الفعلي مطلقا سواء حصل اطمئنان بعدم الانطباق في سائر الأطراف أم لم يحصل.

والوجه في كون الاطمئنان هنا مشروطا لا مطلقا هو : أنّ هذا الاطمئنان منشؤه وسببه هو حساب الاحتمالات ؛ لأنّنا لو فرضنا وجود مئات الآلاف من الأطراف فسوف تكون النسبة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف بالذات نسبة ضئيلة جدّا لا يعتنى بها عرفا ، بل تزول بنظر العرف وإن كانت لا تزال موجودة بالدقّة ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى سوف نحصل على شبه إجماع أو إجماع على نفي احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف ؛ لأنّ القيمة الاحتماليّة لوجوده فيه ضئيلة بينما القيمة الاحتماليّة لعدم وجوده فيه ، وبالتالي لوجوده في سائر الأطراف قيمة عالية جدا قريبة من القطع.

والحاصل : أنّ القيم الاحتماليّة ضآلة أو كثرة هي الملاك ؛ لكون المعلوم بالإجمال منطبقا على سائر الأطراف كمجموع ، وغير منطبق على كلّ طرف بلحاظ ذاته.

وعلى هذا نقول : إنّنا إذا أخذنا كلّ طرف لوحده فيحصل لنا اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، إلا أنّ هذا الاطمئنان ليس ثابتا مطلقا ، بل بتقدير انطباق المعلوم بالإجمال على سائر الأطراف.

ولو فرض أنّ هذا الاطمئنان ثابت فعلا ومطلق على جميع التقادير سواء كان المعلوم بالإجمال منطبقا على سائر الأطراف أم لا لكانت النتيجة كما ذكر في الإشكال ، إلا أنّ هذا يفترض أنّ الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق في هذا الطرف ليس منشؤه بحساب الاحتمالات وإجماع القيم الاحتماليّة في سائر الأطراف على نفي الانطباق على هذا الطرف ، وهو خلف المفروض.

وبتعبير آخر : لو كان عدم الانطباق في هذا الطرف يجتمع مع عدم الانطباق في كلّ طرف من الأطراف الأخرى لكان معناه أنّنا نعلم بأنّ بعض هذه الأطراف كاذبة

٣٥٩

وغير صحيحة ؛ لأنّه يوجد فيها طرف ينطبق عليه المعلوم بالإجمال وحيث نعلم ببطلان أحدها ، وحيث إنّه غير مشخّص بحيث يحتمل كلّ طرف أن يكون هو الكاذب ، فهذا يعني أنّ القيم الاحتماليّة في كلّ الأطراف والتي هي الأساس والملاك لحصول الاطمئنان الفعلي يعلم ببطلان بعضها ، وهذا الاحتمال يصلح للانطباق على كلّ فرد منها فيحصل التعارض بين احتمال كذبه وخطأه وبين احتمال عدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن أن يجتمع الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف بعدم الانطباق عليه مع الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق بلحاظ كلّ طرف طرف من مجموع الأطراف ، فلا يكون ثابتا على جميع التقادير ، بل على تقدير كون المعلوم بالإجمال موجودا في مجموع الأطراف الأخرى ، وهذا يعني الاطمئنان المشروط والذي لا ينتج الاطمئنان الفعلي بالمجموع كما تقدّم.

وأمّا الاستشكال الآخر :

فيتّجه ـ بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور ـ إلى أنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لمّا كان موجودا في كلّ طرف فالاطمئنانات معارضة في الحجّيّة والمعذّريّة للعلم الإجمالي بأنّ بعضها كاذب ، والتعارض يؤدّي إلى سقوط الحجّيّة عن جميع الاطمئنانات.

الإشكال الثاني : أنّنا لو سلّمنا وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف طرف ، وأنّ هذا لا يوجب الاطمئنان الفعلي بالمجموع ؛ لأنّ كلّ اطمئنان مشروط وليس مطلقا كما تقدّم تفصيله ، إلا أنّنا نقول : إنّ مثل هذا الاطمئنان ليس حجّة فلا يكون معذّرا في مقامنا ولا يكون مجوّزا للاقتحام والمخالفة ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بانطباق المعلوم بالإجمال على أحد هذه الأطراف.

وحيث إنّ الاطمئنان بعدم الانطباق يجري فعلا في كلّ طرف ، فهذا يعني أنّ بعض هذه الاطمئنانات غير صحيح ، وهذا البعض يحتمل انطباقه على كلّ طرف طرف ؛ إذ لا ترجيح لأحدها على الآخر ولا يمكن إلغاؤه أبدا للعلم به. فيتعيّن سقوط الاطمئنانات الفعليّة جميعا عن الحجّيّة والمعذّريّة بسبب هذا العلم الإجمالي ، إذ تطبيق المعلوم بالإجمال على هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجّح ، وعدم تطبيقه على

٣٦٠