شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

استحباب الاحتياط

١٦١
١٦٢

استحباب الاحتياط

عرفنا سابقا (١) عدم وجوب الاحتياط ، ولكنّ ذلك لا يحول دون القول بمطلوبيته شرعا واستحبابه ؛ لما ورد في الروايات (٢) من الترغيب فيه ، والكلام في ذلك يقع في نقطتين :

بعد أن عرفنا عدم وجوب الاحتياط شرعا في الشبهات البدوية ؛ لعدم تماميّة أدلّته سندا أو دلالة أو لمعارضتها بأدلّة البراءة التي كانت أقوى منها وأرجح كما تقدّم ، نبحث حول حسن الاحتياط عقلا واستحبابه شرعا.

فنقول : لا إشكال في أنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط في الشبهات البدويّة ، كما أنّ الصحيح استحباب الاحتياط شرعا ؛ لأنّ ما دلّ على وجوب الاحتياط من الآيات والروايات تدلّ بالالتزام على كونه مطلوبا وراجحا ، وحيث إنّ المدلول المطابقي لهذه الأدلّة قد سقط فيبقى المدلول الالتزامي ، بل بعض الروايات كما قلنا ظاهرة في الترغيب والحثّ على الاحتياط ، وهو يفيد الرجحان وأصل المطلوبيّة ، ولأجل استيعاب البحث يقع الكلام في نقطتين :

الأولى : في إمكان جعل الاستحباب المولوي على الاحتياط ثبوتا ، إذ قد يقال بعدم إمكانه فيتعيّن حمل الأمر بالاحتياط على الإرشاد إلى حسنه عقلا ؛ وذلك لوجهين :

النقطة الأولى : في إمكانيّة جعل الاستحباب الشرعي المولوي للاحتياط ثبوتا ، أي في أصل معقوليّة جعل مثل هذا الاستحباب النفسي للاحتياط في عالم الجعل والتشريع ، إذ يقال ـ كما عن مدرسة الميرزا ـ : إنّ جعل الاستحباب الشرعي له

__________________

(١) ضمن أدلّة البراءة من الكتاب والسنّة.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢.

١٦٣

مستحيل ، فلا بدّ أن تكون هذه الأدلّة الشرعيّة إرشاديّة إلى حكم العقل بحسن الاحتياط ، ولا يمكن أن يحمل على ما هو الظاهر منها من كونها أحكاما تأسيسيّة ومولويّة ، والوجه في الاستحالة أمران :

الأوّل : أنّه لغو ؛ لأنّه إن أريد باستحباب الاحتياط الإلزام به فهو غير معقول ، وإن أريد إيجاد محرّك غير إلزاميّ نحوه فهذا حاصل بدون جعل الاستحباب ؛ إذ يكفي فيه نفس التكليف الواقعي المشكوك بضمّ استقلال العقل بحسن الاحتياط واستحقاق الثواب عليه ، فإنّه محرّك بمرتبة غير إلزاميّة.

الوجه الأوّل : أنّ جعل الاستحباب الشرعي للاحتياط لغو ؛ وذلك لأنّه إن أريد من جعل الاستحباب له كون الاحتياط لازما وواجبا فهو غير معقول في نفسه ، إذ المفروض كونه مستحبّا فكيف يلزم المكلّف به؟!

وإن أريد باستحبابه كونه محرّكا للمكلّف نحو الفعل لا على وجه اللزوم فهذا وإن كان معقولا في نفسه ولكنّه لغو أيضا ؛ لأنّ المحرّك نحو الفعل ثابت بحكم العقل القاضي بحسنه ، فيكون جعل المحرّك مع وجوده تحصيلا للحاصل ، بل المحرّكيّة ثابتة بنفس احتمال التكليف الواقعي المشكوك حفاظا على مصلحة الواقع على تقدير ثبوتها ، وفرارا من الوقوع في المفسدة أو فوات المصلحة على تقدير ثبوت التكليف واقعا.

فإنّ العقل هنا يحكم بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب على ذلك عقلا ، ولو من باب الانقياد. فالمحرّك غير الإلزامي إذا موجود بحكم العقل فلا معنى لإيجاده ، فتكون الأدلّة محمولة على الإرشاد لما حكم به العقل.

الثاني : أنّ حسن الاحتياط كحسن الطاعة وقبح المعصية واقع في مرحلة متأخّرة عن الحكم الشرعي ، وقد تقدّم المسلك القائل بأنّ الحسن والقبح الواقعيّين في هذه المرحلة لا يستتبعان حكما شرعيّا.

الوجه الثاني : ما أفاده الميرزا بناء على مسلكه في مسألة الحسن والقبح العقليّين والملازمة بينهما وبين حكم الشارع ، حيث قال : إنّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع إنّما تكون فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد ، لا فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة معلولات الأحكام.

١٦٤

وتوضيح ذلك : أنّ حكم العقل بحسن الصدق والعدل وقبح الظلم والكذب ممّا يستقلّ العقل به ؛ لأنّه يدرك المصلحة الموجودة في الصدق والعدل والأمانة من جميع الجهات ويحكم بحسنها ، ويدرك المفسدة في الظلم والكذب والخيانة ويحكم بقبحها.

وهذا يعني أنّ المصلحة والمفسدة ثابتتان ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بالوجوب في موارد المصلحة وبالحرمة في موارد المفسدة ؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، والمفروض أنّها ثابتة لإدراك العقل لها ، فمثل هذا الحكم العقلي يستلزم الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة علل الأحكام أي أنّه ينقّح العلّة للحكم بالوجوب ، وهي المصلحة وينقّح العلّة للحكم بالحرمة وهي المفسدة.

وأمّا الحكم العقلي بحسن الطاعة وقبح المعصية فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، بمعنى أنّ العقل إنّما يحكم بحسن الطاعة بعد فرض ثبوت حكم شرعي بالوجوب في مرحلة سابقة ، وهكذا لحكمه بقبح المعصية فإنّه مرتبط بثبوت حكم شرعي بالحرمة أوّلا.

فإذا كان هناك وجوب للصلاة حكم العقل بحسن الطاعة والامتثال ، وإذا كان هناك حرمة لشرب الخمر حكم العقل بقبح المخالفة والعصيان ، إلا أنّ حكم العقل هذا لا يلزم منه وجود حكم شرعي آخر بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ؛ لأنّ هذا الحكم الشرعي بدوره سوف يحكم العقل بحسن إطاعته وقبح معصيته فيلزم ثبوت حكم شرعي على وفقهما وهكذا ، فيلزم التسلسل المستحيل.

وبهذا ظهر أنّ الحكم العقلي إذا كان واقعا في سلسلة علل الأحكام فهناك ملازمة بينه وبين حكم الشارع على طبقه ، وإن كان واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لاستلزامه التسلسل الباطل.

ومقامنا من قبيل الثاني ؛ لأنّ حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ، إذ حكم العقل بالاحتياط فرع ثبوت حكم شرعي في مرحلة سابقة واقعا ، فهذا الحكم العقلي معلول لوجود الحكم الشرعي ، وليس علّة له ، وحينئذ يستحيل أن يحكم الشارع باستحباب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الحكم سوف يستتبعه حكم عقلي آخر وهو يستلزم حكم شرعي وهكذا يتسلسل.

١٦٥

وكلا الوجهين غير صحيح.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط إمّا أن يكون نفسيّا لملاك وراء ملاكات الأحكام المحتاط بلحاظها ، وإمّا أن يكون طريقيّا بملاك التحفّظ على تلك الأحكام ، وعلى كلا التقديرين لا لغويّة.

أمّا على النفسيّة فلأنّ محرّكيّته مغايرة سنخا لمحرّكيّة الواقع المشكوك فتتأكّد إحداهما بالأخرى ، وأمّا على الطريقيّة فلأنّ مرجعه حينئذ إلى إبراز مرتبة من اهتمام المولى بالتحفّظ على الملاكات الواقعيّة في مقابل إبراز نفي هذه المرتبة من الاهتمام أيضا ، ومن الواضح أنّ درجة محرّكيّة الواقع المشكوك تابعة لما يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به.

أمّا الوجه الأوّل فجوابه : أنّنا نختار الشقّ الثاني وهو كون المراد بجعل الاستحباب للاحتياط إيجاد محرّك غير لزومي ، ولا محذور فيه وليس تحصيلا للحاصل.

وذلك لأنّ هذا الاستحباب المولوي إمّا أن يكون بملاك نفسي ، أي ناشئ من مصلحة وملاك في نفس الاحتياط هي التي دعت الشارع للحكم باستحبابه زائدا على الملاكات الواقعيّة للأحكام الإلزاميّة المشكوكة ، فهنا لن يكون هناك لغويّة وتحصيل الحاصل ؛ وذلك لأنّ الاحتياط الثابت بحكم العقل إنّما هو الاحتياط بملاك نفس الأحكام الواقعيّة الإلزاميّة ، أي نفس الحكم الواقعي الإلزامي المشكوك كان هو المحرّك للمكلّف نحو الإتيان به من أجل عدم الوقوع في المفسدة الواقعيّة ، أو لإدراك المصلحة الواقعيّة الموجودتين في الحكم المشكوك على تقدير ثبوته.

وأمّا الاحتياط الثابت بحكم الشارع فهو ناشئ من ملاكات خاصّة بالاحتياط ، أي أنّها ناشئة من وجود مصلحة في نفس العمل بالاحتياط.

كما في مثل قوله : « من ترك الشبهات كان لما استبان أترك » أي أنّ المصلحة في الاحتياط هي تدريب المكلّف على ترك المحرّمات المعلومة ؛ لأنّه إذا ترك الشبهات الإلزاميّة مع كونها مشكوكة سوف يترك المحرّمات المعلومة أيضا ؛ لصيرورة الترك من عادته وسجيّته ، فالمحرّكيّة الموجودة غير المحرّكيّة الثابتة شرعا من حيث الملاك ، فتكون الثانية مؤكّدة للأولى فلا لغويّة.

١٦٦

وإمّا أن يكون بملاك طريقي أي يكون ناشئا من مصلحة الواقع ، فمبادؤه نفس مبادئ الحكم الواقعي المشكوك وليس زائدا عليه ، فهو حكم ظاهري طريقي يجعله الشارع في مقام الشكّ وعدم التمييز للملاكات الواقعيّة عند اشتباه المكلّف وعدم قدرته على التمييز.

وهنا لا يكون جعل الاحتياط لغوا ؛ لأنّه لا يراد به إيجاد محرّكيّة ثابتة زائدا عن المحرّكيّة الثابتة بحكم العقل ، إذ لا محرّكيّة إلا للملاكات الواقعيّة للأحكام المشكوكة ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

وإنّما يراد بهذا الحكم الطريقي إبراز الاهتمام المولوي في التحفّظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة ، كما تقدّم مفصّلا في الحديث عن حقيقة الحكم الظاهري ؛ لأنّ المولى عند شكّ المكلّف إمّا أن تكون ملاكات الإلزام هي الأهمّ بنظره ، وإمّا أن تكون ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، فإن كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ فسوف يصدر حكما ظاهريّا طريقيّا يبرز فيه ذلك وهذا يكون بالاحتياط ، وإن كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ أصدر ترخيصا ظاهريّا طريقيّا.

فإذا كان ثبوت مثل هذا الاحتياط الظاهري الطريقي شرعا من أجل إبراز أنّ المولى يهتمّ بالملاكات الإلزاميّة في مقابل نفي اهتمامه بالملاكات الترخيصيّة.

وحينئذ سوف يكون مثل هذا الاحتياط الطريقي فيه مزيد من التأكيد على حسن الاحتياط ، ومزيد من التحريك أيضا ؛ لأنّ المكلّف صار يعلم بأنّ المولى يهتمّ بالحفاظ على الملاكات الواقعيّة للإلزام أيضا ، مضافا إلى اهتمام العقل بها.

وهكذا ظهر أنّه لا لغويّة في جعل الاحتياط المولوي سواء الطريقي أم النفسي.

وأمّا الوجه الثاني : فلو سلّم المسلك المشار إليه فيه لا ينفع في المقام ، إذ ليس المقصود استكشاف الاستحباب الشرعي بقانون الملازمة واستتباع الحسن العقلي للطلب الشرعي ليردّ ما قيل ، بل هو ثابت بدليله ، وإنّما الكلام عن المحذور المانع من ثبوته. ولهذا فإنّ متعلّق الاستحباب عبارة عن تجنّب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن بقصد قربي ، والعقل إنّما يستقلّ بحسن التجنّب الانقيادي والقربي خاصّة.

وأمّا الوجه الثاني فجوابه :

أوّلا : إنكار المسلك الذي يدّعيه الميرزا ، مضافا إلى إنكار كبرى الملازمة بين ما

١٦٧

حكم به العقل وبين حكم الشارع على طبقه ، بل قد يحكم وقد لا يحكم.

وثانيا : لو سلّم المبنى الذي ذكره الميرزا فلا يتمّ ما ذكره فيه بالنسبة للاحتياط ؛ لأنّنا لو قلنا : إنّه توجد ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فيما إذا كان حكم العقل واقعا في سلسلة العلل لا المعلولات ، فهذا تطبيقه على محلّ بحثنا غير صحيح ؛ لأنّنا لا نريد أن نثبت استحباب الاحتياط شرعا اعتمادا على الملازمة المذكورة ، أي بين حسن الشيء عقلا واستحبابه شرعا ليشكل الميرزا بما ذكره. وإنّما الاحتياط الشرعي ثابت استحبابه لقيام الدليل الخاصّ عليه.

وإنّما نريد أن نتساءل أنّه هل يوجد محذور ومانع عقلي من ثبوت الاستحباب الشرعي للاحتياط أو لا؟ أي أنّنا بعد الفراغ من ثبوت استحبابه شرعا لقيام الدليل عليه نريد أن نبحث في وجود المانع وعدمه ، فما ذكره الميرزا خارج عن محلّ بحثنا.

ويدلّ على ذلك : أنّنا لو كنّا نريد اثبات استحباب الاحتياط الشرعي على أساس الملازمة بين العقل والشرع لكان اللازم كون الاحتياط ثابتا فيما إذا أتي به بداعي التقرّب لله عزّ وجلّ فقط ؛ لأنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط والتجنّب عن مخالفة الواقع المشكوك من باب الانقياد لله تعالى.

والمفروض أنّ الاحتياط الثابت شرعا بأدلّته الخاصّة ثابت مطلقا سواء أتى المكلّف به من باب الانقياد والتقرّب أم لا ؛ لأنّ أدلّته مطلقة تشمل كلا الأمرين ؛ لأنّها تجعل الاستحباب إمّا لنفس الاحتياط بملاكات خاصّة ، وإمّا للاحتياط بملاك المحافظة على الواقع المشكوك مطلقا من دون تقييد ذلك بداعي التقرّب وغيره.

النقطة الثانية : أنّ الاحتياط متى ما أمكن فهو مستحبّ كما عرفت ، ولكن قد ويقع البحث في إمكانه في بعض الموارد.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا احتمل كون فعل ما واجبا عباديّا ، فإن كانت أصل مطلوبيّته معلومة أمكن الاحتياط بالإتيان به بقصد الأمر المعلوم تعلّقه به ، وإن لم يعلم كونه وجوبا أو استحبابا فإنّ هذا يكفي في وقوع الفعل عباديّا وقربيّا.

النقطة الثانية : بعد أن ثبت كون الاحتياط مستحبّا شرعا وحسنا عقلا ، يقع البحث في أنّ استحباب الاحتياط لا إشكال في وقوعه في الواجبات التوصّليّة ، وأمّا الواجبات العباديّة فيشكل الاحتياط فيها ، فهنا مطلبان :

١٦٨

الأوّل : أنّ الاحتياط في التوصّليّات ممكن كما لو شكّ في أنّه مدين بعشرة أو تسعة ، فيمكنه الاحتياط وأداء الدين بالعشرة مع جواز اقتصاره على التسعة فقط ؛ لجريان البراءة عن الزائد ؛ لأنّه شكّ في التكليف.

الثاني : قد يقال : إنّ الاحتياط في العبادات مستحيل وممتنع ؛ وذلك لأنّه يشترط فيها نيّة التقرّب لله عزّ وجلّ بالعمل أو الترك ، وهذا لا يتمّ إلا إذا كان الفعل أو الترك معلوما وجهه من كونه واجبا أو مستحبّا أو حراما أو مكروها.

وتفصيل الحال أن يقال : إنّ مورد الاحتياط والذي هو أمر عبادي إن علم أصل مطلوبيّته وشكّ في وجه المطلوبيّة فيمكن الإتيان به بنيّة الأمر المعلوم وهو أصل المطلوبيّة من دون قصد للوجه ؛ إذ لا يلزم ذكر الوجه في نيّة القربة وعلى تقدير لزومها فهي واجبة عند القدرة عليها.

وهنا لا يعلم بالوجه فلا يكلّف بها وإلا لكان تكليف بغير المقدور ، وعلى هذا فإذا شكّ في وجوب صلاة الجمعة واستحبابها أو وجوب غسل الجمعة واستحبابه أمكنه الاحتياط بالإتيان بالفعل بقصد المطلوبيّة ؛ لأنّها معلومة وهي تكفي في نيّة التقرّب حيث لا يتمكّن من نيّة الوجه للجهل بها ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا إذا جهل بالمطلوبيّة فقد يقال بالمنع من الاحتياط ، ولذلك قال :

وأمّا إذا كانت أصل مطلوبيّته غير معلومة فقد يستشكل في إمكان الاحتياط حينئذ ؛ لأنّه إن أتى به بلا قصد قربيّ فهو لغو جزما ، وإن أتى به بقصد امتثال الأمر فهذا يستبطن افتراض الأمر والبناء على وجوده ، مع أنّ المكلّف شاكّ فيه ، وهو تشريع محرّم ، فلا يقع الفعل عبادة لتحصل به موافقة التكليف الواقعي المشكوك.

وأمّا إذا كانت المطلوبيّة مجهولة بأن دار الأمر بين الوجوب والإباحة أو الاستحباب والإباحة ، فهنا لا يعلم بأصل المطلوبيّة ؛ لأنّها ثابتة على أحد التقديرين فقط ، بخلاف الفرض السابق فإنّ المطلوبيّة معلومة سواء كان واجبا أم مستحبّا ، فهنا قد يستشكل بالاحتياط في مثل هذا المورد ، بل يمنع من الاحتياط فيه ؛ وذلك لأنّه إن أراد الإتيان بالعمل من دون قصد القربي أصلا فلا يتحقّق الفعل العبادي ؛ لأنّ نيّة القربة شرط فيه فيكون الأمر بالاحتياط بهذا القصد لغوا ؛ إذ لن يحصل به المطلوب

١٦٩

وهو الحفاظ على مصلحة الواقع ؛ لأنّ الواقع على تقدير ثبوته فهو ممّا لا يتأتّى إلا بقصد القربة لا مطلقا.

وإن أراد الإتيان بالعمل بقصد امتثال الأمر العبادي الذي هو معنى نيّة القربة فهذا فرع ثبوت الأمر في مرتبة سابقة ليقصد امتثاله ، فإنّ الامتثال متأخّر عن الأمر ، والمفروض أنّ الأمر غير معلوم بل مشكوك فيلزم الخلف ؛ لأنّ امتثال الأمر متوقّف على ثبوت الأمر أوّلا ، والمفروض أنّه مجهول ، هذا أوّلا.

وثانيا أنّ الإتيان بالفعل المشكوك أصل مطلوبيّته بنيّة القربى وامتثال الأمر يكون تشريعا محرّما ؛ لأنّه من إسناد شيء إلى الشارع من دون علم.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن الاحتياط في مثل هذا المورد ؛ لأنّ الفعل لا يمكن أن يقع عبادة مع أنّ المطلوب أن يقع عبادة لتحصل به الموافقة للتكليف الواقعي المشكوك بالاحتياط.

وبتعبير آخر : إنّ المطلوب لا يحصل بالاحتياط وما يحصل به ليس هو المطلوب ، فيكون جعل الاحتياط حينئذ لغوا باطلا أو تشريعا محرّما.

وقد يجاب على ذلك بوجود أمر معلوم وهو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، فيقصد المكلّف امتثال هذا الأمر.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ نيّة القربة يمكن الإتيان بها ؛ وذلك لثبوت الأمر الشرعي في مرحلة سابقة فيمكن للمكلّف أن يتقرّب بالعمل المحتاط فيه بقصد امتثال هذا الأمر المعلوم ثبوته.

وهذا الأمر المعلوم الثبوت ليس هو الأمر بهذا الفعل المحتاط فيه ؛ إذ المفروض الشكّ في ذلك ، وإنّما هذا الأمر هو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، كما تقدّم في النقطة الأولى حيث أثبتنا فيها أنّ الاستحباب الشرعي ممكن جعله للاحتياط ، وهو إمّا استحباب نفسي أو طريقي.

وحيث إنّ الاحتياط مطلوب شرعا فيمكن المكلّف الإتيان بالفعل قاصدا بذلك امتثال الأمر الشرعي ، والمطلوبيّة الثابتة شرعا للاحتياط لا لنفس الفعل المحتاط فيه ، وبهذا تتحقّق نيّة القربة ؛ إذ يكفي فيه قصد امتثال الأمر الشرعي حين الإتيان بالعمل ؛ لأنّ المقصود هو قصد مطلق الأمر المنطبق على هذا المورد أيضا.

١٧٠

وكون الأمر بالاحتياط توصّليّا ( لا تتوقّف موافقته على قصد امتثاله ) لا ينافي ذلك ؛ لأنّ ضرورة قصد امتثاله في باب العبادات لم تنشأ من ناحية عباديّة نفس الأمر بالاحتياط ، بل من عباديّة ما يحتاط فيه.

فإن قيل : إنّ الأمر بالاحتياط من الأمور التوصّليّة التي لا يشترط فيها الإتيان بالمأمور به بقصد امتثال الأمر ، وحينئذ كيف يقال بأنّه يكفي في تحقّق قصد القربة أن يقصد امتثال الأمر الاستحبابي ، فإنّه ليس أمرا عباديّا بل هو أمر توصّلي ، فتحقّق العبادة فيه خلف المفروض من كونه توصّليّا ، إذ كيف ينشأ من الأمر التوصّلي أمر عبادي؟

كان الجواب : أنّه لا منافاة بين كون الأمر بالاحتياط من الأمور التوصّليّة وبين تحقّق قصد القربة حين الإتيان بالعمل بقصد امتثال هذا الأمر الاستحبابي المجعول للاحتياط ؛ وذلك لأنّنا لا نريد أن نقول : إنّ العباديّة نشأت من نفس الأمر الاستحبابي ليلزم الإشكال المحذور من أنّه توصّلي ، فكيف يصير عباديّا؟

بل نريد أن نقول : إنّ العباديّة تنشأ من الفعل المحتاط فيه حين قصد الأمر الاستحبابي للاحتياط بحيث يكون هذا الفعل مع ضمّ قصد امتثال الأمر بالاستحباب للاحتياط من الأمور العباديّة ؛ لأنّه يكفي في تحقّق القصد الإتيان بالفعل مع مطلق قصد امتثال الأمر حتّى لو كان الأمر توصّليّا لا عباديّا.

والحاصل : أنّ قصد الأمر بالاحتياط يصيّر العمل المحتاط فيه عباديّا مع كون نفس الأمر بالاحتياط توصّليّا ولم يتغيّر بلحاظ نفسه.

ولكنّ التحقيق عدم الحاجة إلى هذا الجواب ؛ لأنّ التحرّك عن احتمال الأمر بنفسه قربي كالتحرّك عن الأمر المعلوم ، فلا يتوقّف وقوع الفعل عبادة على افتراض أمر معلوم ، بل يكفي الإتيان به رجاء.

والتحقيق في المسألة : أنّ أصل المبنى في عباديّة الواجبات غير ما ذكر هنا على ما هو المحقّق سابقا ؛ وذلك لأنّ المراد من قصد القربة ليس هو قصد امتثال الأمر المعلوم ، بل الأعمّ منه ومن قصد امتثال الأمر المحتمل أيضا ؛ لأنّ صحّة العبادة يكفي فيها مطلق الداعي القربي سواء كان معلوما أم محتملا ، فكما أنّ الإخلاص يتحقّق بالانبعاث والتحرّك نحو الأمر المعلوم كذلك يتحقّق الإخلاص والانبعاث نحو الأمر

١٧١

المحتمل ثبوته ، بأن يقصد هذا الأمر على افتراض ثبوته ورجاء كونه مطلوبا شرعا.

وهنا يمكننا الإتيان بالفعل المشكوك بقصد الأمر المحتمل ثبوته فيه رجاء أن يكون ثابتا ومطلوبا ، فإنّ هذا المقدار يكفي لتحقّق الإخلاص والانبعاث بداع قربي.

وبهذا ينحلّ أصل الإشكال ولا نحتاج إلى الجواب المذكور هنا ولا إلى غيره أيضا.

* * *

١٧٢

٢ ـ الوظيفة

في حالة العلم الإجمالي

١ ـ قاعدة منجزية العلم الإجمالي ٢ ـ أركان منجزية العلم الإجمالي ٣ ـ تطبيقات منجزية العلم الإجمالي كلّ ما تقدّم كان في تحديد الوظيفة العمليّة في حالات الشكّ البدوي.

والآن نتكلّم عن الشكّ في حالات العلم الإجمالي.

والبحث حول ذلك يقع في ثلاثة فصول :

الأوّل : في أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.

الثاني : في أركان هذه القاعدة.

الثالث : في بعض تطبيقاتها كما يأتي تباعا إن شاء الله تعالى.

١٧٣
١٧٤

قاعدة

منجّزيّة العلم الإجمالي

١٧٥
١٧٦

١ ـ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي

والكلام في هذه القاعدة يقع في ثلاثة أمور :

الأمر الأوّل : في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي ، ومقدار هذه المنجّزيّة بقطع النظر عن الأصول الشرعيّة المؤمّنة.

الأمر الثاني : في جريان الأصول في جميع أطراف العلم الإجمالي وعدمه ثبوتا أو إثباتا.

الأمر الثالث : في جريانها في بعض الأطراف.

أمّا البحث عن أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي ، فيقع في ثلاثة أمور :

الأمر الأوّل : في أنّ العلم الإجمالي منجّز أو لا ، وما هو الوجه في هذه المنجّزيّة؟ وما هو المقدار الذي يتنجّز بالعلم الإجمالي هل هو خصوص الجامع أو كلّ الأطراف أو بعض الأطراف؟

وهذا البحث مرتبط بنفس العلم الإجمالي بقطع النظر عن جريان الأصول الترخيصيّة في أطرافه كلاّ أو بعضا أو عدم جريانه فيها كذلك ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته كيف ينجّز وما هو المقدار الذي ينجّزه؟

الأمر الثاني : في أنّ الأصول الترخيصيّة هل يمكن أن تجري في جميع أطراف العلم الإجمالي ، أو لا يمكن؟

وهذا البحث تارة يبحث فيه ثبوتا وأخرى إثباتا ، أي هل هناك مانع عقلي من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف أو ليس هناك مانع عقلي؟ وبعد الفراغ عن عدم وجود المانع العقلي يبحث في أنّه هل هناك مانع إثباتي من جريانها أو ليس هناك مانع؟

الأمر الثالث : إذا أثبتنا وجود المانع من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ أطراف

١٧٧

العلم الإجمالي إمّا في مقام الثبوت أو في مقام الإثبات ، نبحث في إمكانيّة جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف فقط وعدمها ، بمعنى أنّه هل يوجد مانع من جريانها في بعض الأطراف أو ليس هناك مانع؟

ومرجع البحث في الأمرين الأخيرين إلى مدى مانعيّة العلم الإجمالي بذاته ، أو بتنجيزه عن جريان الأصول بإيجاد محذور ثبوتيّ أو إثباتيّ يحول دون جريانها في الأطراف كلاّ أو بعضا ، وسنبحث هذه الأمور الثلاثة تباعا.

أمّا الأمر الأوّل فهو بحث حول كيفيّة كون العلم الإجمالي منجّزا للواقعة المشكوكة ، وأنّه هل يكون علّة للتنجيز بذاته أو يكون مقتضيا لذلك ، وبالتالي يكون موقوفا على عدم المانع من هذه المنجّزيّة؟

وأمّا الأمران الثاني والثالث فهما مرتبطان بمدى مانعيّة العلم الإجمالي عن جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف أو في بعض الأطراف ، فهل العلم الإجمالي بذاته بناء على مسلك العلّيّة يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ثبوتا أو إثباتا؟ وكذلك هل المنجّزيّة الثابتة للعلم الإجمالي بناء على مسلك الاقتضاء تقتضي المنع من جريان الأصول الترخيصيّة كذلك أم لا؟

وبتعبير آخر : هل العلم الإجمالي بذاته أو بتنجيزه ـ على اختلاف المسلكين ـ يوجب محذورا ثبوتيّا ، أو إثباتيّا يحول دون جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، أو في بعضها ، أو لا يوجب ذلك؟

* * *

١٧٨

منجّزيّة العلم الإجمالي

بقطع النظر عن

الأصول المؤمنة الشرعية

١٧٩
١٨٠