شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض

اتّضح ممّا سبق أنّ دليل الأصل لا يفي لإثبات جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، وذلك بسبب المعارضة ، ولكن قد تستثنى من ذلك عدّة حالات :

اتّضح من البحث السابق أنّه على القول بمسلك الاقتضاء لا يجري الأصل المؤمّن في بعض أطراف العلم الإجمالي للمعارضة وللترجيح بلا مرجّح ؛ ولأنّ أدلّة الأصول لا تثبت ذلك ؛ لأنّ لسانها مطلق من جهة وناظر إلى الفرد الخارجي من جهة أخرى ، فلا يستفاد منها تعلّقها بالجامع أو بالترخيص المشروط.

إلا أنّه توجد بعض الحالات يجري فيها الأصل المؤمّن بلا معارض ، فتكون مستثناة وخارجة من المحذور تخصّصا ؛ لأنّ المنع كان نتيجة المعارضة والترجيح بلا مرجّح ، وهنا يفترض أنّه لا معارض له لكي يكون الأخذ به ترجيحا على غيره ، وهذه الحالات هي :

منها : ما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل واحد مؤمّن وفي الطرف الآخر أصلان طوليّان ؛ ونقصد بالأصلين الطوليّين أن يكون أحدهما حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه تعبّدا.

ومثال ذلك : أن يعلم إجمالا بنجاسة إناء مردّد بين إناءين أحدهما مجرى لأصالة الطهارة فقط ، والآخر مجرى لاستصحاب الطهارة وأصالتها معا ؛ بناء على أنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة.

الحالة الأولى : أن يكون في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل ترخيصي واحد ، وفي الطرف الآخر يوجد أصلان ترخيصيّان طوليّان ، والمقصود من الطوليّة هنا أن أحدهما حاكم على الآخر ، أي أنّه ينظر إلى موضوع الآخر ويرفعه تعبّدا ، ولذلك فهو مقدّم عليه.

٢٦١

ومثال ذلك : أن نعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ويكون أحدهما طاهرا سابقا ، فهنا يكون في مورد الإناء المعلوم طهارته سابقا أصلان ترخيصيّان طوليّان هما : أصالة الطهارة واستصحاب الطهارة ، بينما في مورد الإناء الآخر لا يوجد إلا أصالة الطهارة.

وهنا يكون استصحاب الطهارة حاكما على أصالة الطهارة ؛ وذلك لأنّ مورد جريان أصالة الطهارة هو الشكّ في الطهارة ، والاستصحاب إذا جرى في مورده يثبت العلم تعبّدا ويزيل الشكّ ، فيرتفع موضوع أصالة الطهارة تعبّدا ، ولذلك فهما طوليّان بمعنى أنّ جريان أصالة الطهارة يشترط فيها ألاّ يكون الاستصحاب جاريا وإلا ارتفع موضوعها.

فقد يقال في مثل ذلك : إنّ أصالة الطهارة في الطرف الأوّل تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني ولا تدخل أصالة الطهارة للطرف الثاني في هذا التعارض ؛ لأنّها متأخّرة عن الاستصحاب ومتوقّفة على عدمه فكيف تقع طرفا للمعارضة في مرتبته؟

وحينئذ يقال : إنّ أصالة الطهارة الجارية في أحد الإناءين فقط تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الآخر ومقتضى تعارضهما التساقط.

والوجه في ذلك : أنّ الأصول الترخيصيّة في موارد العلم الإجمالي تجري وتتعارض ويحكم بتساقطها كما تقدّم سابقا ، إلا أنّ ذلك يختصّ في الأصول الترخيصيّة التي تكون في عرض واحد ، وفي مقامنا تجري أصالة الطهارة في الإناء الأوّل في عرض جريان الاستصحاب للطهارة فقط في الإناء الثاني.

ولا تدخل أصالة الطهارة في الطرف الثاني في هذه المعارضة ؛ لأنّه بناء على حكومة الاستصحاب عليها تكون متأخّرة عن الاستصحاب ، أي أنّ فرض جريانها بعد فرض عدم وجود الاستصحاب ، أو بعد فرض سقوطه لو كان موجودا ، ولذلك لا يعقل جريانها في عرض جريان الاستصحاب ، بل هي متأخّرة عنه رتبة حيث أخذ عدمه شرطا في موضوعها فيستحيل دخولها في المعارضة كذلك للزوم الخلف والتقدّم والتأخّر.

والنتيجة هي : أنّه بعد سقوط أصالة الطهارة في الإناء الأوّل وسقوط استصحاب الطهارة في الإناء الثاني تجري أصالة الطهارة في الطرف الثاني من دون معارض.

٢٦٢

وحينئذ إن قيل بمسلك الاقتضاء كان جريان أصالة الطهارة في أحد الطرفين جائزا ولا مانع منه ؛ لأنّ العلم الإجمالي على هذا المسلك إنّما يكون منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة بعد فرض تعارض الأصول الترخيصيّة في الأطراف ، وهنا لا معارض لها ، فيكون جريانها مانعا من منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة.

بينما على مسلك العلّيّة لا يمكن جريان أصالة الطهارة في الطرف الثاني ؛ لأنّ العلم الإجمالي بنفسه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة وعلّيّته كذلك معناها المنع من جريان الأصل الترخيصي في الطرف الواحد ؛ لأنّه يكون من باب التفكيك بين العلّة ومعلولها وهو مستحيل.

وبكلمة أخرى : إنّ المقتضي لها إثباتا لا يتمّ إلا بعد سقوط الأصل الحاكم وهو الاستصحاب ، والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين أصالة الطهارة في الطرف الأوّل ، وإذا كان الأصل متفرّعا في اقتضائه للجريان على المعارضة فكيف يكون طرفا فيها؟

وإذا استحال أن يكون طرفا في تلك المعارضة سقط المتعارضان أوّلا وجرى الأصل الطولي بلا معارض.

وبتعبير آخر أدقّ : إنّ المقتضي لجريان أصالة الطهارة في مقام الإثبات متوقّف على عدم أو على سقوط الأصل الحاكم عليها والذي هو استصحاب الطهارة في المقام. نعم ، فرض ثبوتها هو صدور الجعل والتشريع بها في موارد الشكّ في الطهارة.

والحاصل : أنّ مورد إجراء الطهارة في الشيء المشكوك طهارته متوقّف على ألاّ يكون هناك أصل حاكم عليها ، وإلا كان هو الجاري دونها تطبيقا لقانون تقدّم الدليل الحاكم على المحكوم ، وهذا يعني أنّ المقتضي لها في مقام الإثبات هو سقوط الاستصحاب ؛ لأنّه الأصل الحاكم على أصالة الطهارة.

وسقوط الاستصحاب إنّما يكون بعد إيقاع المعارضة بينه وبين أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر ، فلا بدّ أوّلا أن تحصل المعارضة ؛ لأنّها سبب سقوط الاستصحاب ثمّ بعد ذلك تجري أصالة الطهارة في الإناء الذي هو مورد للاستصحاب أيضا ، ولذلك لا تدخل أصالة الطهارة في المعارضة ؛ لأنّها متفرّعة عنها ، أي أنّها قبل المعارضة لا مقتضي لثبوتها.

٢٦٣

وإنّما يتحقّق المقتضي لثبوتها بعد المعارضة أي أنّها من متفرّعات المعارضة ، فكيف يمكن تصوّر دخولها في المعارضة حينئذ؟ إذ لازم دخولها في المعارضة أنّها ليست متوقّفة على المعارضة وليست متوقّفة على سقوط الاستصحاب أيضا وهو خلف حكومة الاستصحاب عليها.

وبهذا ظهر الوجه في هذه الحالة وأنّ أصالة الطهارة تبقى بلا معارض ؛ لأنّها أصل طولي (١).

ومنها : ما إذا كان دليل الأصل شاملا لكلا طرفي العلم الإجمالي بذاته ، وتوفّر دليل أصل آخر لا يشمل إلا أحد الطرفين.

ومثال ذلك : أن يكون كلّ من الطرفين موردا للاستصحاب المؤمّن ، وكان أحدهما خاصّة موردا لأصالة الطهارة.

الحالة الثانية : أن يكون هناك أصلان ترخيصيّان أحدهما شامل لكلا الطرفين والآخر مختصّ بأحدهما فقط.

مثاله : ما إذا كان لدينا إناءان حالتهما السابقة الطهارة فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وذلك لتماميّة أركان الاستصحاب في كل منهما.

ولكن يفرض أنّه في أحد الإناءين تجري أصالة الطهارة دون الآخر ، وهذا يكون بناء على أنّ أصالة الطهارة لا تجري إلا في مورد النجاسة العرضيّة لا الذاتيّة.

فلو كان لدينا إناءان يعلم بسقوط قطرة دم في أحدهما وكان أحدهما ماء والآخر يشكّ في كون المائع الذي فيه من الخمر أو من العصير العنبي ، وفرض أنّ الحالة السابقة لكلا الإناءين هي الطهارة.

فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما لتوفّر أركانه فيهما ، إلا أنّ أصالة

__________________

(١) هذا كلّه على حكومة الاستصحاب على أصالة الطهارة ، وأمّا على إنكار حكومته عليها فيمكن تصوير المسألة بنحو آخر ، وذلك بأن يقال : إنّ أصالة الطهارة في كلّ من الإناءين تتعارضان وتتساقطان فيبقى استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض.

والوجه في ذلك : أنّ أصالة الطهارة في هذا مسانخة لأصالة الطهارة في ذاك ، بينما استصحاب الطهارة ليس من سنخهما فيتعارض الأصلان المتسانخان فقط ، ويبقى الآخر.

٢٦٤

الطهارة لا تجري إلا في الإناء المعلوم كونه ماء دون الإناء المشكوك كونه خمرا أو عصيرا ، بناء على عدم جريانها عند الشكّ في النجاسة الذاتيّة ؛ لأنّ الإناء الآخر لو كان خمرا فهو نجس ذاتا بخلاف ما لو كان عصيرا فإنّه بنفسه طاهر ، والنجاسة تكون عارضة عليه ، بينما الإناء الأوّل فهو طاهر ذاتا ؛ لأنّه ماء وهو معلوم الطهارة الذاتيّة والشكّ في نجاسته يكون منشؤه الشكّ في عروض النجاسة عليه.

والحاصل : أنّ الإناء الموجود فيه الماء يكون مجرى لاستصحاب الطهارة ومجرى لأصالة الطهارة أيضا. بينما الإناء الموجود فيه المائع المشكوك كونه خمرا أو عصيرا لا يكون مجرى إلا لاستصحاب الطهارة دون أصالة الطهارة ، وحينئذ نقول :

ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان ويتساقطان ، وتجري أصالة الطهارة بدون معارض سواء قلنا بالطوليّة بين الاستصحاب وأصالة الطهارة أو بالعرضيّة.

ففي هذه الحالة سوف يتعارض استصحاب الطهارة في هذا الإناء مع استصحاب الطهارة في الإناء الآخر ، ومقتضى التعارض الحكم بالتساقط ، فتكون أصالة الطهارة في الإناء الموجود فيه الماء ثابتة من دون معارض.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة وعدم ذلك ؛ لأنّنا نريد إجراء أصالة الطهارة بعد سقوط الاستصحاب لا قبله ، فعلى الطوليّة بينهما لا تدخل في المعارضة ؛ لأنّها فرع سقوط الاستصحاب أوّلا بالمعارضة فلا تدخل فيها كما تقدّم.

وأمّا على القول بالعرضيّة أي أنّها تجري في عرض واحد مع الاستصحاب فلا تدخل في المعارضة أيضا ؛ لأنّها من غير سنخ الاستصحابين.

وبتعبير آخر نقول :

وذلك لأنّ أصالة الطهارة في طرفها لا يوجد ما يصلح لمعارضتها لا من دليل أصالة الطهارة نفسها ولا من دليل الاستصحاب.

أمّا الأوّل فلأنّ دليل أصالة الطهارة لا يشمل الطرف الآخر بحسب الفرض ليتعارض الأصلان.

وأمّا الثاني فلأنّ دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض في داخله بين استصحابين ، والتعارض الداخلي في الدليل يوجب إجماله ، والمجمل لا يصلح أن يعارض غيره.

٢٦٥

والوجه في عدم سقوط أصالة الطهارة وعدم دخولها في المعارضة هو أنّ المعارض لأصالة الطهارة أحد أمرين :

١ ـ أن تكون معارضة بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، وهذا فرع جريان أصالة الطهارة في كلا الطرفين.

٢ ـ أن تكون معارضة باستصحاب الطهارة في الطرف الآخر ، وهذا فرع عدم الطوليّة بينهما وإلا لم تدخل في المعارضة ؛ لأنّها إنّما تثبت بعد المعارضة لا قبلها.

وكلا هذين الأمرين منتفيان في المقام وذلك :

أمّا كونها معارضة بأصالة الطهارة في الطرف الآخر فالمفروض في مقامنا أن الطرف الآخر يشكّ في كونه خمرا أو عصيرا ، فهو مشكوك الطهارة والنجاسة ذاتا ، وفي مثل ذلك لا تجري أصالة الطهارة كما هو المفروض هنا.

وأمّا كونها معارضة باستصحاب الطهارة في الطرف الآخر فهذا وإن كان معقولا في نفسه بناء على العرضيّة ، إلا أنّه إنّما يتمّ فيما لو كان دليل الاستصحاب في الطرف الآخر ثابتا في نفسه ، وهذا غير متحقّق في مقامنا ؛ لأنّ دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض الداخلي ؛ لأنّه شامل لكلا طرفي العلم الإجمالي وشموله لهما كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة المستحيلة.

وهذا معناه أنّه شامل لأحد الطرفين فقط ، وحينئذ فقد يكون شاملا للطرف الذي تجري فيه أصالة الطهارة دون الآخر فلا تعارض ، وقد يكون شاملا للطرف الآخر فيقع التعارض بينهما.

ولكن حيث لا يمكن تشخيص أحد الطرفين وتعيينه ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح فيتعيّن سقوط دليل الاستصحاب في كلا الطرفين أو على الأقلّ يكون مجملا ، وعلى كلا التقديرين لا يصلح لمعارضة أصالة الطهارة ؛ لأنّه إذا كان ساقطا فمن الواضح عدم معارضته لها ، وإذا كان مجملا في نفسه ولا يعلم الإناء الذي يشمله من الآخر فالدليل المجمل لا يصلح لأن يعارض غيره.

وهكذا تكون أصالة الطهارة جارية في الطرف الواحد دون معارض ، ويأتي الخلاف هنا على القولين الاقتضاء والعلّيّة ، فعلى الأوّل يؤخذ بها بلا إشكال وعلى الثاني لا يؤخذ بها.

٢٦٦

ونفس هذه الحالة يمكن فرضها بنحو آخر فيقال : أن يكون لدينا طرفان كلاهما مشمول في نفسه لدليل البراءة ، بينما أحدهما خاصّة فيه استصحاب الطهارة ، فهنا تتعارض البراءة في كلّ منهما ويحكم بسقوطهما ، ويبقى استصحاب الطهارة بلا معارض ، والوجه فيه نفس ما تقدّم آنفا.

ومنها : أن يكون الأصل المؤمّن في أحد الطرفين مبتلى في نفس مورده بأصل معارض منجّز دون الأصل في الطرف الآخر ، ومثاله أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد إناءين وكلّ منهما مجرى لاستصحاب الطهارة في نفسه ، غير أنّ أحدهما مجرى لاستصحاب النجاسة أيضا لتوارد الحالتين عليه مع عدم العلم بالمتقدّم والمتأخّر منهما.

الحالة الثالثة : أن يكون هناك أصل ترخيصي شامل لكلا الطرفين ويكون في أحدهما أصل إلزامي.

ومثاله : ما إذا كان لدينا إناءان فيهما ماء وعلمنا إجمالا الآن بنجاسة أحدهما للعلم بسقوط قطرة دم في أحدهما ، ويفرض أنّنا نعلم بطهارتهما سابقا.

غير أنّ أحدهما المعيّن كان نجسا سابقا وطهّر أيضا ولكنّنا لا نعلم بالمتقدّم والمتأخّر منهما ، أي أنّنا نعلم بتوارد حالتي الطهارة والنجاسة عليه ولكنّنا لا نعلم أيهما المتقدّم وأيهما المتأخّر.

فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما ؛ لأنّها معلومة سابقا فيهما ، ولكن في الإناء الآخر حيث يعلم بطروّ النجاسة عليه ويشكّ في زمانهما يجري أيضا استصحاب النجاسة المعلومة فيه سابقا.

وهذا يعني أنّه يوجد في أحد الإناءين استصحاب الطهارة ، بينما في الإناء الآخر يوجد استصحابان أحدهما استصحاب الطهارة والآخر استصحاب النجاسة.

فقد يقال حينئذ بجريان استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض ؛ لأنّ استصحاب الطهارة في الآخر ساقط بالمعارضة في نفس مورده باستصحاب النجاسة.

ففي هذه الحالة يوجد قولان :

أحدهما : أنّ استصحاب الطهارة في الطرف المعلوم طهارته سابقا يجري بلا

٢٦٧

معارض ؛ وذلك لأنّ معارضه وهو استصحاب الطهارة في الطرف المعلوم طهارته ونجاسته ساقط عن الحجّيّة بسبب تعارضه مع استصحاب النجاسة في نفس مورده ، أي أنّه مبتلى بالمعارضة الداخليّة بسبب توارد الحالتين على هذا الطرف.

وإذا كان للأصل معارض داخلي فلا يمكن أن يكون معارضا للأصل الخارجي ؛ لأنّ المعارضة الداخليّة تسقطه عن الحجّيّة فلا يكون معارضا للأصل في الطرف الآخر ، فيكون استصحاب الطهارة في ذاك الطرف جاريا بلا معارض.

وقد يقال في مقابل ذلك بأنّ التعارض يكون ثلاثيّا ، فاستصحاب الطهارة المبتلى يعارض استصحابين في وقت واحد. وتحقيق الحال متروك إلى مستوى أعمق من البحث.

والقول الآخر : أنّ المعارضة توقع ابتداء بين الاستصحابات الثلاثة ، أي أنّ استصحاب الطهارة في الإناء الذي تواردت عليه الحالتان ( الطهارة والنجاسة ) يكون له معارضان ، أحدهما معارض داخلي في نفس مورده وهو استصحاب نجاسة الإناء ، والآخر معارض خارجي وهو استصحاب طهارة الإناء الآخر.

والوجه في ذلك : أنّ هذه الأصول كلّها في عرض واحد ؛ إذ لا طوليّة بينها وكلّها من سنخ واحد ؛ لأنّ دليلها واحد أيضا.

والتحقيق في المسألة متروك إلى البحث الخارج.

وإذا صحّ جريان الأصل بلا معارض في هذه الحالات كان ذلك تعبيرا عمليّا عن الثمرة بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء.

والحاصل أنّه في هذه الحالات الثلاث إذا كان جريان الأصل الترخيصي في الطرف الواحد تامّا ، فيكون هذا عبارة عن الثمرة بين المسلكين الاقتضاء والعلّيّة ؛ لأنّه على الاقتضاء سوف يؤخذ بهذا الأصل الترخيصي ويرفع اليد عن وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّها كانت فرع جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف وتعارضها وتساقطها ، وهنا لا معارض لهذا الأصل.

وأمّا على مسلك العلّيّة فلا يمكن الأخذ بهذا الأصل الترخيصي حتّى لو لم يكن له معارض ؛ لأنّ وجوب الموافقة القطعيّة كان وليد علية العلم الإجمالي لها ، وهذا لا يتوقّف على جريان الأصول وعدم جريانها ، أو على تعارضها وعدم

٢٦٨

تعارضها ، بل لا يجري الأصل الترخيصي مطلقا ؛ لأنّه تفكيك بين العلّة ومعلولها وهو محال عقلا.

وقد تلخّص ممّا تقدّم أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة ، وأنّه كلّما تعارضت الأصول الشرعيّة المؤمّنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لتنجّز الاحتمال في كلّ شبهة بعد بقائها بلا مؤمّن شرعيّ وفقا لمسلك حقّ الطاعة.

وحيث إنّ تعارض الأصول يستند إلى العلم الإجمالي فيعتبر تنجّز جميع الأطراف من آثار نفس العلم الإجمالي.

والصحيح في كيفيّة تصوير منجّزيّة العلم الإجمالي أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بنفسه يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع معلوم على جميع المسالك والاتّجاهات ، والعلم ينجّز معلومه بنحو معلّق على عدم صدور الإذن والترخيص ، إلا أنّ صدوره في موارد العلم الإجمالي ممّا لا يمكن إثباته ؛ لأنّه على خلاف المرتكزات العقلائيّة كما تقدّم ، هذا بالنسبة لحرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا بالنسبة لوجوب الموافقة القطعيّة فنقول : إنّ العلم الإجمالي ليس علّة بنفسه لذلك خلافا لما ذكره المحقّق العراقي ، بل العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة في حالة تعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في تمام أطرافه وتساقطها.

فالمنجّزيّة لوجوب الموافقة القطعيّة ليست ناشئة من نفس العلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس علّة وليس مقتضيا لها ، وإنّما لأجل تعارض الأصول وتساقطها.

فإنّه بعد تساقطها سوف يكون التكليف في كلّ طرف محتملا ، واحتمال التكليف منجّز على ما هو الصحيح من منجّزيّة كلّ انكشاف على أساس سعة دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى.

نعم ، احتمال التكليف منجّز بنحو معلّق على عدم صدور الترخيص ، والمفروض هنا أنّ الترخيص غير تامّ فتكون منجّزيّته ثابتة لعدم ثبوت المانع منها.

وبهذا يمكننا أن نقول : إنّ العلم الإجمالي يستدعي الموافقة القطعيّة بنحو من المسامحة ؛ لأنّ المنجّز في الحقيقة هو ما ذكرنا ، إلا أنّ دور العلم الإجمالي هنا هو إيجاد التعارض بين الأصول الترخيصيّة ، حيث إنّ هذه الأصول تجري في كلّ طرف ؛

٢٦٩

لأنّه مشمول لها في نفسه ، ولكن لا يمكن الأخذ بها جميعا بسبب العلم الإجمالي المذكور ، ولا يمكن الأخذ ببعضها دون الآخر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، فلذلك تتعارض وتتساقط.

فكان دور العلم الإجمالي في الحقيقة دور المنشأ لحصول التعارض الذي يسبّب سقوط الأصول الترخيصيّة ، والذي يعني أنّ كلّ طرف لا مؤمّن شرعي فيه ، والذي يؤدّي إلى أن يكون حكم العقل لمنجّزيّة الاحتمال تامّا ، وعليه فإذا أسندت المنجّزيّة للموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي كان ذلك على أساس أنّه المنشأ لثبوتها على أساس هذه السلسلة.

ولا فرق في منجّزيّة العلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم تكليفا من نوع واحد ، أو تكليفا من نوعين كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة الآخر.

ثمّ إنّه يوجد صورتان للمعلوم إجمالا :

إحداهما : أن يكون المعلوم إجمالا نوعا واحدا من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة كالحرمة والوجوب والنجاسة ونحو ذلك ، كما إذا علم بحرمة إحدى هاتين السمكتين ، وكما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، وكما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، فهنا يكون منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة بسبب العلم بالجامع ، ويكون سببا للموافقة القطعيّة لتعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها.

والأخرى : أن يكون المعلوم إجمالا نوعين من التكليف ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة هذا الإناء أو بحرمة هذه السمكة ، فهنا النجاسة والحرمة نوعان مختلفان من الأحكام ، ولكن مع ذلك يكون العلم الإجمالي المذكور منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ جامع الإلزام بينهما معلوم ، ويكون سببا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة فيهما متعارضة فيحكم بتساقطهما ، فأصالة الطهارة في الإناء تتعارض مع أصالة الحلّ في السمك ، وبعد سقوطهما يكون احتمال التكليف في كلّ منهما بلا مؤمّن شرعي فيكون منجزا لهما بحكم العقل بناء على مسلك حقّ الطاعة.

كما لا فرق أيضا بين أن يكون المعلوم نفس التكليف أو موضوع التكليف ؛ لأنّ العلم بموضوع التكليف إجمالا يساوق العلم الإجمالي بالتكليف ، ولكن على شرط أن يكون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للتكليف الشرعي.

٢٧٠

ثمّ إنّه لا فرق بين كون المعلوم بالإجمال تكليفا أو موضوعا للتكليف ، فهنا صورتان :

الأولى : أن يكون المعلوم بالإجمال تكليفا كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، فإنّه علم إجمالي بجامع الوجوب فالمعلوم هو الوجوب ، وهكذا. وهذا ما كان الكلام عنه فعلا فيما تقدّم.

الثانية : أن يكون المعلوم بالإجمال موضوعا للحكم الشرعي ، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو ذاك ، أو علم بنجاسة هذا الثوب أو نجاسة ذاك الإناء ، فهنا نجاسة الثوب ونجاسة الماء ليست حكما شرعيّا ، وإنّما نجاسة الثوب يترتّب عليها حكم شرعي كعدم جواز الصلاة فيه مثلا ، ونجاسة الماء كذلك فإنّه يترتّب عليها عدم جواز شربه وعدم صحّة الوضوء به.

فالعلم الإجمالي بالموضوع يساوق عمليّا العلم الإجمالي بالتكليف.

إلا أنّه يشترط في منجّزيّة هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، ووجوب الموافقة القطعيّة ، أن يكون الموضوع المعلوم إجمالا تمام الموضوع للتكليف الشرعي كالمثالين المذكورين ، فإنّ نجاسة الماء تمام الموضوع لعدم جواز الشرب ولعدم صحّة الوضوء ، ونجاسة الثوب تمام الموضوع لبطلان الصلاة فيه.

وأمّا إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كلّ تقدير أو على بعض التقادير فلا يكون العلم منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق حينئذ العلم الإجمالي بالتكليف.

ذكرنا أنّه يشترط في منجّزيّة العلم الإجمالي المتعلّق بموضوع التكليف أن يكون المعلوم إجمالا تمام الموضوع للتكليف ؛ لأنّ العلم به يكون مساوقا للعلم بالتكليف.

وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال جزء الموضوع للتكليف فلا يكون العلم الإجمالي به علما إجماليّا بالتكليف ؛ لأنّ التكليف ليس مترتّبا على هذا الجزء بل على تمام الموضوع ، فلا بدّ من العلم بالجزءين معا ليكون التكليف معلوما ، ولا فرق في كونه جزءا لموضوع التكليف بين أن يكون جزءا كذلك على كلّ تقدير أو على بعض التقادير.

ومثال الأوّل ما إذا علم بنجاسة إحدى هاتين القطعتين من الحديد ، فإنّ المعلوم بالإجمال وهو نجاسة قطعة حديد ليس تمام الموضوع لأي حكم شرعي تكليفي أو وضعي. نعم ، هي جزء الموضوع لحرمة شرب الماء.

٢٧١

والجزء الآخر لموضوع هذه الحرمة هو أن يكون الماء ملاقيا لهذه القطعة الحديديّة النجسة ، فسواء كانت هذه القطعة هي النجسة أم تلك فعلى كلّ تقدير هي جزء الموضوع.

ومثال الثاني ، ما إذا علم بنجاسة قطعة الحديد ، أو نجاسة هذا الثوب ، فهنا يعلم إجمالا بجامع النجاسة إلا أنّ النجاسة إذا كانت في قطعة الحديد فهي جزء الموضوع ، وإذا كانت في الثوب فهي تمام الموضوع ، فالمعلوم بالإجمال جزء الموضوع على بعض التقادير أي على تقدير كونه قطعة الحديد لا الثوب.

وعلى كلا التقديرين لا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق العلم بالتكليف.

أمّا على الأوّل بأن يكون المعلوم جزء الموضوع على كلّ تقدير فواضح ؛ لأنّ ثبوت جزء الموضوع لا يثبت التكليف فلا علم بشيء من التكاليف.

وأمّا الثاني أي أن يكون المعلوم جزء الموضوع على بعض التقادير وتمامه على البعض الآخر فلا يكون منجّزا أيضا ؛ لأنّه لا يساوق العلم بالتكليف على كلّ تقدير أيضا بل على بعض التقادير ، ولذلك لا يعلم بالجامع بل يشكّ بالفرد ابتداء ، فتجري فيه البراءة أو الطهارة ونحوهما.

ومن هنا لا يكون العلم الإجمالي بنجاسة إحدى قطعتين من الحديد منجّزا ، خلافا للعلم الإجمالي بنجاسة أحد ماءين أو ثوبين.

أمّا الأوّل فلأنّ نجاسة قطعة الحديد ليست تمام الموضوع لتكليف شرعي ، بل هي جزء موضوع لحرمة الاجتناب عن الماء مثلا ، والجزء الآخر ملاقاة الماء للقطعة الحديديّة ، والمفروض عدم العلم بالجزء الآخر ، وأمّا الثاني فلأنّ نجاسة الماء تمام الموضوع لحرمة شربه.

وعلى أساس ما ذكرناه من اشتراط كون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لا جزءه ، نعرف أنّ العلم الإجمالي بنجاسة إحدى هاتين القطعتين من الحديد لا يكون منجّزا ، بينما العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين أو أحد الثوبين يكون منجّزا.

والوجه في ذلك أنّ العلم الإجمالي الأوّل يساوق العلم بالتكليف ، بينما العلم الإجمالي الثاني يساوق العلم الإجمالي بالتكليف.

٢٧٢

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي الأوّل على فرض ثبوته فالقطعة الحديديّة النجسة ليست هي تمام الموضوع لحكم شرعي ، بل هي جزء الموضوع والجزء الآخر الملاقاة معه ، فمثلا حرمة شرب الماء موضوعها مركّب من جزءين :

الأوّل : أن تكون القطعة الحديديّة نجسة ، والثاني : أن تتحقّق الملاقاة بأن يلاقي الماء هذه القطعة ، وهنا لا يعلم إلا بنجاسة الحديدة ، وأمّا الملاقاة فلا يعلم بها ، ولذلك لا يتحقّق التكليف ، ولا يكون العلم بها مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف.

وأمّا العلم الإجمالي الثاني فعلى فرض ثبوت المعلوم فيه فالماء النجس أو الثوب النجس تمام الموضوع لحرمة الشرب ولبطلان الصلاة ، فكان العلم الإجمالي هنا مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف.

ومثل الأوّل العلم الإجمالي بنجاسة قطعة حديديّة أو نجاسة الماء ؛ لأنّ المعلوم هنا جزء الموضوع على أحد التقديرين.

ذكرنا أنّ جزء الموضوع تارة يكون جزؤه على كلّ تقدير كالمثال السابق أي العلم بنجاسة إحدى الحديدتين ، فسواء كانت الحديدة الأولى نجسة أم الثانية فلا يتحقّق إلا جزء الموضوع فقط.

وأخرى يكون جزء الموضوع على بعض التقادير دون البعض الآخر ، كما إذا علم بنجاسة قطعة حديد أو نجاسة الماء ، فإنّه إن كان النجس قطعة الحديد فالمتحقّق جزء الموضوع ، وإن كان النجس الماء فالمتحقّق تمام الموضوع.

وهذا أيضا لا يكون منجّزا ؛ لأنّ جامع التكليف غير معلوم على كلّ حال ، بل على بعض التقادير فقط ، فلا علم بالجامع وإنّما هناك شكّ في الفرد ابتداء أي أنّه يشكّ في كون الماء نجسا أم لا ، فتجري أصالة الطهارة فيه.

والضابط العامّ للتنجيز : أن يكون العلم الإجمالي مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي.

وكلّما لم يكن العلم الإجمالي كذلك فلا ينجّز ، وتجري الأصول المؤمّنة في مورده بقدر الحاجة.

ففي مثال العلم بنجاسة قطعة الحديد أو الماء تجري أصالة الطهارة في الماء ، ولا تعارضها أصالة الطهارة في الحديد ؛ إذ لا أثر عملي لنجاسته فعلا.

٢٧٣

والضابط العامّ لمنجّزيّة العلم الإجمالي المتعلّق بالموضوعات هو أن يكون العلم الإجمالي بالموضوع مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، وأمّا إذا لم يكن مساوقا لذلك فلا يكون منجّزا لمعلومه وبالتالي تجري الأصول الترخيصيّة في مورده بلا معارض.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين أو الثوبين كان العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ العلم الإجمالي هنا يساوق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ؛ لأنّ نجاسة الماء أو الثوب يترتّب عليها بالفعل حرمة الشرب وبطلان الصلاة.

وأمّا إذا علمنا بنجاسة إحدى القطعتين من الحديد أو علمنا إجمالا بنجاسة قطعة حديد أو بنجاسة الماء ، فهنا لا يكون منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق التكليف الفعلي ، أمّا المثال الأوّل فواضح إذ لا تكليف أصلا.

وأمّا المثال الثاني فلأنّ جامع التكليف غير معلوم على كلّ حال ، وعليه فتجري أصالة الطهارة في الماء ولا يعارضها أصالة الطهارة في الحديدة ؛ إذ لا فائدة ولا معنى لجريان أصالة الطهارة فيها ؛ لأنّها حتّى لو بقيت نجسة فعلا فلا أثر شرعي لها ما دامت الملاقاة غير متحقّقة ؛ لأنّه لا تكليف يترتّب بالفعل على نجاسة الحديدة لينفى بأصالة الطهارة كما هو واضح.

* * *

٢٧٤

أركان

منجّزيّة العلم الإجمالي

٢٧٥
٢٧٦

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي

نستطيع أن نستخلص ممّا تقدّم : أنّ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي لها عدّة أركان :

الركن الأوّل : وجود العلم بالجامع ، إذ لو لا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كلّ طرف بدوية وتجري فيها البراءة الشرعيّة.

الركن الأوّل : من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي هو العلم بالجامع ، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، فإنّ جامع النجاسة معلوم ، ولو لا هذا العلم بالجامع لكان لدينا إمّا علم تفصيلي بالطرف وإمّا شبهة بدويّة بكلا الطرفين.

ففي العلم التفصيلي بنجاسة هذا الإناء بعينه تجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر إن توفّرت فيه شروطها.

وفي الشبهة البدويّة تجري الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، أمّا على مسلك المشهور فيكون كلّ منهما مجرى للبراءة العقليّة على أساس مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا على المسلك المختار فتجري البراءة الشرعيّة.

ولا مانع من جريان الأصل المؤمّن في كلا الطرفين ؛ لأنّ دليل الأصل المؤمّن مطلق لكلّ فرد ، ولا يوجد مانع من الأخذ بهذا الإطلاق بحسب الفرض ، وهذا ما لا إشكال فيه.

ولا شكّ في وفاء العلم بالجامع بالتنجيز فيما إذا كان علما وجدانيّا ، وأمّا إذا كان ما يعبّر عنه بالعلم التعبّدي فلا بدّ من بحث فيه ، ومثاله أن تقوم البيّنة مثلا على نجاسة أحد الإناءين ، فهل يطبّق على ذلك قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي أيضا؟ وجهان :

ثمّ إنّ العلم بالجامع إنّما يكون منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة

٢٧٧

بالنحو المتقدّم ، فيما إذا كان العلم وجدانيّا ، وذلك بأن يقطع وجدانا بالنجاسة كما إذا رأى بعينه قطرة دم تقع في الإناء ثمّ اشتبه الإناء النجس مع غيره ، وهذا العلم الوجداني ممّا لا إشكال في وفائه بالمنجّزيّة المذكورة.

وإنّما الكلام فيما إذا حصل لنا العلم التعبّدي بنجاسة أحد الإناءين ، كما لو قامت البيّنة على أنّ أحد الإناءين نجس ، فإنّ البيّنة لا تفيد القطع الوجداني وإنّما تفيد الظنّ فقط ، ولكن بناء على جعل الحجّيّة لها وأنّها كالعلم الوجداني في المنجّزيّة والمعذّريّة يقع البحث في أنّ هذه الأمارات هل تفي في منجّزيّة العلم الإجمالي أو لا؟

وهنا احتمالان بل قولان :

فقد يقال بالتطبيق على أساس أنّ دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما ، فيترتّب عليه آثار العلم الطريقي التي منها منجّزيّة العلم الإجمالي.

القول الأوّل : أنّ قيام الأمارة على ثبوت التكليف إجمالا يكون منجّزا كقيام القطع على ذلك ؛ لأنّ أدلّة الحجّيّة للأمارة مفادها جعل الأمارة علما ، فترتّب على الأمارة كلّ الآثار المترتّبة على القطع الطريقي والتي من جملتها منجّزيّة العلم الإجمالي ، فإنّ هذه المنجّزيّة ثابتة للعلم ؛ لأنّه طريق وكاشف عن الواقع ولو إجمالا ، والأمارة تقوم مقام القطع في الكاشفيّة والتنجيز والتعذير كما تقدّم في محلّه ، بناء على مسلك الميرزا من تصوير كيفيّة جعل الحكم الظاهري والجمع بينه وبين الحكم الواقعي.

وقال غيره كالمحقّق العراقي مثلا بأنّ دليل حجّيّة الأمارة حاكم على أدلّة الأصول العمليّة ، ففي مثالنا يجري في كلا الطرفين الأصل الترخيصي المؤمّن ؛ لأنّه مورده.

إلا أنّه بقيام البيّنة على النجاسة يرتفع موضوع أحد الأصلين تعبّدا ، وحيث إنّه لا يعلم بعينه وحيث إنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي متعلّق بالواقع فيجب الاجتناب عن كلا الفردين على أساس أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وقد يقال بعدمه على أساس أنّ الأصول إنّما تتعارض إذا أدّى جريانها في كلّ الأطراف إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف الواقعي ، ولا يلزم ذلك في مورد البحث لعدم العلم بمصادفة البيّنة للتكليف الواقعي.

القول الثاني : أنّ العلم التعبّدي أو قيام البيّنة ونحوها من الأمارات على ثبوت

٢٧٨

التكليف إجمالا لا يكون منجّزا ، بمعنى أنّه لا تطبّق قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي على المورد ، وذلك أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة كانت فرع تعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها ، من حيث إنّ جريانها في كلّ الأطراف فيه مخالفة قطعيّة للمعلوم بالإجمال وجريانها في البعض ترجيح بلا مرجّح ، وكلا هذين النحوين لا يتمّان في البيّنة ؛ لأنّها من الأحكام الظاهريّة والتي لا تفيد إلا الظنّ بالواقع.

وهذا يعني أنّه لا قطع بالنجاسة وإنّما هناك ظنّ بها ، والشارع وإن تعبّدنا بحجّيّة الأمارة إلا أنّ ذلك لا يعني صيرورة الواقع معلوما ، وتسميتها بالعلم التعبّدي مسامحة في التعبير ؛ لوجود المناسبة بينها وبين العلم الحقيقي.

وحينئذ نقول : إنّ الأصول الترخيصيّة تجري في كلا الطرفين ، ولا يلزم من جريانها فيهما المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، إذ النجاسة المعلومة إجمالا بالبيّنة قد لا تكون ثابتة في الواقع ؛ لاحتمال عدم مطابقة البيّنة للواقع كما هو مقتضى الأحكام الظاهريّة ومقتضى القول بالتخطئة واشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وما دام يحتمل ألاّ يكون هناك نجاسة في الواقع فلا يقطع بالمخالفة وإنّما المخالفة احتماليّة فقط.

وكلا هذين الوجهين غير صحيح.

أمّا القول الأوّل فلأنّنا ننكر أن المجعول في باب الأمارات العمليّة والطريقيّة والكاشفيّة ؛ إذ المجعول فيها كما هو الصحيح أهميّة الاحتمال الكاشف عن الملاكات الواقعيّة وإبراز ما هو الأهمّ بنظر الشارع.

وأمّا القول الثاني فلأنّ جريان الأصول الترخيصيّة مع قيام الأمارة على النجاسة إجمالا معناه اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين على واقعة واحدة وهو محال ، إذ الأصلين مفادهما أنّه لا نجاسة بينما الأمارة مدلولها ثبوت النجاسة في أحدهما.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ البيّنة تارة يفترض قيامها ابتداء على الجامع ، وأخرى يفترض قيامها على الفرد ثمّ تردّد موردها بين طرفين.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ لقيام الأمارة حالتين :

إحداهما : أن تقوم الأمارة ابتداء على الجامع بأن تشهد البيّنة على وجود النجاسة

٢٧٩

في أحد الإناءين ، وذلك بأن كان الشاهدان قد شاهدا قطرة الدم تقع في أحدهما ولم يشخّصا الإناء الذي وقعت فيه القطرة.

الثانية : أن تقوم الأمارة على الفرد بأن تشهد البيّنة على رؤية الدم في الإناء المشخّص ، إلا أنّه اختلط هذا الإناء بغيره بحيث لم يمكن التمييز بينهما ، وحينئذ نقول :

أمّا في الحالة الأولى فنواجه دليلين : أحدهما دليل حجّيّة الأمارة الذي ينجّز مؤدّاها ، والآخر دليل الأصل الجاري في كلّ من الطرفين في نفسه ، وهما دليلان متعارضان لعدم إمكان العمل بهما معا.

والوجه الأوّل يفترض تماميّة الدليل الأوّل ويرتّب على ذلك عدم إمكان إجراء الأصول.

والوجه الثاني لا يفترض الفراغ عن ذلك ، فيقول : لا محذور في جريانها.

والاتّجاه الصحيح هو حلّ التعارض القائم بين الدليلين.

أمّا الحالة الأولى : أي فيما إذا قامت البيّنة ابتداء على الجامع بأن شهدت بوقوع النجاسة في أحد هذين الإناءين فهنا يوجد لدينا دليلان جاريان.

أحدهما : دليل حجّيّة الأمارة الذي يتعبّدنا بالنجاسة بنحو يكون منجّزا لهذه النجاسة.

والآخر : دليل حجّيّة الأصل المؤمّن أي دليل الطهارة فإنّ أصالة الطهارة تشمل كلا الفردين.

إلا أنّنا لا يمكننا الجمع بين هذين الدليلين ؛ لأنّهما متنافيان عمليّا ، فإنّ دليل الأمارة ينجّز التكليف بينما دليل الأصل يؤمّن عن كلا الفردين ، فيقع التعارض بينهما من ناحية المدلول الالتزامي للأمارة والدليل المطابقي للأصل.

فإنّ دليل الأمارة مدلولها المطابقي تنجيز الجامع للنجاسة ومدلولها الالتزامي أنّه لا يمكن إجراء الأصل الترخيصي لا في هذا الإناء ولا في ذاك ، إذ جريان الأصل في الطرفين معا معناه رفع اليد عن النجاسة التي هي مدلول مطابقي للأمارة ، وجريانه في أحدهما ترجيح بلا مرجح ، فلا بدّ من طرحه فيهما معا.

بينما دليل الأصل مفاده ومدلوله المطابقي إمكان جريان الأصل الترخيصي في كلّ من الفردين من دون محذور.

٢٨٠