شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

الأوّل : النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وهذا يستلزم إجراء الاستصحاب في كلّ الأطراف ؛ لأنّ كلّ طرف في نفسه مشكوك مع كونه متيقّنا في السابق ، ففي موردنا نعلم بأنّ هذه الإناءات جميعا كانت نجسة ونشكّ في طهارة كلّ واحد منها ، فنستصحب بقاء النجاسة المتيقّنة ؛ لأنّ رفع اليد عنها معناه نقض اليقين بالشكّ وهو غير جائز.

الثاني : الأمر بنقض اليقين باليقين وهذا يستلزم عدم إجراء الاستصحاب في تمام الأطراف ، بل لا بدّ من رفع اليد عنه في بعضها إجمالا ؛ لأنّه في المثال المذكور كما نعلم بنجاسة الإناءات سابقا ، كذلك نعلم إجمالا بوجود طاهر بينها ؛ لأنّنا نعلم بطروّ الطهارة على أحدها غير المعيّن ، وحينئذ يجب أن نرفع اليد عن نجاسة أحدهما ؛ لأنّ هذا ليس من نقض اليقين بالشك المنهي عنه ، بل هو من نقض اليقين باليقين.

وعليه فبلحاظ الطاهر الواقعي يلزم المحذور ؛ لأنّه من جهة يجري فيه استصحاب النجاسة لجريانه في كلّ طرف مشكوك ، ومن جهة أخرى يجب رفع اليد عن النجاسة بلحاظه ؛ لأنّه طاهر يقينا ، وهذا معناه جريان الاستصحاب فيه وعدم جريانه أيضا ومقتضى التعارض التساقط ، فلا يجري فيه الأصل المنجّز.

والجواب أوّلا : أنّ هذا إنّما يوجب الإجمال في ما اشتمل من روايات الاستصحاب على الأمر والنهي معا ، لا فيما اختصّ مفاده بالنهي فقط.

الجواب الأوّل : أنّ هذا الإشكال لو سلّم فغاية ما يلزم كون هذه الألسنة من الروايات التي جمعت بين النهي والأمر معا ساقطة عن الحجّيّة في موردنا ؛ لأنّه لا يمكن أن يجتمع الأمر بنقض اليقين باليقين والنهي عن نقض اليقين بالشكّ في مورد واحد ؛ لاستلزامه التهافت.

إلا أنّه توجد روايات أخرى جاء في مفادها التعبير بالنهي أي لا تنقض اليقين بالشكّ من دون الأمر أي بنقض اليقين باليقين ، وهذا يعني أنّه لا تهافت فيها ؛ إذ لا تجمع بين الأمرين معا.

وهذا كما في قوله ( عليه‌السلام ) : « وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » ، فهذا النحو من الروايات ناظر إلى جانب إجراء الاستصحاب ، وأنّه ما دام اليقين السابق موجودا فلا يجوز نقضه بالشكّ ، فيجري استصحاب النجاسة في تمام

٢٢١

الإناءات في موردنا ، ولا يعارضه العلم الإجمالي بطهارة أحدها واقعا ؛ لما تقدّم من الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري.

والحاصل : أنّ التعارض والتساقط الموجود في تلك الرواية التي جمعت بين النهي والأمر لا يعني أنّه يوجد تعارض في كلّ روايات الاستصحاب حتّى التي لم تجمع بين الأمر والنهي ، بل تكون سالمة عن المعارضة والتهافت.

وثانيا : أنّ ظاهر الأمر بنقض اليقين باليقين أن يكون اليقين الناقض متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين المنقوض ، وهذا غير حاصل في المقام ؛ لأنّ اليقين المدّعى كونه ناقضا هو العلم الإجمالي بالحكم الترخيصي ، ومصبّه ليس متّحدا مع مصبّ أي واحد من العلوم التفصيليّة المتعلّقة بالحالات السابقة للإناءات.

الجواب الثاني : أنّ محذور التهافت غير صحيح في نفسه ؛ وذلك لأنّ الرواية ناظرة إلى موضوع واحد ، فتارة يتعلّق به اليقين ويطرأ عليه الشكّ ، فنقول : إنّ هذا اليقين لا تنقضه بالشكّ بل يبقى على حاله وهو معنى الاستصحاب ، وأخرى يطرأ على هذا اليقين يقين آخر مخالف له ، فهنا يكون اليقين الثاني المخالف له ناقضا له ؛ كما إذا كنّا على علم من نجاسة هذا الثوب ثمّ علمنا بطهارته بعد ذلك ، فهذا اليقين بالطهارة لا إشكال في كونه ناقضا ورافعا لليقين بالنجاسة ، وهنا يجب العمل على اليقين الثاني لارتفاع اليقين الأوّل ، ولا يمكن أن يجتمع كلا الأمرين بأن يكون الثوب مشكوكا ومتيقّنا بأنّه طاهر ؛ للزوم التهافت.

وفي موردنا لا يوجد تهافت ، وذلك بأن نقول : إنّ كلّ واحد من الإناءات كان متيقّن النجاسة في نفسه ، أي معلوم تفصيلا بأنّه نجس ثمّ طرأت عليه حالة الشكّ ، أي كلّ واحد صار مشكوك النجاسة فيما بعد ، حيث يشكّ في أنّه طهّر أم لا ، فهنا نجري استصحاب بقاء النجاسة على أساس الفقرة الأولى أي لا تنقض اليقين بالشكّ.

ثمّ بعد ذلك علمنا إجمالا بوجود إناء طاهر بين هذه الإناءات ، وهذا العلم بالطهارة لو كان علما تفصيليّا بأن علمنا بأنّ هذا الإناء هو الطاهر ، لكان يجب علينا أن ننقض اليقين بالنجاسة سابقا باليقين بالطهارة لاحقا في خصوص هذا الإناء تطبيقا للفقرة الثانية.

٢٢٢

إلا أنّنا هنا لا نعلم تفصيلا بالإناء الطاهر وإنّما نعلم بوجود إناء طاهر على سبيل الإجمال ، أي جامع الطهارة موجود بين الإناءات ، وحينئذ نقول :

إنّ الفقرة الثانية لا يمكن تطبيقها في المقام لاختلاف الموضوع بين اليقين السابق واليقين اللاحق ، ومع اختلاف الموضوع لا يكون أحدهما ناقضا للآخر ؛ لأنّ معنى كونه ناقضا له كونه ناظرا إلى نفس متعلّقه ، وهذا لا يتمّ إلا في موارد العلم التفصيلي لا في موارد العلم الإجمالي ؛ لأنّ المتعلّق في موارد العلم التفصيلي في اليقينين واحد وهو هذا الثوب المعيّن ، بينما المتعلّق في العلم الإجمالي عنوان أحد الإناءات أي جامع الطهارة ، والمتعلّق في اليقين السابق هو كلّ واحد من الإناءات بخصوصه.

وعليه فلا يكون اليقين اللاحق الإجمالي ناقضا لليقين السابق التفصيلي.

وهذا يعني أنّه يمكن العمل بكلا اليقينين والالتزام بكلّ منهما ؛ إذ لا محذور عقلي لعدم لزوم التهافت ؛ لأنّ المتعلّق في كلّ منهما يختلف عنه في الآخر ، ولا محذور عملي لأنّه يمكن الجمع بينهما بأن نلتزم بوجود طهارة إجماليّة ونجاسة تفصيليّة ؛ لأنّ العلم بالطهارة سواء الإجماليّة أم التفصيليّة لا يستدعي وجوب التحرّك بل جوازه ، وهذا لا يمنع من أن يطرأ عنوان آخر يمنع من التحرّك ، إذ يمكن أن يكون شيء ما في نفسه وبذاته جائزا ولكن بسبب عروض عنوان آخر طارئ يصيّره متّصفا بالوجوب أو الحرمة مثلا.

ومقامنا كذلك فإنّ كلّ إناء يحتمل اتّصافه بالجواز بأن يكون هو الطاهر الواقعي إلا أنّه يوجد مانع من العمل به ؛ لأنّه عرض عليه عنوان آخر وهو استصحاب النجاسة.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد محذور ثبوتي ولا إثباتي في جريان الأصول الشرعيّة المنجّزة كالاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي.

وعليه فالأصول المنجّزة والمثبتة للتكليف لا بأس بجريانها حتّى مع العلم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع.

وهذا معنى قولهم : ( إنّ الأصول العمليّة تجري في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عمليّة لتكليف معلوم بالإجمال ).

وحاصل الكلام : أنّ الأصول الشرعيّة المنجّزة والمثبتة للتكليف الإلزامي تجري في

٢٢٣

تمام أطراف العلم الإجمالي سواء كان لدينا علم آخر بوجود الترخيص إجمالا أم لا ، أمّا مع عدم وجود علم آخر فلا إشكال أصلا لا ثبوتا ولا إثباتا.

وأما مع عدم وجود مثل هذا العلم الآخر فأيضا لا إشكال ؛ لأنّه يمكن الجمع بين جريان الاستصحاب المنجّز في تمام الأطراف وبين هذا العلم الإجمالي الترخيصي ، إذ لا منافاة بينهما لا في الملاكات ؛ لأنّ أحدهما ظاهري والآخر واقعي ، ولا في الامتثال والعمل ؛ لأنّ الترخيص لا يستدعي وجوب التحرك على طبقه بل الجواز فقط ، وهذا لا يمنع من طروّ عنوان آخر مفاده الإلزام.

ومن هنا نفهم معنى قولهم : ( إنّ الأصول العمليّة إذا لم يلزم من جريانها المخالفة العمليّة للتكليف المعلوم فلا مانع من جريانها في جميع أطراف العلم الإجمالي ).

فإنّ مقصودهم من الأصول العمليّة هنا الأصول الشرعيّة المنجّزة لا العقليّة ولا الترخيصيّة مطلقا ؛ لأنّ جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي والذي يكون منجّزا للتكليف الإلزامي لا يلزم منه مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي بوجود نجاسة ، بل العكس يلزم منه الموافقة القطعيّة ، ولا يلزم منه مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي بوجود طهارة أيضا ضمن الإناءات المعلومة نجاستها سابقا ؛ لأنّ العلم بالطهارة لا يوجب التحرّك الفعلي وإطلاق العنان فعلا ، بل العلم بالطهارة معناه أنّه هنا يوجد مقتض لإطلاق العنان والترخيص ، وهذا المقتضي يكون مؤثّرا مع عدم وجود المانع والمفروض هنا أنّ الاستصحاب مانع من ذلك ، فيرفع اليد عنه لوجود المانع ، وبهذا ينتهي الكلام عن الأمر الثاني.

* * *

٢٢٤

٣ ـ جريان الأصول

في

بعض الأطراف وعدمه

٢٢٥
٢٢٦

٣ ـ جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثالث فهو جريان الأصول الشرعيّة المؤمّنة في بعض أطراف العلم الإجمالي.

والكلام عن ذلك يقع في مقامين : ثبوتي وإثباتي.

الأمر الثالث : وهو جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف وعدم جريانها ، وهذا الأمر تارة يبحث فيه ثبوتا أي أنّه هل من المعقول أن تجري الأصول في بعض الأطراف أو لا يعقل ذلك؟ وأخرى يبحث إثباتا وأنّه هل أدلّة الأصول تشمل موارد العلم الإجمالي أو لا؟

ولذلك نبحث هذا الأمر في كلا المقامين ، فنقول :

أمّا الثبوتي فنبحث فيه عن إمكان جريان الأصول المؤمّنة في بعض الأطراف ثبوتا وعدمه.

ومن الواضح أنّه على مسلكنا القائل بإمكان جريان الأصول في جميع الأطراف لا مجال لهذا البحث ، إذ لا معنى لافتراض محذور ثبوتيّ في جريانها في بعض الأطراف.

أمّا مقام الثبوت بمعنى معقوليّة جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف أو عدم معقوليّة ذلك ، فهذا البحث لا موضوع له بناء على مسلك السيّد الشهيد رحمه‌الله ، حيث تقدّم سابقا أنّ الأصول الترخيصيّة يمكن ويعقل جريانها في كلّ الأطراف فمن الأولى جريانها في بعضها ، إذ لا يعقل ألاّ يكون هناك محذور عقلي في جريانها في جميع الأطراف ، ويكون هناك محذور كذلك في جريانها في بعض الأطراف ، إذ لو فرض وجود محذور في البعض فمن الأولى أن يكون المحذور موجودا في الكلّ أيضا ، وحيث إنّه لا يوجد محذور في الكلّ فمن الأولى ألاّ يكون هناك محذور في البعض.

٢٢٧

والوجه في ذلك ما تقدّم سابقا من أنّ حكم العقل بلزوم الامتثال وحرمة المعصية إنّما كان لأجل الحفاظ على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، إلا أنّ هذا الحكم العقلي معلّق على عدم الإذن والترخيص من الشارع ، وإلا كان هذا الإذن إسقاطا لحقّه وبالتالي ينتفي موضوع حكم العقل.

وهذا الإذن يمكن صدوره في موارد الظنّ والشكّ والاحتمال ، وأمّا موارد القطع التفصيلي فلا يمكن ذلك للزوم التنافي والتضادّ ولعدم المحرّكيّة والجدّيّة.

وأمّا موارد العلم الإجمالي فقلنا : إنّه لا يوجد محذور عقلي في الترخيص في كلّ الأطراف ؛ لأنّ هذا الترخيص حكم ظاهري غايته إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة بنظر الشارع عند التزاحم الحفظي بين الملاكات.

وهنا كما يتعقّل أن تكون ملاكات الإلزام هي الأهمّ كذلك يمكن أن تكون ملاكات الإباحة والترخيص هي الأهمّ ، فلا فرق بينهما عند العقل ، إلا أنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص تكون أهمّ من ملاكات الإلزام ، فيكون المحذور عقلائيا لا عقليا ، وهذا كما يتمّ في تمام الأطراف يتمّ في بعض الأطراف بطريق أولى وأوضح.

وأمّا على مسلك القائلين باستحالة جريان الأصول في جميع الأطراف ، فكذلك ينبغي أن نستثني من هذا البحث القائلين بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة مباشرة ، فإنّه على قولهم هذا لا ينبغي أن يتوهّم امتناع جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف إذ يكون من الواضح عدم منافاته للعلم الإجمالي.

وأمّا على مسلك المشهور القائل باستحالة جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ، فلا بدّ أن نفرق بين نحوين وتقريبين لهذه الاستحالة :

أحدهما : أنّ العلم الإجمالي بنفسه لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا ينجّز إلا مقدار الجامع ، وهذا بنفسه لا يستدعي التنجّز في تمام الأطراف ؛ لأنّ الجامع يتحقّق بفرد من أفراده فقط ، فتكون الموافقة القطعيّة واجبة بنحو غير مباشر ، من باب أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة المعلوم بالإجمال.

فعلى هذا المسلك لا محذور ثبوتي في جريان الأصول الترخيصيّة في بعض

٢٢٨

الأطراف ؛ لأنّ المحذور العقلي كان بلحاظ الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وهذا إنّما يتمّ فيما لو جرت الأصول في تمام الأطراف ، وأمّا جريانها في بعضها فلن تتحقّق به المخالفة القطعيّة إذ يحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال موجودا في الأطراف الأخرى التي لا تزال منجّزة.

وعليه ، فلا منافاة بين جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف وبين منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأمّا القائلون بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة فيصحّ البحث على أساس قولهم ؛ لأنّ جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف يرخّص في ترك الموافقة القطعيّة ، فلا بدّ من النظر في إمكان ذلك وامتناعه.

وأمّا المسلك الآخر القائل بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة ، فهنا يكون لهذا البحث الثبوتي أثر وفائدة ، والوجه في ذلك :

أنّ الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي معناه الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، وهذا يساوق المخالفة الاحتماليّة والموافقة الاحتماليّة أيضا ، فهنا يبحث أنّه هل هناك محذور عقلي يمنع من ترك الموافقة القطعيّة ، أو لا يوجد مثل هذا المحذور؟

فهنا يوجد احتمالان :

الأوّل : أنّ العلم الإجمالي وإن كان يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة إلا أنّه لا محذور عقلا في الاكتفاء في الموافقة الاحتماليّة ، فيجري الأصل في بعض الأطراف.

الثاني : أنّ العلم الإجمالي كما يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة كذلك يستدعي عدم جريان الترخيص في بعض الأطراف ، فيستحيل جريان الأصل في بعض الأطراف.

وأمّا النكتة والملاك لهذين الاحتمالين فهو :

ومردّ البحث في ذلك إلى النزاع في أنّ العلم الإجمالي هل يستدعي عقلا وجوب الموافقة القطعيّة استدعاء منجّزا على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، أو استدعاء معلّقا على عدم ورود الترخيص الشرعي على نحو استدعاء المقتضي لما يقتضيه ، فإنّ فعليّته منوطة بعدم وجود المانع.

٢٢٩

فعلى الأوّل يستحيل إجراء الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ؛ لأنّه ينافي حكم العقل الثابت بوجوب الموافقة القطعيّة ، وعلى الثاني يمكن إجراؤه إذ يكون الأصل مانعا عن فعليّة حكم العقل ورافعا لموضوعه.

ومرجع البحث على هذا المسلك القائل بأنّ العلم الإجمالي بنفسه يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ، إلى النزاع في تفسير هذا الاستدعاء ، فإنّه يوجد تفسيران له :

الأوّل : أنّ استدعاء العلم الإجمالي بذاته لوجوب الموافقة القطعيّة على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، فإنّه متى ما ثبتت العلّة ثبت معلولها ، بحيث يستحيل أن تثبت العلّة ولا يثبت معلولها ، فعلى هذا التفسير يكون استدعاء العلم الإجمالي استدعاء منجّزا أي غير معلّق على شيء ، فمتى وجد العلم الإجمالي كانت الموافقة القطعيّة واجبة.

وهذا يعني أنّه يستحيل ترك الموافقة القطعيّة عقلا ؛ لأنّ تركها مع وجود العلّة لها يكون من قبيل تحقّق العلّة وانتفاء المعلول ، وهذا ممتنع عقلا ؛ لأنّ المعلول لا يتخلّف عن علّته.

وحينئذ نقول : إنّ ترك الموافقة القطعيّة كما يكون بترك كلّ الأطراف كذلك يكون بترك بعض الأطراف ؛ لأنّه في كلتا الحالتين يصدق أنّه لا موافقة قطعيّة ، فالمحذور فيهما على حدّ سواء.

ولذلك كما يمتنع جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّه يستلزم ترك وجوب الموافقة القطعيّة كذلك يمتنع جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف ؛ لأنّه يستلزم أيضا الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، والمفروض أنّ الموافقة القطعيّة معلولة للعلم الإجمالي ويستحيل تخلّفها عنه ما دام موجودا ، والحال أنّ العلم الإجمالي موجود وليس منحلاّ.

الثاني : أنّ استدعاء العلم الإجمالي بذاته لوجوب الموافقة القطعيّة على نحو استدعاء المقتضي للمقتضى ، فإنّ هذا الاستدعاء موقوف على انتفاء المانع من تأثير المقتضي في الاقتضاء ، بمعنى أنّه إذا وجد المانع كان التأثير منتفيا ، وإذا لم يوجد كان التأثير فعليّا.

٢٣٠

وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي يكون مستدعيا لوجوب الموافقة القطعيّة بنحو معلّق على عدم المانع ، فتجب الموافقة القطعيّة ؛ لوجود المقتضي وهو نفس العلم الإجمالي ؛ ولعدم المانع أي عدم الترخيص الشرعي ، فإذا ورد الترخيص الشرعي في بعض الأطراف كان معناه تحقّق المانع من تأثير العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فلا تجب لا من باب عدم المقتضي بل من باب وجود المانع ، وعلى هذا فلا يستحيل صدور مثل هذا الترخيص الشرعي ؛ لأنّه يكون من باب الحيلولة من تأثير العلم الإجمالي لا من باب رفع هذا التأثر بعد فعليّته ، فإنّه لا يتمّ إلا بإسقاط العلم الإجمالي عن الحجّيّة وهذا لا يكون إلا بدعوى انحلاله مثلا ونحو ذلك كما سيأتي.

وعلى هذا الأساس وجد اتّجاهان بين القائلين باستدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة :

أحدهما : القول بالاستدعاء على نحو العلّيّة ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق العراقي. (١)

والآخر : القول بالاستدعاء على نحو الاقتضاء ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق النائيني على ما هو المنقول عنه في فوائد الأصول (٢).

فتحصّل من ذلك : أنّه بناء على المسلك القائل بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة يوجد اتّجاهان ومسلكان :

الأوّل : أنّ استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة من باب استدعاء العلّة لمعلولها استدعاء منجّزا غير متوقّف على شيء ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي وجماعة.

الثاني : أنّ استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة من باب الاقتضاء ، أي استدعاء معلّقا على عدم وجود المانع ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني كما نسب إليه في تقرير بحثه.

وقد ذكر المحقّق العراقي رحمه‌الله في تقريب العلّيّة : أنّه لا شكّ في كون العلم منجّزا لمعلومه على نحو العلّيّة ، فإذا ضممنا إلى ذلك أنّ المعلوم بالعلم

__________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٢٣٤.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٢٥.

٢٣١

الإجمالي هو الواقع لا مجرّد الجامع ، ثبت أنّ الواقع منجّز على نحو العلّيّة ، ومعه يستحيل الترخيص في أي واحد من الطرفين ؛ لاحتمال كونه هو الواقع.

وبكلمة أخرى : أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي إن كان هو الجامع فلا مقتضي لوجوب الموافقة القطعيّة أصلا ، وإن كان هو الواقع فلا بدّ من افتراض تنجّزه على نحو العلّيّة ؛ لأنّ هذا شأن كلّ معلوم مع العلم.

استدلّ المحقّق العراقي على القول بعلّيّة العلم الإجمالي بنفسه لوجوب الموافقة القطعيّة بما يلي :

أوّلا : أنّ العلم التفصيلي ينجّز معلومه على نحو العلّيّة ، فإذا علمنا بأنّ هذا المائع خمر كان هذا العلم منجّزا بنفسه لوجوب الاجتناب عن معلومه ، وتنجيزه له على نحو تنجّز العلّة لمعلولها ، أي أنّه ليس معلّقا على شيء ؛ إذ ما دمنا نعلم بأنّه خمر فيحرم شربه ، ولا يمكن التفكيك بينهما.

وثانيا : أنّ العلم الإجمالي قلنا : إنّه علّة لحرمة المخالفة القطعيّة على جميع المباني ، بمعنى أنّه إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين فيحكم العقل بحرمة المخالفة ووجوب الامتثال لهذا المعلوم ، سواء كان المعلوم هو الجامع أو الواقع أو الفرد المردّد ؛ لأنّه على كلّ التقادير يكون ارتكاب كلا الإناءين ارتكابا للنجس المعلوم والذي حكم العقل بلزوم الاجتناب عنه وحرمة مخالفته.

فيكون الارتكاب للجميع مخالفا للتكليف الداخل يقينا في الذمّة والعهدة ، ولذلك فحكم العقل بحرمة المخالفة القطعيّة ليس معلّقا على شيء ، بل هو منجّز وهذا معنى العلّيّة.

وثالثا : أنّ العلم الإجمالي بناء على ما هو الصحيح عنده متعلّق بالواقع المحكي بالجامع المعلوم كما تقدّم ، فيكون الواقع دخيلا في العهدة ومشتغلة به الذمّة ، فيحكم العقل بلزوم امتثاله وحرمة مخالفته ؛ وامتثاله لا يكون بفعل أحد الطرفين وترك الآخر ؛ لأنّه لا يقطع معه بفراغ الذمّة وبراءتها من التكليف الداخل في عهدتها ، إذ قد يكون الواقع المنجّز هو الطرف الآخر الذي لم يمتثله ، وعليه يكون الواجب الإتيان بكلا الطرفين أو ترك الطرفين معا لكي يتحقّق عنوان الامتثال فتبرأ الذمّة يقينا.

وهذا معناه أنّ العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّه

٢٣٢

الواقع ، والواقع لا يمتثل إلا بالطرفين لا أحدهما ، فكان العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة من باب تحصيل الفراغ اليقيني ، ومن باب دفع الضرر والعقاب المحتمل فيما إذا فعل أحدهما وترك الآخر.

وما دام العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة فكما يستحيل فعل أحد الطرفين وترك الآخر لما ذكرنا ، كذلك يستحيل صدور الترخيص في بعض الأطراف دون الآخر ؛ إذ من المحتمل أن يكون الواقع هو ذاك الطرف الذي تركه فيكون ترخيصا في المخالفة ووقوعا في الضرر والعقاب ، ولا تكون الذمّة بريئة وخارجة عن العهدة.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي إن كان متعلّقا بالجامع من دون أن يسري إلى الحدّ الشخصي فلا يوجد مقتضي أصلا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع يكفي في تحقّقه الإتيان بفرد واحد وتبرأ الذمّة به.

وإن كان متعلّقا بالواقع كما هو مختار المحقّق العراقي فيكون العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة كما كان علّة لحرمة المخالفة القطعيّة ، على أساس أنّ شأن العلم مع معلومه هو شأن العلّة مع معلولها ، بحيث يكون العلم هو العلّة لتنجّز المعلوم ، وحيث إنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي متعلّقا بالواقع ولا فرق بينهما من هذه الناحية فيكون حالهما واحد ، والمفروض أنّ العلم التفصيلي علّة لتنجّز معلومه فالعلم الإجمالي مثله.

ومجرّد كون الصورة الذهنيّة للعلم الإجمالي فيها غموض وتشويش وعدم وضوح لا يعني أنّ الواقع كذلك ، بل الواقع ليس فيه غموض وتشويش في نفسه وإنّما صورته كذلك ، إلا أنّ العلم تعلّق بالواقع المحكي بالصورة لا بنفس الصورة كما هو واضح.

واعترض عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) بأنّ العلم الإجمالي ليس أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي ، والعلم التفصيلي نفسه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتماليّة لمعلومه ، كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وهذا يعني عدم كونه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، فكذلك العلم الإجمالي.

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٣٤.

٢٣٣

اعترض المحقّق النائيني على هذا الاستدلال بمنع علّيّة العلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فيكون المنع عن علّيّة العلم الإجمالي فيها أوضح ؛ لأنّه ليس أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي.

وأمّا كيف لا يكون العلم التفصيلي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة؟ فلأنّه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتماليّة بلحاظه في بعض الموارد كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، ومع إمكان الترخيص في المخالفة الاحتماليّة فيه لا يكون علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ إذ لا يمكن اجتماعهما معا.

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا بوجوب الصلاة فهذا علم تفصيلي ، فإذا شككنا أثناء الصلاة في الإتيان بالقراءة بعد تجاوز محلّها لا تجب إعادتها ، وكذا لو شككنا في أنّ الصلاة كانت صحيحة أم لا بعد الفراغ منها لا تجب إعادتها ، فلو كان العلم التفصيلي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة لكان اللازم الإعادة من جديد تحصيلا للموافقة القطعيّة ، فالاكتفاء بما أتى به معناه أنّه يكتفي في الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة أيضا ؛ إذ قد لا يكون قد أتى بالقراءة أو قد يكون قد صلّى صلاة فاسدة ، فلا تكون ذمّته بريئة حينئذ.

وبتعبير آخر : أنّ العلم التفصيلي لو كان علّة لوجوب الموافقة كان اللازم الإتيان بصلاة واجدة لجميع الشرائط والأجزاء يقينا ؛ لكي تحصل البراءة اليقينيّة وتفرغ الذمّة يقينا ممّا اشتغلت به ، والحال أنّنا نجد أنّهم يتّفقون على الاكتفاء بالصلاة التي صلاّها إعمالا لقاعدتي الفراغ أو التجاوز ، مع أنّه يحتمل المخالفة معهما.

فحيث إنّ العلم التفصيلي حاله كذلك فالعلم الإجمالي يكون مثله ؛ إذ لا يعقل كونه أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي في التنجيز.

فتحصّل ممّا ذكر : أنّ العلم الإجمالي ليس علّة لوجوب الموافقة القطعيّة كالعلم التفصيلي ، ولذلك كما يعقل الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، كذلك يعقل ورود الترخيص الشرعي في بعض الأطراف ؛ لأنّ نتيجته هي الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة أيضا ، من دون فرق بين الموردين.

وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة إلا أنّه معلّق على عدم ورود الترخيص من الشارع.

٢٣٤

وأجاب المحقّق العراقي (١) على هذا الاعتراض : بأنّ قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصا في ترك الموافقة القطعيّة لتكون منافية لافتراض علّيّة العلم لوجوبها ، بل هي إحراز تعبّدي للموافقة أي موافقة قطعيّة تعبّديّة ، وافتراض العلّيّة يعني علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وجدانا أو تعبّدا.

وأجاب المحقّق العراقي عن هذا النقض بما حاصله : أنّ مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز الجاريتين لتصحيح ما أتى به من عمل ليستا من قبيل ورود أصل عملي ترخيصي ناف للتكليف عن بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ قاعدة الفراغ مثلا بعد جريانها يثبت بها أنّه المكلّف قد امتثل للصلاة ، وأنّه أدّى المأمور به وفرغت ذمّته وخرجت عن عهدة التكليف.

وهذا يعني أنّه قد حقّق الموافقة القطعيّة للمأمور به ، غاية الأمر أنّ هذه الموافقة القطعيّة ثابتة بالتعبّد لا بالوجدان ، ونحن حينما نوجب الموافقة القطعيّة لا نحصرها في الموافقة القطعيّة الوجدانيّة ، بل الأعمّ منها ومن الموافقة القطعيّة التعبّديّة ، فيكون دليل الفراغ والتجاوز موسّعا لدائرة الموافقة القطعيّة لتشمل كلا النحوين من الموافقة القطعيّة.

وعليه ، فالمكلّف لا يحتمل عدم الموافقة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، بل هو تعبّدا قد حقّق الموافقة القطعيّة.

وهذا خلافا للأصول الترخيصيّة الجارية في بعض الأطراف ، فإنّها تنفي التكليف عنها أي أنّها تفكّك بين العلّة ومعلولها وهو ممتنع.

فمثل البراءة ، أو أصالة الطهارة ، أو أصالة الحلّ ؛ إذا أريد إجراؤها في بعض الأطراف كان لازمها أنّ هذه الأطراف لا تكليف فيها مع وجود العلّة المقتضية للتكليف أي العلم الإجمالي ، فيلزم محذور المخالفة الاحتماليّة ومحذور عدم براءة الذمّة يقينا عمّا اشتغلت به يقينا.

فحال العلم الإجمالي حال العلم التفصيلي في ذلك ، فكما أنّ قاعدتي الفراغ والتجاوز تجريان مع العلم التفصيلي ، مع أنّه لا شكّ عندهم في كونه منجّزا لمعلومه على نحو العلّيّة فكذلك الحال في العلم الإجمالي أيضا ، بمعنى أنّه لا مانع من جريان

__________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٢٣٨.

٢٣٥

الأمارات في بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ لأنّها بمدلولها الالتزامي تثبت أنّ اشتغال الذمّة في الأطراف الأخرى.

وبهذا يظهر الفرق بين إجراء قاعدة الفراغ وإجراء أصالة البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فإنّ الأوّل لا ينافي العلّيّة بخلاف الثاني.

وأمّا الفرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز من جهة وبين أصالة البراءة والإباحة والحلّيّة والطهارة من جهة أخرى ، فهو أن يقال : إنّ مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز حيث إنّهما من الأمارات فيكون المجعول فيهما العلميّة.

وعليه ، فالعمل الذي فرغ منه أو المحلّ الذي تجاوز عنه قد عمله على وجهه الصحيح تعبّدا ، أي أنّه معلوم الصحة تعبّدا ، وبذلك يكون دليل القاعدتين حكما على الأدلّة التي توجب الموافقة القطعيّة ، سواء في ذلك العلم التفصيلي أو العلم الإجمالي ، حيث إنّها تنظر إلى الموافقة القطعيّة وتفترض وجود فرد آخر لها وهو الموافقة التعبّديّة لا خصوص الموافقة القطعيّة الوجدانيّة.

فتكون الموافقة القطعيّة متحقّقة في القاعدتين ، وبالتالي لا منافاة بينهما وبين القول بعلّيّة العلم التفصيلي والإجمالي ؛ لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل بينهما انسجام تام ؛ لأنّهما يحقّقان هذه الموافقة المطلوبة.

بينما مثل البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة فهي ليست علما تعبّدا لتكون حاكمة وموسّعة لموضوع الموافقة القطعيّة ، وإنّما هي تنفي التكليف ابتداء عن الطرف الذي تجري فيه.

وهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعيّة والاكتفاء بالمخالفة والموافقة الاحتماليّة ، وحينئذ يأتي المحذور من أنّها تستلزم الترخيص في الموافقة القطعيّة المعلولة للعلم الإجمالي ، وهو من باب التفكيك بين العلّة ومعلولها ، ومن أنّها تستلزم نفي التكليف عن الطرف بينما منجّزيّة العلم تقتضي منجّزيّة التكليف في الطرف.

ولا يمكن الأخذ باللازم من جريان البراءة في الطرف ليقال إنّ التكليف يكون في الطرف الآخر ، وما اشتغلت به الذمّة ليس في هذا وإنّما في ذاك ؛ لأنّ هذا اللازم ليس حجّة كما تقدّم في محلّه من عدم حجّيّة لوازم الأصول ، بخلاف لوازم الأمارة فإنّها حجّة يمكن الأخذ بها.

٢٣٦

فإذا قامت الأمارة على نفي التكليف في هذا الطرف كان لازمها أنّه في الطرف الآخر وهذا اللازم حجّة ، ونتيجتها أنّ المعلوم بالإجمال في تلك الأطراف وما اشتغلت به الذمّة هناك وليس هنا ، فتتحقّق الموافقة القطعيّة في تلك الأطراف فقط ؛ لأنّ الطرف الذي قامت عليه الأمارة قد خرج عن دائرة المعلوم بالإجمال تعبّدا.

والتحقيق : أنّ قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وإن كانتا مختلفتين في لسانيهما ، إلا أنّ هذا مجرّد اختلاف في اللسان والصياغة ، وأمّا واقعهما وروحهما فواحد ؛ لأنّ كلاّ منهما نتيجة لتقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللزوميّة عند الاختلاط في مقام الحفظ ، غير أنّ هذا التقديم تارة يكون بلسان الترخيص ، وأخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة وافتراضها موافقة كاملة.

فلا معنى للقول بأنّ أحد اللسانين ممتنع دون الآخر.

والتحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز وبين الأصول العمليّة الترخيصيّة ، كالبراءة والإباحة والحلّيّة والطهارة من حيث المنشأ والملاك ، وإن كانت مختلفة في اللسان والصياغة.

وتوضيح ذلك : إنّنا عرفنا فيما سبق أنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع لعلاج حالة الشكّ والاشتباه واختلاط الملاكات الواقعيّة وعدم تمييزها ، وقلنا هناك : إنّ هذه الأحكام في عالم الجعل والثبوت لا تخلو عن أحد أمور ثلاثة ؛ لأنّ الشارع تارة يلحظ أهمّيّة المحتمل ، وأخرى أهمّيّة الاحتمال ، وثالثة أهميّتهما معا.

فالأوّل هو الأصول المحضة كالبراءة والاحتياط ، والثاني هو الأمارات كالبيّنة وحجّيّة الظهور وخبر الثقة ، والثالث كالاستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز.

إلا أنّه مع ذلك يتّفق الجميع في كونها أحكاما ظاهريّة مجعولة لإبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، سواء كان هذا الإبراز بلسان إبراز أهمّيّة المحتمل أو بلحاظ أهمّيّة الاحتمال أو بلحاظهما معا ، فإنّ اللحاظ مختلف إلا أنّ الملحوظ واحد ، إذ النتيجة العمليّة هي إمّا الترخيص وإطلاق العنان فيما إذا كانت ملاكات الترخيص والإباحة الواقعيّة هي الأهمّ ، وإمّا الإلزام والتجنّب والاحتياط إذا كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ.

وحينئذ نقول : إنّ اللسان وإن كان مختلفا بين البراءة والفراغ حيث إنّ الأولى

٢٣٧

أخذ في موضوعها الشكّ فقط ، بينما الثانية أخذ الشكّ مع الكشف ، إلا أنّهما معا نشئا من أهمّيّة ملاكات الترخيص الواقعيّة.

فالبراءة تفيد الترخيص ولكن بلسان نفي التكليف ابتداء ، والفراغ تفيد الترخيص لكن بلسان تحقّق المأمور به ووقوعه تعبّدا ، فإنّ هذا لازمه نفي التكليف عن وجوب الإعادة مثلا والاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، ولكن بعد فرض أنّ هذه الموافقة الاحتماليّة تكفي في المقام كالموافقة القطعيّة ، وإلا فبالدقّة لا يوجد موافقة قطعيّة حقيقيّة ؛ إذ يحتمل ألاّ يكون قد قرأ أو يحتمل أن تكون صلاته باطلة لنقصان ركوع أو وضوء مثلا.

فإذا اتّضح لنا ذلك لم يكن هناك معنى للقول بأنّ قاعدتي الفراغ والتجاوز تجريان في بعض أطراف العلم الإجمالي كما تجريان في العلم التفصيلي ، بينما مثل أصالة البراءة والطهارة ونحوهما لا يجريان في بعض الأطراف.

بل التحقيق هو إمّا أن يلتزم بعدم جريان الجميع أو يلتزم بجريان الجميع.

والصحيح : هو عدم علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف له نفس الحيثيّات المصحّحة لجعل الحكم الظاهري في سائر الموارد.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

والصحيح : عدم علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة.

وبيان ذلك : أنّنا إذا قلنا بمقالة المشهور في حقيقة الحكم الظاهري ، وفي الحكم العقلي الأوّلي ، كان الصحيح ما ذهب إليه المحقّق العراقي من علّيّة العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة كحرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا إذا قلنا بالمبنى المختار والصحيح في حقيقة الحكم الظاهري وفي حكم العقل بحقّ الطاعة ، كان الصحيح ما ذهب إليه المحقّق النائيني من اقتضاء العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك لأنّنا قلنا : إنّ حكم العقل بوجوب الطاعة والامتثال وحرمة المخالفة والمعصية معلّق على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وهذا الترخيص قلنا : إنّه يستحيل في موارد العلم التفصيلي ؛ للتنافي ولعدم الجدّيّة ، وقلنا : إنّه ممكن عقلا في موارد العلم الإجمالي إلا أنّه غير ممكن عقلائيّا.

٢٣٨

إلا أنّ الحاصل من الجميع أنّ العلم بذاته ونفسه ليس علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل هو مقتض لذلك ومعلّق على عدم المانع ، وهذا المانع مفقود في موارد العلم التفصيلي عقلا وفي موارد العلم الإجمالي عقلائيّا ، ولكنّه موجود في موارد سائر الشبهات الأخرى ؛ لأنّ الترخيص قد صدر فيها جزما.

وبهذا يظهر أنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف ممكن عقلا كما يمكن الترخيص في كلّ الأطراف أيضا ، كما تقدّم سابقا ، وورود الترخيص ومعقوليّته وإمكانه يتنافى مع القول بالعلّيّة ؛ لأنّ إمكان الترخيص على مسلك العلّيّة معناه إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول وهو ممتنع في نفسه ، فيكون إمكان الترخيص بنفسه دليلا على عدم صحّة مسلك العلّيّة.

وبهذا ينتهي الكلام في مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد يقال : إنّ أدلّة الأصول قاصرة عن إثبات جريان الأصل في بعض الأطراف ؛ لأنّ جريانه في البعض ضمن جريانه في كلّ الأطراف باطل ؛ لأنّنا فرغنا من عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وجريانه في البعض المعيّن دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة دليل الأصل إلى كلّ من الطرفين على نحو واحد ، وجريانه في البعض المردّد غير معقول ؛ إذ لا معنى للمردّد.

وأمّا مقام الإثبات : فقد يقال : إنّ أدلّة الأصول الترخيصيّة كحديث الرفع مثلا الدالّ على البراءة ، لا تشمل موارد العلم الإجمالي ، بل هي مقيّدة بموارد الشكّ البدوي ، فلسانها قاصر عن الشمول لموارد الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّنا إذا أردنا إجراء الأصل الترخيصي كالبراءة والطهارة والحلّيّة والإباحة مثلا في بعض أطراف العلم الإجمالي ، فهذا البعض ما ذا يراد به؟

فإن أريد بالبعض الموجود ضمن الكلّ أي أنّنا نجري الأصل الترخيصي في البعض ضمن جريانه أيضا في البعض الآخر فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ النتيجة هي جريان الأصل الترخيصي في تمام أطراف العلم الإجمالي وهو مستحيل عقلا ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال كما تقدّم.

وإن أريد بالبعض البعض المعيّن أي هذا الطرف بحدّه الشخصي المعيّن دون ذاك

٢٣٩

فهو باطل أيضا ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، حيث إنّ نسبة الأصل الترخيصي إلى الطرفين على حدّ واحد ؛ لأنّ كلاّ منهما مورد لجريان الأصل في نفسه.

وإن أريد بالبعض البعض المردّد أي أحد الطرفين فهذا البعض المردّد إن أريد به مفهوم البعض المردّد فهو مفهوم كلّي انتزاعي منتزع من الطرفين وعبارة أخرى عن الجامع ، وإن أريد به واقع المردّد ففي الخارج لا يوجد فرد بهذا العنوان ؛ لأنّ الفرد في الخارج موجود بحدّه الشخصي.

وبهذا ظهر أنّ أدلّة الأصول في مقام الإثبات لا تشمل بعض الأطراف.

وبكلمة أخرى : أنّه بعد العلم بعدم جريان الأصل في كلّ الأطراف في وقت واحد ، يحصل التعارض بين إطلاق دليل الأصل لكلّ طرف وإطلاقه لسائر الأطراف ، ومقتضى التعارض التساقط.

وبتعبير آخر : أنّنا بعد أن فرغنا عن عدم إمكان جريان الأصل الترخيصي في تمام أطراف العلم الإجمالي على مسلك المشهور ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة.

فإذا أردنا إجراء الأصل في بعض الأطراف دون البعض الآخر سوف يقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل الترخيصي لهذا الطرف مع إطلاق دليل الأصل للطرف الآخر ؛ لأنّ المفروض أنّ دليل الأصل يشمل بإطلاقه كلّ الأطراف ، فالأخذ بإطلاقه في هذا الطرف دون ذاك معناه تقديم وترجيح إطلاقه في هذا على ذاك.

أو بعد حصول التعارض فالقاعدة هي التساقط ، إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر ؛ لكونهما معا مشمولين لإطلاق دليل الأصل ، وبهذا يكون المحذور إثباتيّا فقط ؛ لأنّ جريان الأصل ممكن عقلا إلا أنّ دليله قاصر عن إجرائه في بعض أطراف العلم الإجمالي.

وهناك اعتراض مشهور يوجّه إلى هذا البرهان وحاصله : أنّ المحذور الناجم عن جريان الأصول في كلّ الأطراف هو الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وهذا المحذور إنّما ينشأ من إجراء الأصل في كلّ من الطرفين مطلقا ، أي سواء ارتكب المكلّف الطرف الآخر أو اجتنبه.

فإذا ألغينا إطلاق الأصل في كلّ منهما لحالة ارتكاب الآخر انتج إثبات ترخيصين مشروطين ، وكلّ منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة.

٢٤٠