شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

المرحلة الأولى في إثبات أصل حجيّة الأخبار

٢٠١
٢٠٢

المرحلة الأولى

في إثبات أصل حجيّة الأخبار

والمشهور بين العلماء هو المصير إلى حجيّة خبر الواحد ، وقد استدل على الحجيّة بالكتاب الكريم والسنّة والعقل.

المشهور هو حجيّة خبر الواحد في الجملة ، أي أنّهم قبلوا أصل حجيّة الخبر بالجملة ، ولكنهم اختلفوا في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها وأقسام الخبر الحجّة ، فبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر الواحد مطلقا ، وبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر العادل فقط ، وبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر الثقة ، وهكذا.

وأمّا أصل الحجيّة بنحو القضيّة المهملة في مقابل المنكرين للحجيّة مطلقا فالمشهور على الحجيّة ، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب الكريم والسنّة الشريفة والعقل.

[ ١ ـ الكتاب الكريم ]

أمّا ما استدل به من الكتاب فآيات :

منها : آية النبأ ، وهي قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ )(١) ، ويمكن الاستدلال بها بوجهين :

القسم الأوّل من الأدلّة التي أقيمت على حجيّة خبر الواحد هو الاستدلال بالكتاب الكريم ، وأهم الآيات التي ذكرت هي آية النبأ وآية النفر.

أمّا آية النبأ فتقريب الاستدلال بها يتمّ بأحد وجهين :

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٢٠٣

الأوّل : الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد عن طريق مفهوم الشرط.

الثاني : الاستدلال بها من خلال مفهوم الوصف.

الوجه الأوّل : أن يستدلّ بمفهوم الشرط فيها على أساس أنّها تشتمل على جملة شرطية تربط الأمر بالتبيّن عن النبأ بمجيء الفاسق به فينتفي بانتفائه ، وهذا يعني عدم الأمر بالتبيّن عن النبأ في حالة مجيء

العادل به ، وبذلك تثبت حجيّة نبأ العادل.

الوجه الأوّل : تقريب الاستدلال بها على أساس مفهوم الشرط بأن يقال : إن الآية الكريمة تشتمل على جملة شرطية وهي تتكون من شرط وجزاء وموضوع ، أمّا الشرط هنا فهو مجيء الفاسق ، وأمّا الجزاء فهو وجوب التبيّن ، وأمّا الموضوع فهو النبأ ، فيكون المنطوق فيها هو : أنّه يجب التبيّن عن النبأ الذي يأتي به الفاسق ، ومفهومها هو أنّه لا يجب التبيّن عن النبأ الذي لا يأتي به الفاسق أي خبر العادل لا يجب فيه التبيّن.

وبهذا تثبت حجيّة خبر العادل ؛ لأنّ عدم وجوب التبيّن معناه كونه حجّة دون خبر الفاسق الذي يجب التبيّن عنه ، وإلا لكان خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق ، لأنّ عدم وجوب التبيّن يتلاءم مع رد الخبر من دون تبيّن ويتلاءم مع أخذه وقبوله من دون تبيّن ، والأوّل يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، لأنّ خبر الفاسق يجب التبيّن فيه ثمّ أخذه أو رده بعد ذلك ، فلا يعقل أن يكون خبر العادل يجب أن يرد مباشرة من دون تبيّن ، فيتعين وجوب الأخذ به وهو معنى حجيّته.

ولا يكفي أن ننفي التبيّن عن خبر العادل للقول بحجيّته بناء على حمل الوجوب للتبيّن على النفسي الذي هو أحد الاحتمالات في تفسير التبيّن ووجوبه ، لأنّ هذا التفسير خلاف الظاهر من الآية ، فإنّ الأمر بالتبيّن فيها لا يمكن حمله على الوجوب النفسي وإلا لما كانت هناك مناسبة بين صدر الآية وذيلها الظاهر في تعليل وجوب التبيّن بخوف الإصابة بجهالة ، والذي يعني أنّ التبيّن كان لأجل العمل به لا لنفس الخبر ، ولأنّه على هذا لا يمكن أن يستفاد حجيّة خبر العادل لأنّ نفي وجوب التبيّن عنه لو كان نفسيا معناه أنّ خبر العادل لا يتبين عنه من أجل لزوم التجسس والإهانة من التبيّن.

وكذا لا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن طريقيّا ؛ لأنّ غايته نفي الطريقية عن خبر

٢٠٤

الفاسق وإثباتها لخبر العادل ، وأمّا أنّ هذه الطريقية هل هي حجّة ومعتبرة شرعا أم لا؟ فهذا لا يستفاد من الآية لوحدها.

ولا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن غيريّا ، لأنّه يعني أنّ خبر العادل لا يجب التبيّن فيه ؛ لأنّه ليس فيه إصابة بالجهالة والسفاهة ، بخلاف خبر الفاسق ، إلا أنّ الوجوب الغيري يحتاج إلى أن يكون هناك وجوب نفسي أيضا ليكون التبيّن مقدّمة له ، وهذا غير موجود في الآية.

فيبقى هناك احتمالان في تفسير الأمر بالتبيّن ، هما :

لأنّ الأمر بالتبيّن الثابت في منطوق الآية ، إما أن يكون إرشادا إلى عدم الحجيّة ، وإمّا أن يكون إرشادا إلى كون التبيّن شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق وهو ما يسمّى بالوجوب الشرطي ، كما تقدّم في مباحث الأمر.

إذا فالاستدلال بمفهوم الشرط في الآية متوقف على أحد هذين التفسيرين لوجوب التبيّن والأمر به ، وهما :

الأول : أن يكون الأمر بالتبيّن إرشادا إلى عدم الحجيّة ، بمعنى أنّ خبر الفاسق ليس حجّة ، ولذلك أمر الشارع بلزوم التبيّن إرشادا إلى هذا الأمر ، فلا يكون المقصود من الأمر هنا معناه الموضوع له لغة أي الوجوب ، بل أريد به الإرشاد إلى حكم وضعي وهو الحجيّة وعدمها ، فخبر الفاسق ليس حجّة بينما خبر العادل حجّة.

الثاني : أن يكون الأمر بالتبيّن إرشادا إلى أنّه شرط في جواز العمل بخبر الفاسق ، فإذا أريد العمل بخبر الفاسق يجب التبيّن والفحص ، فيكون الأمر بالتبيّن شرطا لجواز العمل في خبر الفاسق ، بينما جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن.

والأوّل هو مختار السيّد الشهيد ؛ لأنّ هذا اللسان يستفاد منه الإرشاد إلى الحجيّة وعدمها ، كغيره من الألسنة التي تدلّ عليها.

والثاني مختار الشيخ الانصاري.

فعلى الأوّل : يكون نفيه بعينه معناه الحجيّة.

أمّا على التفسير الأوّل من أنّ الأمر بالتبيّن بالنسبة لخبر الفاسق إرشاد إلى عدم الحجيّة ، فيكون انتفاء الأمر بالتبيّن عند عدم مجيء الفاسق بالنبإ معناه إثبات الحجيّة وبهذا يثبت أنّ خبر العادل حجّة لأنّه لا يجب التبيّن عنه ، ولا نحتاج إلى ضمّ تلك

٢٠٥

المقدّمة من أنّه يلزم من عدم حجيّته كونه أسوأ حالا من خبر الفاسق ، وذلك لأنّ نفي الأمر بالتبيّن بنفسه يساوق الحجيّة لأنّه أحد ألسنتها.

وعلى الثاني ـ يعني نفيه ـ : أنّ جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، وهذا بذاته يلائم جواز العمل به بدون تبيّن ـ وهو معنى الحجيّة ـ ويلائم عدم جواز العمل به حتّى مع التبيّن ، لأنّ الشرطيّة منتفية في كلتا الحالتين ، ولكن الثاني غير محتمل لأنّه يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، ولأنّه يوجب المنع عن العمل بالدليل القطعي نظرا إلى أنّ الخبر بعد تبيّن صدقه يكون قطعيّا ، فيتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

وأمّا على التفسير الثاني للأمر بالتبيّن من كونه وجوبا شرطيا لجواز العمل فيكون المنطوق مفاده أنّه يشترط التبيّن فيما إذا كان الفاسق قد جاء بنبإ ، والمفهوم هو أنّه لا يشترط التبيّن فيما إذا جاء العادل بالنبإ فخبر العادل لا يشترط التبيّن فيه.

ثمّ إنّ نفي اشتراط التبيّن عن خبر العادل يحتمل فيه أمران :

١ ـ أن يكون خبر العادل حجّة ولذلك لا يشترط التبيّن عنه ، فيكون لازم نفي التبيّن إثبات الحجيّة. وعليه ، فيجوز العمل بخبر العادل من دون تبيّن ، بخلاف خبر الفاسق فلا يجوز العمل به إلا بعد التبيّن.

٢ ـ أن يكون المراد أن خبر العادل لا يجوز العمل به سواء تبيّن أم لا ، فيكون جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، بل إنّه سواء كان هناك تبيّن أم لم يكن فلا يجوز العمل بخبره ، وهذا لازمه عدم حجيّة خبر العادل مطلقا سواء تبيّن عنه أم لا.

وكلا هذين الاحتمالين ممكن نظريّا ، لأنّ الشرطيّة منتفية فيهما ، فإنّ عدم الأمر بالتبيّن كما يصدق على كونه حجّة كذلك يصدق على كونه ليس حجّة ، فإنّ كان حجّة فلا يجب التبيّن عنه ، وإن لم يكن حجّة لا يجب التبيّن عنه أيضا ، فسواء تبيّن أم لا فهو حجّة على الأوّل ، وسواء تبيّن أم لا فهو ليس حجّة على الثاني فكما لا يضر التبيّن وعدمه بناء على حجيّته كذلك لا يفيد التبيّن وعدمه بناء على نفي الحجيّة عنه.

إلا أنّ الاحتمال الأوّل هو المتعيّن بحسب الفهم العرفي دون الثاني ؛ وذلك لأنّه على الاحتمال الثاني يكون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهذا غير محتمل عقلائيّا ، فإنّ العقلاء إما أن يعتبروا خبر العادل أحسن حالا من خبر الفاسق أو على

٢٠٦

الأقلّ فهو مساو له ، ولا يتعقلون كونه أقل شأنا منه ، فإذا كان خبر الفاسق يجب التبيّن فيه ثمّ بعد ذلك يجوز العمل به ، فلا بد أن يكون خبر العادل مثله أو أحسن ، بأن يجوز العمل به بعد التبيّن أو يجب العمل به من دون تبيّن لا أنّه يجب طرحه وأنّه لا يجوز العمل به حتّى مع التبيّن ، وهذا ما يسمّى بدليل الأسوئيّة.

وثانيا : لو كان المراد أنّ خبر العادل لا يجوز العمل به سواء تبيّن عنه أم لا ، كان لازمه المنع عن العمل بالدليل القطعي ، وهو واضح البطلان ، لأنّ القطع لا يعقل المنع عن العمل به.

والوجه في ذلك أنّه بعد التبيّن عن خبر العادل قد يثبت لنا صدقه أو كذبه ، فإذا ثبت صدقه صار دليلا قطعيّا لإفادته العلم واليقين فكيف لا يجوز العمل به والحال هذه؟! ولذلك لا يعقل هذا التفسير ، فيتعين الاحتمال الأوّل ، وبه يتمّ الاستدلال بالآية على حجيّة خبر العادل الذي هو أحد أقسام خبر الواحد فثبت أنّ خبر الواحد يجوز العمل به وإن لم يفد العلم ، وذلك لجعل الحجيّة له شرعا.

ويوجد اعتراضان مهمّان على الاستدلال بمفهوم الشرط في المقام :

أحدهما : أنّ الشرط في الجملة مسوق لتحقق الموضوع ، وفي مثل ذلك لا يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم.

ثمّ إنّه قد وجّهت لهذا الاستدلال عدة اعتراضات أهمها اثنان ، ذكرهما الشيخ في الرسائل ، هما :

الاعتراض الأوّل : أنّ الجملة الشرطيّة إنّما يصحّ الاستدلال بمفهومها فيما إذا لم تكن مسوقة لتحقق الموضوع ، وإلا فتكون جملة شرطية بظاهرها ولكن روحها وجوهرها الجملة الحملية التي لا مفهوم لها أصلا ليصح الاستدلال به.

وهنا الجملة الشرطيّة في الآية مسوقة لتحقق الموضوع ؛ وذلك لأنّ الشرط فيها هو مجيء الفاسق بالنبإ ، والجزاء هو وجوب التبيّن والموضوع هو نبأ الفاسق ، وعلى هذا يكون الشرط والموضوع متحدين لأنّ نبأ الفاسق الذي هو الموضوع لا يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق الذي هو الشرط ، فكان الشرط تعبيرا آخر عن الموضوع ، وليس شيئا زائدا عليه ، فلو لا الشرط لما تحقّق الموضوع لأنّ نبأ الفاسق لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق دون غيره ، فتكون هذه الجملة بقوّة قولنا : ( تبيّن نبأ الفاسق عند

٢٠٧

مجيئه ) ، ومثل هذه الجملة لا مفهوم لها ، لأنّها قضيّة حمليّة جزئيّة لا يستفاد منها أكثر من منطوقها ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ ينتفي الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، لا من باب المفهوم ، أي أنّه لا يجب التبيّن لأنّه لا موضوع له ، وأمّا أنّ خبر العادل يجب التبيّن عنه أم لا فهذا مطلب آخر يحتاج إلى دليل خاص يدلّ عليه.

والتحقيق : أنّ الموضوع والشرط في الجملة الشرطيّة المذكورة يمكن تصويرهما بأنحاء :

منها : أن يكون الموضوع طبيعي النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به.

ومنها : أن يكون الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيئه به ، فكأنّه قال : ( نبأ الفاسق إذا جاءكم به فتبينوا ).

ومنها : أن يكون الموضوع الجائي بالخبر ، والشرط فسقه ، فكأنّه قال : ( الجائي بالخبر إذا كان فاسقا فتبينوا ).

والجواب عن هذا الاعتراض أن يقال : إنّ الموضوع والشرط في هذه الجملة الشرطيّة يمكن تصويرهما على ثلاثة أنحاء ، فيثبت المفهوم في اثنين منها دون الثالث ، فلا بد من بيان هذه الأنحاء الثلاثة لمعرفة ما هو المقصود منها في مقامنا.

فنقول : تارة يكون الموضوع طبيعي النبأ من دون قيد ، والشرط هو مجيء الفاسق به ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. فيكون المعنى أنّ النبأ إذا جاء به الفاسق فيجب التبيّن عنه.

وأخرى يكون الموضوع نبأ الفاسق أي النبأ المقيّد بالفاسق ، والشرط هو مجيء الفاسق به ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. ويكون المعنى أنّ نبأ الفاسق إذا جاء به الفاسق فيجب التبيّن عنه.

وثالثة يكون الموضوع الجائي بالنبإ ، أو النبأ المجيء به ، والشرط هو فسق الجائي ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. ويكون المعنى أنّ الجائي بالنبإ إن كان فاسقا فيجب التبيّن عنه.

وحينئذ لا بدّ من البحث حول ثبوت المفهوم وعدمه في كل من هذه الأنحاء الثلاثة ، فنقول :

ولا شكّ في ثبوت المفهوم في النحو الأخير لعدم كون الشرط حينئذ محققا للموضوع.

٢٠٨

أمّا النحو الثالث وهو كون الجائي بالنبإ إن كان فاسقا فيجب التبيّن ، فلا شكّ في ثبوت المفهوم فيه ؛ وذلك لأنّ الموضوع والشرط متغايران ، فإنّ النبأ والجائي به قد يصدق مع الفاسق وقد يصدق مع العادل ، فليس الشرط إذا مسوقا لتحقق الموضوع أصلا ، لأنّه يثبت بدونه أيضا ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ لا ينتفي النبأ بل يثبت مع العادل أيضا ، ويكون المفهوم إنّه إذا جاء العادل بالنبإ فلا يجب التبيّن بخلاف مجيء الفاسق به.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ، وهو الذي اختاره صاحب ( الكفاية ).

كما لا شكّ في عدم المفهوم في النحو الثاني ، لأنّ الشرط حينئذ هو الأسلوب الوحيد لتحقق الموضوع.

وأمّا النحو الثاني ، وهو كون الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيء الفاسق به ، فهنا الشرط والموضوع متحدان ، فيكون الشرط مسوقا لتحقيق الموضوع ، وهو أيضا الأسلوب الوحيد لتحقيقه ؛ لأنّه يستحيل أن يتحقّق نبأ الفاسق من دون أن يأتي به الفاسق ، فإذا انتفى مجيء الفاسق فينتفي النبأ ، وبالتالي ينتفي الحكم والجزاء من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا يكون للجملة مفهوم لأنّها بقوّة قولنا : ( يجب تبيّن نبأ الفاسق عند مجيئه به ) ، وأمّا إذا جاء غيره به كالعادل فهذا مسكوت عنه سلبا وإيجابا ، ويحتاج إلى دليل خاص خارج عن مفاد الجملة.

وأمّا في النحو الأوّل فالظاهر ثبوت المفهوم ، وإن كان الشرط محققا للموضوع ، لعدم كونه هو الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، وفي مثل ذلك يثبت المفهوم كما تقدّم توضيحه في مبحث مفهوم الشرط.

وأمّا النحو الأوّل وهو كون الموضوع طبيعي وكلّي النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به ، فهنا يكون الشرط محققا للموضوع ، لأنّ مجيء الفاسق بالنبإ يحقق النبأ ، إلا أنّه ليس الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، فإنّ النبأ كما يتحقّق مع مجيء الفاسق به كذلك يتحقّق مع مجيء العادل به أيضا ، وقد تقدّم سابقا في بحث مفهوم الشرط أنّ الشرط المحقّق للموضوع على قسمين : فتارة يكون الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع فلا يكون للجملة مفهوم ، وأخرى لا يكون الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، بأن كان هناك شرط آخر لذلك فثبت للجملة مفهوم ، وهنا حيث إنّ الشرط ليس هو الأسلوب

٢٠٩

الوحيد لتحقيق الموضوع فيثبت للجملة مفهوم ؛ لأنّه إذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ فيثبت مجيء العادل به ، وحينئذ لا يجب التبيّن عنه ، وهو معنى حجيّته ، لأنّه للإرشاد كما هو المختار ، أو بضم تلك المقدّمة ان كان الوجوب شرطيا.

والظاهر من الآية الكريمة هو النحو الأوّل ، فالمفهوم إذا ثابت.

والمستظهر من الآية الكريمة من بين هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل ، حيث إنّ الوارد فيها هو كون الشرط مجيء الفاسق لقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) ، والموضوع هو النبأ لقوله : ( بِنَبَإٍ ).

والوجه في هذا الاستظهار أن الجزاء هو قوله : ( فَتَبَيَّنُوا ) يشتمل على ضمير مستتر أو محذوف جوازا والتقدير ( فتبينوه ) وهذا الضمير يرجع إلى النبأ ، وهو مطلق وكلّي وغير مقيّد.

والاعتراض الآخر يتلخص في محاولة لإبطال المفهوم عن طريق عموم التعليل بالجهالة الذي يقتضي إسراء الحكم المعلل إلى سائر موارد عدم العلم.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الطوسي وغيره من أنّنا لو سلّمنا دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم من الآية المذكورة ، إلا أنّه مع ذلك لا يمكن استفادة المفهوم منها ، وذلك لأنّه معارض بما هو مقدم عليه.

وبيان ذلك : أنّ المفهوم المستفاد من الآية مفاده عدم وجوب التبيّن فيما إذا كان المخبر عادلا ، وهذا المفهوم عام يشمل ما إذا كان خبر العادل مفيدا للعلم أم لا.

إلا أنّ هذا المفهوم معارض بعموم التعليل بقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) ، فإنّ هذا التعليل عام يشمل ما إذا كان الخبر غير مفيد للعلم أيضا ، سواء كان خبر فاسق أم خبر عادل.

فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي خبر العادل الظني غير المفيد للعلم ، فإنّ عموم المفهوم يثبت حجيّته وجواز العمل على وفقه بمقتضى عدم وجوب التبيّن فيه ، وعموم التعليل يثبت عدم حجيّته لأنّه خبر غير علمي ؛ لاحتمال الإصابة بالجهالة والندم فيه فحاله حال كل ما لا يفيد العلم ، حيث لا يؤمن معه الخطأ والاشتباه والغلط.

وحينئذ يرجح عموم التعليل على عموم المفهوم في مادة الاجتماع ؛ وذلك لأنّ العلّة أقوى من المفهوم لأنّ العلّة توجب التعميم والتخصيص كما لا يخفى ، فإنّ

٢١٠

الحكم يدور مدار علته ، فإذا كان الحكم خاصا معللا بشيء اقتضى ذلك تعميم الحكم لكل موارد ثبوت العلّة تبعا لعموم العلّة ، وإذا كان الحكم عاما ، وله علّة خاصّة اقتضت تخصيصه ، وهنا الإصابة بالجهالة والندم على ذلك علّة لكل خبر لا يفيد العلم حتّى وان كان خبر عادل.

والحاصل : إنّه يدور الأمر بين تخصيص عموم العلّة لإخراج خبر العادل منها أو طرح المفهوم رأسا ، والثاني هو المتعين لأنّ العلّة دليل على طرحه وترك العمل به ، مضافا إلى أنّ العلّة دليل لفظي بينما المفهوم ليس مدلولا لفظيّا ، واللفظ نص بينما المفهوم ظاهر ، فيقدم النص على الظاهر.

ويجاب على هذا الاعتراض بوجوه :

أحدها : أنّ المفهوم مخصّص لعموم التعليل ، لأنّه يثبت الحجيّة لخبر العادل غير العلمي ، والتعليل يقتضي عدم حجيّة كل ما لا يكون علميا ، فالمفهوم أخص منه.

الجواب الأوّل : أن يقال : إنّ المفهوم وإن كان يشمل بظاهره خبر العادل المفيد للعلم وغير المفيد للعلم ، إلا أنّه بحسب الدقة لا يشمل إلا خبر العادل غير المفيد للعلم ، لأنّ هذا هو مقتضى المنطوق أيضا ، فإنّه لا يشمل إلا خبر الفاسق غير المفيد للعلم ؛ إذ لو كان خبر الفاسق مفيدا للعلم لكان حجّة لحجيّة العلم ، ولا ويجب التبيّن عنه حينئذ كخبر العادل المفيد للعلم أيضا.

وبهذا تكون النسبة بين المفهوم والتعليل العموم والخصوص المطلق ، فالمفهوم يختص بخبر العادل غير العلمي ، بينما عموم التعليل يشمل خبر العادل وخبر الفاسق غير العلميين ، وفي مثل هذه الحالة يجمع بين المفهوم والتعليل جمعا عرفيا ، فيخصص عموم التعليل بالمفهوم لأنّه أخص منه ، والخاص مقدّم على العام ، فالتعارض بينهما غير مستقر كما سيأتي بحثه في مباحث التعارض.

ويرد عليه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا انعقد للكلام ظهور في المفهوم ثمّ عارض عموما من العمومات فإنّه يخصصه ، وأمّا في المقام فلا ينعقد للكلام ظهور في المفهوم ، لأنّه متصل بالتعليل ، وهو صالح للقرينية على عدم انحصار الجزاء بالشرط ، ومعه لا ينعقد الظهور في المفهوم لكي يكون مخصصا.

ويرد على هذا الجواب : أنّه إنّما يتمّ فيما لو انعقد للجملة الشرطيّة ظهور في

٢١١

المفهوم ، ثمّ بعد ذلك ورد التعليل منفصلا عن الجملة فيقع التعارض بينهما ، ويحل بالجمع العرفي المذكور ، إلا أنّه في مقامنا ليس كذلك ؛ لأنّ التعليل متصل بالجملة الشرطيّة ، وهو شامل بعمومه للخبر غير العلمي سواء العادل وغيره ، فيكون هذا التعليل قرينة متّصلة بالخطاب تمنع من أصل انعقاد الجملة الشرطيّة في المفهوم ، لا أنّه ينعقد المفهوم أوّلا ثمّ يعارض التعليل ثانيا.

وفي هذه الحالة يرفع اليد عن أصل ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم لمنع دلالتها على التوقف بين الشرط والجزاء ، وهذا المانع هو التعليل الذي هو قرينة متّصلة بالخطاب الدالة على عدم حجيّة خبر العادل والفاسق غير العلميّين.

وبتعبير آخر : ما دام التعليل متصلا بالجملة فهو يمنع عن أصل انعقادها في المفهوم لأنّه يكون قرينة على عدم التوقف أو العليّة بين الشرط والجزاء ، لأنّه يشمل كل أفراد الخبر غير العلمي والذي منه خبر العادل أيضا.

فلو سلّم كون المفهوم أخص من التعليل إلا أنّه مع ذلك لا يتقدّم عليه أصلا ، لأنّ ملاك ثبوت المفهوم هو عدم ذكر ما يدلّ على خلاف المفهوم ، والتعليل يصلح لأنّ يكون قرينة على الخلاف ، لأنّه بمثابة النص ، حيث إنّه يشمل مورد المفهوم بينما الجملة الشرطيّة ظاهرة بذلك ، والظاهر إنّما يؤخذ به إذا لم يصرّح المتكلّم بخلافه ، وعموم التعليل تصريح بخلافه فيكون التعليل بعمومه مانعا عن أصل انعقاد ظهور الجملة في المفهوم ، لا أنّه ينعقد ثمّ يعارض التعليل ليقال بأنّه أخص منه ، لأنّ ذلك فرع استقرار وثبوت المفهوم ، وهو غير متحقّق مع التعليل المتّصل.

ثانيها : أنّ المفهوم حاكم على عموم التعليل ، على ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله ؛ وذلك لأنّ مفاده حجيّة خبر العادل ، وحجيّته معناها على مسلك جعل الطريقية اعتباره علما ، والتعليل موضوعه الجهل وعدم العلم ، فباعتبار خبر العادل علما يخرج عن موضوع التعليل ، وهو معنى كون المفهوم حاكما.

الجواب الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني من كون المفهوم حاكما على عموم التعليل.

وبيانه : أنّه على مسلك جعل الطريقية والعلمية في الأمارات والحجج يكون مفاد جعل الحجيّة للأمارة جعلها علما وبذلك تكون حاكمة على قاعدة قبح العقاب بلا

٢١٢

بيان ، وفي مقامنا حيث إنّه ثبتت الحجيّة لمفهوم الشرط ، فيكون مفادها جعله علما ، وحينئذ يكون حاكما على عموم التعليل في الآية ؛ لأنّ عموم التعليل مفاده أنّ كل خبر غير علمي لا يؤمن معه من الإصابة بالجهالة والندم ، وهو وإن كان شاملا بعمومه ابتداء لخبر العادل الظني ، إلا أنّه بعد جعل الحجيّة للمفهوم يصبح خبر العادل علما وبذلك يخرج عن دائرة التعليل ، لأنّ موضوع التعليل الجهل وعدم العلم ، وخبر العادل على هذا المسلك صار علما تعبديّا لجعل الحجيّة له من الشارع ، فيكون دليل الحجيّة حاكما على عموم التعليل ومخرجا لأحد أفراده تعبدا ، فلا تعارض ولا منافاة بينهما ، لأنّ الحكومة من موارد الجمع العرفي بين الدليل الحاكم والمحكوم.

ويرد عليه : أنّه إذا كان مفاد المفهوم اعتبار خبر العادل علما فمفاد المنطوق نفي هذا الاعتبار عن خبر الفاسق ، وعليه فالتعليل يكون ناظرا إلى توسعة دائرة هذا النفي وتعميمه على كل ما لا يكون علميا ، فكأنّ التعليل يقول : إنّ كل ما لا يكون علما وجدانا لا أعتبره علما ، وبهذا يكون مفاد التعليل ومفاد المفهوم في رتبة واحدة ، أحدهما يثبت اعتبار خبر العادل علما والآخر ينفي هذا الاعتبار ، ولا موجب لحكومة أحدهما على الآخر.

ويرد على هذا الجواب :

إنّنا لو سلّمنا ما ذكره الميرزا من كون جعل الحجيّة للمفهوم معناها جعله واعتباره علما ، فهذا يقتضي أيضا على أساس المقابلة بين المفهوم والمنطوق أن يكون خبر الفاسق ليس حجّة بمعنى أنّه ليس علما.

وحينئذ نقول : إنّ عموم التعليل الوارد في الآية يريد أن يعمّم عدم حجيّة وعدم علمية كل خبر ليس مفيدا للعلم الوجداني أي أنّ خبر الفاسق غير المفيد للعلم الوجداني وكل ما لا يفيد العلم الوجداني فهو ليس حجّة وليس علما تعبديّا.

وعلى هذا فيكون مفاد التعليل سلب الحجيّة والعلمية التعبديّة حتّى عن خبر العادل غير المفيد للعلم الوجداني ، بينما جعل الحجيّة لخبر العادل على أساس المفهوم معناها جعل العلمية التعبّدية له ، فيكون بينهما تعارض في مادة الاجتماع وهي خبر العادل غير المفيد للعلم الوجداني ؛ لأنّ المفهوم يثبت علميته على أساس أنّه حجّة بينما عموم التعليل ينفي علميته على أساس أنّه ليس علما وجدانيا ، وفي مثل هذه الحالة يقع

٢١٣

التعارض بين المفهوم والتعليل ، لأنّ موردهما واحد ، وكلاهما ينظر إليه في نفس المرتبة التي ينظر فيها الآخر ، وليس بينهما طولية ونظر ، وبالتالي لا يكون أحدهما حاكما على الآخر إذ لا يحرز نظره إليه.

وبكلمة أخرى : أنّ المفهوم كما يثبت حجيّة وعلمية خبر العادل فكذلك التعليل ينفي علمية وحجيّة خبر العادل وخبر الفاسق أيضا ، ولا موجب لترجيح أحدهما على الآخر ولا لحكومته كذلك ؛ إذ هما في مرتبة واحدة عرضية ، لأنّهما واردان معا في دليل واحد ، أحدهما يثبت الحجيّة والعلمية والآخر ينفيها ، فيتعارضان ويتساقطان ، بل يقال بتقديم عموم التعليل لأنّه قرينة شخصيّة معدة من قبل المتكلّم فهو كالنّص الصريح ، لأنّ العلّة تنظر إلى المورد وتعمّمه أو تخصّصه بحسب مناسبات الحكم والموضوع ، بينما المفهوم لا يحرز نظره وحكومته على عموم التعليل ليقدم عليه ، ومجرّد كون المفهوم أخص لا يبرر تقديمه على التعليل بملاك الحكومة ما دام النظر غير محرز فيه.

مضافا إلى أنّ لسان الحكومة كلسان التخصيص فما أورد على الجواب الأوّل يرد هنا أيضا ، حيث يصلح التعليل للقرينية على عدم انعقاد الجملة في المفهوم أساسا.

ثالثها : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّ الجهالة المذكورة في التعليل ليست بمعنى عدم العلم ، بل بمعنى السفاهة والتصرف غير المتزن ، فلا يشمل خبر العادل الثقة ، لأنّه ليس سفاهة ولا تصرفا غير متزن.

الجواب الثالث : ما ذكره الآخوند : من أنّ الإشكال المذكور نشأ من تفسير الجهالة الواردة في التعليل بالجهل وعدم العلم ، فيكون التعليل بعمومه شاملا لخبر العادل ؛ لأنّه ليس علما فيقع التعارض بينهما ، ويقدم عموم التعليل كما مر.

إلا أنّ الصحيح إنّ الجهالة ليست بهذا المعنى ، بل هي بمعنى الطيش والسفاهة ، فيكون المراد من التعليل أنّ كل خبر يكون العمل به موجبا للطيش وللسفاهة والعمل غير المتزن لا يكون حجّة ، ويجب تركه والتبيّن فيه قبل العمل بمفاده ، وهذا لا يشمل خبر العادل بعد إثبات حجيّته ؛ لأنّ العمل به يكون مقبولا عند العقلاء والتصرف على أساسه لا يكون طيشا وسفها.

وبهذا يتّضح أنّه لا معارضة بين المفهوم والتعليل ، لأنّ المفهوم يثبت أنّ العمل بخبر

٢١٤

العادل حجّة ، وهذا يعني أنّ العمل به مقبول عقلائيّا بينما التعليل يثبت أنّ العمل بكل ما فيه السفاهة والطيش ليس حجّة ، فلكل منهما موضوع مغاير للآخر ، فلا تعارض بينهما أصلا (١).

الوجه الثاني : أن يستدلّ بمفهوم الوصف ، حيث أنيط وجوب التبيّن بفسق المخبر ، فينتفي بانتفائه.

ومفهوم الوصف تارة يستدلّ به في المقام بناء على ثبوت المفهوم للوصف عموما ، وتارة يستدلّ به لامتياز في المقام ، حتّى لو أنكرنا مفهوم الوصف في موارد أخرى.

التقريب الثاني : أن يستدلّ بمفهوم الوصف ببيان : أنّ وجوب التبيّن في الآية الشريفة قد أنيط بكون المخبر فاسقا ، أي أنّه يجب التبيّن عن خبر الفاسق ، فإذا انتفى الفاسق وجاء العادل بالخبر فلا يجب التبيّن ، فيكون المفهوم عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل ، وهذا يعني حجيّته بعد ضم مقدمة الأسوئية السابقة ؛ لأنّه يحتمل أن يكون عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل لأجل أنّه يطرح ابتداء حتّى مع التبيّن ، وإما أن يكون معنى حجيّته ، والأوّل يجعله أسوأ حالا من خبر الفاسق ، وهو غير محتمل عقلائيّا ، فيتعيّن الاحتمال الثاني.

ثمّ إنّ الاستدلال بمفهوم الوصف يتوقّف على أحد أمرين :

الأوّل : أن يبنى على حجيّة مفهوم الوصف مطلقا ، فيكون موردنا من مصاديق حجيّة مفهوم الوصف التي لا بدّ من قيام البرهان والدليل عليها.

الثاني : أن يبنى على حجيّة مفهوم الوصف في خصوص المقام لا مطلقا ، بمعنى أنّنا لو أنكرنا حجيّة مفهوم الوصف بنحو عام فلا بدّ أن نستفيد حجيّة مفهوم الوصف في خصوص الآية الكريمة لميزة في الآية تجعلنا نقول بثبوت المفهوم ، وهذه الميزة هي :

__________________

(١) ويمكن الجواب على هذا بأنّ حمل الجهالة على السفاهة وعدم الاتزان لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ؛ لأنّ الندم يتناسب مع عدم إصابة الواقع ، وهذا مشترك بين خبر الفاسق وخبر العادل غير العلميين ، فيكون هذا قرينة على أنّ المراد هو الجهل وعدم العلم ، فالتعارض على حاله.

وبهذا ظهر أنّ هذا الإشكال وارد على هذا الاستدلال ، ولا يمكن دفعه بما ذكر.

٢١٥

وذلك بأن يقال : إنّ مقتضى قاعدة احترازية القيود انتفاء شخص ذلك الوجوب للتبيّن بانتفاء الفسق. وعليه ، فوجوب التبيّن عن خبر العادل ، إن أريد به شمول شخص ذلك الوجوب له فهو على خلاف القاعدة المذكورة ، وإن أريد به شخص آخر من وجوب التبيّن مجعول على عنوان خبر العادل ، فهذا غير محتمل ؛ لأنّ معناه أنّ خبر العادل بما هو خبر العادل دخيل في وجوب التبيّن هذا ، وهو غير محتمل ، فإنّ وجوب التبيّن إما أن يكون بملاك مطلق الخبر أو بملاك كون المخبر فاسقا ، ولا يحتمل دخل عدالة المخبر في جعل وجوب التبيّن.

وهذا الميزة يمكن إبرازها ببيان : أنّه بناء على قاعدة احترازية القيود القائلة بأنّ كل ما يقوله ويذكره في كلامه فهو مراد له جدا ، فحيث إنّه ذكر في كلامه عنوان الفسق فيكون له مدخليّة في الحكم بوجوب التبيّن وهذا معناه أنّه إذا لم يكن المخبر فاسقا فلا يجب التبيّن المستفاد من الكلام المذكور ، أي أنّ شخص وجوب التبيّن ينتفي عن خبر العادل ، وأمّا أنّه هل يثبت وجوب التبيّن عن خبر العادل بدليل آخر أم أنّه يجب التبيّن فيه؟ فهذا يحتاج إلى دليل آخر ، وفي المقام يوجد هذا الدليل على أنّه لا يجب التبيّن عن خبر العادل وذلك على أساس أنّ وجوب التبيّن عن خبر العادل يحتمل فيه عدة أمور ، هي :

الأوّل : أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل بنفس الملاك الموجود في المنطوق ، بأن يكون نفس وجوب التبيّن الوارد في المنطوق شاملا للفاسق وللعادل معا.

وهذا الاحتمال غير صحيح لأنّه على خلاف قاعدة احترازية القيود ، حيث إنّها تدلّ على انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الوصف ، فإذا انتفى الفسق فلا يجب التبيّن عن خبر العادل بهذا الوجوب ، بل لا بدّ من إثباته بوجوب آخر مماثل.

الثاني : أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل ثابتا بدليل آخر غير ما ورد في المنطوق ، ويكون موضوعه خبر العادل بأن يكون هناك وجوب آخر للتبيّن مجعول على نفس عنوان خبر العادل بما هو كذلك.

وهذا الاحتمال غير تام أيضا ، لأنّه يعني أنّ العدالة قد أنيط بها وجوب التبيّن بما هي كذلك ، أي لذاتها وعنوانها ، وهذا معناه أنّ العلّة والملاك للتبيّن عن خبر العادل هي كونه عادلا وهذا ممّا لا يحتمله العقلاء والعرف.

٢١٦

نعم ، يمكن أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل بعنوان آخر يشمله كعنوان وجوب التبيّن عن مطلق الخبر الظني غير المفيد للعلم ، فإنّه شامل للعادل وللفاسق معا ، أو يكون وجوب التبيّن مختصا بالفاسق فقط.

فعلى الثاني يثبت حجيّة خبر العادل ، وعلى الأوّل يلزم أن يؤخذ في المنطوق ما يدلّ على أخذ عنوان الخبر مطلقا وهو غير موجود في ظاهر الكلام ، فهو على خلاف الظاهر ، فيتعين كون وجوب التبيّن مختصا بالفاسق فقط دون العادل.

أمّا اللحاظ الأوّل للاستدلال بمفهوم الوصف فجوابه إنكار المفهوم للوصف ، خصوصا في حالة ذكر الوصف بدون ذكر الموصوف.

ويرد على الاستدلال بمفهوم الوصف أنّنا ننكر حجيّة مفهوم الوصف رأسا ، فيكون الاستدلال بمفهوم الوصف على حجيّة خبر العادل تامّا على مبنى القول بحجيّة مفهوم الوصف ، والمختار كما هو المشهور عدم حجيّته.

مضافا إلى أنّ الوصف إذا ذكر ولم يذكر الموصوف فيكون لقبا وهو أضعف من مفهوم الوصف ، فعدم تماميّة الاستدلال على هذا أوضح ، لأنّه إذا قيل : ( أكرم الفقيه ) فهذا العنوان لقب ؛ لأنّ الموصوف وهو العالم محذوف فلا يدلّ على عدم وجوب إكرام غير الفقيه من العلماء.

وأمّا اللحاظ الثاني للاستدلال فجوابه : أنّ وجوب التبيّن ليس حكما مجعولا ، بل هو تعبير آخر عن عدم الحجيّة ، ومرجع ربطه بعنوان إلى أنّ ذلك العنوان لا يقتضي الحجيّة ، فلا محذور في أن يكون خبر العادل موضوعا لوجوب التبيّن بهذا المعنى ، لأنّ موضوعيته لهذا الوجوب مرجعها إلى عدم موضوعيته للحجيّة.

ويرد على الاستدلال بمفهوم الوصف بخصوص الآية الكريمة أنّ وجوب التبيّن عن خبر العادل لو كان وجوبا نفسيا تكليفيا لكان من غير المحتمل أن يكون العادل بما هو كذلك موضوعا لحكم تكليفي بالتبيّن كما تقدّم في الاستدلال لعدم مدخليّة العدالة في وجوب التبيّن بنفسها.

إلا أنّ الصحيح إنّ الأمر بالتبيّن عن خبر الفاسق إرشاد إلى عدم حجيّته في نفسه ، ولذلك يجب التبيّن عنه ، فيكون وجوب التبيّن عن خبر الفاسق لسانا من ألسنة نفي الحجيّة ؛ إذ لا يعقل الأمر النفسي بالتبيّن لذاته ، وعليه فيكون إناطة وجوب التبيّن

٢١٧

بعنوان الفسق في منطوق الآية مرجعه إلى أنّ هذا العنوان بنفسه ليس فيه مقتضي الحجيّة.

إلا أنّ هذا لا يعني أنّ خبر العادل فيه مقتضي الحجيّة ؛ إذ من الممكن ألا يكون فيه أيضا مقتضي الحجيّة ، ولكن لا بعنوان العدالة ، بل بعنوان آخر يشمله ويشمل الفاسق أيضا ، كالخبر غير العلمي أو الذي يحتمل عدم إصابته للواقع ، فيكون خبر العادل موضوعا أيضا لوجوب التبيّن لدخوله تحت هذا العنوان العام ، فيجب التبيّن عنه لا لكونه عادلا بل لكونه خبرا لا يفيد العلم مثلا ، أو لأنّه لا يظن بصدقه أو يظن بخلافه وهذا معناه أنّه من المحتمل أن يكون خبر العادل موضوعا لوجوب التبيّن بمعنى أن هذا العنوان لا يقتضي الحجيّة لكونه مصداقا لذاك العنوان العام لا لنفسه.

والحاصل : أنّ المحذور في وجوب التبيّن عن خبر العادل فيما إذا كان عنوان العدالة بنفسه هو الموضوع الذي أنيط به وجوب التبيّن ، وأمّا إذا كان وجوب التبيّن عن خبر العادل بعنوان آخر يشمله ويشمل خبر الفاسق كعنوان الخبر الذي لا يفيد العلم ، فيكون وجوب التبيّن عن خبر العادل كخبر الفاسق بمعنى عدم وجود موضوع الحجيّة فيهما لا بعنوانهما الخاص ، بل بعنوانهما العام المذكور.

ومنها : آية النفر وهي قوله سبحانه وتعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )(١).

وتقريب الاستدلال بها يتمّ من خلال الأمور التالية :

تقريب الاستدلال بالآية يتمّ فيما إذا كان التحذر عند الإنذار واجبا سواء أفاد العلم أم لا ، وهذا يعني حجيّة قول المنذر مطلقا وهو المطلوب.

وهذا الاستدلال يتوقّف على إثبات وجوب التحذر أوّلا وعلى كونه مطلقا ثانيا ، فحينئذ تثبت الحجيّة.

أوّلا : أنّها تدلّ على وجوب التحذر لوجوه :

أحدها : أنّه وقع مدخولا لأداة الترجي الدالة على المطلوبية في مثل المقام ، ومطلوبيّة التحذر مساوقة لوجوبه ، لأنّ الحذر إن كان له مبرّر فهو واجب وإلا لم يكن مطلوبا.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٢١٨

الأمر الأوّل : إثبات كون التحذّر واجبا فيتم بوجوه :

الوجه الأوّل لصاحب ( المعالم ) : أنّ التحذّر وقع مدخولا لأداة الترجي في قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) والترجي الحقيقي مستحيل على الشارع ، فيحمل على أقرب المعاني إليه وهو المطلوبية والمحبوبية في مقامنا ؛ لأنّ الكلام من الشارع. ومعنى المطلوبية والمحبوبية للتحذّر كونه واجبا ؛ إذ لو كان التحذّر له مبرر لطلبه كما هو المفترض فهو واجب لرجحانه ، وإن لم يكن هناك مبرّر لطلبه فلا معنى لمحبوبيّته ورجحانه ، وبالتالي لا يكون مطلوبا أصلا ، فلا معنى لذكره في الكلام.

وبتعبير آخر : أنّ معنى كون التحذّر مطلوبا للشارع ومحبوبا له كونه واجبا في مقامنا ، وذلك للإجماع المركّب الحاصل من انقسام الفقهاء إلى قولين : أحدهما لم يجوّز العمل بالخبر مطلقا ، والآخر أوجب العمل به ، والذي على أساسه ننفي كون الرجحان والمطلوبية للاستحباب ، فيتعين الوجوب ، إذ لا قول بالفصل.

ثانيها : أنّ التحذّر وقع غاية للنفر الواجب ، وغاية الواجب واجبة.

الوجه الثاني لإثبات وجوب التحذّر أن يقال : إنّ التحذّر وقع غاية للنفر ، لأنّ الآية مفادها تعليل وجوب الإنذار بالتحذر من القوم بقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وحيث إنّ الإنذار واجب فيكون التحذر واجبا أيضا ؛ لأنّ غاية الواجب واجبة لأنّ الشارع لا يرضى بتفويت الواجب ، فهو لا يرضى بتفويت غايته أيضا ، فتكون واجبة مثله.

وبتعبير أدق : أنّ الانذار لمّا كان واجبا فهو مطلوب ومحبوب ، وحيث إنّ التحذّر وقع غاية للإنذار الواجب فيكون مطلوبا ومحبوبا أيضا ، ولا معنى لذلك إلا كونه واجبا ، فهناك ملازمة بين وجوب الشيء ووجوب غايته ، ولا يعقل التفكيك بينهما.

ثالثها : إنّه بدون افتراض وجوب التحذر يصبح الأمر بالنفر والإنذار لغوا.

الوجه الثالث لإثبات وجوب التحذر أن يقال : إنّ التحذر إما أن يكون واجبا أو لا يكون كذلك ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني يجعل الأمر بالنفر والانذار لغوا ، لأنّه إذا لم يجب التحذّر عند الإنذار لما كان معنى لإيجاب النفر والإنذار على النافرين للتفقه ؛ إذ لا فائدة من إنذارهم ونفرهم للتفقه ما دام الناس لن يتحذروا عند سماع إنذارهم فيكون إيجابهما بلا فائدة.

وبتعبير آخر : أنّ الشارع لمّا أوجب على النافرين الإنذار فهذا يلازمه وجوب العمل

٢١٩

على طبق كلامهم من قبل المنذرين ، وإلا لم يكن لهذا الوجوب معنى ، لأنّه ليس واجبا لذاته ، إذ المفروض أنّه مغيّا بالتحذر.

ثانيا : أنّ وجوب التحذر واجب مطلقا ، سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أو لا ، لأنّ الوجوه المتقدّمة لإفادته تقتضي ثبوته كذلك.

الأمر الثاني : وهو إثبات كون وجوب التحذّر مطلقا ، فيدل عليه نفس الوجوه الثلاثة المتقدّمة في إفادته الوجوب ، فيكون التحذّر واجبا سواء أفاد العلم للسامع أم لا ، لأنّ وجوب التحذّر قد وقع غاية للإنذار بنفسه سواء أفاد هذا الإنذار العلم أم لا ، لأنّ مقتضى إطلاقه هو شموله للموردين ، بل لو كان وجوب التحذر ثابتا حال إفادة الإنذار للعلم فقط لكان التحذر واجبا من باب العلم لا من باب الإنذار ، وهو خلاف الظاهر ، حيث كان التحذر غاية لنفس الإنذار ، بل يلزم أيضا لغوية الإنذار لو كان التحذر مختصا بحال العلم لأنّ الأغلب الا يفيد قول المنذر العلم فهو بحكم إلغائه أو تخصيصه بالفرد النادر.

ثالثا : أنّ وجوب التحذر حتّى مع عدم حصول العلم لدى السامع مساوق للحجيّة شرعا ؛ إذ لو لم يكن إخبار المنذر حجّة شرعا لما وجب العمل به إلا في حال حصول العلم منه.

الأمر الثالث : وهو إثبات حجيّة إخبار المنذر وذلك بأن يقال : إنّ وجوب التحذر عند الإنذار إمّا أن يكون مختصا بحال إفادة الإنذار العلم للسامع ، وإمّا أن يكون مطلقا سواء أفاده العلم أم لا ، فالثاني يعني الحجيّة التعبّدية لإخبار المنذر ؛ لأنّه حجّة ويجب التحذر عنده ، وإن لم يفد العلم وهو المطلوب ، والأوّل معناه أن يكون إخبار المنذر حجّة حال إفادته العلم فقط ، فيكون التحذر واجبا في هذه الحالة فقط ، إلا أنّه غير معقول في نفسه لما تقدّم من أنّ وجوب التحذر مطلق سواء أفاد قول المنذر العلم أم لا ، ولأنّه يوجب أن يكون جعل الحجيّة له مختصا بحال العلم.

ومن الواضح أنّ حجيّة العلم لا يعقل جعلها أو رفعها ، فلا يكون هناك معنى لجعل الحجيّة لإخبار المنذر إلا كونه حجّة مطلقا وإلا لزم جعل الحجيّة عند العلم وحجيّة العلم لا يمكن جعلها من الشارع.

٢٢٠