شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

تشخيص موضوع الحجيّة

ظهور الكلام في المعنى الحقيقي قسمان ـ كما تقدّم ـ تصوّري وتصديقي.

والظهور التصوّري كثيرا ما لا ينثلم حتّى في حالة قيام القرينة المتّصلة على الخلاف ، فإذا قال المولى : ( اذهب إلى البحر وخذ العلم منه ) ، كانت الجملة قرينة على أنّ المراد بالبحر معنى آخر غير معناه الحقيقي ، وعلى الرغم من وجود القرينة فإنّ الظهور التصوّري لكلمة البحر في معناها الحقيقي لا يزول ، وإنّما يزول الظهور التصديقي في إرادة المتكلّم لذلك المعنى الحقيقي.

تقدّم سابقا أنّ للكلام ثلاثة ظهورات :

الأول : الظهور التصوّري وهو الصورة الذهنية التي تحضر إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ ، أي عبارة عن المعنى الموضوع له اللفظ ، ولذلك يكون منشأ هذا الظهور هو الوضع والعلم به.

الثاني : الظهور التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعمالية ، فإذا كان المتكلّم ملتفتا وعاقلا وتلفّظ بهذا اللفظ يعلم بأنّه قد أراد استعمال اللفظ في معناه وإخطار هذا المعنى في ذهن السامع.

الثالث : الظهور التصديقي الثاني أي الإرادة الجديّة ، فإذا كان المتكلّم حكيما وعاقلا وملتفتا وتكلم بكلام فيكون له مراد جدي وراء تصوّر المعنى وإخطاره في الذهن ، وهذا المراد الجدّي هو أنّه يريد واقعا ما ظهر من كلامه أو ما أفاده من كلام ومعنى وليس هازلا.

والظهوران التصديقيّان الثاني والثالث يعتمدان على ظهور حال المتكلّم كما هو واضح.

وحينئذ نقول : إنّ الظهور التصوّري لا ينثلم ولا ينهدم أبدا حتّى مع وجود القرينة المتّصلة على خلافه.

٣٤١

وتوضيح ذلك : إذا قال المتكلّم أو المولى العرفي : ( اذهب إلى البحر وخذ العلم منه ) كانت الجملة الأخيرة قرينة متّصلة على أنّ المراد الجدّي للمتكلّم من كلمة البحر ليس معناها الحقيقي ، وإنّما معنى آخر له مناسبة مع المعنى الأوّل وهو العالم ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ كلمة ( البحر ) عند سماعها في هذه الجملة لا تدلّ على معناها الحقيقي ، بمعنى أنّ الصورة الذهنية التي تحضر إلى الذهن عند سماعها هي تلك الصورة التي وضعت لها هذه الكلمة لغة.

نعم ، يعلم بأنّ المتكلّم لم يستعملها في معناها الحقيقي ولم يرد جدا هذا المعنى ، فالمدلول التصديقي الاستعمالي والجدّي هما اللذان ينهدمان بالقرينة المتّصلة على الخلاف ؛ لأنّهما كما تقدّم يعتمدان على ظهور حال المتكلّم وظاهر حال المتكلّم هنا أنّه لا يريد استعمالا وجدا المعنى التصوّري اللفظي لكلمة البحر ، للقرينة التي نصبها على الخلاف.

وأمّا الظهور التصوّري فهو لا يرتبط بظهور حال المتكلّم لينهدم إذا من ظهور حاله في أنّه ليس في مقام الاستعمال والإرادة الجديّة للمعنى الحقيقي ، وإنّما يرتبط بالوضع اللغوي وهذا لا ينثلم أبدا ؛ لأنّ الوضع ثابت من الواضع.

والدليل على ذلك أنّ هذا اللفظ لو صدر من غير العاقل لحضر المعنى إلى الذهن وكان دالا على معناه التصوّري ، فالظهور التصوّري محفوظ دائما.

ومن هنا صحّ القول بأنّ الظهور التصوّري للفظ في المعنى الحقيقي محفوظ حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف ، وأنّ الظهور التصديقي له في ذلك منوط بعدم القرينة المتّصلة ، غير أنّه محفوظ حتّى مع ورود القرينة المنفصلة ، فإنّ القرينة المنفصلة لا تحول دون تكوّن أصل الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي ، وإنّما تسقطه عن الحجيّة كما مرّ بنا في حلقة سابقة.

وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأنّ الظهور التصديقي للكلام محفوظ دائما ، سواء كان هناك قرينة متّصلة أو منفصلة على الخلاف أم لا ؛ لأنّ هذا الظهور كما تقدّم مرتبط بالمدلول الوضعي للفظ للمعنى ، فإذا وجد اللفظ وجد معناه الحقيقي.

وأمّا الظهور التصديقي في أنّ اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي وأنّه مراد جدا

٣٤٢

فهذا إنّما يكون محفوظا فيما إذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف ، ففي المثال المتقدّم لا يكون هناك ظهور تصديقي استعمالي ولا جدي لكلمة ( البحر ) في أنّها استعملت في معناها الحقيقي وأنّه مراد جدا ، وأمّا اذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف فينعقد هذا الظهور التصديقي ، وتكون الكلمة مستعملة في معناها الحقيقي ، وأنّه مراد جدا ، كما لو قال المتكلّم : ( اذهب إلى البحر ).

نعم ، إذا كان هناك قرينة منفصلة على الخلاف فتكون هذه القرينة هادمة لحجيّة الظهور التصديقي الثاني لا الأوّل ، فلو قال المتكلّم : ( اذهب إلى البحر ) انعقد للكلام ظهور تصوّري وظهور تصديقي أوّل وظهور تصديقي ثان أي أنّه أخطر المعنى الحقيقي من اللفظ وأنّه استعمله فيه وأنّه أراده جدا ، فإذا قال بعد ذلك : ( وخذ العلم منه ) كانت هذه القرينة المنفصلة هادمة للمراد الجدّي أي الظهور التصديقي الثاني دون الظهور التصديقي الأوّل أو الظهور التصوّري ، بمعنى أنّه يتبين من خلال هذه القرينة المنفصلة أنّ المتكلّم لا يريد جدّا من كلمة البحر معناها الحقيقي لا أنّه لم يخطرها ولم يستعملها في المعنى الحقيقي.

ولذلك نقول : إنّ الظهور التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعمالية متوقفة على عدم القرينة المتّصلة لا المنفصلة.

وأمّا الظهور التصديقي الثاني فهو يتوقّف على عدم القرينة المنفصلة بلحاظ حجيّته لا بلحاظ أصل انعقاده ، وأمّا القرينة المتّصلة فهي تمنع من أصل انعقاده كالظهور التصديقي الأوّل.

وعلى ضوء التمييز بين الظهور التصوّري والظهور التصديقي ، وبعد الفراغ عن حجيّة الظهور عقلائيّا وعن سقوطها مع ورود القرينة ، لا بدّ من البحث عن تحديد موضوع هذه الحجيّة ، وكيفيّة تطبيقها على موضوعها ، وبهذا الصدد نواجه عدة محتملات بدوا :

ثمّ إنّه بعد أن ميّزنا بين الظهور التصوّري والظهور التصديقي بقسميه ، وعرفنا أنّ الأوّل محفوظ دائما ، والثاني منوط بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، وبعد أن أثبتنا حجيّة الظهور عقلائيّا أي أنّها من الأمارات العقلائيّة التي تكون كاشفة عن المراد الواقعي للمتكلّم ، وبعد أن عرفنا أنّ هذه الحجيّة تسقط مع وجود القرينة ، نأتي

٣٤٣

للبحث عن موضوع هذه الحجيّة ، وأنّه أي واحد من الظهورين هو؟ وعن كيفيّة تطبيق هذه الحجيّة على موضوعها بعد تشخيصه؟

ومن أجل استيعاب البحث في هذا الأمر نذكر الاحتمالات المفروضة في هذه المسألة لنرى ما هو الصحيح منها؟ وهنا توجد ثلاثة محتملات هي :

المحتمل الأوّل : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصوّري مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف متّصلة أو منفصلة.

المحتمل الثاني : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة.

المحتمل الثالث : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي الذي لا يعلم بوجود قرينة منفصلة على خلافه.

والفارق بين هذا وسابقه أنّ عدم القرينة واقعا دخيل في موضوع الحجيّة على الاحتمال الثاني ، وليس دخيلا على الاحتمال الثالث بل يكفي عدم العلم بالقرينة.

الاحتمال الأوّل : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركّب من أمرين هما :

الأول : الظهور التصوّري للكلام مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف ، سواء كانت متّصلة أم منفصلة. وهذا يعني أنّه في موارد وجود القرينة مطلقا يرفع اليد عن حجيّة الظهور لاختلال أحد الركنين ، إلا أن الظهور التصوّري محفوظ دائما ، ولذلك عند ما يشك في وجود القرينة مطلقا على الخلاف نتمسّك بأصالة الظهور لأنّها محفوظة وموضوعها متحقّق بكلا جزئيه ، لأنّ الظهور التصوّري موجود.

الثاني : وعدم العلم بالقرينة يتناسب مع الشك فيها ، فهو موجود أيضا ، ولا نحتاج إلى أصل آخر في هذا المقام.

الاحتمال الثاني : ما ذكره الميرزا تبعا للشيخ من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركّب من أمرين أيضا ، هما : الظهور التصديقي للكلام ، أي المراد الجدّي مع عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف. وهذا يعني أنّ صدور القرينة المنفصلة على الخلاف واقعا وإن لم تصل إلينا يكون مانعا من التمسّك بأصالة الظهور حتّى في موارد الشك في وجود القرينة المنفصلة ، إذ يحتمل مع ذلك كونها صادرة فيكون شكا في تحقّق

٣٤٤

الموضوع ومعه لا يتمسك بحجيّة الظهور ابتداء ، بل نحتاج إلى أصل ينفي هذه القرينة.

وأمّا إذا علم بعدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف فينعقد للكلام ظهور في المراد الجدّي ، ويكون هذا الظهور حجّة لأنّ كلا الركنين تام.

الاحتمال الثالث : ما هو مختار السيّد الشهيد ، من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركب من أمرين أيضا :

الأوّل : الظهور التصديقي كما أفاده الميرزا.

والثاني : عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، لا عدم صدورها واقعا ، سواء وصلت أم لا.

وهذا يعني أنّه يكفي عدم وجود قرينة متّصلة على الخلاف لتتم وتنعقد أصالة الظهور ؛ لأنّه يصدق أنّه لا علم بوجود القرينة المنفصلة على الخلاف ، وحتّى في موارد الشك في وجود القرينة المنفصلة يتمسك بأصالة الظهور ابتداء لأنّ موضوعها متحقّق ؛ إذ عدم العلم بالقرينة المنفصلة يتناسب مع الشك في وجودها ، ولا نحتاج إلى أصل آخر لينتفي به هذا الاحتمال بل نتمسّك بأصالة الظهور مباشرة.

نعم ، في موارد احتمال القرينة المتّصلة احتمالا ذا منشأ معتدّ به لا يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء وذلك لعدم تحقّق موضوعها ، إذ عدم القرينة المتّصلة غير متحقّق ، فلا ينعقد الظهور ليتمسك به ، ونحتاج هنا إلى نفي هذا الاحتمال في رتبة سابقة ليتنقح موضوع الحجيّة.

ثمّ إنّ هذا الاحتمال يشترك مع الاحتمال الثاني في أنّ الجزء الأوّل من موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري ويختلف عنه في أنّ الجزء الثاني هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة لا عدم وجودها واقعا ، كما في الاحتمال الثاني.

وتختلف هذه الاحتمالات في كيفيّة تطبيق الحجيّة على موضوعها ، فإنّه على الاحتمال الأوّل تطبق حجيّة الظهور على موضوعها ابتداء حتّى في حالة احتمال القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة لأنّ موضوعها هو الظهور التصوّري بحسب الفرض ، وهذا لا يتزعزع بالقرينة المتّصلة المحتملة فضلا عن المنفصلة كما عرفت ، فلا نحتاج إذا إلا إلى أصالة الظهور.

٣٤٥

وتوجد فوارق عمليّة بين هذه الاحتمالات :

إنّه على الاحتمال الأوّل كان موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصوّري ، مع عدم العلم بالقرينة مطلقا ، فإذا شكّ في وجود القرينة سواء كانت متّصلة أم منفصلة كان موضوع حجيّة الظهور تامّا ، ولذلك نتمسّك بأصالة الظهور ابتداء في هذه الحالة ، ولا نحتاج إلى أصالة أخرى ؛ وذلك لأنّ الظهور التصوّري الذي هو موضوع الحجيّة محفوظ دائما في الكلام حتّى مع وجود القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة فالجزء الأوّل تام ؛ ولأنّ عدم العلم بالقرينة على الخلاف موجود أيضا لأنّه في فرض الشك واحتمال وجود القرينة يصدق أيضا أنّه لا يعلم بوجودها ، فكلا الركنين متحقّق فتجري أصالة الظهور لتمامية موضوعها ، ولا نحتاج إلى أصل آخر في مرتبة سابقة لا في احتمال القرينة المتّصلة ولا في المنفصلة أيضا.

وأمّا على الاحتمال الثاني فإنما يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع الجزم بعدم القرينة ، ولا يمكن الرجوع إليها كذلك مع احتمال القرينة المتّصلة لأنّ موضوع الحجيّة على هذا الاحتمال ـ الظهور التصديقي ـ وهو غير محرز مع احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف ، فلو قيل بحجيّة الظهور في هذه الحالة لكان اللازم أوّلا افتراض أصل عقلائي ينفي القرينة المتّصلة لكي ينقّح موضوع أصالة الظهور بأصالة عدم القرينة.

وكذلك لا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة ـ على الاحتمال الثاني ـ مع احتمال القرينة المنفصلة ؛ لأنّ المفروض أنّه قد أخذ عدمها في موضوع حجيّة الظهور ، فمع الشك فيها لا تحرز حجيّة الظهور ، بل يحتاج إلى أصالة عدم القرينة أوّلا لتنقيح موضوع الحجيّة في أصالة الظهور.

وأمّا على الاحتمال الثاني القائل بأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف ، فيمكننا التمسّك بأصالة الظهور فيما إذا علمنا يقينا بعدم القرينة على الخلاف متّصلة أو منفصلة ، لأنّه في هذه الحالة يتحقّق كلا الركنين ؛ إذ مع الجزم بعدم القرينة المتّصلة يكون الظهور التصديقي تام ، لأنّه منوط بعدم القرينة المتّصلة كما تقدّم سابقا ، إذ القرينة المتّصلة تمنع من انعقاد الظهور التصديقي ، ومع الجزم بعدم القرينة المنفصلة يتحقّق الجزء الثاني وهو عدم صدور

٣٤٦

القرينة المنفصلة لأنّه مع القطع والجزم بعدمها يقطع بعدم صدورها أيضا ، إذ لو كان صدورها محتملا لم يكن هناك قطع بعدمها.

وأمّا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة أو المنفصلة فلا يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ؛ وذلك لأنّنا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة على الخلاف يكون الجزء الأوّل من موضوع الحجيّة مختلاّ لأنّ الظهور التصديقي للكلام إنّما ينعقد ويحرز وجوده إذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف ، فمع احتمالها والشك في وجودها شكّا ذا منشأ عقلائي معتدّ به لا يحرز هذا الظهور التصديقي وجدانا ، لأنّه حينئذ لا يعلم بأنّ المراد الجدّي مطابق للظهور التصديقي ؛ ولذلك يكون الظهور التصديقي مشكوكا غير معلوم فيكون التمسّك بأصالة الظهور ابتداء من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، حيث يشك في الموضوع.

ولذلك لو أريد تطبيق حجيّة الظهور هنا لكان ذلك متوقفا أوّلا على نفي هذه القرينة المتّصلة وهذا يحتاج إلى افتراض وجود أصل عقلائي في المقام ينفي لنا احتمال هذه القرينة ، فإنّه حينئذ يتنقح موضوع حجيّة الظهور ويكون الظهور التصديقي محرزا على أساس هذا الأصل العقلائي المسمّى بأصالة عدم القرينة المتّصلة.

وهكذا لو احتملنا وجود القرينة المنفصلة على الخلاف فإنّه لا يمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء لاختلال ركنها الثاني ، إذ مع وجود هذا الاحتمال لا يعلم بعدم صدور القرينة المنفصلة واقعا مع أنّ عدم صدورها واقعا شرط في هذه الحجيّة ، فهذا الاحتمال يتنافى مع اشتراط العلم بعدم وجود القرينة ، إذ قد تكون القرينة المنفصلة موجودا واقعا لكنها لم تصل إلينا لبعض الظروف والملابسات ، فيكون الشك في وجودها كالقطع بصدورها مانعا عن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ، فنحتاج أيضا إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة ينفي لنا هذا الاحتمال لكي ينقّح به موضوع الحجيّة ، وهذا الأصل يسمّى بأصالة عدم القرينة المنفصلة.

وبهذا ظهر أنّ احتمال القرينة المتّصلة أو المنفصلة يمنع من التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ، ونحتاج في هذين الموردين إلى التمسّك بأصالة عدم القرينة لنفي هذين الاحتمالين لكي ينقّح بعد ذلك موضوع أصالة الظهور.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كالاحتمال الثاني في عدم إمكان الرجوع إلى أصالة

٣٤٧

الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المتّصلة لأنّ موضوع الحجيّة وهو الظهور التصديقي غير محرز مع هذا الاحتمال ، إلا أنّ الاحتمال الثالث يختلف عن سابقه في إمكان الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المنفصلة ، لأنّ موضوع الحجيّة ـ على الاحتمال الثالث ـ محرز حتّى مع هذا الاحتمال بينما لم يكن محرزا معه على الاحتمال الثاني.

وأمّا على الاحتمال الثالث القائل بأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف ، فهو يتمّ فيما إذا علمنا بعدم القرينة المتّصلة أو المنفصلة ، فإنّه يتحقّق كلا الركنين لموضوع الحجيّة إذ مع العلم بعدم القرينة المتّصلة يتحقّق الظهور التصديقي لأنّه منوط بعدم العلم بالقرينة المتّصلة على الخلاف وهذا معلوم وجدانا ، ومع العلم بعدم القرينة المتّصلة يصدق أنّه لا يعلم بوجودها واقعا أيضا ، فيتحقق الركن الثاني ، ويتمسك بأصالة الظهور بلا شكّ في هذه الحالة.

يبقى أنّه في موارد احتمال القرينة المتّصلة أو المنفصلة على الخلاف هل يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء أم لا؟

والجواب : أنّنا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة على الخلاف كان هذا الاحتمال مانعا عن التمسّك بأصالة الظهور مباشرة وابتداء ؛ وذلك لاختلال الركن الأوّل ، فإنّ الظهور التصديقي للكلام لا ينعقد إلا مع عدم وجود القرينة المتّصلة فمع احتمال وجودها أو الشك في ذلك لا يعلم بعدم القرينة المتّصلة واقعا ، ولذلك يشك في تحقّق الظهور التصديقي ، ومعه يكون التمسّك بأصالة الظهور ابتداء تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ؛ إذ موضوعها غير محقّق ، فنحتاج إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة ينفي لنا هذا الاحتمال ليتنقّح به موضوع أصالة الظهور ، كما هو الحال في الاحتمال الثاني.

وأمّا إذا احتملنا وجود القرينة المنفصلة على الخلاف فيمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء خلافا للاحتمال الثاني ، وذلك لأنّ موضوع الحجيّة هنا هو الظهور التصديقي وهو محرز في الفرض لأنّ القرينة المتّصلة غير موجودة ولا يحتمل وجودها أيضا ، فالجزء الأوّل تام ، وعدم العلم بالقرينة المنفصلة محرز أيضا ؛ لأنّ عدم العلم بها يتناسب مع الشك في وجودها أو احتماله ، إذ يصدق في الفرض المذكور أنّنا لا نعلم

٣٤٨

بوجود القرينة المنفصلة واقعا ، فالجزء الثاني تام أيضا ، فتطبّق أصالة الظهور مباشرة ولا تحتاج إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة هنا ، خلافا للاحتمال الثاني فإنّه يحتاج فيه في هذا الفرض إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة لأنّ موضوع الحجّة كان عدم وجود القرينة المنفصلة وهذا غير محرز مع احتمال وجودها ، فنحتاج إلى أصل ينفي هذا الاحتمال في مرتبة سابقة.

والحاصل أنّنا نتمسّك بأصالة الظهور مباشرة في موارد احتمال القرينة المنفصلة ، بينما في موارد احتمال القرينة المتّصلة نحتاج إلى أصالة عدم القرينة في رتبة سابقة.

والتحقيق في تمحيص هذه الاحتمالات : أنّ الاحتمال الأوّل ساقط لأنّ المقصود من حجيّة الظهور تعيين مراد المتكلّم بظهور كلامه ، وهي إنّما تناط عقلائيّا بالحيثية الكاشفة عن هذا المقصود ، إذ ليس مبنى العقلاء في الحجيّة على التعبد المحض ، وما يكشف عن المراد ليس هو الظهور التصوّري بل التصديقي ، فإناطة الحجيّة بغير حيثيّة الكشف بلا موجب عقلائيّا ، فيتعيّن أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي.

ونأتي الآن لتحقيق الحال في هذه الاحتمالات وتعيين الاحتمال الصحيح منها فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل الذي ذكره المحقّق الأصفهاني : من أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصوّري مضافا إلى عدم العلم بالقرينة مطلقا فهو غير صحيح ؛ وذلك لأنّ المراد من حجيّة الظهور تعيين المراد الجدّي والواقعي للمتكلّم من خلال ظهور كلامه.

ومن المعلوم أنّ مراده الجدّي إنّما يكون ثابتا فيما إذا كان للكلام ظهور تصديقي لأنّ المراد الجدّي يعتمد على ظهور حال المتكلّم العاقل الحكيم الملتفت في أنّ ما أخطره واستعمله تصوّرا في كلامه هو مراده الجدّي الواقعي ، وإلا لكان مخلا لما هو المتعارف عقلائيّا في المحاورات ، وعلى هذا فما يكون كاشفا عن المراد الجدّي إنّما هو المدلول التصديقي للكلام وليس المدلول التصوّري لأنّ المدلول التصوّري مرتبط بالوضع.

ولذلك قلنا : إنّه لا ينهدم سواء كان هناك قرينة على خلافه أم لا ، ولذلك لا

٣٤٩

يتحدّد المراد الجدّي من خلال الظهور التصوّري ما لم يكن هناك ظهور تصديقي ، وبهذا يعرف أن الكاشف عن المراد الجدّي هو الظهور التصديقي ، وحجيّة الظهور يراد أن يكتشف بها المراد الجدّي للمتكلّم من خلال كلامه ، فيكون الظهور التصديقي هو موضوع حجيّة الظهور ، لأنّه هو الكاشف عن المراد الجدّي.

وأمّا اعتبار المدلول التصوّري هو موضوع حجيّة الظهور فهذا معناه أنّ موضوع الحجيّة لم يكن هو الحيثية الكاشفة عن المراد الجدّي ، وهذا خلف اعتماد العقلاء على حجيّة الظهور لأنّهم إنّما يبنون على حجيّة الظهور باعتبارها كاشفة عن المراد الواقعي فتعليقها على الظهور التصوّري يعني أنّه لم يلاحظ في حجيّة الظهور حيثيّة الكشف وأنّهم أناطوها بالظهور التصوّري من باب التعبّد المحض ، وهذا لا وجود له في حياة العقلاء ، إذ العقلاء لا يعملون بشيء من الأمارات إلا إذا كانت لها كاشفيّة عن المراد الجدّي ولو كشفا ظنيا ، والحال أنّ الظهور التصوّري لا يوجد فيه أي كشف عن المراد الجدّي الواقعي ، إلا اذا كان هناك تطابق بينه وبين المدلول التصديقي فيكون المعيار والمناط في الحقيقة هو الظهور التصديقي لأنّه الكاشف عن المراد الجدّي الواقعي دون غيره.

والحاصل : أنّ هذا الاحتمال يجعل موضوع الحجيّة على خلاف ما يعتقده ويبني عليه العقلاء في الحجج والأمارات من كونها كاشفة عن الواقع ؛ ، وذلك لأنّه لا يوجد كشف عن الواقع في الظهور التصوّري ، لأنّه محفوظ دائما سواء كان الواقع مطابقا له أم لا ، فالمناط وموضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي لأنّه هو الذي يكشف عن الواقع والمراد الجدّي وهذا هو المراد من حجيّة الظهور.

كما أنّ الاحتمال الثاني ساقط أيضا ، باعتبار أنّه يفترض الحاجة في مورد الشك في القرينة المنفصلة إلى إجراء أصالة عدم القرينة أوّلا ثمّ أصالة الظهور ، مع أنّ نفي القرينة المنفصلة عند احتمالها لا مبرّر له عقلائيّا إلا كاشفيّة الظهور التصديقي عن إرادة مفاده ، وأنّ ما قاله يريده ، وهي كاشفيّة مساوقة لنفي القرينة المنفصلة.

وحيث إنّ الأصول العقلائيّة تعبّر عن حيثيات من الكشف المعتبرة عقلائيّا ، وليست مجرّد تعبدات بحتة ، فلا معنى حينئذ لافتراض أصالة عدم القرينة ثمّ

٣٥٠

أصالة الظهور ، بل يرجع إلى أصالة الظهور مباشرة ، لأنّ كاشفيّته هي المناط في نفي القرينة المنفصلة ، لا أنّها مترتبة على نفي القرينة بأصل سابق.

وأمّا الاحتمال الثاني الذي ذكره الميرزا : من أنّ موضوع حجيّة الظهور هو المدلول التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة ، فهو صحيح بالنسبة للجزء الأوّل ـ أي أن المدلول التصديقي موضوع للحجيّة كما تقدّم في الرد على الاحتمال الأوّل ـ لأنّه هو الكاشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم ، إلا أنّ الجزء الثاني ليس صحيحا إذ يكفي عدم العلم بصدور القرينة المنفصلة سواء كانت صادرة واقعا أم لا.

وتوضيح ذلك : أنّنا ذكرنا في الفارق بين الاحتمالين الثاني والثالث أنّه على الثاني لا يمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء في حالة الشك في صدور القرينة المنفصلة بل نحتاج إلى أصالة عدم القرينة بخلافه على الاحتمال الثاني فإنّه يتمسك بأصالة الظهور ابتداء كما هو الصحيح. وهنا نقول : إنّه لا معنى لأصالة عدم القرينة المذكورة في فرض الشك في صدور القرينة المنفصلة ؛ وذلك لأنّ هذه الأصالة والتي هي من الأمارات العقلائيّة إذا كانت تعبديّة محضة من دون أن يكون لها كاشفيّة عن الواقع وعن المراد الجدّي للمتكلّم فهذا مخالف للأمارات العقلائيّة من أنّها تكون بداعي الحيثية الكاشفة ، إذ لا وجود للتعبّدات المحضة في حياة العقلاء ، فيتعيّن أن يكون العمل بهذه الأصالة بناء على كاشفيتها ، وحينئذ لا بدّ أن نعرف ما هو المنشأ لهذه الكاشفيّة الذي من أجله بنى العقلاء على هذه الأصالة في الفرض المذكور.

والجواب : أنّه لا مبرّر ولا منشأ لهذه الكاشفيّة سوى أصالة الظهور ؛ وذلك لأنّ المتكلّم إذا صدر منه كلام فإنّ كان نصّا فلا بحث لحجيّة الظهور أصلا كما تقدّم ، وإن كان مجملا لم يكن له ظهور في معناه فلا يمكننا الأخذ به ، بل نتوقف وننتظر إلى أن يأتي ما يدلّ عليه ويفسّره وإلا أخذنا بالقدر المتيقن فيه ، وإن كان له ظهور في معناه أخذنا بهذا الظهور وعملنا به. فإذا احتملنا صدور قرينة منفصلة على الخلاف كان هذا الاحتمال منفيا بنفس ظهور الكلام في معناه بمعنى أنّ هذا الظهور الذي هو حجّة لا ترفع اليد عنه إلا بحجّة أقوى منه وهذه الحجّة الأقوى لم تثبت بعد فلا يوجد مبرّر لرفع اليد عن هذا الظهور فنتمسك به.

وهذا معناه أنّ نفي هذا الاحتمال يكفي فيه التمسّك بالظهور وكونه حجّة ولا

٣٥١

نحتاج إلى أن نتمسّك بأصل سابق ؛ إذ هذا الأصل السابق لا وجود له إذا لم يكن للكلام ظهور كما ذكرنا ، ومع وجود الظهور نستغني عن هذا الأصل لأنّ الظهور بنفسه ينفي مثل هذا الاحتمال لصدور القرينة المنفصلة لأنّ مفاد هذا الظهور أنّ المتكلّم قد أفاد تمام مراده الجدّي بما ظهر من كلامه لأنّه لو كان مراده الجدّي شيئا آخر لكان اللازم ذكره وبيانه في هذا الكلام ، فمع عدم ذكره فيه يدلّ ظاهر حاله على أنّه لا يوجد شيء آخر دخيل في مراده الجدّي الذي أبرزه وإلا لكان مخلا بما هو المتعارف في المحاورات العقلائيّة والعرفية والمفروض أنّ الشارع قد سلك طريقة العقلاء في المحاورة والبيان.

وبهذا يظهر أنّ نفس التمسّك بأصالة الظهور يساوق نفي هذه القرينة المنفصلة المحتملة ولا نحتاج إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة.

وعلى أساس أصالة الظهور يتفرع نفي احتمال القرينة المنفصلة وليس العكس.

وهكذا يتعيّن الاحتمال الثالث ، وعليه فإن علم بعدم القرينة مطلقا رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداء ، وان شك في القرينة المتّصلة فهناك ثلاث صور :

فالصحيح : هو أنّ الاحتمال الثالث هو المتعين فيكون موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة وعلى هذا فإذا علمنا بعدم وجود قرينة أصلا لا متّصلة ولا منفصلة فيكون موضوع حجيّة الظهور محرزا وجدانا ، وكذلك إذا علمنا بعدم القرينة المتّصلة وشككنا في صدور القرينة المنفصلة فإنّ موضوع الحجيّة محرز أيضا ، أمّا الجزء الأوّل فلعدم وجود القرينة المتّصلة للعلم بعدمها ، وأمّا الجزء الثاني فلأنّ احتمال القرينة المنفصلة مساوق لعدم العلم بوجودها أيضا.

وأمّا إذا احتملنا صدور القرينة المتّصلة في الكلام فهنا لا بدّ أن نتحدث عن الصور المفترضة في هذه المسألة وهي ثلاث صور كما يلي :

الصورة الأولى : أن يكون الشك في وجودها لاحتمال غفلة السامع عنها ، وفي هذه الحالة تجري أصالة عدم الغفلة لأنّها على خلاف العادة وظهور الحال ، وبها تنفى القرينة ، وبالتالي ينقح الظهور الذي هو موضوع الحجيّة ، ونسمّي أصالة عدم الغفلة في هذه الصورة بأصالة عدم القرينة لأنّه بها تنتفي القرينة.

٣٥٢

الصورة الأولى : أن يحتمل وجود القرينة المتّصلة في كلام المتكلّم إلا أنّ السامع قد غفل عنها ولم يلتفت إليها بحواسه فيكون منشأ احتمال القرينة المتّصلة هو غفلة السامع عن ذكرها في الكلام بأن يفرض أنّ المتكلّم قد ذكرها لكنّ السامع لم ينتبه إليها.

فهنا لا إشكال في تماميّة موضوع حجيّة الظهور ، فيتمسك به ؛ وذلك لأنّ احتمال هذه القرينة المتّصلة الناشئة من الغفلة تنفى بأصل عقلائي ثابت عند العقلاء وكاشف عن المراد الجدّي والواقع ، وهو أنّ الإنسان حين سماعه لكلام المتكلّم يكون ملتفتا وذاكرا لما يقوله ولا يغفل عمّا يذكره من كلام إلا أن يعلم يقينا بذلك.

وعليه ، فيكون الأصل في هذه الحالة هو عدم غفلة السامع وبالتالي يكون احتمال وجود القرينة المتّصلة منتفيا لانتفاء منشئه ، فإذا انتفى احتمال وجود القرينة المتّصلة تنقّح بذلك موضوع حجيّة الظهور ، وهو المدلول التصديقي حيث إنّه لا وجود للقرينة المتّصلة استنادا إلى هذا الأصل العقلائي والقرينة المنفصلة لا يعلم وجودها كما هو المفروض فيتحقق موضوع حجيّة الظهور ، وأصالة عدم الغفلة نسميها أصالة عدم القرينة ، لأنّه على أساس هذه الأصالة انتفى احتمال وجود القرينة المتّصلة ، وهذا يعني أنّه لا يوجد أصل عقلائي يسمّى بأصالة عدم القرينة في هذه الحالة ، وإنّما من باب المناسبة فقط.

الصورة الثانية : أن يكون الشك في وجودها لاحتمال اسقاط الناقل لها ، وفي هذه الحالة يمكن نفيها بشهادة الراوي المفهومة من كلامه ولو ضمنا بأنّه استوعب في نقله تمام ما له دخل في إفادة المرام ، وبذلك يحرز موضوع أصالة الظهور.

الصورة الثانية : أن يحتمل وجود القرينة المتّصلة في كلام المتكلّم لكن الناقل الذي يروي كلامه أسقط هذه القرينة من كلامه بأن كان نسيها مثلا فلم يذكرها ، وهذا يعني أنّ الناقل إما أن يكون قد تعمد إسقاطها ، وإما أن يكون نسيها.

وعلى كل حال فإنّ هذا الاحتمال يمكن نفيه على أساس شهادة الراوي ووثاقته ، فإنّ إحراز وثاقة الراوي يتكفّل مئونة نفي احتمال تعمّد الكذب ، إذ هو خلاف وثاقته المحرزة ، وشهادة الراوي الذي ينقل الكلام تدلّ بالمطابقة على أنّ المتكلّم قد تكلم بهذا الكلام وتدلّ بالتضمّن أو بالالتزام على أنّه لم يقل شيئا آخر ، أي أنّه قال هذا الكلام

٣٥٣

فقط ، ولم يقل كلاما آخر له مدخليّة في تفسير المراد من الكلام السابق ، فإنّ شهادة الراوي هذه تعتبر في الحقيقة شهادة ضمنية أو شهادة سلبية مستفادة من سكوت الراوي وعدم ذكره إلا لهذا الكلام الذي يعني أنّ المتكلّم قد قال هذا فقط ولم يقل شيئا آخر ، ولذلك سكت الناقل ولم ينقل شيئا آخر زائدا على ما ذكره من باب الأمانة والدقة في النقل.

وبهذا ننفي احتمال أن يكون الناقل قد أسقط القرينة المتّصلة عند نقله لكلام المتكلّم لأنّه ثقة ، ولأنّه شهد بأنّ هذا هو كلام المتكلّم لا أزيد ؛ وهذا أصل عقلائي أيضا ، فإنّ العقلاء يبنون على صحّة النقل المذكور وأنّه لا يوجد شيء آخر لم ينقل لأنّ ظاهر حال المتكلّم الثقة الأمين أنّه ينقل كل كلام المتكلّم دون زيادة أو نقصان ، وحينئذ يتنقّح موضوع حجيّة أصالة الظهور ، ولا نحتاج إلى أصالة عدم القرينة أيضا.

الصورة الثالثة : أن يكون الشك في وجودها غير ناشئ من احتمال الغفلة ولا من الإسقاط المذكور ، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداء ، للشك في موضوعها وهو الظهور التصديقي ، ولا يمكن تنقيح موضوعها بإجراء أصالة عدم القرينة لأنّه لا توجد حيثيّة كاشفة عقلائيّة عن عدم القرينة المحتملة لكي يعتبرها العقلاء ويبنوا على أصالة عدم القرينة.

وبهذا نعرف أنّ احتمال القرينة المتّصلة في مثل هذه الحالة يوجب الإجمال.

الصورة الثالثة : أن يكون احتمال وجود القرينة المتّصلة ليس منشؤه احتمال الغفلة أو احتمال إسقاط الناقل لها. وإنّما يكون منشؤه شيئا آخر وراء هذين الاحتمالين ، كما لو وصلنا كلام المتكلّم في رسالة مقتطعة الذيل واحتملنا أن يكون الذيل عبارة عن مقيّد أو مخصّص لإطلاق أو لعموم كلامه في الصدر ، أو كما إذا كان هناك قرائن حالية لبيّة متّصلة بالخطاب اعتمد عليها المتكلّم لإفهام السامع والناقل لم يذكرها الناقل لأنّها ليست قرينة لفظية وإنّما هي من المرتكزات اللبيّة التي لا يجب على الناقل ذكرها عند نقله.

فهنا لا يمكن إجراء أصالة عدم الغفلة أو الاعتماد على وثاقة وشهادة الناقل كما في الصورتين السابقتين ، إذ لا مورد لهما هنا وكذلك لا يمكن نفي هذا الاحتمال استنادا إلى أصالة عدم القرينة لأنّه لا يوجد منشأ لهذه الأصالة يكون كاشفا ظنيا

٣٥٤

عقلائيّا عن المراد الجدّي للمتكلّم ، إذ لا وجود لهذه الأصالة عند العقلاء كأصل تعبّدي لأنّهم لا يبنون على الأصول التعبديّة كما تقدّم والمنشأ المذكور لهذا الاحتمال لا يوجد أصل عقلائي ينفيه ، إذ لا يوجد ما يكشف عن المراد الواقعي ليعتمد عليه لا أصالة عدم الغفلة ولا وثاقة الراوي وشهادته ، ولا ظهور الكلام لأنّه مع وجود هذه القرينة لا ينعقد للكلام ظهور ، ومع الشك يشك في أصل انعقاد الظهور وبالتالي لا يحرز ولا يتنقّح موضوع حجيّة الظهور وهو المدلول التصديقي إذ لا علم بعدم القرينة المتّصلة لأنّ المفروض إنّنا نحتمل وجودها ومع الاحتمال لا علم.

ولهذا يكون هذا الاحتمال موجبا للاجمال في كلام المتكلّم ومانعا من انعقاد ظهور كلامه ، ولذلك قلنا سابقا : إنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة كالقطع بوجودها إذا كان احتمالها من هذا القبيل.

وبهذا ظهر أنّ موضوع حجيّة الظهور هو المدلول التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، وأمّا مع احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من مثل هذا الاحتمال فيكون مانعا عن انعقاد الظهور وموجبا للإجمال في الكلام ، ولا يمكن نفي هذا الاحتمال بأصالة عدم القرينة لما تقدّم من عدم الكاشفيّة عن المراد الجدّي في مثل هذه الحالة ، ولا يمكن جريان أصالة عدم الغفلة أو وثاقة وشهادة الراوي لأنّه لا مورد لهما هنا.

وبما ذكرناه اتّضح أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة كلّ منهما أصل عقلائي في مورده ، فالأوّل يجري في كل مورد أحرزنا فيه الظهور التصديقي وجدانا أو بأصل عقلائي آخر ، والثاني يجري في كل مورد شكّ فيه في القرينة المتّصلة لاحتمال الغفلة ، ولا يرجع أحد الأصلين إلى الآخر ، خلافا للشيخ الأنصاري رحمه‌الله حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة ، ولصاحب ( الكفاية ) رحمه‌الله حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور.

وحاصل الكلام : اتّضح ممّا ذكرناه أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة أصلان عقلائيان مستقلان عن بعضهما ، ولكل منهما مورده الخاص وموضوعه الذي يجري فيه ، بحيث لا يكون لهما موضوع واحد. مضافا إلى الاختلاف بينهما سلبا أو إيجابا.

٣٥٥

فأصالة الظهور أصل عقلائي وجودي يتمسك بها في كل مورد أحرز فيه الظهور التصديقي للكلام إمّا وجدانا بأن علمنا يقينا بعدم القرينة المتّصلة والمنفصلة على الخلاف ، وإما بأصل عقلائي آخر كأصالة العموم أو الإطلاق أو الحقيقة ، ونحوها من الأصول اللفظيّة الوجودية التي ترجع في حقيقتها إلى أصالة الظهور عند الشك في كون المدلول التصديقي هو العموم أو الاطلاق أو الحقيقة ، أو عند الشك في إسقاط القرينة المتّصلة لاحتمال إسقاط الناقل لها فإنّ هذا الاحتمال ينفي كما تقدّم تمسّكا بوثاقة وشهادة الناقل الضمنيّة السلبية ، فإنّ الوثاقة والشهادة من الكواشف الظنية العقلائيّة عن المراد الجدّي والواقعي.

بينما أصالة عدم القرينة التي هي أصل عقلائي سلبي تجري في كل مورد احتمل فيها وجود القرينة المتّصلة من جهة احتمال الغفلة والخطأ وعدم الانتباه كما تقدّم في الصورة الأولى ، فإنّ هذه القرينة تنفى بأصالة عدم الغفلة التي قلنا : إنها تسمّى بأصالة عدم القرينة أيضا ، لأنّه إذا انتفت الغفلة فتنتفي القرينة أيضا.

والحاصل : أنّ كلا من هذين الأصلين أصل مستقل في نفسه عن الآخر له مورده وموضوعه الخاص به ولا يرجع أحدهما إلى الآخر ؛ لأنّ أصالة الظهور عبارة عن أصل وجودي يتمسك فيها بما هو موجود ، بينما أصالة عدم القرينة أصل عدمي يتمسك فيها لنفي وجود شيء.

وخالف في ذلك الشيخ الأنصاري رحمه‌الله حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة كما هو المتراءى من بعض عبائره ، بمعنى أنّ الشك في الظهور وانعقاده مسبّب عن الشك في وجود القرينة وعدمها ، فإذا كان هناك قرينة على الخلاف فلا ظهور وإن لم يكن هناك قرينة فالظهور تام ، وهذا معناه أنّ أصالة عدم القرينة هي التي تنقّح أصالة الظهور دائما ، فأصالة الظهور في طول أصالة عدم القرينة.

والوجه في كلامه ما أفاده المحقّق العراقي من أنّ القول بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة لازمه القول المذكور ، إذ لو كان هناك قرينة ولكنّه لم يذكرها كان معناه أنّه أخرّ البيان عن وقت الحاجة فدائما إذا انتفت القرينة تنقّحت أصالة الظهور.

وخالف أيضا في ذلك صاحب ( الكفاية ) رحمه‌الله حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور ؛ وذلك لأنّ الشك في وجود القرينة وعدمها راجع إلى

٣٥٦

الشك في تحقّق الظهور وعدمه ، فإذا كان الكلام ظاهرا وظهوره ثابت وجدانا فهذا معناه أنّه لا توجد قرينة على الخلاف ، وإن لم يكن كذلك فمعناه أنّه توجد قرينة مخالفة للظهور ، فالشك في وجود القرينة دائما مسبّب عن الشك في انعقاد الظهور وتماميته وعدمه.

والوجه في ذلك أنّ العقلاء لا يوجد عندهم أصلان مستقلان لكل منهما كاشفيّته الخاصّة ومورده الخاص ، وإنّما عندهم أصل واحد وكاشفيّة واحدة ، فالعقلاء يعملون بأصالة الظهور سواء كان هناك علم بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف أو لم يكن هناك علم بعدمهما بأن كانت القرينة محتملة ، لأنّهم يعتبرون أنّ أصالة الظهور كاشفة عن المراد الجدّي للمتكلّم وأنّ مراده الواقعي مطابق لظاهر كلامه ، فظاهر كلامه هو الكاشف عن المراد الجدّي فيتمسك به.

* * *

٣٥٧
٣٥٨

الظهور الذاتي

والظهور الموضوعي

٣٥٩
٣٦٠