شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

بين مفاد أكرم والوصف انتفاء تلك الحصّة الخاصّة عند انتفاء العدالة ـ وهذا واضح ـ لانتفاء طبيعي الحكم.

والصحيح أنّ الإطلاق وقرينة الحكمة لا يمكن إجراؤها في مفاد الهيئة.

وتوضيح ذلك : أنّ قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) تدلّ هيئة ( أكرم ) فيه على وجوب الإكرام ، وهذا الوجوب مقيّد بالإكرام بحيث تجب هذه المادّة لا غيرها ، وهذا ناتج عن طبيعة العلاقة بين الحكم والمادّة التي ينصبّ عليها بحيث يكون هناك نسبة بين الحكم ومادّته وكلّ منهما يقع طرفا لهذه النسبة.

ثمّ إنّ الإكرام المدلول عليه من مادّة ( أكرم ) مقيّد أيضا بالفقير ؛ لأنّ وجوب الإكرام موضوعه الفقير فيكون هناك نسبة أخرى طرفها الأوّل وجوب الإكرام والثاني الفقير.

ثمّ إنّ الموضوع وهو الفقير مقيّد أيضا بوصف العدالة فهناك نسبة ثالثة بين الفقير والعدالة تنتج تقيّد الفقير بالعدالة تقيّد الوصف بموصوفه.

وينتج من خلال هذه النسب الثلاث أو من هذه التقييدات الثلاثة أنّ وجوب الإكرام مقيّد بالفقير العادل ، فهناك نسبة واحدة من مجموع هذه النسب وهي أنّ وجوب الإكرام منصبّ على الفقير العادل ، وهذا يعني أنّ هذا الوجوب له حصّة خاصّة من الفقير وهو خصوص العادل لا مطلق الفقير ، وهذا معناه أنّ هناك حصّة خاصّة من وجوب الإكرام وهي وجوب إكرام الفقير العادل على نحو القضيّة الموجبة الجزئيّة ، فيثبت للفقير العادل وجوب إكرام ، وأمّا غيره فمسكوت عنه سلبا وإيجابا.

ومنشأ ذلك أنّ وجوب الإكرام قد حصّص إلى حصص متعدّدة وإحدى هذه الحصص هي وجوب إكرام الفقير العادل ؛ لأنّ كلّ نسبة تقييديّة من هذه النسب هي نسبة ناقصة ، والنسبة الناقصة توجب التحصيص ، فينتج من المجموع نسبة تقييديّة محصّصة بحصّة خاصّة.

والحاصل : أنّ هذا الربط المخصوص بين مفاد أكرم والوصف أي بين وجوب إكرام الفقير وبين العادل مفاده كون هذا الوجوب الثابت هو حصّة خاصّة من الوجوب لا مطلق الوجوب ؛ لأنّ الوصف يفيد التحصيص ، فالثابت هو شخص الحكم والمنتفي هو شخص الحكم أيضا لا الطبيعي.

٦١

إذ لا يمكن جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد الهيئة ( أكرم ) ؛ وذلك لأنّه إن أريد من الإطلاق لمفاد الهيئة الإطلاق الأحوالي ، فمن الواضح أنّ الوجوب لا يثبت في كلّ الحالات ، بل في خصوص الفقير العادل تبعا لتقيّد الحكم بموضوعه والموضوع بوصفه ، وإن أريد من الإطلاق الإطلاق الأفرادي أي كلّ أفراد الوجوب حتّى الوجوب الثابت لغير الفقير ولغير العادل فهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الوجوب هنا مقيّد بالفقير تبعا لتقييد الإكرام بالفقير.

وبهذا يتّضح أنّه لا يمكن جريان الإطلاق ؛ لأنّ الوجوب مقيّد ومع وجود القيد لا يجري الإطلاق ، ولذلك فلا مفهوم للجملة الوصفيّة.

وأمّا إذا لم نأخذ بمسلك المحقّق العراقي ، فبالإمكان أن نضيف إلى ذلك أيضا منع دلالة الجملة الوصفيّة على ذلك الربط المخصوص الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف.

وأمّا إذا لم نأخذ بمسلك المحقّق العراقي ، وسلكنا المسلك المختار من أنّ إثبات المفهوم يتوقّف على ركنين أحدهما إثبات التوقّف ، والآخر إثبات أنّ المعلّق هو الطبيعي ، والثاني قد اتّضح ممّا سبق عدم تماميّته ، ونضيف إلى ذلك أنّ الركن الأوّل أيضا وهو التوقّف الموجب للانتفاء عند الانتفاء غير موجود أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّ الجملة الوصفيّة كقولنا : ( أكرم الفقير العادل ) لا بدّ من البحث فيها لإثبات ما يدلّ على التوقّف ، سواء بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الاسمي ، وسيتّضح عدم وجود شيء في الجملة

الوصفيّة يصلح لإثبات التوقّف أصلا ، وبيان ذلك :

فإنّ ربط مفاد ( أكرم ) بالوصف إنّما هو بتوسّط نسبتين ناقصتين تقييديّتين ؛ لأنّ مفاد هيئة الأمر مرتبط بذاته بمدلول مادّة الفعل ، وهي مرتبطة بنسبة ناقصة تقييديّة بالفقير ، وهذا مرتبط بنسبة ناقصة تقييديّة بالعادل ، ولا يوجد ما يدلّ على التوقّف والالتصاق لا بنحو المعنى الاسمي ولا بنحو المعنى الحرفي.

إنّ قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) تحتوي على عدّة نسب تقييديّة ، وهي :

١ ـ نسبة تقييديّة بين الحكم والمادّة ، أي بين الوجوب والإكرام.

٢ ـ نسبة تقييديّة بين وجوب الإكرام وبين الفقير.

٦٢

٣ ـ نسبة تقييديّة بين الفقير والعادل.

٤ ـ نسبة تقييديّة بين وجوب إكرام الفقير وبين العادل.

والنسبة التقييديّة الأخيرة بين الوجوب والوصف إنّما تثبت بتوسّط نسبتين تقييديّتين ناقصتين هما النسبة التقييديّة بين الوجوب والإكرام ؛ لأنّ الوجوب منصبّ على الإكرام الذي هو الفعل ، وهذا بدوره ـ أي الإكرام ـ مرتبط بالفقير بنسبة تقييديّة ناقصة ؛ لأنّه موضوع الحكم.

والفقير أيضا مرتبط بالعادل ارتباط الوصف بموصوفه ، فينتج نسبة تقييديّة بين الوجوب والوصف على هذا الأساس.

وإذا لاحظنا هذه النسب التقييديّة لم نجد فيها نسبة تدلّ على مفهوم التوقّف والالتصاق بما هو معنى حرفي ، وإذا لاحظنا أطراف النسب أيضا لم نجد فيها مدلولا اسميّا يدلّ على التوقّف أيضا ؛ إذ لا يوجد في الجملة الوصفيّة أداة أو هيئة تدلّ على التوقّف والالتصاق. إذا فالركن الأوّل منتف.

فالصحيح : أنّ الجملة الوصفيّة ليس لها مفهوم. نعم ، لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة وفقا لما نبّهنا عليه في الحلقة السابقة (١).

وبهذا ظهر أنّ الجملة الوصفيّة لا مفهوم لها ، إذ لا يوجد فيها ما يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء بنحو التوقّف والالتصاق ، فضلا عن كون المعلّق ليس هو الطبيعي ، بل شخص الحكم لعدم جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الحكم ؛ لأنّها مقيّدة بحسب الفرض بحصّة خاصّة.

نعم ، الجملة الوصفيّة تدلّ على انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الوصف ، فإذا لم يكن الفقير عادلا فلا يجب إكرامه بشخص هذا الوجوب ، وهذا لا يمنع من وجوب إكرام الفقير من جهة وحيثيّة أخرى ككونه عالما مثلا ، وبهذا تكون الجملة الوصفيّة دالّة على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة ، والمفهوم إنّما يثبت إذا كان الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الكلّيّة أي انتفاء الطبيعي.

__________________

(١) في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : مفهوم الوصف.

٦٣
٦٤

مفهوم الغاية

٦٥
٦٦

مفهوم الغاية

ومن الجمل التي وقع الكلام في مفهومها جملة الغاية ، من قبيل قولنا : ( صم إلى الليل ) ، فيبحث عن دلالتها على انتفاء طبيعي وجوب الصوم بتحقّق الغاية.

من الجمل التي يبحث حول ثبوت المفهوم لها جملة الغاية ، كقولنا : ( صم إلى الليل ) ، فإنّ الليل غاية للصوم بحيث إذا دخل الليل تتحقّق الغاية ، ويرتفع وجوب الصوم ؛ لأنّ المغيى وهو وجوب الصوم لا يدخل في الغاية وهو دخول الليل.

وكقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (١) وقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (٢).

فيبحث هنا في أنّ المنتفي بعد تحقّق الغاية هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم ، أي بعد تحقّق الليل في المثال المذكور هل ينتفي طبيعي وجوب الصوم فلا صوم أصلا في الشريعة بعد دخول الليل ، أو أنّ المنتفي بعد دخول الليل شخص الحكم بحيث يمكن أن نفترض وجوبا آخر للصوم بعد دخول الليل أيضا؟

ولا شكّ هنا في دلالة الجملة على الربط بالنحو الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ معنى الغاية يستبطن ذلك ، فمسلك المحقّق العراقي في جملة الغاية واضح الصواب. ومن هنا يتّجه البحث إلى أنّ المغيّى هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم المجعول والمدلول لذلك الخطاب؟ فعلى الأوّل يثبت المفهوم ، دونه على الثاني.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب المملوك يباع وله مال. من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٤١ / ٤٢٠٨.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٥ / ٨٣٢.

٦٧

لا شكّ في أنّ جمل الغاية تدلّ على الربط المخصوص المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، إمّا بنحو التوقّف أو بنحو العلّيّة ؛ وذلك لأنّ معنى الغاية في اللغة هو انتهاء الحكم المثبت في المغيّى.

ففي قولنا : ( صم إلى الليل ) تدلّ الغاية على أنّ وجوب الصوم ينتهي عند حلول الليل ، وهذا تعبير آخر عن كون وجوب الصوم متوقّف على الليل ، فإذا كان هناك ليل فلا وجوب للصوم ، وإن لم يكن الليل بل كان النهار موجودا فالصوم ثابت ووجوبه متحقّق.

فمفهوم الانتهاء يدلّ بالالتزام أو بالتضمّن على التوقّف أو على العلّيّة عند المشهور. فالركن الأوّل متحقّق وثابت.

يبقى الكلام في الركن الثاني وهو أنّ المنتفي بعد دخول الليل وتحقّق الغاية هل هو طبيعي الحكم فلا وجوب أصلا للصوم بعد تحقّق الليل ، أو أنّ المنتفي هو شخص الحكم بمعنى أنّ هذا الوجوب منتف وأمّا وجوب آخر للصوم حتّى بعد دخول الليل فهذا مسكوت عنه قد يثبت وقد لا يثبت؟

ولذلك فمسلك المحقّق العراقي تامّ هنا ، بمعنى أنّه في جمل الغاية لا إشكال في ثبوت الركن الأوّل وهو الانتفاء عند الانتفاء ، وإنّما الكلام في الركن الثاني فقط ، فهل يمكننا إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في جملة الغاية بلحاظ الهيئة الدالّة على الحكم أو لا يمكننا ذلك؟ (١).

__________________

(١) وقد أجاب المحقّق العراقي عن ذلك بأنّ الغاية إن رجعت إلى النسبة الحكميّة فلا إشكال في جريان الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات أنّ المعلّق هو الطبيعي فيثبت للجملة مفهوم ، بخلاف ما إذا كانت الغاية راجعة للحكم أو للموضوع فلا تجري قرينة الحكمة فلا يثبت المفهوم ، ثمّ استظهر أنّ جمل الغاية كلّها ترجع الغاية فيها إلى النسبة الحكميّة ، ولذلك فيثبت لها المفهوم عنده.

ولا بأس هنا بذكر الحالات من جمل الغاية ، وهي :

١ ـ أن تكون الغاية راجعة للموضوع ، كقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فهنا إلى المرافق غاية للموضوع أي ( الأيدي ).

٢ ـ أن تكون الغاية راجعة للحكم ، كقولنا : ( الصوم واجب إلى الليل ) فإلى الليل هنا غاية للحكم وهو الوجوب.

٦٨

ولتوضيح المسألة : يمكننا أن نحوّل الغاية من مفهوم حرفي مفاد بمثل ( حتّى ) أو ( إلى ) إلى مفهوم اسمي مفاد بنفس لفظ ( الغاية ) ، فنقول : تارة ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ، ونقول أخرى : ( جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب ).

والتحقيق أن يقال : إنّ جمل الغاية تدلّ على الغاية فيها بعض الحروف الموضوعة لغة للغاية ، ككلمتي ( إلى ) و ( حتّى ) فإذا قلنا : ( صم إلى الليل ) كانت الجملة دالّة على الغاية بنحو المعنى الحرفي ، وكلّ معنى حرفي يوازيه معنى اسمي ، فإذا أردنا أن نعبّر عن هذا المعنى الاسمي الموازي للمعنى الحرفي وجدنا أنّه بالإمكان التعبير عنه بأحد تعبيرين هما :

١ ـ وجوب الصوم مغيّا بدخول الليل.

٢ ـ جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بدخول الليل.

فعلى الأوّل يثبت للجملة مفهوم بخلافه على الثاني.

بيان ذلك :

وبالمقارنة بين هذين القولين نجد أنّ القول الأوّل يدلّ عرفا على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب ، لأنّ هذا هو مقتضى الإطلاق. فكما أنّ قولنا : ( الربا ممنوع ) يدلّ على أنّ طبيعي الربا ومطلقه ممنوع ، كذلك قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا ) يدلّ على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا ، فوجوب الصوم بمثابة الربا ، ( ومغيّا ) بمثابة ( ممنوع ) ، فتجري قرينة الحكمة على نحو واحد.

__________________

٣ ـ أن تكون الغاية راجعة لمتعلّق الحكم ، كقولنا : ( صم إلى الليل ) فإلى الليل هنا غاية للصوم الذي هو متعلّق للوجوب.

٤ ـ أن تكون الغاية راجعة للنسبة الحكميّة كقولنا : ( أكرم زيدا إلى أن يقدم الحاج ) فالغاية هنا راجعة إلى النسبة الوجوبيّة المدلول عليها من هيئة الجزاء في ( أكرم ) فإنّه يدلّ على النسبة ، فيكون المراد ( وجوب إكرام زيد مغيّا بقدوم الحاجّ ).

وهذا النحو الأخير هو الذي استظهره المحقّق العراقي في كلّ الجمل الشرطيّة.

وأمّا المحقّق النائيني ومدرسته فذهب إلى التفصيل بين هذه الأنحاء الأربعة ، بالشكل التالي :

إذا كانت الغاية راجعة لمتعلّق الحكم أو للموضوع فلا مفهوم.

إذا كانت الغاية راجعة للنسبة الحكميّة فيثبت المفهوم.

إذا كانت الغاية راجعة للحكم فقال الميرزا بعدم ثبوت المفهوم وقالت مدرسته بثبوته.

٦٩

أمّا القول الأوّل : فهو يدلّ عرفا على أنّ المغيّى هو طبيعي الحكم لا شخصه ، لجريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه ، فإنّ هذه الجملة تتركّب من طرفين ، الأوّل قولنا : ( وجوب الصوم ) وهذا الطرف بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة يثبت كون الوجوب هو كلّي وطبيعي الوجوب ؛ لأنّ اسم الجنس المحلّى بـ ( اللام ) أو المضاف إلى المحلّى بـ ( اللام ) يجري فيه الإطلاق لإثبات العموم والاستغراق ، كما تقدّم.

فيكون المقصود أنّ كلّي وطبيعي وجوب الصوم مغيّا بدخول الليل وليس المغيّى شخص هذا الوجوب فقط ، فهو على وزان قولنا : ( أحلّ الله البيع ) أي كلّ بيع بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في البيع الذي هو اسم جنس.

وكقولنا : ( الربا ممنوع ) فإنّ هذه الجملة لها طرفان ، الأوّل وهو ( الربا ) يجري فيه الإطلاق لإثبات كونه مطلق الربا لا ربا مخصوصا ، والآخر ممنوع وهو حكم ، فوجوب الصوم بمنزلة الربا ؛ لأنّ كلاّ منهما وقع موضوعا لحكم ، وكلّ واحد منهما اسم جنس محلّى بـ ( اللام ) ، فيجري الإطلاق وقرينة الحكمة فيهما على حدّ واحد ، فيثبت أنّ الموضوع مطلق وشامل لكلّ الأفراد.

والدليل على ذلك هو الوجدان العرفي القاضي بعدم الفرق بين هذين النحوين ، والقاضي بالتعارض فيما لو ثبت هناك وجوب آخر للصوم حتّى بعد دخول الليل ، فإنّ التعارض بينهما دليل على أنّ المنتفي بعد دخول الليل إنّما هو كلّي وجوب الصوم لا وجوبا خاصّا منه.

ولذلك يكون لجمل الغاية مفهوم إذا رجعت الغاية فيها إلى هذا النحو من التعبير.

وأمّا القول الثاني فلا يدلّ على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب ، بل يدلّ على إصدار وجوب مغيّا بالغروب ، وهذا لا ينافي أنّه قد يصدر وجوب آخر غير مغيّا بالغروب ، فالقول الثاني إذن لا يثبت أكثر من كون الغروب غاية لذلك الوجوب الذي تحدّث عنه.

وأمّا القول الثاني : فهو لا يدلّ عرفا على أنّ الطبيعي هو المغيّى بالغروب ؛ لأنّ قولنا : ( جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب ) مشتمل على نسب تقييديّة ناقصة وهي :

٧٠

١ ـ وجوب الصوم ، أي أنّ الشارع أنشأ وجعل الوجوب على هذه المادّة التي هي الصوم.

٢ ـ الصوم المغيّى ، أي أنّ هذا الصوم متّصف بكونه مغيّا.

٣ ـ المغيّى بالغروب ، وهذه الغاية هي الغروب.

وينتج من ذلك أنّ الصوم المغيّى بالغروب قد شرّعه الشارع وجعله واجبا.

وهذا لا ينافي أن يصدر من الشارع تشريعا آخر لصوم غير مغيّا بالغروب ويجعله واجبا ، فلا منافاة بين الدليلين لو صدرا من الشارع ؛ لأنّ كلاّ منهما يتحدّث عن وجوب للصوم غير الآخر وعن صوم غير الآخر ، فلا تعارض بينهما ، بل يكون كلّ منهما موجبة جزئيّة فقط ، والمنتفي في كلّ منهما إنّما هو شخص الحكم المبرز والمجعول لا مطلق الحكم والوجوب.

وبهذا يظهر أنّ القول الثاني لا يمكن أن يثبت المفهوم لجملة الغاية ؛ لأنّه لا يثبت أكثر من كون الغروب ودخول الليل قد جعل غاية لذاك الوجوب الذي جعله الشارع والذي هو وجوب مقيّد لا مطلق ، ولأجل ذلك فلا يمكن جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه ؛ لأنّ الوجوب المرتبط بالغاية إنّما يرتبط بها عن طريق نسبتين ناقصتين تقييديّتين هما : ( وجوب الصوم ) و ( الصوم المغيّى ) ، فيكون هناك حصّة خاصّة من الوجوب كما هو مقتضى التحصيص المستفاد من الجملة الوصفيّة الناقصة.

فإذا اتّضح هذا يتبيّن أنّ إثبات مفهوم الغاية في المقام وأنّ المغيّى هو طبيعي الحكم ، يتوقّف على أن تكون جملة ( صم إلى الليل ) في قوّة قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ، لا في قوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالغروب ).

فإذا أردنا أن نثبت أنّ للغاية مفهوما يجب أن نستظهر من جمل الغاية أنّ المغيى فيها هو طبيعي الحكم لا شخصه ، وهذا الاستظهار يتوقّف على إثبات أن تكون جملة الغاية في قوّة القول الأوّل لا القول الثاني.

فجملة ( صم إلى الليل ) لكي يكون لها مفهوم يجب أن تكون في قوّة قولنا :

( وجوب الصوم مغيّا بالليل ) فحينئذ يكون للجملة مفهوم ؛ لأنّ المعلّق عليه هو طبيعي الحكم بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه لأنّه اسم جنس محلّى بـ ( اللام ).

وأمّا إذا كانت هذه الجملة بقوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالليل ) فلا

٧١

يستفاد منها أنّ المغيّى هو الطبيعي ، ولا يجري الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات ذلك ، وبالتالي لا يكون للجملة مفهوم ؛ لأنّ الوجوب هنا مقيّد بالصوم المغيّى ، أي بحصّة خاصّة من الصوم وهو هذا الصوم المغيّى بالغروب ، وأنّ الشارع قد جعله واجبا.

وهذا لا ينفي ولا يعارض أن يجعل الشارع وجوبا آخر لصوم غير مغيّا بالغروب ، كأن يجعل وجوبا للصوم المغيّى بالزوال أو بعد منتصف الليل ، وهكذا.

ولا شكّ في أنّ الجملة المذكورة في قوّة القول الثاني لا الأوّل ؛ إذ يفهم منها جعل وجوب الصوم فعلا وإبرازه بذلك الخطاب ، وهذا ما يفي به القول الثاني دون الأوّل ، فلا مفهوم للغاية إذا ، وإنّما تدلّ على انتفاء شخص الحكم كما تدلّ على السالبة الجزئيّة التي كان الوصف يدلّ عليها أيضا كما تقدّم.

والصحيح : أنّ الجملة المذكورة في قوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالغروب ) لا في قوّة قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ؛ وذلك لأنّه يستفاد من قولنا : ( صم إلى الليل ) جعل وإنشاء حكم فعلي بوجوب الصوم إلى الليل.

وهذا الحكم الفعلي يبرز إلى المكلّف من خلال هذا الدليل الكاشف عن كون هذا الوجوب مجعولا ثبوتا من الشارع ، وهذا يتناسب مع القول الثاني لا الأوّل ، فلا مفهوم للغاية إذا ؛ لأنّه فرع كون المغيّى هو الطبيعي.

وفي النسب الناقصة كما هنا لا يمكن إثبات أنّ المغيّى هو الطبيعي ؛ لأنّ النسب الناقصة وخصوصا النسبة التقييديّة تفيد حصّة خاصّة فقط.

نعم ، تدلّ جملة الغاية على انتفاء شخص الحكم بعد تحقّق الغاية ، فلا يجب الصوم بعد دخول الليل ، بمعنى أنّ هذا الوجوب للصوم يرتفع وينتفي بنحو السالبة الجزئيّة ، وهو لا يمنع من الموجبة الجزئيّة بأن يكون هناك وجوب للصوم إلى ما بعد الغروب أيضا ، إذا لا تنافي بين الجزئيّتين السالبة والموجبة مع اختلاف الجهة فيهما.

* * *

٧٢

مفهوم الاستثناء

٧٣
٧٤

مفهوم الاستثناء

ونفس ما تقدّم في الغاية يصدق على الاستثناء ، فإنّه لا شكّ في دلالته على نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى ، ولكنّ المهمّ تحقيق أنّ المنفي عن المستثنى بدلالة أداة الاستثناء هل هو طبيعي الحكم أو شخص ذلك الحكم؟

جملة الاستثناء ، كقولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) ، والاستثناء لغة يدلّ على إخراج شيء عن الحكم الثابت في المستثنى منه ، وهذا معناه أنّ الفسّاق لا يشملهم الحكم بوجوب الإكرام ، فهي تستبطن الدلالة على التوقّف ؛ لأنّ الوجوب متوقّف على غير الفسّاق.

ولذلك فهي تدلّ على الربط المخصوص الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، فيكون مسلك المحقّق العراقي تامّا هنا أيضا ، بمعنى أنّ البحث يجب أن ينصبّ على أنّه هل يمكن إثبات أنّ المنتفي هو الطبيعي أو لا يمكن ذلك بعد الفراغ من كونها تفيد انتفاء شخص الحكم عن المستثنى تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود؟

والشاهد على أنّها تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء هو التعارض عرفا بين قولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) وبين قولنا : ( أكرم الفسّاق ).

والاستثناء كالغاية له حالات أربع أيضا :

١ ـ أن يكون الاستثناء راجعا للمتعلّق ، كقولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) فهنا الاستثناء من وجوب الإكرام ، وكقولنا : ( لا تصدّق إلا الثقة ).

٢ ـ أن يكون الاستثناء راجعا للموضوع ، كقوله تعالى : ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ) فهنا الاستثناء للمرأة من أحد ، وكذا قولنا ( أكرم العالم غير الفاسق ).

٣ ـ أن يكون الاستثناء راجعا للحكم كقولنا : ( إكرام الفقراء واجب إلا الفسّاق ) فالاستثناء من الوجوب.

٧٥

٤ ـ أن يكون الاستثناء راجعا للنسبة ، كقولنا : ( أكرم العلماء إلا أن يفسق أحدهم ) أي أنّ وجوب إكرام العلماء يستثنى منه فسق أحدهم.

وهنا أيضا لو حوّلنا الاستثناء في قولنا : ( يجب إكرام الفقراء إلا الفسّاق ) إلى مفهوم اسمي لوجدنا أنّ بالإمكان أن نقول تارة : ( وجوب إكرام الفقراء يستثنى منه الفسّاق ) ، وأن نقول أخرى : ( جعل الشارع وجوبا لإكرام الفقراء مستثنى منه الفسّاق ) ، والقول الأوّل يدلّ على الاستثناء من الطبيعي ، والقول الثاني يدلّ على الاستثناء من شخص الحكم.

ولأجل معرفة أنّ للجملة مفهوما نحوّل الجملة من دلالتها على الاستثناء بنحو المعنى الحرفي إلى الاستثناء بنحو المعنى الاسمي ، فإنّ كلّ حرف يوازيه اسم ، فكلمة ( إلا ) ونحوها من الأدوات الدالّة على الاستثناء ( ما عدا ، ما خلا ، حاشا ، سوى وغير ) يوازيها معنى اسمي يدلّ على الاستثناء ، وهو نفس مفهوم الاستثناء ، ولذلك نجد أنّه بالإمكان التعبير عن هذا المعنى الاسمي بأحد نحوين :

١ ـ أن نقول بدل قولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) ( وجوب إكرام الفقراء مستثنى منه الفساق ).

٢ ـ أن نقول بدلا عن الجملة المذكورة ( جعل الشارع وجوبا لإكرام الفقراء مستثنى منه الفسّاق ).

وبالمقارنة بين هذين النحوين نجد أنّ النحو الأوّل منهما يدلّ على المفهوم ؛ وذلك لإمكان جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في موضوع الحمليّة وهو ( وجوب إكرام الفقراء ) ، فإنّه على وزان قولنا : ( الربا ) في جملة : ( الربا حرام ) ، أي أنّه اسم جنس محلّى بـ ( اللام ) أو مضاف للمحلّى بـ ( اللام ) ، فيجري فيه الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات العموم والاستغراق لكلّ الأفراد ، فيكون الاستثناء راجعا إلى طبيعي الوجوب ، أي أنّ الفسّاق استثني طبيعي وجوب إكرامهم فلا إكرام لهم أبدا.

بينما النحو الثاني لا يدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الجملة لا تدلّ على أكثر من أنّ هناك وجوبا مجعولا من الشارع على الفقراء المستثنى منهم الفسّاق ، وهذا لا يمنع من وجود وجوب آخر لا يستثنى منه الفسّاق ، أي أنّ المنتفي والمستثنى هو شخص الحكم لا الطبيعي.

٧٦

ولا يمكن هنا إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ الوجوب في هذه الجملة مقيّد بحصّة خاصّة من الفقراء وهم الفقراء المستثنى منهم الفسّاق ، فإنّ تقيّد الفقراء بالفسّاق عبارة عن نسبة تقييديّة ناقصة وهي تقيّد التحصيص.

فهناك إذا حصّة خاصّة من الوجوب جعلها الشارع ، وهذا لا ينفي ولا يعارض بقيّة الحصص ؛ لأنّ الجزئيّة الموجبة لا تعارض الجزئيّة السالبة مع اختلاف الجهة فيهما.

وبهذا يتّضح أنّ جملة الاستثناء إن رجعت إلى النحو الأوّل كان لها مفهوم ، وإلا فلا ، ولذلك نقول :

فإن رجعت الجملة الاستثنائيّة إلى مفاد القول الأوّل كان لها مفهوم ، وإن رجعت إلى مفاد القول الثاني لم يكن لها مفهوم ، وهذا هو الأصحّ كما مرّ في الغاية.

والصحيح هو أنّ جملة الاستثناء ترجع إلى النحو الثاني لا الأوّل ، ولذلك فلا مفهوم لها (١).

__________________

(١) إلا أنّه في تقريرات بحثه أثبت المفهوم للجملة الاستثنائيّة فيما إذا كان الاستثناء راجعا للحكم كقولنا : ( أكرم العلماء إلا الفسّاق ) أو ( لا تصدّق أحدا إلا الثقة ) ؛ لأنّ الاستثناء يدلّ على الاقتطاع وهو لا يكون إلا في النسب التامّة ، وهذا يعني تماميّة النسبة في قولنا : ( أكرم العلماء ) أو ( لا تصدّق أحدا ) ، وبالتالي يجري الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الحكم لإثبات أنّه الطبيعي لا الشخصي.

والوجدان يشهد لذلك ، فإنّ العرف يرى أنّ القائل : ( الإنسان أسود إلا الزنجي ) قد كذب مرّتين لا مرّة واحدة ، وليس ذلك إلا لثبوت المفهوم للجملة وإلا لم يكن كاذبا إلا مرّة واحدة فقط.

وأمّا في الجملة الاستثنائيّة المنفية فلا تحتاج إلى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ نفي الطبيعة لا يكون إلا بتمام أفرادها كما تقدّم سابقا.

٧٧
٧٨

مفهوم الحصر

٧٩
٨٠