شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

علّة منحصرة للجزاء ، وكان تفريع الجزاء على الشرط لزوميّا لا من قبيل الاتّفاق والصدفة.

وهذا الركن يمكن إثباته بأحد الأدلّة التي سيأتي التعرّض لها كقرينة الحكمة والإطلاق في الشرط أو الجزاء.

الثاني : كون المنتفي هو طبيعي الحكم لا شخصه ، ففي الجملة المذكورة يجب أن يكون المنتفي هو كلّي وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء ؛ لأنّه لو انتفى شخص الإكرام لكان الإكرام ثابتا بشرط آخر ، فلا يكون للجملة مفهوم.

وهذا الركن يمكن إثباته أيضا بالإطلاق وقرينة الحكمة كما سيأتي.

والحال أنّ استفادة المفهوم عند المشهور تنحصر في المدلول التصديقي ؛ لأنّ كلّ الأدلّة المذكورة عندهم تثبت المراد الجدّي للمتكلّم ، ولا مدخليّة لها في تحديد المدلول التصوّري للجملة.

ولا كلام لنا فعلا في الركن الثاني.

أمّا الركن الثاني وهو كون المعلّق الكلّي والطبيعي فلا كلام لنا فيه بالفعل ، وهذا لا ينفي وجود الكلام فيه والإشكال عليه ، فهو قضيّة مطلقة عامّة ، أي أنّه بالفعل لا كلام وأمّا أنّه بالقوّة يوجد كلام أو لا فهذا مسكوت عنه ، وسيأتي أنّ ما ذكروه لإثبات ذلك غير تامّ.

وأمّا الركن الأوّل فالالتزام بركنيّته غير صحيح ؛ إذ يكفي في إثبات المفهوم ـ كما تقدّم ـ دلالة الجملة على الربط بنحو التوقّف ولو كان على سبيل الصدفة.

وأمّا الركن الأوّل وهو كون المفهوم متوقّفا على استفادة اللزوم العلّي الانحصاري فلا نسلّم به ؛ إذ يكفي كما ذكرنا في استفادة المفهوم على

مستوى المدلول التصوّري أن يكون هناك ربط خاصّ بنحو يوجب الانتفاء عند الانتفاء. وهذا يتحقّق إذا كان الربط الخاصّ بنحو التوقّف والالتصاق بنحو المعنى الحرفي ، ولا يشترط أن يكون هناك لزوم علي انحصاري ، بل يثبت المفهوم إذا كان هناك توقّف والتصاق ولو لم يكن هناك انحصار علي أو لم يكن هناك علّة تامّة ، أو لم يكن هناك علّيّة أصلا ، بل ولو لم يكن هناك لزوم بأن كان التوقّف مجرّد صدفة

٢١

واتّفاق ، فإنّ المدار في ثبوت المفهوم على التوقّف والالتصاق مهما كان نوعه وكيفما اتّفق (١).

مورد الخلاف في ضابط المفهوم :

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه‌الله (٢) ذهب إلى أنّه لا خلاف في أنّ جميع الجمل التي تكلّم العلماء عن دلالتها على المفهوم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، أي على التوقّف ؛ وذلك بدليل أنّ الكلّ متّفقون على انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد شرطا أو وصفا ، وإنّما اختلفوا في انتفاء

__________________

(١) قد يشكل على كلام السيّد الشهيد بقولنا : إنّ التوقّف ولو صدفة ما ذا يراد منه؟

فإذا كان المراد أنّ الجزاء متوقّف على الشرط وجودا وعدما ، بحيث كان الجزاء يدور مدار الشرط كان معنى ذلك هو العلّيّة الانحصاري التي قالها المشهور ؛ لأنّ التوقّف كمعنى حرفي عبارة عن النسبة المتقوّمة بالطرفين فيكون مفهوم التوقّف منتزعا من الخارج.

فإذا كان الشرط والجزاء في الخارج يحدثان معا وينتفيان معا ، وكان وجود أحدهما موجبا لوجود الآخر وانتفاؤه موجب لانتفائه ، فهذا معناه أنّه علّة تامّة منحصرة ؛ إذ لا وجود لهذا المفهوم في الخارج إلا في العلّة التامّة المنحصرة.

وإذا كان المراد من التوقّف ولو صدفة هو المصطلح المعروف للصدفة أي احتمال الوقوع واحتمال العدم ، فهذا يعني أنّه يحتمل وجود الجزاء عند وجود الشرط ويحتمل انتفاؤه عند انتفائه ، ويحتمل أيضا عدم وجوده عند وجود الشرط أو عدم انتفائه عند انتفاء الشرط ، وبالتالي لا يكون مجيء زيد موجبا لمجيء عمرو ؛ إذ قد يوجبه وقد لا يوجبه ، فكيف يتمّ المفهوم إذا؟

والحاصل : أنّه على التفسير الأوّل للتوقّف الصدفتي يكون النزاع لفظيّا بين المشهور والسيّد الشهيد ؛ لأنّهما يتّفقان في النتيجة العمليّة ، وأمّا على التفسير الثاني فلا يكون هناك مفهوم أصلا.

هذا ، ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال بقولنا : إنّ التوقّف لا يتوافق في الخارج على العلّيّة دائما ، بل قد يحصل مع العلّيّة وقد يحصل بدونها ، فيكون التوقّف أعمّ من العلّيّة في كلام المشهور ؛ وذلك لإمكان فرض التوقّف في الخارج في المفاهيم المتضايفة كقولنا : إنّ تعقّل البنوّة متوقّف على تعقّل الأبوّة ، والفوق على التحت وهكذا ، فإنّ المتضايفين يتوقّف أحدهما على الآخر وجودا وعدما في الخارج ، ولهذا يكون للتوقّف المذكور معنى أعمّ من قول المشهور ، فصحّ ذكره والاعتماد عليه ولو صدفة أيضا.

(٢) مقالات الأصول ١ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، نهاية الأفكار ١ : ٤٧٠ ـ ٤٧٣.

٢٢

طبيعي الحكم ، فلو لا اتّفاقهم على أنّ الجملة تدلّ على الربط الخاصّ المذكور لما تسالموا على انتفاء الحكم ولو شخصا بانتفاء القيد.

ذكر المحقّق العراقي أنّ ضابط المفهوم ينبغي أن ينصبّ حول ما إذا كان المنتفي هو طبيعي الحكم أو شخصه ، فإذا ثبت أنّ المنتفي طبيعي الحكم كان للجملة مفهوم وإلا فلا.

وحينئذ فلا نحتاج للبحث عن الركن الأوّل وهو كون الموضوع أو الشرط أو الوصف أو الغاية ونحو ذلك علّة تامّة منحصرة ، والوجه في ذلك أنّهم قد اتّفقوا على أنّ جميع الجمل التي وقعت محلاّ للكلام وموردا للنزاع عندهم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف كما فسّره السيّد الشهيد.

فمثلا قولنا : ( أكرم العالم العادل ) لا إشكال عندهم أنّ وصف العدالة دخيل في ملاك الحكم بنحو يكون هو العلّة لوجوب إكرام العالم ، بحيث إنّ العالم لو لم يكن عادلا فلا يجب إكرامه ، وإنّما موضع الخلاف بينهم في أنّ المنتفي عند انتفاء وصف العدالة هل هو طبيعي الحكم ليثبت المفهوم للوصف ، أو شخصه فلا مفهوم له؟

وهكذا الحال في جملة الغاية كقولنا : ( صم إلى الليل ) فإنّ الليل أخذ حدّا وعلّة لانتهاء الصيام فلا صوم بعد الليل ، إلا أنّ المنتفي هل هو طبيعي الصوم بحيث لا يوجد فرد من أفراد الصوم يكون في الليل أو الشخص فقط؟

وفي الجملة الشرطيّة : ( إذ جاءك زيد فأكرمه ) تدلّ على أنّه إذا انتفى المجيء انتفى وجوب الإكرام ، إلا أنّ المنتفي هو الطبيعي أو الشخصي فهذا يحتاج إلى دليل.

وهكذا يتّضح أنّهم متّفقون على الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء في جميع الجمل المطروحة للبحث ، وإنّما الخلاف بينهم في أنّ المنتفي فيها هل هو الطبيعي أو الشخصي؟

وعليه ، فينبغي أن يكون ضابط المفهوم هو الركن الثاني فقط دون الأوّل ؛ إذ لو لا أنّهم متّفقون على أنّ هذه الجمل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء والربط الخاصّ لم يكن هناك وجه لانتفاء شخص الحكم أيضا ، مع أنّهم متّفقون على أنّه في جمل الوصف واللقب والعدد ونحوها ممّا لا مفهوم فيها ينتفي شخص الحكم بانتفاء

٢٣

الوصف أو القيد أو اللقب. وهذا معناه أنّ الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء موجود فيها ، وإلا لم ينتف حتّى شخص الحكم.

واستدلّ المحقّق العراقي على ما ذكره بأنّهم يجمعون بين المطلق والمقيّد المثبتين بحمل المطلق على المقيّد كقولنا : ( أعتق رقبة ) وقولنا : ( أعتق رقبة مؤمنة ) حيث يفسّرون المراد من المطلق هو المقيّد ، ويكون المراد شيئا واحدا وهو عتق الرقبة المؤمنة فقط.

وهذا دليل صريح منهم على أنّ الوصف علّة تامّة منحصرة لوجوب الإكرام ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، وكان توجد علّة أخرى لم يكن هناك حاجة لهذا الجمع ؛ ولصحّ وجوب عتق الرقبة الكافرة أيضا ، فجمعهم بينهما دليل على وجود الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء في الجملة الوصفيّة.

وإن لم يكن لها مفهوم من جهة أنّ المنتفي هو شخص الحكم لا الطبيعي ، ففهمهم للتنافي بين المطلق والمقيّد دليل على وجود الربط الخاصّ في الجملة الوصفيّة ، وإلا فليكن المقيّد هو الأفضل والأهمّ من المصاديق مثلا.

وعلى هذا الأساس فالبحث في إثبات المفهوم في مقابل المنكرين له ينحصر في مدى إمكان إثبات أنّ طرف الربط الخاصّ المذكور ليس هو شخص الحكم ، بل طبيعيّة ؛ ليكون هذا الربط مستدعيا لانتفاء الطبيعي بانتفاء القيد ، وإمكان إثبات ذلك مرهون بإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الجزاء ونحوها ممّا يدلّ على الحكم في القضيّة.

فالخلاف بين المثبتين للمفهوم والمنكرين له يجب أن ينصبّ حول إمكانيّة استفادة أنّ الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء هل يوجب انتفاء شخص الحكم فقط ، أو كلّي الحكم؟ فإذا كان المنتفي هو شخص الحكم لم يكن للجملة مفهوم وإن كان هناك انتفاء عند الانتفاء ، وإذا كان المنتفي الطبيعي كان للجملة مفهوم.

فالركن الأوّل وهو الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء سواء بنحو العليّة أو التوقّف لا يكفي وحده لإثبات المفهوم ، والبحث فيه لا معنى له لاتّفاقهم عليه.

وأمّا إثبات أنّ المنتفي هو الطبيعي لا الشخصي فهذا يحتاج إلى أدلّة من قبيل الإطلاق وقرينة الحكمة في هيئة الجزاء في الجمل الشرطيّة مثلا ، أو في هيئة الجملة المتضمّنة للحكم ، كالهيئة الحصريّة والاستثنائيّة والغائيّة ونحو ذلك.

٢٤

فمثلا إذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يثبت للجملة مفهوم إذا جرت قرينة الحكمة في الجزاء أي في مفاد هيئة ( أكرمه ) لإثبات أنّ الوجوب المدلول عليه في الهيئة المذكورة هو كلّي وجوب الإكرام لا شخص خاصّ منه ، إذ لو كان شخص الوجوب هو المعلّق والمتفرّع والمعلول للشرط لكان ينبغي للمتكلّم أن يبيّن ذلك في كلامه ، فما لم يذكر ذلك كان معناه أنّ المنتفي هو كلّي الوجوب عند انتفاء الشرط ؛ إذ لو كان يوجد مع غيره لكان يجب ذكره في الكلام فما لم يذكره فهو لا يريده.

وهكذا يعود البحث في ثبوت المفهوم لجملة : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) أو لجملة : ( أكرم الإنسان العالم ) إلى أنّه هل يجري الإطلاق في مفاد أكرم في الجملتين لإثبات أنّ المعلّق على الشرط أو الوصف طبيعي الحكم أو لا؟

ونسمّي هذا بمسلك المحقّق العراقي في إثبات المفهوم.

ففي الجملة الشرطيّة : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) لكي يثبت المفهوم فيها لا بدّ من إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة في مفاد هيئة الجزاء. بينما في الجملة الوصفيّة :

( أكرم الإنسان العالم ) لا يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة في مفاد هيئة الجزاء فلا مفهوم ، وأمّا إذا جرى الإطلاق ومقدّمات الحكمة في الجملة الوصفيّة فيكون لها مفهوم.

وهذا يسمّى بمسلك المحقّق العراقي في إثبات المفهوم.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الركن الأوّل لا يمكن الاستغناء عنه ؛ لأنّ الربط الخاصّ والانتفاء عند الانتفاء كما يتحقّق بالعلّيّة والتوقّف كذلك يتحقّق بالاستلزام أيضا ، وقد تقدّم أنّ الاستلزام لا يكفي في إثبات المفهوم.

وعليه ، فلا يكفي أن يكون هناك انتفاء عند الانتفاء ، بل لا بدّ من إثبات أنّ هذا الانتفاء هل هو بنحو العلّيّة كما هو المشهور ، أو بنحو التوقّف كما هو المختار؟ ولذلك يكون البحث في الركن الأوّل غير مفروغ عنه.

مضافا إلى أنّ هيئة الجزاء في الجملة الشرطيّة والجملة الوصفيّة المذكورتين واحد ، فلما ذا جرى الإطلاق وقرينة الحكمة في أحدهما دون الآخر؟

* * *

٢٥
٢٦

مفهوم الشرط

٢٧
٢٨

مفهوم الشرط

ذهب المشهور إلى دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، وقرّب ذلك بعدّة وجوه :

المشهور أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ على المفهوم ، إلا أنّ التقريبات التي ذكروها لذلك غير تامّة ؛ لقصورها عن إفادة ضابط المفهوم وفقا لتصوّرات المشهور حيث أنّ الركن الأوّل عند المشهور هو إثبات اللزوم العلّي الانحصاري.

فذكروا لإثبات هذا الركن وجوها : بعضها يثبت المدلول للجملة الشرطيّة في مرحلة المدلول التصوّري كالوضع والتبادر والانصراف ، وبعضها يثبت المفهوم في مرحلة المدلول التصديقي كالإطلاق وقرينة الحكمة في الشرط.

وسوف نذكر هذه الوجوه تباعا مع المناقشة في كلّ واحد منها فنقول :

الأوّل : دعوى دلالة الجملة الشرطيّة بالوضع على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وذلك بشهادة التبادر.

الدليل الأوّل : أنّ الجملة الشرطيّة بأداتها أو بهيئتها موضوعة لغة للّزوم العلّي الانحصاري. بمعنى أنّ الشرط فيها علّة منحصرة للجزاء ، فتكون دلالتها على الربط العلّي الانحصاري على مستوى الدلالة التصوّريّة الوضعيّة ، والشاهد على ذلك هو التبادر ، فإنّه علامة الحقيقة.

فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يتبادر إلى الذهن أنّ وجوب الإكرام معلول للمجيء ، وأنّ المجيء هو العلّة المنحصرة للإكرام دون غيره.

فالركن الأوّل تامّ ، وبضمّ الركن الثاني كما سيأتي يثبت المفهوم ، وهذا الوجه ذكره صاحب ( المعالم ).

وعلى الرغم من صحّة هذا التبادر اصطدمت الدعوى المذكورة بملاحظة وهي :

٢٩

أنّها تؤدّي إلى افتراض التجوّز عند استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم الانحصار ، وهو خلاف الوجدان ، فكأنّه يوجد في الحقيقة وجدانان لا بدّ من التوفيق بينهما :

أحدهما : وجدان التبادر المدّعى في هذا الوجه.

والآخر : وجدان عدم الاحساس بالتجوّز عند استعمال الجملة الشرطيّة في حالات عدم الانحصار.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا التبادر المدّعى على فرض صحّته إلا أنّه يصطدم بشبهة تمنع من الأخذ به ما لم تحلّ هذه الشبهة ، وحاصلها : أنّنا لا نحسّ بالمجازيّة في الموارد التي تستعمل فيها الجملة الشرطيّة ولا يكون الشرط فيها علّة تامّة منحصرة ، أو علّة تامّة ، أو لا يكون هناك لزوم أصلا.

فمثلا إذا قيل : ( إذا أكلت في شهر رمضان فقد أفطرت ) فإنّها لا تدلّ على أنّ الأكل هو العلّة التامّة المنحصرة ؛ إذ توجد علل أخرى للإفطار كالشرب وغيره. وإذا قيل : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) لا تدلّ على أنّ خفاء الجدران هو العلّة التامّة ؛ وذلك لوجود خفاء الأذان أيضا فكان الشرط جزء العلّة لا العلّة التامّة.

وإذا قيل : ( إذا جاء المدرّس إلى الدرس كانت الساعة التاسعة ) ليس فيها عليّة ولا لزوم أصلا ؛ إذ هي مجرّد صدفة واتّفاق.

فمع كلّ هذا لا نحسّ أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في هذه الموارد مجاز ، مع أنّه بناء على ما ذكر من كونها موضوعة لغة للربط العلّي الانحصاري بشهادة التبادر الدالّ على الحقيقة يجب أن تكون هذه الموارد مستعملة مجازا ؛ لأنّها مستعملة في غير ما وضعت له.

ففي الحقيقة يوجد إحساسان ووجدانان عرفيّان هما :

١ ـ الإحساس المدّعى وهو كون الجملة موضوعة للربط العلّي الانحصاري بشهادة التبادر.

٢ ـ الإحساس والوجدان القاضي بعدم المجازيّة في موارد استعمالها في غير المعنى المذكور.

وهذان الوجدانان متعارضان ؛ لأنّها إن كانت موضوعة للربط العلّي الانحصاري

٣٠

لزم المجازيّة في بقيّة الموارد ، وإن لم يكن هناك مجازيّة في سائر الموارد لم تكن موضوعة للربط العلّي الانحصاري ، فأحدهما يعارض الآخر ويكذّبه ، فلا بدّ من حلّ لهذا التعارض بين هذين الوجدانين ، وإلا لم يمكن الأخذ بأيّ منهما (١).

الثاني : دعوى دلالة الجملة الشرطيّة على اللزوم وضعا ، وعلى كونه لزوما علّيّا انحصاريّا بالانصراف ؛ لأنّه أكمل أفراد اللزوم.

الدليل الثاني : أنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة لإفادة اللزوم فقط ، بمعنى أنّ هناك ملازمة وترتّب بين الشرط والجزاء ، فإذا تحقّق الشرط تحقّق الجزاء ، وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، والشاهد على ذلك هو التبادر والوجدان السابق. فالشرط إذا علّة للجزاء.

وأمّا كون هذا اللزوم والعلّيّة في الشرط منحصرة فهذا يثبت بالانصراف ؛ وذلك لأنّ العلّيّة الانحصاريّة أكمل أفراد اللزوم العلّي ، بمعنى أنّ اللزوم العلّي له أفراد منها اللزوم العلّي الانحصاري ، ومنها اللزوم العلّي غير الانحصاري ، والفرد الأكمل منهما هو الأوّل. ولذلك إذا أطلق اللزوم العلّي انصرف إلى الفرد الأكمل من أفراده وهو اللزوم العلّي الانحصاري.

ولوحظ على ذلك أنّ الأكمليّة لا توجب الانصراف ، وأنّ الاستلزام في فرض الانحصار ليس بأقوى منه في فرض عدم الانحصار.

__________________

(١) وعلى هذا ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى عدم دلالة الشرطيّة على الربط العلّي الانحصاري ؛ لتعارضها مع الوجدان الآخر ، ولذلك أنكر دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ؛ إذ لا يعلم كونها موضوعة للربط العلّي الانحصاري ولا يمكن إثبات ذلك ، ولكنّه مع ذلك فقد التزم بالمفهوم للجملة الشرطيّة فقهيّا ، وإن أنكره أصوليّا.

وذهب آخرون إلى أنّ اللزوم العلّي الانحصاري يستفاد من الإطلاق وقرينة الحكمة لا بالوضع ، ولذلك فسّروا الوجدان الآخر بأنّه لم تتمّ فيه مقدّمات الحكمة.

والصحيح : هو صحّة الوجدان الثاني لا الأوّل ، فإنّ الجملة الشرطيّة ليست موضوعة للّزوم العلّي الانحصاري ، بل هي موضوعة للربط الخاصّ بمعنى التوقّف وهو أعمّ من العلّيّة واللزوم والصدفة المحضة ، ولذلك يكون استعمال الجملة في الموارد التي لا مفهوم فيها على نحو الحقيقة ؛ لأنّ التوقّف موجود فيها ، غاية الأمر أنّ الركن الثاني وهو انتفاء طبيعي الحكم غير متحقّق ، وسيأتي توضيح ذلك.

٣١

يلاحظ على هذه الدعوى : أنّنا ننكر الدلالة على الانحصاريّة المذكورة سواء الصغرى أو الكبرى ، وتوضيحه :

أمّا الكبرى فما ذكر من كون الأكمليّة موجبة للانصراف ممنوع ؛ لأنّ الانصراف إنّما يتحقّق في صورتين : الأولى كثرة الاستعمال ، والثانية ندرة الأفراد الأخرى غير الفرد المدّعى الانصراف إليه ، وفي غير هاتين الصورتين لا يكون هناك انصراف وإن كان أحد الأفراد أكمل من غيره.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم الإنسان ) فإنّه يعمّ كلّ فرد من أفراده ولا ينصرف إلى خصوص الإنسان المؤمن مثلا بحجّة كونه الفرد الأكمل من أفراد الإنسان ، بل لا بدّ أن يكون الانصراف ناشئا من مناسبات الاستعمال للّفظ في الفرد الخاصّ ، أو يكون ناشئا نتيجة الأنس الذهني ببعض الأفراد دون غيره كذلك.

وأمّا الصغرى وهي كون اللزوم العلّي الانحصاري أكمل من اللزوم العلّي غير الانحصاري فهي ممنوعة أيضا ، والوجه في ذلك أنّ معنى العلّيّة واللزوم في كلا الفردين على حدّ سواء ، من دون أشدّيّة أو أولويّة ؛ إذ العلّيّة واللزوم معناهما أنّه إذا وجد هذا وجد ذاك ، وإذا انتفى هذا انتفى ذاك ، وهذا المعنى موجود في كلا الفردين بنحو واحد ، ومجرّد كون العلّة هنا منحصرة وكونها هناك غير منحصرة لا يوجب تفاوتا بأصل العلّيّة واللزوم ، وهذا معناه أنّه لا أكمليّة أصلا (١).

الثالث : دعوى دلالة الأداة على الربط اللزومي وضعا ، ودلالة تفريع الجزاء على الشرط في الكلام على تفرّعه عنه ثبوتا ، وكون الشرط علّة تامّة له لأصالة التطابق بين مقام الإثبات والكلام ومقام الثبوت والواقع ، ودلالة الإطلاق الأحوالي في الشرط على أنّه علّة تامّة بالفعل دائما ، وهذا يستلزم عدم وجود علّة أخرى للجزاء ، وإلا لكانت العلّة في حال اقترانها المجموع لا الشرط بصورة مستقلّة ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، فيصبح الشرط جزء العلّة ، وهو خلاف الإطلاق الأحوالي المذكور.

__________________

(١) مضافا إلى المناقشة في أصل كون الشرطيّة موضوعة للّزوم ، فإنّ لازم هذه الدعوى كونها في غير موارد اللزوم كالاتفاقيّات مثلا مجازا مع أنّنا لا نحسّ بالمجازيّة فيها. وهذا شاهد ومنبّه على عدم صحّة وضع الشرطيّة للّزوم أصلا ، كما سيأتي بيانه.

٣٢

الدليل الثالث لإثبات مفهوم الشرط ناظر إلى الدلالة التصوّريّة ، وهذا الدليل مركّب من ثلاث مقدّمات :

المقدّمة الأولى : إثبات الربط اللزومي بين الشرط والجزاء ، وهذا الأمر يمكن إثباته بدعوى أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بأداتها على الربط اللزومي ، بمعنى كونها موضوعة لغة للربط اللزومي دون الاتفاقيّات ، فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) دلّت الأداة على أنّ هناك ملازمة بين المجيء والإكرام ، فيكون استعمالها في الاتفاقيّات مجازا.

والدليل على أنّها موضوعة للربط اللزومي هو الوجدان العرفي والتبادر الدالّ على الحقيقة.

المقدّمة الثانية : إثبات كون الشرط علّة تامّة للجزاء ، وهذا الأمر يمكن إثباته بأصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت ، أو بين عالم الكلام وعالم الواقع ، بتقريب : أنّ الجملة المذكورة تدلّ إثباتا على تفريع الجزاء على الشرط بدلالة الفاء الموجودة في الجزاء حقيقة أو تقديرا ، والفاء موضوعة لغة لإفادة تفريع هذا على ذاك وكونه مرتّبا عليه ، إذا في المرحلة الإثباتيّة تدلّ الجملة على التفرّع والترتيب بين الشرط والجزاء.

وحينئذ نقول : بناء على أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت أو الكلام والواقع ينتج أنّ التفرّع والترتّب موجود واقعا وفي نفس المتكلّم ، فيكون المراد الجدّي للمتكلّم هو كون الجزاء مترتّبا ومتفرّعا على الشرط واقعا وحقيقة وثبوتا.

ومن الواضح أنّ التفرّع والتّرتب الواقعي بين الجزاء والشرط معناه أنّ الشرط علّة تامّة للجزاء ؛ لأنّه لو لم يكن علّة تامّة له لم يكن متفرّعا عليه واقعا ، فالتفرّع والترتّب واقعا يستلزم العليّة التامّة ؛ لأنّ عدم كون الشرط علّة أو عدم كونه علّة تامّة معناه أنّ الجزاء ليس متفرّعا عليه ، فلو لم يكن الشرط علّة لما وجد الجزاء ولما تفرّع عليه ، وإذا كان علّة ناقصة أي جزء علّة لما كان متفرّعا عليه أيضا ، بل عليه وعلى شيء آخر.

وبهذا يثبت كون الشرط علّة تامّة للجزاء ، إذ التفرّع معناه أنّه يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه فيتمّ الترتّب بينهما.

المقدّمة الثالثة : إثبات كون الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وهذا يمكن إثباته بالإطلاق الأحوالي للشرط.

٣٣

بتقريب : أنّ الإطلاق في الشرط يفيد أنّ الشرط وحده هو العلّة التامّة والمنحصرة للجزاء ؛ إذ لو كان هناك علّة أخرى للجزاء للزم ذكرها في الكلام معطوفة على الشرط بـ ( أو ) ، ولو كان الشرط جزء العلّة للزم ذكر الجزء الآخر معطوفا بـ ( الواو ) ، فما دام المتكلّم لم يذكر ذلك يثبت أنّ الشرط وحده علّة تامّة منحصرة للجزاء.

وهذا معناه أنّ الشرط في كلّ حالاته يؤثّر في الجزاء ، سواء قارنه شيء أو سبقه أو لحقه ، أو كان وحده. ففي جميع هذه الحالات يكون المؤثّر هو الشرط فقط ، إذ لو كان هناك علّة مقارنة للشرط أو سابقة عليه ولم يكن الشرط مؤثّرا في الجزاء ، بل كانت تلك العلّة السابقة هي المقارنة أو كانا معا العلّة لأنّ العلل المستقلّة إذا اجتمعت معا وتقارنت كان المجموع المركّب منها هو العلّة لا كلّ واحدة بخصوصها.

وهذا مخالف للإطلاق الأحوالي في الشرط المثبت ؛ لكون الشرط علّة تامّة منحصرة ، إذ فرض المقارنة معناه أنّه جزء علّة وفرض السبق معناه أنّه توجد علّة أخرى غيره ، وكلا هذين الأمرين قد نفاهما الإطلاق الأحوالي للشرط.

فإذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم بعد ضمّ الركن الثاني ، وهو كون المنتفي طبيعي الحكم لا شخصه.

ولا يخفى أنّ المقدّمة الأولى تثبت اللزوم لو تمّت دعوى وضع الأداة لذلك.

وأمّا المقدّمة الثانية فهي لا تثبت العلّة التامّة ، بل تثبت العلّيّة فقط ، والتماميّة تحتاج إلى الإطلاق الأحوالي للشرط كما هو الحال بالنسبة للانحصاريّة.

وأمّا تعبير السيّد الشهيد بقوله : ( علّة تامّة بالفعل دائما ) فهذا إشارة إلى قضيّتين موجّهتين :

الأولى : المطلقة العامّة الدالّة على تحقّق النسبة بالفعل ووقوعها في الخارج.

الثانية : الدائمة المطلقة الدالّة على دوام الثبوت والاتّصاف بين المحمول والموضوع وأنّ الانفكاك بينهما لم يقع.

ويكون المراد هنا أنّ الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء فعلا ، بمعنى أنّه في الواقع الخارجي علّة تامّة منحصرة ، وأنّ هذا الأمر واقع ومتحقّق في الخارج ، وأنّ اتّصاف الجزاء يكون معلولا للشرط على نحو العلّة التامّة المنحصرة ، وهذا الاتّصاف لا ينفكّ ولم يتحقّق الانفكاك بينهما أصلا في الخارج.

٣٤

ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية :

أوّلا : أنّه لا ينفي ـ لو تمّ ـ وجود علّة أخرى للجزاء فيما إذا احتمل كونها مضادّة بطبيعتها للشرط ، أو دخالة عدم الشرط في علّيّتها للجزاء ، فإنّ احتمال علّة أخرى من هذا القبيل لا ينافي الإطلاق الأحوالي للشرط ؛ إذ ليس من أحوال الشرط حينئذ حالة اجتماعه مع تلك العلّة.

ويرد على هذا الوجه ملاحظات ثلاث :

الملاحظة الأولى : أنّ الإطلاق الأحوالي للشرط يثبت أنّ الشرط في جميع حالاته علّة تامّة للجزاء ، وهذه الحالات هي وجود الشرط وحده ووجوده مقارنا لعلّة أخرى ووجوده مسبوقا بعلّة ووجوده ملحوقا بعلّة ، ففي هذه الحالات يكون الشرط هو العلّة لما تقدّم في البرهان بعد إجراء الإطلاق الأحوالي.

إلا أنّه يمكننا أن نفترض حالتين لهذه العلّة الأخرى بحيث لا تكون من هذه الحالات الأربع التي تثبت فيها كون الشرط العلّة التامّة المنحصرة ، وحينئذ لا يكون الإطلاق الأحوالي نافيا لهما ؛ لأنّهما ليس من حالات الشرط.

وتوضيح ذلك : أن نفترض أنّ العلّة الأخرى للجزاء مضادّة بطبيعتها للشرط بحيث لا يمكن اجتماعهما أبدا لاستحالة اجتماع الضدّين ، ففي هذه الحالة تكون العلّة الأخرى مؤثّرة على نحو الاستقلال في الجزاء ، فلم يكن الشرط هو العلّة الوحيدة حينئذ ؛ لأنّ هذه الحالة ليست من حالات الشرط لتكون منفيّة بالإطلاق الأحوالي ؛ كما إذا قيل مثلا : ( إذا كسفت الشمس تجب صلاة الآيات ) فهذا لا يمنع من قولنا : ( إذا خسف القمر تجب صلاة الآيات ) ؛ لأنّ الخسوف والكسوف لا يمكن اجتماعهما معا.

ويمكننا أن نفترض أيضا أنّ العلّة الأخرى للجزاء قد أخذ فيها عدم الشرط أي عدم العلّة الأخرى ، فهنا لا يمكن اجتماعهما معا ، لأنّه إذا وجدت العلّة الأخرى فهذا يعني أنّ عدم العلّة الأولى أي الشرط هو المحقّق ، وإذا وجدت العلّة الأولى أي الشرط فالعلّة الثانية منتفية ؛ لأنّ قيدها وهو عدم العلّة الأولى ـ أي الشرط ـ منتف ؛ إذ الثابت هو الشرط لا عدمه.

فحينئذ لا تكون هذه العلّة الثانية من حالات الشرط والعلّة الأولى ؛ ليكون الإطلاق الأحوالي للشرط نافيا لها.

٣٥

كما إذا قيل مثلا : ( إذا رأت الصبيّة الدم قبل التسع فهو ليس بحيض ) فهذا لا يمنع من قولنا : ( إذا يئست المرأة فالدم الذي تراه ليس بحيض ) ، فإنّ الصبية واليائسة لا يجتمعان ؛ لأنّ اليائسة قد أخذ فيها ألا تكون صبيّة ؛ لأنّها التي تبلغ الخمسين أو الستين عاما.

وكقولنا : ( إذا تطهّرت الطهارة المائيّة جاز لك مسّ الآيات ) و ( إذا تيمّمت جاز لك مسّ الآيات ) فإنّ التيمّم قد أخذ فيه عدم الوضوء والغسل كما لا يخفى ، بحيث إنّه إذا توضّأ فلا تيمّم وإذا تيمّم فلا وضوء.

ثانيا : أنّ كون الشرط علّة للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط في الكلام الكاشف عن التفريع الثبوتي والواقعي ؛ وذلك لأنّ التفريع الثبوتي لا ينحصر في العلّيّة بدليل أنّ التفريع بـ ( الفاء ) كما يصحّ بين العلّة والمعلول كذلك بين الجزء والكلّ ، والمتقدّم زمانا والمتأخّر كذلك ، فلا معيّن لاستفادة العلّيّة من التفريع.

الملاحظة الثانية : أنّ دعوى دلالة التفريع في الكلام على التفرّع في الواقع المستدلّ بها على العلّيّة غير تامّة ؛ لأنّ دعوى التفرّع الثبوتي وإن كانت صحيحة تبعا لأصالة التطابق بين الثبوت والإثبات ، أو الواقع والكلام ، إلا أنّ هذا التفرّع لا يتلازم مع العلّيّة بمجرّده ، أي أنّ إطلاق التفرّع الثبوتي لا يقتضي كون هذا التفرّع بنحو العلّيّة ؛ وذلك لأنّ التفرّع أعمّ من العلّيّة فلا ينحصر التفرّع واقعا بالعلّيّة ، بل يشملها هي وجزء العلّة أيضا ، ويشمل تفرّع الكلّ على الجزء ، ويشمل تفرّع المتأخّر في الزمان على المتقدّم.

وتوضيح ذلك : أنّ التفريع بالفاء الموجود إثباتا في الكلام كما يصحّ بين العلّة والمعلول فيقال : ( إذا شربت السم فتموت ) ، كذلك يصحّ التفرّع بين الجزء والكلّ. فإنّ الكلّ لا يوجد في الواقع إلا بعد وجود جميع الأجزاء فوجوده في الخارج متفرّع عن وجودها ، ولذلك يصحّ أن يقال : ( بنيت الجدران والسقف والأبواب والنوافذ فصارت غرفة ).

وكذلك يصحّ التفرّع الثبوتي بين المتقدّم والمتأخّر زمانا ، فيقال : ( إذا طلع الفجر فتطلع الشمس ) فإنّ طلوع الشمس متأخّر زمانا عن طلوع الفجر في الزمان ، وإنّ أحدهما ليس علّة للآخر.

٣٦

وكذلك يصحّ التفرّع الثبوتي بين شيئين متزامنين إلا أنّ بينهما اختلافا في الرتبة ، كما في المعلولين لعلّة واحدة ، كقولنا : ( غلى الماء فتبخّر ) فإنّهما معا معلولان لسخونة الماء بالحرارة ، أو كقولنا : ( فتحت الباب بالمفتاح فانفتح ).

وهكذا يتّضح أنّ التفريع بـ ( الفاء ) كما ينسجم مع العلّيّة ينسجم مع غيرها أيضا ، ولا يتعيّن بأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت كون التفرّع الثبوتي بنحو العلّيّة ، بل هو أعمّ أيضا. ولذلك يحتاج إثبات العلّيّة إلى أمر آخر غير أصالة التطابق. ولا يكفي مجرّد التطابق لإثبات العلّيّة ؛ لأنّ ثبوت الأعمّ لا يقتضي ثبوت الأخصّ ، بل يحتمل ثبوته ويحتمل عدمه.

ثالثا : إذا سلّمنا استفادة علّيّة الشرط للجزاء من التفريع ، نقول : إنّ كون الشرط علّة تامّة للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط ؛ لأنّ التفريع يتناسب مع كون المفرّع عليه جزء العلّة.

الملاحظة الثالثة : لو سلّمنا أنّ التفريع بين الشرط والجزاء ثبوتا بنحو العلّيّة ، إلا أنّه مع ذلك نقول : إنّ هذه العلّيّة الثبوتيّة بينهما كما تصحّ فيما إذا كان الشرط علّة تامّة للجزاء كذلك تصحّ فيما إذا كان الشرط جزء العلّة ؛ لأنّ التفرّع الثبوتي بنحو العلّيّة يتناسب مع العلّة التامّة ومع جزء العلّة أيضا ؛ لأنّ المعلول يترتّب ويتفرّع على العلّة إذا كانت تامّة ، ويترتّب على جزئها الأخير إذا كانت أجزاؤها الأخرى متحقّقة أيضا.

ولذلك لا يكفي مجرّد العلّيّة لإثبات أنّها علّة تامّة إذ قد تكون علّة ناقصة أو جزء العلّة التامّة فقط ؛ لأنّه كما يصحّ أن يقال : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) كذلك يصحّ أن يقال : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فالتفريع العلّي ثابت في الحالين فيحتاج تعيين أحدها إلى طريق آخر غير مجرّد التفرّع.

وهذا الطريق يمكن إثباته بالإطلاق الأحوالي للشرط بأن يقال :

وإنّما يثبت بالإطلاق ؛ لأنّ مقتضى إطلاق ترتيب الجزاء على الشرط أنّه يترتّب عليه في جميع الحالات ، مع أنّه لو كان الشرط جزءا من العلّة التامّة لاختصّ ترتّب الجزاء على الشرط بحالة وجود الجزء الآخر ، فإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط في جميع الحالات ينفي كون الشرط جزء العلّة.

نعم ، يمكن إثبات أنّ العلّة تامّة وليست جزء علّة ، وذلك عن طريق الإطلاق

٣٧

الأحوالي في الشرط بأن يقال : إنّ الإطلاق في الشرط يقتضي كونه علّة للجزاء في جميع الحالات ، أي سواء سبقه شيء أو تأخّر عنه شيء أو قارنه شيء أو لم يوجد شيء آخر.

ففي هذه الحالات الأربع يثبت كون الشرط هو العلّة التامّة للجزاء ، إذ لو كان هناك علّة أخرى أو كان الشرط جزء العلّة لوجب على المتكلّم أن يذكرها ؛ لأنّ الشرط إذا لم يكن علّة تامّة كان معنى ذلك أنّه ليس المؤثّر في الجزاء ، بل هو مع الجزء الآخر ، ولذلك لا بدّ من ذكر الجزء الآخر أيضا ؛ كأن يقال مثلا : ( إذا خفيت الجدران وخفي الأذان فقصّر ) ولا يكتفي بقوله : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) فاكتفاؤه بالشرط من دون ذكر للجزء الآخر يدلّ على أنّ الشرط هو العلّة التامّة للجزاء. ولو كان جزء العلّة فقط لكان معناه أنّ الجزاء لا يترتّب على الشرط في كلّ الحالات بل في بعضها فقط ، وهي حالة اجتماعه مع الجزء الآخر.

وهذا خلاف الإطلاق الأحوالي في الشرط الذي يثبت كونه العلّة في جميع الحالات المذكورة.

وبهذا يظهر أنّ الإطلاق الأحوالي للشرط يثبت لنا كونه علّة تامّة ، وكذلك يثبت لنا كونه العلّة التامّة المنحصرة كما تقدّم سابقا ، وأوردنا عليه الملاحظة الأولى.

فهذا الإطلاق الأحوالي يثبت كون الشرط علّة تامّة وينفي كونه جزء علّة ، وأمّا ما هو المراد من نفيه لجزء العلّة؟ فهذا توضيحه فيما يلي :

إلا أنّه إنّما ينفي النقصان الذاتي للشرط ( والنقصان الذاتي معناه كونه بطبيعته محتاجا في إيجاد الجزاء إلى شيء آخر ) ولا ينفي النقصان العرضي الناشئ من اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ( حيث إنّ هذا الاجتماع يؤدّي إلى صيرورة كلّ منهما جزء العلّة ) ؛ لأنّ هذا النقصان العرضي لا يضرّ بإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط.

المقصود من النقصان الذاتي : أنّ الشرط بطبيعته وفي نفسه ليس ممّا يتفرّع عليه الجزاء ، بل يحتاج في ذاته إلى الجزء الآخر فهو جزء للعلّة وليس علّة تامّة.

والمقصود من النقصان العرضي : أنّ الشرط بطبيعته ونفسه ممّا يتفرّع عليه الجزاء ،

٣٨

إلا أنّه عند ما يجتمع مع علّة أخرى يصبح كلاهما العلّة ، أي المجموع منهما ، فصار كلّ منهما جزء العلّة ، فهذا نقصان عرضي بسبب اجتماع العلّتين معا ؛ لأنّه من المستحيل أن يكون كلا العلّتين تامّتين في حالة اجتماعهما ؛ لأنّه لا يجتمع مؤثّرين على معلول واحد في زمان واحد.

وأمّا النقصان العرضي فالإطلاق الأحوالي لا ينفيه عن الشرط وليس مخالفا له ؛ لأنّه يعني أنّ الشرط لو وجد مستقلاّ فهو علّة تامّة وهذا موافق للإطلاق الأحوالي.

وأمّا إذا وجدت معه علّة تامّة أخرى فهل يكون أيضا علّة تامّة مع كونها الأخرى علّة تامّة؟ فهذا لا يمكن للإطلاق الأحوالي إثباته للشرط ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع مؤثّرين مستقلّين على معلول واحد ، وهذا يستحيل عقلا ؛ لأنّ المعلول إذا وجد مع الأولى فلا يوجد مع الثانية في نفس الوقت. وكذا العكس لاستحالة اجتماع المثلين ، فلأجل هذه الاستحالة يتحوّل الشرط في هذا الفرض إلى جزء علّة ، وهذا التحوّل عرضي وليس ذاتيّا ؛ لأنّه لو انفرد واستقلّ لكان علّة تامّة للجزاء.

وبهذا ظهر أنّ الإطلاق الأحوالي غاية ما يثبت به أنّ الشرط بنفسه علّة تامّة وينفي كونه جزء العلّة لو كان منفردا ومستقلاّ ، وأمّا أنّه يصبح جزء علّة بالعرض لأجل اجتماعه مع علّة تامّة أخرى فهذا لا نظر فيه للإطلاق الأحوالي ولا يمكنه أن ينفيه أصلا ، وإلا لكان هناك محذور عقلي في ذلك.

وعليه ، فكما يصحّ التفرّع فيما إذا كان الشرط علّة تامّة كذلك يصحّ التفرّع فيما لو كان جزء علّة بالعرض أيضا. فلا يثبت المطلوب من كون الشرط علّة تامّة دائما.

مضافا إلى الإشكال الأوّل أيضا في إثبات الانحصاريّة بالشرط ؛ لأنّنا نفترض علّة أخرى للجزاء لا تجتمع مع الشرط أو أخذ عدم الشرط في علّيّتها ، فيكون هذا الوجه باطلا في دعاويه الثلاث جميعا.

الرابع : ويفترض فيه أنّا استفدنا العلّيّة على أساس سابق ، فيقال في كيفيّة استفادة الانحصار : إنّه لو كانت هناك علّة أخرى فإمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ سببا للحكم ، وإمّا أن يكون السبب هو الجامع بين العلّتين بدون دخل لخصوصيّة كلّ منهما في العلّة ، وكلاهما غير صحيح.

٣٩

أمّا الأوّل فلأنّ الحكم موجود واحد شخصي في عالم التشريع ، والموجود الواحد الشخصي يستحيل أن تكون له علّتان.

وأمّا الثاني فلأنّ ظاهر الجملة الشرطيّة كون الشرط بعنوانه الخاصّ دخيلا في الجزاء.

الوجه الرابع : لإثبات مفهوم الشرط أن يقال : إنّ اللزوم مستفاد من وضع الجملة الشرطيّة بأداتها أو بهيئتها لذلك لغة ، فيكون المدلول اللغوي التصوّري للجملة هو اللزوم.

والعلّيّة تستفاد أيضا كما تقدّم في الوجه السابق من دلالة التفرّع بمقتضى أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت ، فما دام قد ذكر التفرّع في الكلام فهو يريده ثبوتا ، ويثبت أنّ التفرّع بنحو العلّيّة ؛ لأنّ التفرّع ظاهر في ذلك. أو يقال بأنّ العليّة مستفادة من الوضع أيضا.

وهكذا الحال بالنسبة للتماميّة فيمكن استفادتها من الإطلاق الأحوالي للشرط الذي ينفي عنه النقصان في جميع الحالات.

يبقى كون هذه العلّة التامّة هي العلّة الوحيدة المنحصرة ، فهذا ما يمكن إثباته بالتقريب التالي :

إذا فرض وجود علّة أخرى للجزاء غير الشرط بأن كانت هناك علّتان للجزاء إحداهما الشرط والأخرى شيء آخر ، فلا يخلو الأمر إمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ علّة للجزاء كأن يقال : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) و ( إذا كان زيد عالما فأكرمه ) ، فكان كلّ من المجيء والعلم بعنوانه الخاصّ علّة للإكرام.

وإمّا أن تكون كلتا العلّتين مؤثّرة في الجزاء لا بعنوانها الخاصّ ، بل بما هي مصداق للعلّة الحقيقيّة والتي هي الجامع بين العلّتين ، كأن تكون علّة الجزاء مثلا الإفطار وكان كلّ من الأكل والشرب مصداقا لهذه العلّة ، فيقال : ( إذا أكلت في شهر رمضان فكفّر ) و ( إذا شربت فيه فكفّر ) فالأكل والشرب علّتان للجزاء بما هما مصداقان للعلّة الحقيقيّة التي هي الجامع بينهما أي ( الإفطار ) ، فكأنّه قيل : ( إذا أفطرت في شهر رمضان فكفّر ) وكان الأكل والشرب مصداقين للإفطار. وكلا هذين الاحتمالين باطل.

٤٠