شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

بنفس القضيّة المتواترة من حيث المخبر ونوعيّة الخبر والظروف وما إلى ذلك ، وبعضها عوامل ذاتيّة نفسيّة ترتبط بالسامع ومدى وثاقته واطمئنانه بالراوي أو القضيّة وما إلى ذلك.

وما قيل : من أنّ العدد المطلوب في التواتر ٣١٣ أو ١٢ أو ٧٠ أو أكثر من ٤ وما إلى ذلك ليست إلا تحديدات وهميّة وخياليّة ؛ بناء على ما ذكرناه من المبنى الصحيح لحصول اليقين من القضيّة المتواترة.

نعم ، لعلّ منشأ هذه التحديدات هو المنطق الأرسطي الذي اعتمد على أنّ الكبرى في القضيّة المتواترة بديهيّة ، وهي أنّ اجتماع عدد كبير على الكذب ممتنع ، فإنّهم يسلّمون بهذه الكبرى فبحثوا في الصغرى فقط ، وهو مقدار هذا العدد الذي يمتنع تواطؤه على الكذب.

والحاصل : أنّه يوجد عوامل موضوعيّة وعوامل ذاتيّة تؤثّر على القيمة الاحتماليّة ، وسوف نتحدّث عنها بالتفصيل :

أمّا العوامل الموضوعيّة :

فمنها : نوعيّة الشهود من حيث الوثاقة والنباهة.

أمّا العوامل الموضوعيّة فهي العوامل المرتبطة بنفس الخبر من حيث المضمون والسند ، وهي على أنحاء :

الأوّل : نوعيّة الشهود الذين أخبروا بمضمون الحادثة التي سمعوها أو شاهدوها ، فإنّه إذا شهد الثقة النبيه الفطن الذي يعرف بذكائه وأنّه لا ينسى وأنّه ثقة كبير لا يكذب فإنّ القيمة الاحتماليّة لصدق خبره سوف تكون كبيرة ، وأكبر ممّا لو كان هذا المخبر ضعيف الحال معروف بالنسيان وعدم الفطنة ، أو أنّه يكذب في بعض الأحيان ، أو أنّه مجهول الحال لا يعرف عنه شيء من هذه النواحي ، فإنّ ذلك يوجب كون القيمة الاحتماليّة لصدق خبره ضعيفة وضئيلة.

والثمرة العمليّة بين هذه الحالات أنّه إذا كان ثقة فطنا فإنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة سوف يكون أسرع ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بينما في غير هذه الحالة تحتاج إلى مفردات أكثر ؛ لأنّ القيم الاحتماليّة تكون ضئيلة وضعيفة ، ولذلك لا يحصل اليقين منه بسرعة ، بل يكون حصوله بطيئا ويحتاج إلى عدد أكبر من سابقه.

١٤١

ومنها : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ؛ إذ بقدر ما يشتدّ التباعد والتباين يصبح احتمال اشتراكهم جميعا في كون هذا الإخبار الخاصّ ذا مصلحة شخصيّة داعية إليه بالنسبة إلى جميع أولئك المخبرين ـ على ما بينهم من اختلاف في الظروف ـ أبعد بحساب الاحتمال.

الثاني : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ، فإنّه إذا كانت المسالك السياسيّة والدينيّة والمذهبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والعقائديّة مختلفة بين الشهود الذين يخبرون بالقضيّة فإنّ درجة احتمال صدقهم سوف تكون أكبر بكثير ممّا لو كانوا متّفقين في بعض هذه الأمور أو في أكثرها.

والوجه في ذلك : أنّ مبرّر صدقهم مع كونهم مختلفين في هذه المسالك والظروف يكون واحدا ، وهو أنّ هذه القضيّة قد صدرت فعلا وواقعا ، بينما يكون مبرّر كذبهم متعدّدا ؛ إذ معناه افتراض اقتران مصالحهم صدفة ، وهذا بعيد بحساب الاحتمال ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق أكبر وحصول اليقين أسرع.

وأمّا لو كانت هذه المسالك والظروف متقاربة أو متشابهة أو متّفقة في أكثرها أو في جلّها فإنّ مبرّر الكذب حينئذ لن يكون متعدّدا ؛ إذ المفروض أنّهم متّفقون في الأهواء والمصالح ، فيكون هناك مصلحة واحدة مشتركة هي التي دعتهم للكذب ، مع احتمال صدقهم أيضا بأن تكون قد صدرت هذه الواقعة فعلا ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة وضعيفة أو مساوية لاحتمال الكذب ، وعليه نحتاج إلى مفردات أكثر ويكون حصول اليقين بطيئا ممّا كان عليه سابقا (١).

ومنها : نوعيّة القضيّة المتواترة ، وكونها مألوفة أو غريبة ، لأنّ غرابتها في نفسها تشكّل عاملا عكسيّا.

الثالث : نوع القضيّة ، فإنّ القضيّة المتواترة التي يخبر بها إذا كانت مألوفة بحيث إنّه من المتوقّع صدورها ؛ لأنّها كانت مورد حاجة أو موضع ابتلاء للناس ، فإنّ درجة التصديق بها سوف تكون أسرع وأكبر ممّا لو كانت هذه القضيّة غريبة وغير معتادة

__________________

(١) وهذا العامل قد التفت إليه بعض من القدماء فاشترط في التواتر أن يكون المخبرون من بلدان متعدّدة أو من أديان مختلفة ، وليس ذلك إلا لأنّهم أحسّوا بفطرتهم ووجدانهم أنّ هذا الاختلاف يقوّي اليقين أكثر ويجعله أرسخ ممّا لو كانوا متّفقين في المسكن والمذهب.

١٤٢

ولا يتوقّع صدورها ، فإنّ درجة احتمال الصدق تكون ضئيلة وحصول اليقين يكون أبطأ. وبالتالي سوف تكون درجة احتمال الكذب وعدم الصدور أقوى ، ولذلك نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا وإلى عدد أكبر بكثير من الحالة السابقة لكي يترسّخ اليقين في النفوس.

ومنها : درجة الاطّلاع على الظروف الخاصّة لكلّ شاهد بالقدر الذي يبعّد أو يقرّب بحساب الاحتمال افتراض مصلحة شخصيّة في الإخبار.

الرابع : اطّلاع الشاهد المخبر على هذه القضيّة ومدى تصديقه وإيمانه بما يخبر به ، فإنّه إذا كان قد شاهد القضيّة أو سمعها فإنّ درجة إيمانه وتصديقه بالقضيّة يقينيّة ؛ لأنّها معتمدة على الحسّ ، ولذلك فإنّ نقله لها وإخباره عنها سوف يشكّل قيمة احتماليّة كبرى للصدق ، وبالتالي يبعد كونه ذا مصلحة شخصيّة دعته للإخبار ، بينما إذا كان إيمانه وتصديقه لما يخبر به لا يصل إلى درجة اليقين ، بل كان يظنّ بذلك نتيجة اعتماده على الحدس والاستنتاج ، فإنّ إخباره لن يكون ذا قيمة احتماليّة كبيرة لصالح الصدق والوقوع ؛ إذ يحتمل كبيرا خطؤه في تحليله واستنتاجه ؛ ولذلك يكون حصول اليقين أسرع وأقوى وأرسخ في النحو الأوّل دونه في النحو الثاني ، بل تحتاج إلى مفردات عديدة وكثيرة جدّا.

وبتعبير آخر : إنّ هذا المخبر إذا كان متأثّرا بظروف خاصّة تحيط به دعته إلى الإخبار عن القضيّة دون أن يكون قد رآها أو سمعها وإنّما استنتجها بحدسه فقط ، فسوف تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب أو لوجود مصلحة دعته لهذا الإخبار قويّة وأكبر ، بخلاف ما إذا لم يكن متأثّرا بأي نحو من العوامل والظروف الخاصّة ، بل كان يخبر مجرّدا عن انطباعاته وتصوّراته ، فإنّ اليقين يكون أسرع حصولا وأرسخ ولا نحتاج إلى مفردات كثيرة.

ومنها : درجة وضوح المدرك المدّعى للشهود ، ففرق بين الشهادة بقضيّة حسيّة مباشرة كنزول المطر ، وقضيّة ليست حسيّة ، وإنّما لها مظاهر حسيّة كالعدالة ؛ وذلك لأنّ نسبة الخطأ في المجال الأوّل أقلّ منها في المجال الثاني ، وبهذا كان حصول اليقين في المجال الأوّل أسرع.

الخامس : وضوح المدرك المدّعى للشهود أو عدمه :

١٤٣

فكلّما كانت القضيّة المخبر بها والتي يشهد عليها قضيّة حسيّة مباشرة يمكن إدراكها بالحواسّ ، كنزول المطر أو حدوث الزلزلة ونحو ذلك كانت درجة الصدق والقيمة الاحتماليّة وحصول اليقين أقوى وأسرع وأرسخ ، بينما إذا كانت القضيّة المشهود بها قضيّة حدسيّة استنتاجيّة من خلال بعض المظاهر الحسيّة كالإخبار عن العدالة لشخص من خلال كونه يصلّي ويصوم مثلا ، فإنّ درجة احتمال الصدق وحصول اليقين والقيمة الاحتماليّة تكون أقلّ وأبطأ وتحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا.

والفرق بين هذين النحوين تابع للملاك الموجود فيهما : فإنّه إذا كانت القضيّة حسيّة كان احتمال الخطأ والاشتباه والغفلة والنسيان وعدم التذكّر بعيد جدّا في نفسه ؛ لأنّ الأصل أن يكون الإنسان المشاهد للحادثة سليم الحواسّ وملتفتا وذاكرا لكلّ ما يجري أمامه ، وأنّ ما ينقله هو كلّ ما رآه أو سمعه دون زيادة أو نقصان ، ولذلك يكون التصديق أقوى وأسرع وأرسخ.

وأمّا إذا كانت القضيّة حدسيّة فإنّ احتمال الخطأ والغفلة والاشتباه في الاستنتاج والحدس الذي اعتقد به الشخص المخبر ليس بعيدا في نفسه ، وذلك لكثرة الخطأ في الاستنتاجات والاعتقادات الظنيّة ، فيحتمل احتمالا كبيرا أنّ ما استنتجه غير صحيح ، أو أنّه لا يدلّ على ما حدس به واعتقده بتلك المثابة التي حصل عليها ، أو أنّ هذه الشواهد كانت برأينا غير كافية لحصول الحدس بالعدالة مثلا ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة وتحتاج إلى مفردات كثيرة لحصول اليقين وترسّخه في الذهن.

والسرّ في ذلك أنّ استنتاجات الأشخاص ونظريّاتهم وأفكارهم تختلف عن بعضها كثيرا ، بخلاف الحسيّات فإنّه مع سلامة الحواسّ لا يختلف اثنان فيما يشاهدانه أو يسمعانه.

إلى غير ذلك من العوامل التي يقوم تأثيرها إيجابا أو سلبا على أساس دخلها في حساب الاحتمال وتقييم درجته.

فكلّ عامل من العوامل التي ذكرناها مضافا الى عوامل أخرى لم نذكرها لها تأثير سلبي أو إيجابي على درجة التصديق وعلى مفردات القضيّة وعلى القيمة الاحتماليّة.

وأمّا العوامل الذاتيّة :

١٤٤

فمنها : طباع الناس المختلفة في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة ،

فإنّ هناك حدّا أعلى من الضآلة لا يمكن لأي ذهن بشري أن يحتفظ بالاحتمال البالغ إليه ، مع الاختلاف بالنسبة إلى ما هو أكبر من الاحتمالات.

الأوّل : من العوامل الذاتيّة والنفسيّة التي تختلف باختلاف الأشخاص الذين ينقل إليهم الخبر المشهود به هو طباع الناس ، فإنّ الطبائع مختلفة بين الناس إلى درجة لا تجد اثنين متّفقين على طبع واحد ، إلا أنّه يوجد بعض القواسم المشتركة لهذه الطبائع لا اختلاف فيها.

فإذا بلغت القيمة الاحتماليّة للكذب وعدم الصدق درجة كبيرة جدّا ، بحيث إنّ الذهن البشري السليم لا يحتفظ بمثل هذه القيمة ولا يلتفت إليها أبدا في سيرته وتعامله الخارجي بأن كانت درجة احتمال الخلاف والكذب واحدا من مئات الآلاف أو آلاف الآلاف ، فإنّه لا يعتني بها مطلقا نظريّا وعمليّا ، وكأنّها غير موجودة أصلا.

نعم ، هناك بعض القيم الاحتماليّة تختلف فيها طبائع الناس ، فبعض الناس يحتفظ ببعضها ويعتني بها عمليّا ، والبعض الآخر لا يلتفت إليها أصلا ، أو يلتفت إليها ولكنّه لا يعتني بها عمليّا.

وهذا معناه أنّ القيم الاحتماليّة سوف تتأثّر زيادة وضآلة بمدى احتفاظ الذهن البشري لهذه الدرجة ، وبالتالي سوف تؤثّر سلبا أو إيجابا على حصول اليقين ، أو على سرعته وبطئه أو على رسوخه وارتكازه ، ممّا يتطلّب قلّة أو كثرة المفردات.

ومنها : المبتنيات القبليّة التي قد توقّف ذهن الإنسان وتشلّ فيه حركة حساب الاحتمال وإن لم تكن إلا وهما خالصا لا منشأ موضوعي له.

الثاني : المبتنيات القبليّة التي يؤمن بها الشخص الذي ينقل إليه القضيّة ، فمثلا إذا كان لهذا الشخص بعض المعتقدات الخاطئة أو بعض الشبهات حول العصمة أو حول علم المعصوم ونحو ذلك ، فإنّ نقل القضيّة التي تخبر عن سعة علمه أو غير ذلك سوف تتعارض مع معتقداته وإن لم تكن إلا وهما وخيالا ولا أساس لها من الصحّة ، إلا أنّها على كلّ حال سوف تقف حاجزا بين هذا الشخص وبين حصوله على اليقين والتصديق ، بحيث يحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا لتزيل تلك المبتنيات من ذهنه.

وأمّا إذا كانت المبتنيات القبليّة متّفقة مع القضيّة المخبر بها ، فإنّ درجة اليقين سوف

١٤٥

تكون أسرع حصولا وأرسخ في ذهنه ، ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة لحصول ذلك.

فهذه المبتنيات القبليّة لها تأثير سلبي أو إيجابي في القيمة الاحتماليّة ، ولها تأثير على حصول اليقين والتصديق كذلك.

ومنها : مشاعر الإنسان العاطفيّة التي قد تزيد أو تنقص من تقييمه للقرائن الاحتماليّة ، أو من قدرته على التشبّث بالاحتمال الضئيل تبعا للتفاعل معه إيجابا أو سلبا.

الثالث : المشاعر العاطفيّة فإنّ القضيّة المخبر بها إذا كانت على خلاف مشاعره وإحساساته سوف تكون القيمة الاحتماليّة لدرجة التصديق ضئيلة ، وبالتالي درجة احتمال الكذب كبيرة فيحتاج إلى مفردات أكثر ويكون حصول اليقين أبطأ.

وأمّا إذا كانت القضيّة المخبر بها موافقة لعواطفه وإحساساته ومشاعره ، فإنّ درجة احتمال الصدق فيها سوف تكون أكبر ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بل يكون حصول اليقين عنده أسرع وأرسخ.

فهذه كلّها مؤثّرات نفسيّة وذاتيّة تختلف باختلاف الأشخاص ، وتبعا لها تختلف القيم الاحتماليّة للصدق والكذب ويكون حصول اليقين مختلفا أيضا سرعة وبطأ.

وهذه العوامل تسمّى بالمضعّف الكيفي الذي يضاف إلى المضعّف الكمّي الناتج عن حساب الاحتمال.

تعدد الوسائط في التواتر :

إذا كانت القضيّة الأصليّة المطلوب إثباتها ليست موضعا للإخبار المباشر في الشهادات المحسوسة ، وإنّما هي منقولة بواسطة شهادات أخرى ـ كما هو الغالب في الروايات ـ فلا بدّ من حصول أحد أمرين ليتحقّق ملاك التواتر.

المقصود من تعدّد الوسائط في التواتر هو أن يكون نقل القضيّة المطلوب إثباتها ليس من المخبر المباشر الذي رأى أو سمع القضيّة ، وإنّما ينقلها عنه شخص أو أكثر ، كأن ينقل زيد عن عمرو أنّه سمع أو رأى خسوف القمر ، فهنا كيف يحصل التواتر؟

وهل هو كالنقل المباشر من دون واسطة في ابتنائه على حساب الاحتمالات؟

أو إنّه يوجد طريق آخر لذلك؟

١٤٦

علما بأنّ أغلب القضايا المتواترة قد نقلت إلينا بالواسطة لا مباشرة ، فكيف يتمّ تحصيل اليقين مع هذه الواسطة؟

وكيف يتحقّق ملاك ومناط التواتر الذي هو تجميع القيم الاحتماليّة؟

وهنا يوجد طريقان لتحصيل اليقين من النقل مع الواسطة : أحدهما على مبنى المشهور ، والآخر على المسلك الصحيح ، فنقول :

أحدهما : أن تكون كلّ واحدة من تلك الشهادات الأخرى موضوعا للإخبار المباشر المتواتر ، وهكذا يلحظ التواتر في كلّ حلقة.

الطريق الأوّل : مسلك المشهور وهو أنّ نقل القضيّة المتواترة مع الواسطة يحتاج إلى أن تكون كلّ حلقة من الحلقات التي تؤلّف بمجموعها الخبر متواترة أيضا ؛ وذلك لأنّ كلّ حلقة وواسطة تعتبر إخبارا مستقلاّ في نفسه.

فإذا قال زيد بأنّ عمرا سمع أو رأى خسوف القمر أو الزلزلة ، فهذا معناه أنّه يخبر عن عمرو. فلكي يثبت إخبار عمرو في نفسه لا بدّ أن يكون النقل عنه متواترا أيضا بأن يخبر جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب بأنّ عمرا سمع أو رأى تلك القضيّة ، فإذا تحقّق التواتر ثبت قول عمرو بأنّه شاهد أو سمع.

وأمّا القضيّة نفسها فلا بدّ أيضا أن ينقلها جماعة كثيرة أيضا يمتنع تواطؤها على الكذب لتكون يقينيّة ، وهذا يفترض أنّ التواتر لا بدّ أن يلحظ في كلّ حلقة من حلقات السلسلة ، بأن ينقل جماعة كثيرة عن عمرو وجماعة كثيرة عن كلّ واحد من الذين شاهدوا أو رأوا أو سمعوا القضيّة.

فلو فرضنا على سبيل المثال أنّ الذين نقلوا القضيّة مباشرة كان عددهم ١٠٠ ، فلا بدّ أن يكون خبر كلّ واحد من هؤلاء المائة قد نقل إلينا متواترا ، بأن يكون مثلا مائة نقلوا عن الأوّل ومائة أخرى نقلت عن الثاني وهكذا ، فيكون مجموع المفردات في هذا المثال ١٠٠* ١٠٠ يساوي ١٠٠٠٠ ، هذا إذا كانت الواسطة واحدة.

وأمّا إذا كانت الواسطة أكثر فنحتاج إلى مفردات أكثر ، فلو نقل بكر عن زيد عن عمرو بأنّه شاهد أو سمع القضيّة فلا بدّ من إثبات التواتر في نقل بكر وإثبات التواتر في نقل زيد ، فحيث إنّ العدد كان في الواسطة الأولى عبارة عن ١٠٠٠٠ مخبر

١٤٧

فتكون المفردات في الواسطة الثانية حاصل ضرب ١٠٠٠٠* ١٠٠ ويساوي ١٠٠٠٠٠٠ أي مليون مخبر.

ومن الواضح أنّ الأخبار التي نقلت إلينا بالواسطة لا تقلّ الواسطة فيها عن اثنين ، بل هي أكثر من ذلك عادة ، وهذا معناه أنّه لا بدّ على الأقلّ من مليون مخبر ليتحقّق التواتر عندنا ، وهذا فرض خيالي ونادر بل لعلّه لم يقع أصلا في أية حادثة أصلا ، لذلك يكون هذا الطريق بلا فائدة أصلا أو نادرا جدّا.

والآخر : أن نبدأ عمليّة تجميع القرائن الاحتماليّة على أساس حساب الاحتمال من القيم الاحتماليّة للخبر غير المباشر ، فتلحظ القيمة الاحتماليّة لقضيّة يشهد شخص بوجود شاهد بها ، وتجمع مع قيم احتماليّة مماثلة ، وهكذا حتّى يحصل الإحراز الوجداني.

الطريق الآخر ما هو الصحيح والمختار من أنّنا نجمع القيم الاحتماليّة التي نحصل عليها من هذا الخبر غير المباشر على أساس حساب الاحتمالات ، بحيث إنّنا نلحظ القيمة الاحتماليّة للقضيّة التي يشهد شخص بوجود شخص سمعها أو رآها ، وبعد أن تحصل هذه القيمة الاحتماليّة المبتنية على أساس أنّ صدق المخبر متوقّف على صدق الشخص الذي شاهد القضيّة تضاف إلى القيم الاحتماليّة المماثلة أو المشابهة لها والتي استنتجناها من سائر الإخبارات غير المباشرة.

وبعد تجميع القيم الاحتماليّة هذه من كافّة الإخبارات سوف يحصل الإحراز الوجداني.

فمثلا لو أخبر زيد بأنّ عمرا شاهد خسوف القمر ، أو وقوع الزلزلة ، فهنا القيمة الاحتماليّة لإخبار زيد في نفسه هي ١ / ٢ ؛ لأنّ كلّ خبر في نفسه يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.

وكذلك أيضا القيمة الاحتماليّة لإخبار عمرو عن القضيّة ، فإنّه في نفسه يساوي ١ / ٢ ، إلا أنّ المفروض هنا أنّ صدق زيد متوقّف على صدق عمرو ، إذ لو كان عمرو كاذبا لم يكن إخبار زيد بوقوع الحادثة عن طريق عمرو صادقا. نعم ، إخباره في نفسه بأنّ عمرا شاهد القضيّة يحتمل الصدق والكذب ، وعلى هذا فتكون القيمة الاحتماليّة لهذا الإخبار غير المباشر وفقا لقاعدة الاحتمال المشروط هي القيمة الاحتماليّة لإخبار

١٤٨

زيد ضرب القيمة الاحتماليّة لإخبار عمرو على القيمة الاحتماليّة لإخبار زيد ، أي :

أ * أ * ب ١ / ٢ * ١ / ٢ ١ / ٢ ١ / ٢ * ١ / ٤ ١ / ٨ ، فتكون القيمة الاحتماليّة لهذا الخبر هي ١ / ٨ ، ثمّ إنّ هذه القيمة الاحتماليّة أي ١ / ٨ تضاف إلى سائر القيم الاحتماليّة المستنتجة من الإخبار الأخرى ؛ ليحصل الإحراز الوجداني واليقين الموضوعي.

فلو فرضنا أنّ قيمة الكذب في هذا الخبر هي ٧ / ٨ ؛ لأنّها القيمة المقابلة لقيمة الصدق ، فيما إذا كان هناك خبران سوف تقلّ وتضعف القيمة الاحتماليّة للكذب ؛ وذلك لأنّ محور الصدق واحد وهو ثبوت القضيّة واقعا ، بينما محور الكذب متعدّد وهو المصالح المختلفة المتنوعة لكلّ شخص ؛ إذ يبعد اتّفاق مصالحهم صدفة على الكذب ؛ لأنّ الصدفة كما تقدّم لا تتكرّر دائما ، وهذا معناه أنّ ٧ / ٨ تضرب باثنين فتكون النتيجة ٧ / ١٦ احتمال الكذب ويقابلها ٩ / ١٦ احتمال الصدق.

وإذا جاء خبر ثالث سوف تضرب ٧ / ١٦ باثنين فتكون النتيجة وهكذا... حتّى يصل الأمر إلى كسر ضئيل لا يحتفظ به الذهن البشري.

والوجه في أنّنا نضرب باثنين هو أنّه كلّما جاء خبر جديد كان هناك علم إجمالي مكوّن من أطراف مضاعفة عن السابق ، فإنّ أطراف العلم الإجمالي في الخبرين هي أربعة ، بينما تكون في الأخبار الثلاثة ثمانية وفي الأربعة ستة عشر وهكذا ، ولذلك يضرب باثنين.

وهذا طريق صحيح ، غير أنّه يكلّف افتراض عدد أكبر من الشهادات غير المباشرة ؛ لأنّ مفردات الجمع أصغر قيمة منها في حالة الشهادات المباشرة.

وهذا الطريق صحيح ومنتج وله آثار وثمرات عمليّة بحيث يكون منتجا لليقين بعدد معقول عقلا وعرفا ، وليس حالة خياليّة أو نادرة ؛ لأنّه يعتمد على تجميع القيم الاحتماليّة على أساس حساب الاحتمال وضرب الكسور في القيم المخالفة التي ليس لها محور واحد.

وهذا الطريق كالطريق السابق في استنادهما على نكتة واحدة وأساس واحد ، وهو حساب الاحتمال ، وضرب القيم الاحتماليّة المخالفة ، غاية الأمر أنّه في الإخبار المباشر لم نكن نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا من الإخبارات المباشرة ؛ وذلك لأنّ درجة

١٤٩

احتمال الكذب كانت في نفسها ضئيلة ، بينما هنا فإنّ درجة احتمال الكذب في نفسها ليست ضئيلة ، ولذلك نحتاج إلى مفردات أكثر بكثير ممّا كنّا نحتاجه في الإخبار المباشر ، ولكن عددها ليس كبيرا بحيث يصبح فرضا نادرا ، بل هو معقول وواقع أيضا.

أقسام التواتر :

إذا واجهنا عددا كبيرا من الأخبار فسوف نجد إحدى الحالات التالية :

التواتر على أقسام ثلاثة :

التواتر الإجمالي ، والتواتر المعنوي ، والتواتر اللفظي.

وسنتكلّم عن كلّ واحد منها بالتفصيل :

الحالة الأولى : أن لا يوجد بين المدلولات الخبريّة مشترك يخبر الجميع عنه ، كما إذا جمعنا بطريقة عشوائيّة مائة رواية من مختلف الأبواب ، ففي هذه الحالة من الواضح أنّ كلّ واحد من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر.

القسم الأوّل : التواتر الإجمالي :

وتوضيحه ضمن النقاط التالية :

الأولى : أن نعلم إجمالا بوجود مائة رواية كاذبة ضمن الروايات الموجودة عندنا في الكتب الأربعة مثلا ، فإذا التقطنا مائة رواية بصورة عشوائيّة من مختلف الأبواب الفقهيّة ، فإنّ هذه المائة تشكّل طرفا من أطراف العلم الإجمالي.

فهنا نتساءل : هل تكون هذه المائة كاذبة لكونها طرفا للعلم الإجمالي ويجب الاجتناب عنها على أساس منجّزيّة العلم الإجمالي المذكور للاجتناب عن كلّ أطرافه أم لا؟

وهنا لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لكلّ أطرافه ، وإلا لكانت كلّ مائة مائة يجب الاجتناب عنها ، والمفروض أنّ أطراف العلم الإجمالي هنا كثيرة جدّا بحيث تصل إلى عدد كبير للغاية ، وبالتالي تكون النتيجة الاجتناب عن كلّ الأحاديث الموجودة ضمن الكتب الأربعة وهذا لا يقوله أحد.

ولا إشكال أيضا في أنّه لا يثبت صحّة أو كذب كلّ واحد من هذه المائة ، فلو

١٥٠

أخذ كلّ رواية من هذه الروايات المائة فلا يمكننا إثبات صحّتها أو كذبها بالعلم الإجمالي المذكور ، وإلا لانحلّ العلم الإجمالي ضمن الأفراد المعلوم كذبها وصار هناك شكّ بدوي في غيرها ، فنجري البراءة ويزول العلم الإجمالي.

ومن هنا يتّضح أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لتمام أطرافه لكثرتها التي تجعله من الشبهة غير المحصورة ، وأنّ كلّ واحد من مفردات أطرافه لا علم تفصيلي فيه لا سلبا ولا إيجابا.

وإنّما يقع الكلام في إثبات أحدها على سبيل العلم الإجمالي لكي ترتّب عليه آثار العلم الإجمالي.

النقطة الثانية : نعم ، يقع الكلام في أنّنا هل يمكننا إثبات صحّة واحد من هذه الروايات المائة على سبيل الإجمال ، بأن يكون هناك علم إجمالي بصدق رواية واحدة ضمن هذه الروايات المائة أم لا يمكننا ذلك؟

فإذا استطعنا إثبات صحّة واحدة من الروايات ضمن المائة فيمكننا ترتيب آثار العلم الإجمالي بوجود رواية صحيحة غير معلومة تفصيلا ، وبالتالي يجب الأخذ بهذه الرواية التي ثبت صدقها لكونها حجّة منجّزة أو معذّرة.

والتحقيق في ذلك : أنّ قيمة احتمال كذب الجميع ضئيلة جدّا ؛ لوجود مضعّف وهو عدد الاحتمالات التي ينبغي أن تضرب قيمها من أجل الحصول على قيمة احتمال كذب الجميع ، وكلّما كانت عوامل الضرب كسورا تضاءلت نتيجة الضرب تبعا لزيادة تلك العوامل ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكمّي ، فيكون احتمال كذب الجميع ضئيلا جدّا ، ويحصل في المقابل اطمئنان بصدق واحد على الأقلّ.

النقطة الثالثة : إنّنا على أساس حساب الاحتمالات نستطيع أن نثبت صدق رواية واحدة على الأقلّ ضمن مائة رواية مأخوذة عشوائيّا.

وبيان ذلك : أنّ أطراف العلم الإجمالي المذكور كثيرة جدّا ، وهذا معناه وجود المضعّف الكمّي الذي يعتمد عليه حساب الاحتمالات ، وعلى أساس هذا المضعّف الكمّي سوف تكون القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة ضئيلة جدّا.

وأمّا أطراف هذا العلم الإجمالي الكثيرة جدّا فيمكننا الحصول عليها عن طريق حساب التوافق ، فإنّنا لو فرضنا أنّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة تبلغ عشرة

١٥١

آلاف رواية ، فإنّ العلم الإجمالي بكذب مائة من هذه الروايات تكون أطرافه مكوّنة من حاصل ضرب عشرة آلاف في نفسها فتبلغ الأطراف مائة مليون طرف ؛ لأنّه يمكننا أن نفرض المائة الأولى من الواحد إلى المائة ، والمائة الثانية من الاثنين إلى المائة وواحد ، والثلاثة إلى المائة والاثنين ، وهكذا.

وهذا معناه أن القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة سوف تكون ١ / ١٠٠٠٠٠٠٠٠ أي واحد من مائة مليون ؛ لأنّ رقم اليقين وهو الواحد يقسم بالتساوي على أطراف العلم الإجمالي ، وهذه قيمة احتماليّة ضئيلة جدّا ؛ لأنّها ناتجة عن ضرب عوامل الضرب التي هي أطراف العلم الإجمالي. وكلّما كانت عوامل الضرب كسورا كانت القيمة ضئيلة جدّا تبعا لكثرة وازدياد عوامل الضرب أي ( أطراف العلم الإجمالي ).

وبهذا ظهر أنّه على أساس هذا المضعّف الكمّي سوف تكون قيمة احتمال كذب هذه المائة بجميع مفرداتها ضئيلة جدّا ، وفي مقابل ذلك سوف يحصل اطمئنان بصدق واحدة من هذه الروايات المائة ؛ لأنّ قيمة احتمال الصدق تكون مقابلة لقيمة احتمال الكذب ، وحيث إنّ قيمة احتمال الكذب هي ١ / ١٠٠٠٠٠٠٠٠ فسوف تكون قيمة الصدق هي ٩٩٩٩٩٩٩ / ١٠٠٠٠٠٠٠٠ ، وبهذا فإذا أخذنا واحدة من الروايات فإنّنا سوف نطمئنّ بصدقها.

يبقى هناك تساؤل آخر وهو :

هل يمكننا الوصول إلى اليقين بصدق هذه الرواية التي أخذناها من مجموع المائة أو لا يمكننا ذلك؟ وهذا ما نبحثه ضمن النقطة الرابعة ، فنقول :

ولكنّ هذا الاطمئنان يستحيل أن يتحوّل إلى يقين ، بسبب الضآلة.

ووجه الاستحالة : أنّنا نعلم إجمالا بوجود مائة خبر كاذب في مجموع الأخبار ، وهذه المائة التي التقطناها تشكّل طرفا من أطراف ذلك العلم الإجمالي ، وقيمة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها تساوي قيمة احتمال انطباقه على أيّة مائة أخرى تجمع بشكل آخر ، فلو كان المضعّف الكمّي وحده يكفي لإفناء الاحتمال لزال احتمال الانطباق على أيّة مائة نفرضها ، وهذا يعني زوال العلم الإجمالي ، وهو خلف.

النقطة الرابعة : أنّ القيمة الاحتماليّة بصدق رواية من المائة التي التقطناها عشوائيّا

١٥٢

يستحيل أن تصبح يقينا استنادا إلى ضآلتها ؛ إذ لا يوجد هناك مضعّف كيفي على أساسه تزول تلك القيمة الاحتماليّة للكذب.

فهنا دعويان :

الأولى : عدم وجود المضعّف الكيفي في هذه الروايات ؛ لأنّ المفروض أنّنا التقطناها عشوائيّا من مختلف الأبواب فلا يوجد فيها قاسم مشترك ، ولا تتحدّث عن موضوع واحد ، وألفاظها مختلفة ، ومضامينها متعدّدة ، ورواتها مختلفون وكلّ واحد منهم يروي حديثا غير الآخر ولا يرتبط معه بشيء.

وهذا معناه أنّ النسبة بين هذه الروايات المائة فيما بينها هي نسبة التباين والاختلاف ، فهناك احتمال كذب كلّ واحد من الروايات بنحو معتدّ به وهو النصف المقابل للصدق ، وليس أحدهما أكثر من الآخر ولا يمكن تضعيف احتمال الكذب في كلّ رواية ؛ لعدم وجود المضعّف الكيفي المذكور ، فتبقى القيمة الاحتماليّة على حالها.

الثانية : أنّ المضعّف الكمّي الموجود والذي على أساسه تضاءلت القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة بجميع مفرداتها لا يكفي وحده لإفادة اليقين وزوال هذا الكسر وإن كان ضئيلا جدّا.

والوجه في ذلك هو : أنّنا حصلنا في النقطة الثالثة على نتيجة وهي أنّ كذب هذه المائة بجميع أفرادها ضئيل جدّا ، وبالتالي فإنّ صدق رواية واحدة منها على الأقلّ كبير جدّا ، إلا أنّ هذه القيمة الاحتماليّة للصدق ليست إلا اطمئنانا ولا تتحوّل إلى اليقين ؛ إذ لو تحوّلت إلى اليقين على أساس هذا المضعّف الكمّي لفعلنا ذلك في كلّ مائة أخرى ، وبالتالي نصل إلى اليقين بكلّ خبر خبر من مجموع الروايات في الكتب الأربعة ، وهذا يعني القطع بصدق جميع الروايات ، وهذا مخالف للعلم الإجمالي بكذب مائة رواية فيها ؛ لأنّه يعني زوال العلم الإجمالي مع أنّه موجود قطعا.

وبيان ذلك : أنّه لو حصلنا على اليقين بأنّ المائة من واحد إلى مائة فيها رواية صادقة ، وأنّ المائة من اثنين إلى مائة وواحد فيها رواية صادقة ، وأنّ المائة من ثلاثة إلى مائة واثنين فيها رواية صادقة وهكذا... سوف نصل في نهاية الأمر إلى أنّ كلّ مائة مائة من هذه الروايات في كلّ منها رواية صادقة.

وبالتالي سوف تكون كلّ الروايات صادقة ؛ لأنّ المئات التي نحصل عليها من عشرة

١٥٣

آلاف حديث قلنا : إنّها مائة مليون طرف ، فلو كان في كلّ مائة منها رواية واحدة صادقة لكان مجموع الروايات الصادقة هو حاصل تقسيم مائة مليون على عشرة آلاف مجموع الروايات ، وتكون النتيجة هي عشرة آلاف رواية صادقة وهي كلّ الروايات ، وهذا معناه أنّنا حصلنا على اليقين بصدق كلّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة ، وهذا معناه زوال العلم الإجمالي بكذب مائة رواية منها ، وهو خلف المفروض.

وبهذا اتّضح أنّ القيمة الاحتماليّة لصدق رواية من مائة في جميع أطراف العلم الإجمالي لا يمكن أن تتحوّل إلى اليقين ، بل لا تتعدّى الاطمئنان فقط ، وحينئذ ننتقل إلى النقطة الخامسة وهي :

وهكذا نعرف أنّ درجة احتمال صدق واحد من الأخبار على الأقلّ تبقى اطمئنانا ، وحجّيّة هذا الاطمئنان مرتبطة بتحديد مدى انعقاد السيرة العقلائيّة على العمل بالاطمئنان ، وهل تشمل الاطمئنان الإجمالي المتكوّن نتيجة جمع احتمالات أطرافه أو لا؟ إذ قد يمنع عن شمول السيرة لمثل هذه الاطمئنانات الإجماليّة.

النقطة الخامسة : هل أنّ هذه القيمة الاحتماليّة المفيدة للاطمئنان بصدق رواية من مائة حجّة أم لا؟

وهذا البحث مرتبط بأنّ دليل حجّيّة الاطمئنان والذي هو السيرة العقلائيّة هل يشمل كلّ اطمئنان سواء كان منشؤه العلم الإجمالي القائم على حساب الاحتمالات أو كان منشؤه الفهم العرفي المسامحي فقط؟

ولعلّ الصحيح هو أنّ السيرة العقلائيّة لم تنعقد على العمل بالاطمئنان الناتج عن العلم الإجمالي القائم على حساب الاحتمالات ؛ لعدم وجود مثل هذا العلم الإجمالي في حياتهم وسيرتهم العمليّة ، ولو فرض وجوده فهو نادر جدّا لا يمكن الاستدلال بالسيرة على مثله ، وبالتالي لا يكون مثل هذا الاطمئنان حجّة (١).

__________________

(١) وهذا هو الصحيح بنظر السيّد الشهيد ؛ ولذلك لم يذكر هذا القسم من أقسام التواتر في الحلقة الثانية ، ولعلّ ذكره هنا مسامحة واضحة ؛ لأنّه لا يؤدّي إلى اليقين بل إلى الاطمئنان فقط ، والمطلوب من التواتر إفادة اليقين ؛ لأنّه من وسائل الإحراز الوجداني لا التعبّدي كما تقدّم سابقا.

ولعلّ ذكره هنا من باب مناسبة المنهجة العلميّة فقط.

١٥٤

الحالة الثانية : أن يوجد بين المدلولات الخبريّة جانب مشترك يشكّل مدلولا تحليليّا لكلّ خبر ، إمّا على نسق المدلول التضمّني أو على نسق المدلول الالتزامي ، مع عدم التطابق في المدلول المطابقي بكامله ، كالإخبارات عن قضايا متغايرة ولكنّها تتضمّن جميعا مظاهر من كرم حاتم مثلا.

القسم الثاني هو التواتر المعنوي : والمقصود من التواتر المعنوي هنا خصوص قسميه التضمّني والالتزامي ، وأمّا القسم الثالث من التواتر المعنوي فهو داخل في الحالة الثالثة أي التواتر اللفظي ، كما سيأتي.

والتواتر المعنوي هنا أن يكون هناك قاسم مشترك بين الإخبارات بحيث يكون هذا الجانب مدلولا تحليليّا لكلّ خبر ، بمعنى أنّه إذا أردنا أن نحلّل كلّ خبر وجدنا أنّه يدلّ على هذا الجانب إمّا بالتضمّن أو بالالتزام ، إلا أنّه لا يوجد اتّفاق وتطابق بين هذه الإخبارات لا باللفظ ، فكلّ خبر له لفظ يختلف عن الآخر ، ولا بالمعنى المطابقي فكلّ خبر له مدلول مطابقي غير الآخر.

مثال ذلك : أن يخبر الأوّل عن كون زيد قد قرأ كتابا في النحو ، والثاني على أنّه قرأ بعض كتاب من المنطق ، والثالث على أنّه طالع كتب الشعر والأدب ، وهكذا...

فهذه الإخبارات مختلفة لفظا ومعنى من حيث المدلول المطابقي ، ولكنّها بالتحليل يوجد جانب مشترك بينها ، وهي أنّه قد قرأ بعض الصفحات على الأقلّ وهذا مدلول تضمّني تحليلي لكلّ خبر.

أو أن يخبر شخص عن كون حاتم قد ذبح جزورا لضيوفه ، وآخر على أنّه تصدّق بماله ، والثالث على أنّه يطعم الفقراء ، وهكذا... فإنّ هذه الإخبارات كلّها تدلّ بالتحليل عن كونه كريما ، وهذا مدلول التزامي لكلّ خبر من هذه الإخبارات المختلفة باللفظ والمعنى أي المدلول المطابقي.

فهنا هل يمكننا أن نثبت بالتواتر هذا المدلول التضمّني أو الالتزامي

أو لا يمكننا ذلك؟

والجواب : أنّه يمكننا ذلك ونصل إلى اليقين أيضا ؛ وذلك لوجود المضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي أيضا ، وبيان ذلك :

ولا شكّ هنا في وجود المضعّف الكمّي الذي رأيناه في الحالة السابقة ، يضاف

١٥٥

إليه مضعّف آخر وهو : أنّ افتراض كذب الجميع يعني وجود مصلحة شخصيّة لدى كلّ مخبر دعته إلى الإخبار بذلك النحو ، وهذه المصالح الشخصيّة إن كانت كلّها تتعلّق بذلك الجانب المشترك ، فهذا يعني أنّ هؤلاء المخبرين على الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم اتّفق صدفة أن كانت لهم مصالح متماثلة تماما.

وإن كانت تلك المصالح الشخصيّة تتعلّق بالنسبة إلى كلّ مخبر بكامل المدلول المطابقي ، فهذا يعني أنّها متقاربة ، وذلك أمر بعيد بحساب الاحتمالات ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكيفي يضاف إلى ذلك المضعّف الكمّي.

لا إشكال هنا في وجود المضعّف الكمّي المذكور سابقا ، بحيث إنّ القيمة الاحتماليّة لكذب الجميع تكون قيمة ضئيلة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة للصدق تكون كبيرة جدّا على أساس الضرب في القيم الاحتماليّة ، كما تقدّم سابقا في القضيّة التجريبيّة والمتواترة.

فإنّ كلّ خبر بنفسه يشكّل قيمة احتماليّة للصدق مساوية للقيمة الاحتماليّة للكذب ، ولكن إذا لوحظ كلّ خبر مع غيره فإنّ القيمة الاحتماليّة للصدق سوف تزداد ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب سوف تضعف وتتضاءل ؛ لأنّه إذا أخذنا الخبرين الأوّلين سوف يتشكّل علم إجمالي مكوّن من أربعة أطراف ، وتكون القيمة الاحتماليّة للصدق فيه ٧ / ٨ ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب ١ / ٨ ، فإذا أخذ ثلاثة أخبار تكون القيمة الاحتماليّة للكذب ١ / ١٦ وفي الأربعة تكون ١ / ٣٢ وهكذا. إلى أن تصل القيمة الاحتماليّة للكذب ضئيلة جدّا يقابلها قيمة احتماليّة للصدق كبيرة جدّا ، وهذا هو المضعّف الكمّي.

ثمّ إنّ هذه القيمة الاحتماليّة للكذب تزول وتصل إلى اليقين ، وذلك على أساس مضعّف آخر يضاف إلى المضعّف الكمّي ، وعلى أساس هذا المضعّف الكيفي سوف تكون القيمة الاحتماليّة للكذب أكثر ضآلة ممّا كانت عليه ؛ وذلك للأسباب التالية :

عرفنا فيما سبق أنّ العوامل الموضوعيّة والذاتيّة تشكّل بمجموعها المضعّف الكيفي ، وهنا العوامل الموضوعيّة معناها أنّنا إذا لم نفترض الصدق والجزم بصدور هذه القضيّة المخبر عنها وأنّها ليست ثابتة واقعا فهذا معناه أنّ كلّ مخبر قد كذب في إخباره ، وكذبه هذا ناتج عن وجود مصلحة شخصيّة دعته إلى الكذب. وهذا معناه أنّنا

١٥٦

نفترض وجود مصالح شخصيّة للمخبرين جميعا هي التي دعتهم إلى الاختلاق والكذب ، بينما المبرّر الوحيد للصدق هو ثبوت القضيّة واقعا.

وهنا إذا لاحظنا هذه المصالح الشخصيّة المتعدّدة تارة نجدها متّفقة تماما وأخرى نجدها متقاربة.

فإذا كانت المصلحة الشخصيّة لكلّ مخبر في أنّ يخبر بذاك المدلول التحليلي ( التضمّني أو الالتزامي ) الذي نريد إثباته بالتواتر ، فهذا معناه افتراض عدد كبير من المصالح الشخصيّة قد اتّفقت صدفة على ذاك الجانب ، على الرغم من الاختلاف بين المخبرين في الظروف والأحوال والأمكنة والمذاهب والمستوى العلمي والثقافي ونحو ذلك ، وهذا بعيد في نفسه بحساب الاحتمالات ، فإنّه إذا كانت تلك العوامل الموضوعيّة مختلفة كانت مبرّرات الكذب والخلاف والصدفة بعيدة جدّا في نفسها ، ممّا يجعل مبرّر الصدق والثبوت أقوى وأرسخ.

وإذا كانت المصلحة الشخصيّة لكلّ مخبر تدعوه إلى الإخبار بمدلول كلامه المطابقي فقط من دون أن يلاحظ المدلول التحليلي لكلامه ( التضمّني أو الالتزامي ) ، فهذا معناه أنّ هذه المصالح الشخصيّة على الرغم من الاختلاف في العوامل الموضوعيّة بينهم قد كانت متقاربة جدّا فيما بينها ؛ لأنّها جميعا تتضمّن أو تستلزم ذاك الجانب المشترك ، وهذا وإن كان محتملا لكنّه بعيد أيضا بحساب الاحتمالات.

وهكذا نصل إلى اليقين بعد ضمّ المضعّف الكيفي إلى المضعّف الكمّي بناء على حساب الاحتمالات.

ولهذا نجد أن قوّة الاحتمال التي تحصل في هذه الحالة أكبر منها في الحالة السابقة ، والاحتمال القوي هنا يتحوّل إلى يقين بسبب ضآلة احتمال الخلاف ، ولا يلزم من ذلك أن ينطبق هذا على كلّ مائة خبر نجمعها ؛ لأنّ المضعّف الكيفي المذكور لا يتواجد إلا في مائة تشترك ولو في جانب من مدلولاتها الخبريّة.

وبالمقارنة بين هذه الحالة والحالة السابقة نجد أنّ القيمة الاحتماليّة للصدق هنا أكبر بكثير من القيمة الاحتماليّة للصدق هناك ؛ وذلك لأنّه هناك كان يوجد فقط المضعّف الكمّي والذي على أساسه حصل الاطمئنان بالصدق ؛ لأنّ درجة احتمال الكذب كانت بنسبة واحد من مائة مليون ، بينما هنا فإنّ هذه النسبة سوف تتضاءل أكثر ؛

١٥٧

لوجود المضعّف الكيفي في الإخبار جميعا. ولذلك سوف تضرب هذه القيمة الاحتماليّة للكذب بنفسها فتكون نسبة الكذب واحدا من آلاف الملايين.

ولذلك لا تقاس هذه الحالة على تلك أو العكس ؛ لأنّه في الحالة الأولى لم يكن هناك مضعّف كيفي في جميع الإخبارات. نعم ، يوجد مضعّف كيفي في كلّ مائة تشترك جميعا في جانب من مدلولاتها الخبريّة ، كأن تكون هذه المائة من باب الصوم جميعا أو الصلاة ، وهكذا.

ولكنّ المفروض أنّنا حصلنا على كلّ مائة عشوائيّا من مختلف الأبواب الفقهيّة ، بحيث لم يكن بينها جانب مشترك أو كان بين بعضها جانب مشترك لكنّه خفي وضئيل.

الحالة الثالثة : أن تكون الإخبارات مشتركة في المدلول المطابقي بالكامل ، كما إذا نقل المخبرون جميعا أنّهم شاهدوا قضيّة معيّنة من قضايا كرم حاتم ، وفي هذه الحالة يوجد المضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي معا.

القسم الثالث : التواتر المعنوي واللفظي : والمقصود هنا أن تكون الأخبار كلّها متّفقة في المدلول المطابقي ، بحيث يخبر الجميع عن حادثة وواقعة واحدة معيّنة ، وهذا الاتّفاق في المدلول المطابقي قد يكون بلحاظ المعنى فقط دون الألفاظ وهو التواتر المعنوي بلحاظ القسم الثالث منه ، وقد يكون بلحاظ المعنى واللفظ أيضا وهو التواتر اللفظي.

فإذا أخبر جماعة كثيرة تصل إلى حدّ التواتر عن قضيّة معيّنة شخصيّة بحيث كان مدلولهم المطابقي واحدا ، بأن أخبروا عن كون حاتم قد ذبح جزورا لضيوفه ، فهنا يوجد كلا المضعّفين ( الكمّي والكيفي ) ، والنتيجة هي أنّ القيمة الاحتماليّة للكذب سوف تكون ضئيلة جدّا على أساس المضعّف الكمّي وحده ، فإذا انضمّ إليه المضعّف الكيفي سوف تزول هذه القيمة الاحتماليّة للكذب وبالتالي يحصل اليقين بثبوت هذه القضيّة.

غير أنّ هذا اليقين يختلف سرعة وشدّة ورسوخا ووضوحا بين ما إذا كان المدلول المطابقي متّفقا بالمعنى فقط وبين ما إذا كان متّفقا بالمعنى واللفظ معا ، فإنّ الثاني أقوى وأرسخ وأسرع من الأوّل ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

١٥٨

ولكن المضعّف الكيفي هنا أشدّ قوّة منه في الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّ مصالح الناس المختلفين كلّما افترض تطابقها وتجمّعها صدفة في محور أضيق كان ذلك أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات ؛ لما بينهم من الاختلاف والتباين في الظروف والأحوال ، فكيف أدّت مصلحة كلّ واحد إلى نفس ذلك المحور الذي أدّت إليه مصلحة الآخرين ، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى إذا كان الكلّ ينقلون واقعة واحدة بالشخص فاحتمال الخطأ فيهم جميعا أبعد ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدة بينها جانب مشترك.

أمّا كون المضعّف الكيفي هنا أقوى وأرسخ منه في الحالة السابقة فلأنّه إذا كانت المصالح الشخصيّة ـ التي هي مبرّر الكذب والمفروض أنّها مختلفة من شخص لآخر نتيجة اختلاف ظروفه وأحواله والعوامل الموضوعيّة التي تدعوه لذلك ـ قد فرض اجتماعها واتّفاقها صدفة على محور واحد فتكون القيمة الاحتماليّة للكذب ضئيلة جدّا أكثر ممّا إذا كانت المصالح الشخصيّة قد اتّفقت صدفة على محاور متعدّدة يوجد بينها جانب مشترك أي مدلول تحليلي ( تضمّني أو التزامي ).

وعليه ، فإذا كان جميع الرواة ينقلون واقعة واحدة متّفقة بمدلولها المطابقي فضلا عن التضمّني والالتزامي ، فاحتمال كذبهم واتّفاق مصالحهم على ذلك أبعد بكثير ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدة متّحدة بالمدلول التضمّني أو الالتزامي ولكنّها مختلفة بالمدلول المطابقي.

وهنا حيث إنّ المدلول المطابقي للجميع واحد بخلافه في الحالة السابقة ، فاحتمال الكذب واجتماع مبرّراته على محور واحد رغم تعدّدها سوف يكون أبعد وأكثر ضآلة من احتمال الكذب واجتماع المبرّرات على محاور مختلفة يوجد بينها جامع أو جانب مشترك ، كما هو مقتضى حساب الاحتمالات والمضعّف الكيفي.

وعلى هذا الأساس نقول أيضا :

وفي هذه الحالة كلّما كان التوحّد في المدلول أوضح ، والتطابق في الخصوصيّات بين إخبارات المخبرين أكمل ، كان احتمال الصدق أكبر والمضعّف الكيفي أقوى أثرا.

١٥٩

ومن هنا كان اشتمال كلّ خبر على نفس التفاصيل التي يشتمل عليها الخبر الآخر مؤدّيا إلى تزايد احتمال الصدق بصورة كبيرة.

والمضعّف الكيفي في هذه الحالة يختلف بين ما إذا كان النقل دقيقا جدّا بحيث كان المدلول المطابقي للجميع واحدا في اللفظ والمعنى ، وبين ما إذا كان المدلول المطابقي متّفقا بالمعنى دون الألفاظ ، فلأنّه إذا كان نقل التفاصيل كاملة في كلّ الأخبار بنحو واحد ، كان احتمال الكذب واجتماع المصالح على ذلك المحور الضيّق جدّا أبعد بكثير ممّا إذا اختلفوا في نقل التفاصيل أو نقلها البعض دون الآخر.

فلو أنّهم جميعا أخبروا بكافّة التفاصيل التي تمّت فيها تلك الحادثة ، كذبح حاتم الجزور لضيوفه بحيث نقل الجميع عدد الضيوف وكيفيّة الذبح والمناسبة لذلك وتاريخها ومكانها ، كان ذلك أقوى وأرسخ ممّا لو نقل البعض ذلك أو اختلفوا في بعض هذه التفاصيل ، وهذا سوف يؤثّر سرعة ورسوخا على اليقين. فإنّه إذا كان هناك اتّفاق في كافّة التفاصيل فسوف يكون احتمال الصدق كبيرا جدّا ، واحتمال الكذب ضئيلا جدّا ، ويكون حصول اليقين أسرع ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بخلاف ما إذا تفاوت نقل التفاصيل زيادة ونقصانا ، فإنّه يحتاج إلى مفردات أكثر من السابق ويكون حصول اليقين أقلّ سرعة منه كما هو واضح.

ومن أهمّ أمثلة ذلك : التطابق في صيغة الكلام المنقول ، كما إذا نقل الجميع كلاما لشخص بلفظ واحد ؛ لأنّنا نتساءل حينئذ : هل اتّفق أن كانت للجميع مصلحة في إبراز نفس الألفاظ بعينها مع إمكان أداء المعنى نفسه بألفاظ أخرى؟! أو كان هذا التطابق في الألفاظ عفويّا وصدفة؟! وكلّ ذلك بعيد بحساب الاحتمالات.

ومن هنا نستكشف أنّ هذا التطابق ناتج عن واقعيّة القضيّة وتقيّد الجميع بنقل ما وقع بالضبط.

ومن أهمّ أمثلة التطابق والتوحّد في المدلول المطابقي والخصوصيّات هو التطابق في صيغة الكلام المنقول بلفظه ، فإذا أخبر الجميع بخبر واحد متّفق لفظا ومعنى وبكافّة التفاصيل والخصوصيّات كان ذلك أقوى وأشدّ بكثير من اختلافهم في ذلك.

لأنّنا نتساءل هنا : هل اتّفق صدفة أن كانت مصالح الجميع في الكذب أن ينقلوا

١٦٠