شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

يجتمعان أو بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، فإنّ القطع والتصديق بهذا النحو من القضايا لا يحتاج الى أكثر من تصوّر معنى النقيضين ومعنى الاجتماع ليحكم العقل بأنّه مستحيل.

الثاني : اليقين الموضوعي المستنتج من قضيّة ما أي اليقين الذي يحتاج إلى إعمال فكر ونظر ، كاليقين الحاصل من الأقيسة أو من الاستقراء ، فإنّ هذا اليقين يحتاج إلى إعمال فكر ونظر وتوفّر مقدّمات لتكون النتيجة قطعيّة وصحيحة.

وهذا اليقين الاستنتاجي له سببان هما القياس والاستقراء.

والبحث عن القياس محلّه المنطق ، وأمّا الاستقراء فهو الذي يعتمد عليه بحثنا هنا أي حساب الاحتمالات ، فإنّه قائم على أساس الاستقراء كما سيأتي توضيحه.

أحدهما : اليقين الموضوعي بقضيّة أخرى تتضمّن أو تستلزم تلك القضيّة ، ويكون الاستنتاج حينئذ قائما على أساس قياس من الأقيسة المنطقيّة.

السبب الأوّل هو القياس ، فإنّه ينتج يقينا موضوعيّا مستنتجا من قضيّة أخرى على أساس أحد الأقيسة المنطقيّة ، بحيث تكون النتيجة متضمّنة أو مستلزمة لتلك القضيّة.

فمثال القضيّة المتضمّنة ، كقولنا : ( زيد إنسان ، وكلّ إنسان ناطق ، إذا زيد ناطق ) فإنّ هذه النتيجة متضمّنة في القضيّة الثانية ؛ لأنّ قولنا : ( كلّ إنسان ناطق ) يشمل زيد ؛ لأنّه إنسان أيضا.

ومثال القضيّة المستلزمة ، كقولنا : ( إذا كان زيد عالما فيجب إكرامه ، ولكنّه ليس بعالم ، إذا لا يجب إكرامه ) فهذه النتيجة لازم لكونه غير عالم ، إذ العالم يجب إكرامه بمقتضى القضيّة الشرطيّة وبمقتضى مفهومها لا يجب إكرام غير العالم ، والمفهوم مدلول التزامي للكلام.

والآخر : اليقين الموضوعي بمجموعة من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلا القضيّة المستنتجة ، ولكنّ كلّ واحدة منها تشكّل قيمة احتماليّة بدرجة ما لإثبات تلك القضيّة ، وبتراكم تلك القيم الاحتماليّة تزداد درجة احتمال تلك القضيّة حتّى يصبح احتمال نقيضها قريبا من الصفر ، وبسبب ذلك يزول لضآلته ، وكون الذهن البشري مخلوقا على نحو لا يحتفظ باحتمالات ضئيلة قريبة من الصفر.

السبب الثاني لحصول اليقين الموضوعي هو الاستقراء المبني على حساب

١٢١

الاحتمالات ، فإنّ القضيّة المراد إثباتها والتوصّل إلى اليقين بها ليست موجودة ضمن القضايا المراد الاستدلال بها ، وليست ملازمة لها كما هو الحال في القياس ، وإنّما هناك مجموعة من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلا القضيّة المراد استنتاجها والتيقّن بها.

وإنّما هذه القضايا تشكّل بمجموعها قيمة احتماليّة بدرجة ما لإثبات هذه القضيّة بحيث تكون كلّ قضيّة فيها درجة من الاحتمال تضمّ إلى الدرجة الموجودة في القضيّة الأخرى ليحصل من المجموع على أساس الضرب حاصل لقيمة الصدق واليقين كبيرة جدّا ، ويحصل مقابل ذلك حاصل لقيمة النقيض أي لاحتمال الكذب والخلاف درجة ضئيلة جدّا قريبة من الصفر.

وبسبب ضآلة هذه القيمة الاحتماليّة للكذب والنقيض وبسبب أنّ الذهن البشري مفطور على عدم الاحتفاظ بقيمة كهذه تكون هذه القيمة قريبة من العدم ، بحيث إنّها تزول عمليّا وإن كانت بالدقّة العقليّة المتناهية لا تزال موجودة.

وبالتالي يحصل المستقرئ على يقين مستنتج من خلال استقراء مجموع هذه القضايا.

ولمزيد توضيح نضرب المثال التالي :

ومثال ذلك : أنّ نشاهد اقتران حادثة معيّنة بأخرى مرّات كثيرة جدّا ، فإنّ هذه الاقترانات المتكرّرة لا تتضمّن ولا تستلزم أن تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ، إذ قد يكون اقترانهما صدفة ويكون للحادثة الأخرى علّة غير منظورة ، ولكن حيث إنّ من المحتمل في كلّ اقتران الا يكون صدفة وإلاّ تكون هناك علّة غير منظورة فيعتبر كلّ اقتران قرينة احتماليّة على علّيّة إحدى الحادثتين للأخرى ، وبتعدّد هذه القرائن الاحتماليّة يقوى احتمال العلّيّة حتّى يتحوّل إلى اليقين.

إذا شاهدنا اقتران حادثة بأخرى مرّات عديدة بحيث كان هذا الاقتران متكرّرا كثيرا ، فإنّه من المحتمل أن تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ؛ لأنّ هذا الاحتمال يبرّر لنا الاقتران المتكرّر بينهما ، فإنّ العلّة إذا وجدت وجد المعلول بعدها ، ولكن يحتمل أيضا ألا تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ، بل يكون اقترانهما معا مجرّد صدفة ، ويكون هناك علّة كانت موجودة لكنّنا لا نعلم بها هي التي برّرت وجود الحادثة الأخرى.

١٢٢

فلأجل تعيين أحد الاحتمالين نقول : إنّ كلّ اقتران من هذه الاقترانات الكثيرة جدّا يبعد كونه صدفة ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر ولا تكون دائميّة. والحال هنا أنّ هذا الاقتران قد تكرّر دائما ضمن هذه الاقترانات الكثيرة ، فهذا يبعّد الصدفة ، يبقى أنّ هناك علّيّة بين الحادثتين إلا أنّ هذا الفرض أيضا يحتمل فيه أمران :

١ ـ أن تكون العلّة للحادثة الأخرى هي الحادثة الأولى وهي منظورة وموجودة.

٢ ـ أن تكون العلّة للحادثة الأخرى هي حادثة ثالثة غير منظورة ولا نعلم بها ، ولكنّها كانت توجد صدفة عند ما تقترن الحادثة الأولى بالثانية.

ولأجل إثبات الاحتمال الأوّل دون الثاني نقول : إنّ كلّ اقتران للحادثة الأخرى بالحادثة الأولى عبارة عن قيمة احتماليّة بدرجة ما يثبت أنّ الحادثة الأولى هي العلّة للحادثة الأخرى ، وهذه القيمة الاحتماليّة موجودة في كلّ اقتران بين الحادثتين.

فإذا كانت هناك اقترانات كثيرة جدّا فإنّ القيمة الاحتماليّة لكون الحادثة الأولى علّة للحادثة الثانية سوف تكون كبيرة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة لكون العلّة هي تلك الحادثة غير المنظورة التي اقترنت صدفة في مجموع هذه الاقترانات الكبيرة جدّا سوف تكون ضئيلة جدّا ، الحاصلة من ضرب كلّ قيمة احتماليّة في كلّ اقتران بمثلها في الاقتران الآخر ، بحيث يكون الحاصل من مجموع ضرب القيم الاحتماليّة ببعضها عبارة عن رقم ضئيل جدّا لا يحتفظ العقل البشري بمثله ، بل يراه قريبا من الصفر والعدم.

وبذلك يحصل اليقين عمليّا بأنّ الحادثة الأولى هي العلّة للحادثة الثانية ، وهذا هو المسمّى بحساب الاحتمالات.

وهذا المبدأ يرتكز على أمور ثابتة مبرهن عليها في الرياضيّات ، وهي :

١ ـ أنّ الصدفة لا تتكرّر دائما ، فإذا تكرّرت فهي ليست صدفة.

٢ ـ أنّ القيمة الاحتماليّة لكلّ اقتران تضرب بالقيمة الاحتماليّة للآخر فيما إذا لم تكن احتمالات المخالفة والكذب متلازمة ، بل كانت متفاوتة وليس لها مبرّر واحد دائما ، وإنّما كان لها مبرّرات عديدة. وهذا القانون سوف يضعف القيمة الاحتماليّة لاحتمال المخالفة والكذب وسوف يقوّي بدرجة عالية جدّا احتمال الصدق ؛ لأنّه ذو مبرّر واحد.

١٢٣

فإذا أخذنا القضيّة التجريبيّة التالية :

تناول حبّة الأسبرين والشفاء من الصداع ، ثمّ كرّرنا هذه التجربة مرّتين ، واحتملنا في كلّ تجربة من هاتين التجربتين أن يكون الأسبرين هو علّة الشفاء ، واحتملنا أيضا أن يكون علّة الشفاء حادثة أخرى كانت موجودة عند تناول الأسبرين ، كأن يكون قد شرب الأسبرين والشاي فشفي من الصداع ، ثمّ شرب الأسبرين والنعناع فشفي من الصداع ، فهنا سوف يتكوّن لنا علم إجمالي من أربعة أطراف وهو :

١ ـ أن تكون العلّة الأخرى للشفاء من الصداع موجودة في التجربة الأولى فقط.

٢ ـ أن تكون العلّة الأخرى موجودة في التجربة الثانية فقط.

٣ ـ أن تكون العلّة الأخرى موجودة في التجربتين معا.

٤ ـ أن تكون العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين أصلا.

فهنا سوف يتوزّع رقم اليقين (١) على هذه الاحتمالات الأربعة فيكون لكلّ احتمال قيمة ١ / ٤ بالتساوي.

والآن علينا أن نجمع القيم الاحتماليّة لإثبات أنّ الأسبرين هو العلّة ، ونجمع أيضا القيم الاحتماليّة التي تثبت أنّ العلّة هي حادثة أخرى غير منظورة.

فنقول : فعلى الاحتمال الأوّل وهو أنّ العلّة موجودة في التجربة الأولى فقط ، فالموجود فيها هو الأسبرين فيكون قيمة ١ / ٤ لصالح علّيّة الأسبرين ؛ لأنّها الحادثة الموجودة في التجربة الأولى.

وهكذا بالنسبة للاحتمال الثاني ، فإنّ الأسبرين هو الموجود في التجربة الثانية فيكون قيمة ١ / ٤ أيضا لصالحه.

وعلى الاحتمال الثالث فإنّ الأسبرين كالعلّة الأخرى موجود في التجربتين معا ، فيكون قيمة الربع لصالحهما.

وأمّا على الاحتمال الرابع حيث يفرض فيه أنّ العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين فالقيمة الاحتماليّة سوف تكون لصالح الأسبرين أيضا ؛ لأنّ المفروض أنّ العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين.

والوجه في ذلك أنّ العلّة لو كانت غير الأسبرين لما تخلّفت في التجربتين الأولى والثانية ، فمثلا لو كانت العلّة هي الشاي في التجربة الأولى فكيف تحقّق المعلول في

١٢٤

الثانية مع غيره؟ ولو كان النعناع في التجربة الثانية هو العلّة فكيف تحقّق المعلول في الأولى؟ ولو كانت العلّة غير موجودة في التجربتين فكيف تحقّق المعلول فيهما مع عدم وجود الشاي والنعناع معا فيهما؟ فالتخلّف دليل على أنّ الأسبرين هو العلّة بناء على الاحتمالات الثلاثة ؛ لأنّه موجود فيها جميعا. فمبرّر كونه علّة موجود بخلاف غيره.

والنتيجة هي : أنّ القيمة الاحتماليّة التي تكون لصالح علّيّة الأسبرين من خلال هاتين التجربتين وبناء على هذه الأطراف الأربعة للعلم الإجمالي سوف تكون ٣ / ٤ ، بينما علّيّة الحادثة الأخرى غير المنظورة سوف تكون ١ / ٤.

ثمّ إنّ هذه القيمة سوف تنقسم أيضا بالتساوي بين الأسبرين وبين العلّة الأخرى غير المنظورة ؛ لأنّه يحتمل أنّ العلّة الموجودة في التجربتين هي الأسبرين ، كذلك يحتمل كونها العلّة الأخرى فيكون لكلّ منهما نصف الربع أي ١ / ٨.

وتكون القيمة النهائيّة لعلّيّة الأسبرين هي مجموع ٣ / ٤+ ١ / ٨ ٦+ ١ / ٨ ٧ / ٨ وفي مقابلها ١ / ٨ للعلّة الأخرى.

فإذا تكرّرت هذه التجربة مرّة ثالثة فإنّ أطراف العلم الإجمالي سوف تكون أزيد من أربعة أي ستّة أطراف ، وفي التجربة الرابعة سوف تكون أطراف العلم الإجمالي ثمانية ، وهكذا. وتكون القيمة الاحتماليّة لصالح علّيّة الأسبرين في التجربة الثالثة ١٣ / ١٦ ، بينما القيمة الاحتماليّة للعلّة الأخرى ١ / ١٦ ، وفي التجربة الرابعة تكون القيمة الاحتماليّة للآسبرين ٣١ / ٣٢ ، وللعلّة الأخرى ١ / ٣٢.

فإذا كرّرت التجربة عشرات المرّات أو مئات المرّات فسوف تكون القيمة الاحتماليّة لصالح علّيّة الأسبرين كبيرة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة للعلّة الأخرى ضئيلة جدّا لا يحتفظ الذهن البشري بمثلها عادة ، فتصل إلى قريب من الصفر والعدم ، وتكون بحكم الملغاة عمليّا ، وإن كانت هذه القيمة الاحتماليّة موجودة بالدقّة العقليّة المتناهية.

والقاعدة التي يعتمد عليها حساب الاحتمال هي قاعدة ضرب الكسور ببعضها لتكون قيمة احتمال الخلاف والكذب كسرا كبيرا جدّا ، وكلّما كان الكسر كبيرا جدّا كان قريبا من الصفر.

١٢٥

والوجه في اعتماد هذا المبدأ على قاعدة ضرب الكسور لا على قاعدة جمع الكسور هو : أنّ قاعدة جمع الكسور إنّما تكون فيما إذا لم يكن هناك احتمال الخلاف والكذب.

فمثلا إذا أعطى شخص لزيد ١ / ٤ ثمّ أعطاه شخص آخر ١ / ٤ ثمّ أعطاه شخص ثالث ١ / ٤ ثمّ أعطاه شخص رابع ١ / ٤ ، فهنا يكون مجموع ما أعطاه الأشخاص الأربعة لزيد هو واحد ، أي حاصل جمع ١ / ٤+ ١ / ٤+ ١ / ٤ ١ / ٤ ١ / ٤* ١+ ١+ ١+ ١ / ٤ ٤ / ٤ ١ ؛ لأنّه هنا لا يوجد احتمال الكذب والخلاف ؛ لأنّه يعلم يقينا بأنّ كلّ شخص أعطاه ١ / ٤ ولا يحتمل الكذب أو الخلاف.

وهكذا الحال فيما إذا كان عليه لكلّ شخص من هؤلاء الأربعة ( ١ / ٤ ) فإنّه يكون مدينا (١).

وأمّا قاعدة ضرب الكسور فهي تكون فيما إذا كان هناك احتمال للخلاف والكذب ، ولكن كانت احتمالات الصدق لها مبرّر واحد ، بينما احتمالات الكذب لها مبرّرات عديدة ومختلفة.

كما هو الحال في مقامنا ، فإنّ مبرّر صدق علّيّة الأسبرين للحادثة الأخرى التي اقترنت بها واحد ؛ لأنّ الأسبرين موجود في كلّ التجارب ، بينما احتمال علّيّة غيره لها مبرّرات كثيرة ، فتارة يكون هو الشاي وأخرى هو النعناع وهكذا ، واحتمال علّيّة هذه الأمور الأخرى كلّها بعيد ؛ لأنّ العلّة إذا وجدت فلا يتخلّف عنها المعلول أبدا ، واحتمال علّيّة شيء آخر صادف وجوده في كلّ هذه التجارب غير الأسبرين بعيد جدّا أيضا ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر. وسيأتي مثل ذلك في التواتر والإجماع أيضا.

ونسمّي كلّ يقين موضوعي بقضيّة مستنتجة على أساس قياس منطقي باليقين الموضوعي الاستنباطي ، وكلّ يقين موضوعي بقضيّة مستنتجة على أساس تراكم القرائن الاحتماليّة باليقين الموضوعي الاستقرائي.

وهكذا ظهر أنّ اليقين على قسمين : قياسي واستقرائي.

فاليقين المعتمد على القياس يكون مستنتجا من قياس منطقي ويكون يقينا استنباطيّا ، أي أنّ القضيّة المستنبطة والتي حصل اليقين بها موجودة ضمن إحدى القضيّتين أو مستلزمة لإحدى القضيّتين.

١٢٦

واليقين المعتمد على الاستقراء يكون مستنتجا من تراكم القيم الاحتماليّة على أساس استقراء وتتبّع عدّة تجارب ، ولا تكون القضيّة المراد استنتاجها واليقين بها متضمّنة أو مستلزمة لإحدى القضيّتين ، بل هي أجنبيّة عنها ، وإنّما تحصل من مجموع التجارب.

والنتيجة في القياس مستبطنة دائما في المقدّمات ؛ لأنّها إمّا أصغر منها أو مساوية لها ، والنتيجة في الاستقراء غير مستبطنة في المقدّمات التي تكوّن منها الاستقراء ؛ لأنّها أكبر وأوسع من مقدّماتها.

والفارق بين هذين النوعين من اليقين الموضوعي الاستنتاجي هو : أنّ النتيجة في اليقين الموضوعي الاستنباطي المعتمد على القياس تكون دائما مستبطنة ضمن المقدّمات ؛ لأنّها إمّا أصغر أو مساوية.

فمثلا قولنا : ( زيد إنسان ، وكلّ إنسان ناطق ، إذا زيد ناطق ) فهنا القضيّة المستنتجة وهي ( زيد ناطق ) موجودة ضمن إحدى المقدّمتين وهي ( كلّ إنسان ناطق ) ؛ لأنّ زيد مصداق من الإنسان فهو أصغر منه.

وقولنا : ( كلّ إنسان ناطق ، وكلّ ناطق حيوان ، إذا كلّ إنسان حيوان ) تكون النتيجة المستنتجة وهي ( كلّ إنسان حيوان ) مساوية لإحدى المقدّمتين وهي ( كلّ ناطق حيوان ) ؛ لأنّ الناطق والإنسان متساويان.

فدائما في اليقين الاستنباطي القياسي النتيجة فيه موجودة في إحدى المقدّمتين ؛ لأنّها إمّا أصغر أو مساوية لها. وأمّا النتيجة في اليقين الاستنتاجي الاستقرائي فهي ليست موجودة ضمن إحدى المقدّمتين ؛ لأنّها أكبر وأوسع وأعمّ منهما ، وهما أصغر منها ، والوجه في ذلك أنّ الاستقراء والتتبّع إنّما هو للقضايا الجزئيّة ومن هذه الجزئيّات يستنتج قاعدة كلّيّة.

والطرق التي تذكر عادة لإثبات الدليل الشرعي وإحرازه وجدانا من التواتر والإجماع والسيرة كلّها من وسائل اليقين الموضوعي الاستقرائي ، كما سنرى إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ كلّ الطرق والوسائل التي تذكر عادة في علم الأصول لإثبات وإحراز الدليل الشرعي وجدانا ، وأنّه صادر من الشارع يقينا كلّها تعتمد على اليقين

١٢٧

الموضوعي الاستقرائي وبالتالي على حساب الاحتمالات ، سواء في ذلك الإجماع أو التواتر أو السيرة العقلائيّة التي تثبت الحكم الشرعي الكلّي لا التي تحقّق الصغرى ، ولا سيرة المتشرّعة فإنّهما خارجان كما سيأتي ؛ خلافا للمشهور حيث إنّ هذه الوسائل عندهم من وسائل اليقين الموضوعي القياسي ، وسيأتي عدم تماميّة مدّعاهم.

* * *

١٢٨

التواتر

١٢٩
١٣٠

التواتر

الخبر المتواتر من وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي.

وقد عرّف في المنطق : بأنّه إخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب. وبموجب هذا التعريف يمكن أن نستخلص أنّ المنطق يفترض أن القضيّة المتواترة ، مستنتجة من مجموع مقدّمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى ، وهي تواجد عدد كبير من المخبرين. والأخرى بمثابة الكبرى وهي أنّ كلّ عدد من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب.

الخبر المتواتر من جملة وسائل الإثبات والإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه ، فإنّ التواتر يفيد اليقين الموضوعي الاستنتاجي. إلا أنّ الخلاف هو : في أنّ هذا اليقين هل هو من قسم اليقين الموضوعي الاستنباطي أم هو من نوع اليقين الموضوعي الاستقرائي؟

ذهب المشهور إلى الأوّل حيث عرّفوا التواتر تبعا للمنطق الأرسطي بأنّه : ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب ) ، وهذا التعريف للتواتر مستنتج من مجموع قضيّتين :

١ ـ الصغرى : وهي وجود عدد كبير من الأخبار أو المخبرين.

٢ ـ الكبرى : وهي أنّ إخبار هذه الجماعة الكبيرة من الأخبار أو المخبرين يمتنع اجتماعها على الكذب.

والنتيجة : هي أنّ هذه الأخبار أو المخبرين التي تبلغ من الكثرة هذا الحدّ يمتنع اجتماعها على الكذب فتكون صادقة ، وبالتالي يحصل اليقين منها.

أمّا الصغرى فلا كلام لنا فيها ؛ لأنّها ثابتة وجدانا بالحسّ حيث إنّ هذه الإخبارات موجودة فعلا.

١٣١

وإنّما الكلام في الكبرى التي اعتمد عليها المشهور ، فنقول :

وهذه الكبرى يفترض المنطق أنّها عقليّة ، ومن القضايا الأوّليّة في العقل ، ومن هنا عدّ المتواترات في القضايا الضروريّة الستّ التي تنتهي إليها كلّ قضايا البرهان.

ذهب المشهور تبعا للمنطق الأرسطي أنّ هذه الكبرى ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقها على الكذب ) من القضايا العقليّة البديهيّة والضروريّة والأوّليّة التي لا تحتاج إلى البرهان والدليل ولا إلى إعمال الفكر والنظر. ولذلك عدّ المنطق الأرسطي المتواترات من جملة القضايا الستّ الأوّليّة التي يعتمد عليها كلّ برهان ودليل استنتاجي. وهذه القضايا الستّ هي : الأوّليّات والمشاهدات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات والفطريّات.

فكلّ برهان ودليل لا بدّ أن يرجع إلى إحدى هذه القضايا ؛ ليكون الاستدلال به صحيحا ومنتجا لقضيّة يقينيّة موضوعيّة على أساس القياس الاستنباطي.

وهذه القضايا نفسها لا تحتاج إلى دليل وبرهان ، بل العقل البشري بفطرته التي خلق عليها يؤمن ويصدّق بهذه القضايا بمجرّد الالتفات إليها ، من دون حاجة إلى إعمال الفكر والنظر.

وعليه ، فكبرى القياس لا بدّ أن تعود إلى إحدى هذه القضايا الستّ ؛ ليكون القياس الاستنباطي منتجا لليقين ، وإلا فلا يكون منتجا إلا الظنّ فقط.

وهذا التفسير المنطقي للقضيّة المتواترة يشابه تماما تفسير المنطق نفسه للقضيّة التجريبيّة التي هي إحدى تلك القضايا الستّ ، فإنّه يرى أنّ علّيّة الحادثة الأولى للحادثة الثانية ( التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ) مستنتجة من مجموع مقدّمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى وهي أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ، والأخرى بمثابة الكبرى وهي أنّ الاتّفاق لا يكون دائميّا.

وتفسير المشهور للقضيّة المتواترة يشبه تماما تفسيرهم للقضيّة التجريبيّة في المنطق التي هي إحدى القضايا الستّ الأوّليّة ، فالمنطق يرى أنّ استنتاج العلّيّة من اقتران الحادثتين معا مرّات عديدة معتمد على مقدّمتين :

١٣٢

١ ـ الصغرى ، وهي أنّ الاقتران للحادثة الثانية بالأولى كان في مرّات عديدة.

٢ ـ الكبرى ، وهي أنّ الصدفة والاتّفاق لا يكون دائميّا.

فالنتيجة هي أنّ هذا الاقتران المتكرّر للحادثة الثانية بالأولى الثابت بالتجربة ليست اتّفاقا وصدفة ، بل هو بنحو العلّيّة.

والصغرى ثابتة وجدانا بالحسّ ؛ لأنّ هذه الاقترانات موجودة فعلا أمامنا بالتجربة.

وأمّا الكبرى فيفترض المنطق الأرسطي أنّها بديهيّة وأوّليّة يؤمن بها العقل بمجرّد تصوّرها ولا نحتاج إلى دليل وبرهان ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا.

وبكلمة أخرى :

بمعنى أنّه يمتنع أن يكون هذا الاقتران في كلّ هذه المرّات صدفة ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر لهذه الدرجة ، وهذه الكبرى يعتبرها المنطق قضيّة عقليّة أوّليّة ، ولا يمكن في رأيه أن تكون ثابتة بالتجربة ؛ لأنّها تشكّل الكبرى لإثبات كلّ قضيّة تجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون هي بنفسها قضيّة تجريبيّة؟!

فالمنطق الأرسطي يؤمن بأنّ الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا فإذا تكرّرت فهي ليست صدفة ، بل تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر إلى هذه الدرجة ، فالاستمرار والدوام في التكرّر بنفسه يدلّ على أنّه ليس صدفة ، ولا يحتاج إلى إعمال فكر ونظر وبرهان ، ولذلك اعتبرها قضيّة بديهيّة.

ولا يمكن أن تكون هذه الكبرى وهي : ( أنّ المرّات الكثيرة جدّا يمتنع أن تكون صدفة واتّفاقا ) قضيّة تجريبيّة يقام عليها البرهان والدليل ، وإلا لامتنع الوصول إلى قضيّة يقينيّة من التجربة ؛ إذ سوف تكون كلّ تجربة بحاجة إلى تجربة أخرى ، وكلّ قضيّة لا بدّ من إجراء التجربة عليها مجدّدا وهذا يؤدّي عندهم إلى الدور أو التسلسل الممتنع.

ولذلك قالوا باستحالة كون هذه الكبرى ثابتة بالتجربة وبالبرهان ، وإنّما العقل يؤمن ويصدّق بها إيمانا أوّليّا ، ولذلك تشكّل الكبرى والأساس الذي يعتمد عليه القياس الاستنباطي في كلّ القضايا التجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون هذه الكبرى تجريبيّة أيضا وثابتة بالدليل والبرهان؟!

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة مردّها إلى

١٣٣

نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة التجريبيّة ؛ لأنّ كذب المخبر يعني افتراض مصلحة شخصيّة معيّنة دعته إلى إخفاء الواقع ، وكذب العدد الكبير من المخبرين معناه افتراض أنّ مصلحة المخبر الأوّل في الإخفاء اقترنت صدفة بمصلحة المخبر الثاني في الإخفاء ، والمصلحتان معا اقترنتا صدفة بمصلحة المخبر الثالث في الشيء نفسه وهكذا ، على الرغم من اختلاف ظروفهم وأحوالهم ، فهذا يعني أيضا تكرّر الصدفة مرّات كثيرة.

وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضيّة التجريبيّة والقضيّة المتواترة إلى القياس المكوّن من المقدّمتين المشار إليهما واعتقد بأنّ القضيّة المستدلّة ليست بأكبر من مقدّماتها.

ثمّ إنّنا إذا لاحظنا الكبرى في القضيّة التجريبيّة وهي : ( أنّ الاتّفاق والصدفة لا يتكرّر دائما ) ، والكبرى في القضيّة المتواترة : ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقهم على الكذب ) ، وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة مرجعها إلى الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة التجريبيّة ، أي أنّها تعتمد على أنّ الاتّفاق والصدفة لا يتكرّران دائما.

وبيان ذلك : أنّ الإخبارات الكثيرة التي حصلنا عليها بالحسّ والوجدان من الممكن أن تكون صادقة ، ومن المحتمل أن تكون كاذبة كلّها ، ثمّ إنّ مبرّرات صدقها جميعا واحد وهو أن يكون مضمون هذه الإخبارات قد صدر فعلا من المتكلّم ، ولهذا فإنّ كثرة الإخبار عنه صادقة ولها مبرّر معقول.

وأمّا مبرّرات كذبها فهي مختلفة كثيرا وافتراض وحدتها معناه أنّ كذب المخبر الأوّل معناه وجود مصلحة له في الكذب والإخفاء للواقع ، والحقيقة هي التي دفعته إلى الكذب وتغيير الواقع وهذا معقول في نفسه ، ولكن مصلحة الثاني في الكذب إن لوحظت في نفسها فهي كالمصلحة الأولى ، ولكن اقتران المصلحتين معا في الكذب فى شيء واحد احتمال وإن كان معقولا ولكنّه يعني أنّ المصلحتين قد اقترنتا صدفة للكذب في هذا الخبر بالخصوص.

فإذا كان هناك أخبار كثيرة جدّا فهذا يعني اقتران المصلحة في الكذب والإخفاء في كلّ خبر منها ببقيّة الأخبار لمجرّد الصدفة والاتّفاق ؛ لأنّ المفروض أنّ هؤلاء المخبرين

١٣٤

من أصناف شتّى من الناس ومن مناطق مختلفة ومن مذاهب دينيّة وسياسيّة وطبقات اجتماعيّة وإلى غير ذلك ، فكون اتّفاق الجميع على مصلحة الكذب والواقع في خصوص هذا الخبر صدفة واتّفاقا من دون أن يجمعهم على الكذب أمر واحد بعيد في نفسه ، بل غير معقول ؛ لأنّه يعني أنّ الصدفة تتكرّر دائما أو غالبا أو كثيرا جدّا.

فيكون ذاك المبرّر وهو كون المتكلّم قد صدر منه هذا الكلام هو العلّة التي تبرّر اتّفاقهم على الإخبار ، لا الكذب والمصلحة في الإخفاء ، رغم اختلافهم الشديد من جميع النواحي والجهات الذي يقتضي اقتران هذه المصالح المختلفة معا صدفة واتّفاقا.

وبهذا ظهر أنّ المنطق الأرسطي يؤمن بالقضيّة المتواترة كإيمانه بالقضيّة التجريبيّة بأنّها تعتمد على أحد الأقيسة المنطقيّة المؤلّف من المقدّمتين المشار إليهما سابقا.

ويؤمن أيضا بأنّ القضيّة المستنتجة التي حصل اليقين بها هي قضيّة مستبطنة في المقدّمتين : إمّا لأنّها أصغر ، أو لأنّها مساوية. وبالتالي ليست أكبر من المقدّمات.

هذا خلاصة رأي المشهور والمنطق الأرسطي.

ولكن الصحيح أنّ اليقين بالقضيّة التجريبيّة والمتواترة يقين موضوعي استقرائي ، وأنّ الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتماليّة الكثيرة في مصبّ واحد.

فإخبار كلّ مخبر قرينة احتماليّة من المحتمل بطلانها لإمكان وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب ، وكلّ اقتران بين حادثتين قرينة احتماليّة على العلّيّة بينهما ، ومن المحتمل بطلانها ـ أي القرينة ـ لإمكان افتراض علّة أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية ، غير أنّها اقترنت بالحادثة الأولى صدفة ، فإذا تكرّر الخبر أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتماليّة وازداد احتمال القضيّة المتواترة أو التجريبيّة ، وتناقص احتمال نقيضها حتّى يصبح قريبا من الصفر جدّا ، فيزول تلقائيّا لضآلته الشديدة.

والصحيح أنّ اليقين المستنتج من القضيّتين المتواترة والتجريبيّة عبارة عن يقين موضوعي استقرائي مبني على مبدأ حساب الاحتمالات الذي يبتني على أنّ تراكم القيمة الاحتماليّة الكثيرة لها مصبّ واحد فقط.

وتوضيح ذلك : أمّا في القضيّة التجريبيّة فقد تقدّم أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى يشكّل قرينة احتماليّة على أنّ هذا الاقتران بينهما إنّما هو لأجل أنّ الحادثة

١٣٥

الأولى علّة للحادثة الثانية ، ولكن يحتمل في الوقت نفسه ألا تكون إحداهما علّة للأخرى ، بل هناك علّة أخرى غير منظورة كانت توجد صدفة كلّما اقترنت الحادثة الثانية بالأولى. وقلنا : إنّ تكرّر اقتران الحادثة الأولى والثانية يشكّل قيمة احتماليّة كبيرة لفرضيّة أنّ إحداهما علّة للثانية ، وفي الوقت نفسه تتضاءل وتتناقص القيمة الاحتماليّة لافتراض علّة أخرى غير منظورة كانت توجد صدفة عند كلّ اقتران بين الحادثتين ، وكلّما كان التكرار كثيرا جدّا ، وكلّما ازدادت التجارب كانت القيمة الاحتماليّة لافتراض العلّيّة أكبر وكانت القيمة الاحتماليّة لافتراض علّة أخرى غير منظورة أضعف ، حتّى تصل القيمة الاحتماليّة لفرض العلّة الأخرى غير المنظورة إلى درجة قريبة من الصفر وتزول تلقائيّا وعمليّا ؛ لأنّ الذهن البشري لا يحتفظ بهكذا قيم احتماليّة ضئيلة جدّا.

وهذا الكلام ذاته يقال في القضايا المتواترة ، فإنّ كلّ إخبار من الإخبارات يشكل قيمة احتماليّة لصدق إخباره وكون المتكلّم الذي يحكي عنه بأنّه قال هذا الكلام قد صدر منه هذا الكلام واقعا وحقيقة.

ولكن يحتمل أيضا أن يكون هذا الإخبار مخالفا للواقع ، وأنّ المخبر قد كذب وأخفى الواقع وغيّره وبدّله لمصلحة دعته إلى ذلك ، فإذا جاء إخبار ثان بنفس مضمون الخبر الأوّل كان ذلك يشكّل قيمة احتماليّة لفرضيّة صدق الخبر وصدور الكلام من المتكلّم أزيد ، وكان احتمال الكذب والخلاف أضعف ؛ وذلك لأنّ مبرّر الصدق في الخبرين واحد ، وهو صدور الكلام من المتكلّم واقعا ، ولذلك أخبر عنه الأوّل والثاني ، بينما مبرّر الكذب في الخبرين متعدّد ؛ لأنّ معناه أنّ مصلحة الأوّل في الكذب قد اقترنت صدفة واتّفاقا مع مصلحة الثاني في الكذب مع اختلافهما في الأهواء والمذاهب والاتّجاهات والأفكار والاعتقادات والأماكن ونحو ذلك.

فإذا تكرّرت الإخبارات كثيرا ازدادت القيمة الاحتماليّة للصدق ؛ لأنّ مبرّرها واحد ، بينما تتضاءل القيمة الاحتماليّة للكذب ؛ لأنّ مبرّرات الكذب متعدّدة واقترانها فيما بينها ليست إلا صدفة واتّفاقا ، وكلّما كان هناك مبرّرات متعدّدة ومختلفة وغير متلازمة ومترابطة فيما بينها نطبّق قانون الضرب ممّا يؤدّي إلى تضاؤل القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الكذب إلى درجة ضئيلة جدّا قريبة من الصفر.

١٣٦

فمثلا إذا كان هناك إخباران عن قضيّة ما فهنا توجد قيمة احتماليّة لكلّ من الصدق والكذب موزّعة على أساس رقم اليقين (١) بالنحو التالي :

ففي الفرض المذكور يوجد لدينا علم إجمالي مكوّن من أربعة أطراف في هذين الخبرين كما تقدّم في القضيّة التجريبيّة ، بحيث تكون القيمة الاحتماليّة لكلّ طرف هي ١ / ٤ ، وهذه القيمة سوف تكون لصالح فرضيّة الصدق في ثلاثة أطراف أي ٣ / ٤ ويكون ١ / ٤ في الطرف الرابع موزّعا بالتساوي بين فرضيّة الصدق وفرضية الكذب ، فيكون حاصل القيمة الاحتماليّة لافتراض الصدق ٣ / ٤ نصف الربع أي ١ / ٨ ٧ / ٨ ويقابلها قيمة احتماليّة بدرجة ١ / ٨ لفرضيّة الكذب.

فإذا كانت الإخبارات ثلاثة ازدادت أطراف العلم الاجمالي وتوزّع رقم اليقين عليها بالتساوي ويكون لصالح فرضيّة الصدق ٧ / ٨+ نصف الثمن أي ١ / ١٦ من مجموع القيمة الاحتماليّة في الأطراف ، وهو عبارة عن ٧ / ٨+ ١ / ١٦ ١٤+ ١ / ١٦ ١٥ / ١٦ ، ويقابلها ١ / ١٦ لصالح فرضيّة الكذب ، وهكذا الحال كلّما تعدّدت الإخبارات كلّما ازدادت القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الصدق وتناقصت القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الكذب إلى أن تصل إلى درجة قريبة من الصفر فتزول.

ونفس الكبرى التي افترضها المنطق القديم ليست في الحقيقة إلا قضيّة تجريبيّة أيضا ، ومن هنا نجد أنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة والتجريبيّة يرتبط بكلّ ما له دخل في تقوية القرائن الاحتماليّة نفسها ، فكلّما كانت كلّ قرينة احتماليّة أقوى وأوضح كان حصول اليقين من تجمّع القرائن الاحتماليّة أسرع.

وبهذا ظهر أنّ نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضيّتان التجريبيّة والمتواترة التي افترضها المنطق الأرسطي القديم وسار عليها المشهور هي بنفسها قضيّة تجريبيّة وليست بديهيّة ، بمعنى أنّ ( الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا ) التي هي الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة القائلة : ( بأنّ اجتماع عدد كبير من المخبرين على الكذب ممتنع ) والقضيّة التجريبيّة القائلة : ( بأنّ الصدفة والاتّفاق لا تتكرّران ) ، ليست قضيّة بديهيّة أوّليّة ، بل هي قضيّة استدلاليّة تحتاج إلى إعمال الفكر والنظر وهي مستنتجة من خلال التجربة والاستقراء القائم على مبدأ حساب الاحتمالات ، وهذا معناه أنّها أكبر من مقدّماتها دائما.

١٣٧

ويدلّ على ذلك : أنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة والتجريبيّة يرتبط بكلّ ما له دخالة في تقوية وازدياد القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الصدق والعلّيّة ، وكلّ ما له دخالة في تضعيف القيم الاحتماليّة لفرضيّة الكذب والعلّة الأخرى غير المنظورة.

وبتعبير آخر : أنّه كلّما كانت الظروف المختلفة في شتّى النواحي والميادين مختلفة بين المخبرين كلّما كان احتمال الصدق أقوى وأوضح ، وكلّما كانت القيمة الاحتماليّة أسرع ازديادا لصالح فرضيّة الصدق ؛ لأنّ الاختلاف في تلك الأمور سواء بالخبر والقضيّة المتواترة يقوّي عدم الكذب ؛ إذ يصعب الاتّفاق على الكذب مع هذا الاختلاف والبون الشاسع بين المخبرين.

وهكذا الحال بالنسبة للقضيّة التجريبيّة ، فإنّه كلّما كان الاقتران بين الحادثتين موجودا رغم اختلاف الظروف المكانيّة والزمانيّة والمناخيّة كان معنى ذلك أنّ افتراض العلّيّة أقوى وأوضح من افتراض علّة أخرى غير منظورة.

وهكذا أيضا فيما إذا كانت الظروف في القضيّتين قريبة من بعضها وكان الاختلاف قليلا ، فإنّ القيمة الاحتماليّة لافتراض الصدق والعلّيّة سوف يكون أبطأ وأقلّ ، ويحتاج إلى إخبارات واقترانات عديدة لكي تترسّخ فكرة الصدق والعلّيّة.

وهذا الأمر واضح وجدانا وهو منبّه أيضا على بطلان ما يفترضه المنطق الأرسطي من كون هذه الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة والتجريبيّة بديهيّة وأوّليّة ؛ إذ فرضها أوّليّة معناه أنّ الظروف العوامل التي ذكرناها لن يكون لها تأثير قوّة وضعفا أو وضوحا وغموضا في افتراض الصدق والكذب ؛ لأنّ القضايا البديهيّة لا تتأثّر ولا تختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأزمنة.

فمثلا الكلّ أكبر من الجزء ، أو النقيضان لا يجتمعان لا يختلف فيها أحد من الناس أبدا مهما اختلفت ظروفهما وأهوائهما وأمكنتهما بشرط سلامة الحواسّ طبعا. فعدم الاختلاف في القضايا البديهيّة والاختلاف في هذه الكبرى دليل على أنّها ليست بديهيّة وأوّليّة ، أو على الأقلّ شاهد وجداني على ذلك.

وعلى هذا الأساس نلاحظ أنّ مفردات التواتر إذا كانت إخبارات يبعد في كلّ واحد منها احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصيّة تدعو إلى الإخبار بصورة معيّنة ـ إمّا لوثاقة المخبر أو لظروف خارجيّة ـ حصل اليقين بسببها بصورة أسرع. وكذلك

١٣٨

الحال في الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين ، فإنّه كلّما كان احتمال وجود علّة غير منظورة أضعف كانت الدلالة الاحتماليّة لكلّ اقتران على العلّيّة أقوى ، وبالتالي يكون اليقين بالعلّيّة أسرع وأرسخ.

ومن هنا يظهر أنّه كلّما كانت الإخبارات في القضيّة المتواترة إخبارات يبعد في كلّ واحد منها الكذب والمصلحة في الإخفاء والتزوير كانت القيمة الاحتماليّة للصدق أقوى وأرسخ ، وحصل اليقين بصورة أسرع ممّا لو كانت الإخبارات لا يبعد فيها الكذب ، أو كان احتمال الكذب ليس بعيدا بتلك المثابة فإنّ حصول اليقين سوف يكون بطيئا ومحتاجا إلى مفردات أكثر من الإخبار.

فمثلا وثاقة الراوي وعدالته تكون القيمة الاحتماليّة لخبره أكبر من القيمة الاحتماليّة لخبر المجهول أو الضعيف أو الأقلّ وثاقة وعدالة ، وكذلك الظروف المحيطة بالراوي أو الرواية أو القضيّة المخبر بها من خوف وتقية ، أو كونها ممّا ينتظر فيها الإخبار والنصّ أو عدم ذلك ، وكذلك الظروف السلبيّة والاجتماعيّة ونحو ذلك فكلّها تؤثّر سلبا أو إيجابا على القيمة الاحتماليّة للصدق ، وتجعل اليقين يختلف سرعة وبطءا.

ونفس هذا الكلام يجري في القضيّة التجريبيّة ، فإنّه كلّما كان احتمال العلّيّة أكبر وأقوى وأوضح نتيجة الاقترانات الكثيرة كان حصول اليقين بعلّيّة الحادثة الأولى للثانية أقوى وأسرع ممّا لو كان احتمال العلّيّة أضعف أو أبعد من احتمال العلّة الأخرى غير المنظورة.

فإنّ هذا الاختلاف والتفاوت يؤثّر على مفردات القضيّة التجريبيّة والمتواترة سلبا وإيجابا ، فنحتاج مثلا إلى عدد غير كبير فيما إذا كانت القيمة الاحتماليّة للصدق والعلّيّة أقوى وأوضح ، بينما نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا ممّا إذا لم تكن قويّة وواضحة ، وقوّتها وضعفها راجع إلى الظروف المحيطة بالقضيّتين ، والوجه في هذا الاختلاف هو :

وليس ذلك إلا لأنّ اليقين في المتواترات والتجريبيّات ناتج عن تراكم القرائن الاحتماليّة وتجمّع قيمها الاحتماليّة المتعدّدة في مصبّ واحد ، وليس مشتقّا من قضيّة عقليّة أوّليّة كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق.

والوجه في هذا الاختلاف راجع إلى وحدة المصبّ وتعدّده ، فكلّما كان المصبّ

١٣٩

واحدا والمبرّر للصدق والعلّيّة واحدا كانت القرائن والقيم الاحتماليّة أكبر وأسرع وأوضح ممّا لو كان المصبّ متعدّدا والمبرّر مختلفا ، فإنّ القيم والقرائن الاحتماليّة تكون أقلّ وأضعف. وهذا الاختلاف شاهد آخر على أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّتان المتواترة والتجريبيّة ليست إلا قضيّة مستنتجة من تراكم القيم الاحتماليّة القائم على مبدأ حساب الاحتمال والاستقراء والتتبّع للمفردات الجزئيّة.

بخلاف مذهب المشهور المعتمد على المنطق الأرسطي القديم القائل بأنّ هذه الكبرى أوّليّة وبديهيّة ومستنتجة من القياس المنطقي الاستنباطي ، فإنّه على هذا المذهب يجب ألا يحصل مثل هذا الاختلاف والتفاوت ؛ إذ القضايا البديهيّة يصدّق بها العقل البشري في مختلف الظروف والأمكنة والعصور والأشخاص مع سلامة حواسّهم.

فالاختلاف والتفاوت سرعة وبطأ يؤكّد ويشهد أنّ هذه الكبرى مستنتجة على أساس الاستقراء لا على أساس القياس. وبالتالي تكون أكبر من مقدّماتها لا أصغر ولا مساوية.

الضابط للتواتر :

والضابط في التواتر الكثرة العدديّة ، ولكن لا يوجد تحديد دقيق لدرجة هذه الكثرة التي يحصل بسببها اليقين بالقضيّة المتواترة ؛ لأنّ ذلك يتأثّر بعوامل موضوعيّة مختلفة وعوامل ذاتيّة أيضا.

تقدّم أنّ القضيّة المتواترة يحصل اليقين بها على أساس حساب الاحتمالات نتيجة تجمّع القيم الاحتماليّة من المفردات الكثيرة ، وهذا معناه أنّ الكثرة العدديّة هي السرّ والنكتة والملاك في التواتر ، فكلّما كان هناك مفردات أكثر كان حصول اليقين أقوى وأشدّ وأرسخ.

إلا أنّ هذه الكثرة العدديّة لا تحديد لها برقم معيّن ، فلا يوجد تحديد دقيق لهذه الكثرة ، وما هو العدد الموجب لحصول اليقين ؛ وذلك لأنّ حصول اليقين يرتبط بالقيمة الاحتماليّة لكلّ خبر ، فقد تكون القيمة الاحتماليّة لخبر ضئيلة ، وتكون في آخر أكبر ، وهكذا.

وهذا التفاوت والاختلاف يرجع إلى عوامل عديدة بعضها عوامل موضوعيّة ترتبط

١٤٠