شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

جميعا هذا الخبر المتّحد لفظا ومعنى؟ أو أنّ مصالحهم الشخصيّة رغم العوامل الموضوعيّة المختلفة لكلّ واحد التي تدعوه للكذب قد اتّفقت على إبراز ذلك الكلام بلفظه رغم إمكانيّة أدائه بالمعنى ، أو مع الاختلاف ولو اليسير بينهم؟!

فإنّ ذلك كلّه بعيد في نفسه على أساس حساب الاحتمالات ؛ لأنّه يفترض حدّا أعلى من الصدفة والاتّفاق لا يحتمله العقل أصلا. وعليه ، فيكون المبرّر الوحيد لهذا النقل هو صدقهم جميعا ، وأنّه قد صدر هذا الكلام بألفاظه المعيّنة من المتكلّم ، ولذلك نقلوه كاملا حفاظا على الدقّة والأمانة في النقل.

فيستكشف من هذا الاتّفاق في اللفظ أنّ الواقعة والقضيّة ثابتة واقعا ، إذ لا مبرّر لهذا الاتّفاق سوى الصدق فقط.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح الوجه في أقوائيّة التواتر اللفظي من المعنوي ، والمعنوي من الإجمالي ، كما هو واضح.

وبناء على ما تقدّم يتّضح لنا الوجه في أقوائيّة التواتر اللفظي على المعنوي ، والمعنوي على الإجمالي ، فإنّه رغم وجود المضعّف الكمّي في الجميع إلا أنّ المضعّف الكيفي يختلف حاله بينهم ، فإنّ المضعّف الكيفي ليس موجودا أصلا في التواتر الإجمالي أو هو موجود بنسبة ضئيلة جدّا ، ولذلك لم نحصل على اليقين منه ، بل غاية ما نحصل عليه منه هو الاطمئنان والذي ليس بحجّة هنا ، بينما هذا المضعّف الكيفي موجود في التواتر المعنوي واللفظي معا ، ولكن وجوده في التواتر اللفظي أوضح وأشدّ وأكبر منه في التواتر المعنوي كما هو واضح.

* * *

١٦١
١٦٢

الإجماع

١٦٣
١٦٤

الإجماع

الإجماع يبحث عن حجّيّته في إثبات الحكم الشرعي.

تارة : على أساس حكم العقل المدّعى بلزوم تدخّل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ ، وهو ما يسمّى بقاعدة اللطف.

منشأ الإجماع هو العامّة حيث استدلّوا به على صحّة خلافة البعض بدعوى إجماع أهل الحلّ والعقد أو المدينة ونحو ذلك ، والكلام هنا في حجّيّة الإجماع.

استدلّ لحجّيّته بوجوه :

الأوّل : قاعدة اللطف أو الطريقة الحسيّة ، والمقصود منها ـ بنحو مختصر ـ هو : أنّ حكمة الله وعدله يوجبان عليه تعالى الا يترك عباده يقعون في المفاسد أو تفوت عليهم المصالح ، ولذلك يجب عليه أن يقرّبهم إلى كلّ ما فيه مصلحة وخير لهم ، ويبعّدهم عن كلّ ما فيه مفسده وضرر عليهم ، سواء في ذلك الأمور التكوينيّة أو الأمور التشريعيّة.

وهذه القاعدة استند عليها القدماء كالشيخ الطوسي وغيره للاستدلال على وجوب إرسال الرسل ونصب الأئمّة عليهم‌السلام.

وبهذه القاعدة يراد الاستدلال على حجّيّة الإجماع أيضا بتقريب :

إنّ الشارع إذا رأى العلماء قد أجمعوا على رأي ما ، فإن كان صوابا فيكون سكوته وعدم ردعه عنه صحيحا ؛ لتطابقه مع المصالح إن كان بنحو الوجوب أو المفاسد إن كان بنحو التحريم. وأمّا إذا لم يكن صوابا فالواجب يقتضي بحكم عدالته أن يبثّ الخلاف فيما بينهم ولو بإيجاد رأي مخالف لما اتّفقوا عليه ، وإلا لوقعوا في المفسدة أو لفاتت عليهم المصلحة ، وهذا لا يعقل صدوره من الشارع الحكيم العادل.

١٦٥

وبهذا يتّضح أنّ العقل يحكم بمدركاته العمليّة أنّ ما ينبغي للشارع فعله هو هذا الأمر وغير ذلك يقبح صدوره منه تعالى عن ذلك ، ولذلك كانت قاعدة اللطف عقليّة ؛ لأنّها من مدركات العقل العملي الحاكم بما ينبغي أن يكون.

وأخرى : على أساس قيام دليل شرعي على حجّيّة الإجماع ولزوم التعبّد بمفاده ، كما قام على حجّيّة خبر الثقة والتعبّد بمفاده.

الثاني : أن يستدلّ على حجّيّة الإجماع من خلال وجود دليل شرعي على حجّيّته ، فيكون الإجماع حجّة تعبّدا ، كما هو كذلك بالنسبة لخبر الثقة حيث قام الدليل الشرعي من آيات وروايات على حجّيّته ، فيؤخذ بالإجماع من باب كونه كاشفا تعبّديّا على الحكم الشرعي لا من باب كونه كاشفا وجدانيّا ، غاية الأمر كون الإجماع أحسن حالا من خبر الثقة ؛ لأنّه عبارة عن خبر عالي السند لوجود المعصوم بين المجمعين.

وثالثة : على أساس إخبار المعصوم وشهادته بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ، كما في الحديث المدّعى : « لا تجتمع أمّتي على خطأ » (١).

الثالث : أن يستدلّ على الإجماع بأنّ المعصوم قد شهد وأخبر بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ، فإذا كان هناك إجماع فهو مطابق للواقع ، وهذا دليل إنّي أي يستكشف من الإجماع وجود حكم شرعي واقعي مطابق له.

وهذا المسلك سلكه العامّة حيث ادّعوا أنّ النبيّ قد شهد بصحّة الإجماع ومطابقته للواقع بقوله : « لا تجتمع أمتي على ضلالة ». وهي أعمّ من الإثم والخطأ والمعصية والانحراف.

لكنّهم فسّروا الضلالة بخصوص الخطأ ، ولذلك نقل السيّد الشهيد الحديث هنا بالمعنى وفقا لتفسيراتهم ، فيكون الإجماع حجّة ؛ لأنّه يكشف عن الحكم الشرعي عن طريق إخبار المعصوم بأنّ الإجماع مطابق للواقع دائما.

__________________

(١) لم نعثر عليه بهذا اللفظ سوى ما ذكره السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٠٨ ، إلا أنّ الموجود في مظانّه لا تجتمع أمّتي على ضلالة. انظر : سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣ الحديث ٣٩٥٠ ، كنوز الحقائق ٢ : ٢٨٧ الحديث ٨٨٥٤ ، كشف الخفاء ٢ : ٤٧٠ الحديث ٢٩٩٩.

١٦٦

ورابعة باعتباره كاشفا عن دليل شرعي ؛ لأنّ المجمعين لا يفتون عادة إلا بدليل ، فيستكشف بالإجماع وجود الدليل الشرعي على الحكم الشرعي.

الرابع : أن يكون مستند الإجماع هو الحدس والاستنتاج القائمين على الاستقراء وتتبّع فتوى العلماء ، فإنّه إذا كانت فتوى العلماء واحدة استنتج من ذلك وجود مدرك شرعي استدلّ به على هذا الحكم الشرعي ؛ لأنّ العلماء لا يفتون إلا إذا كان هناك دليل شرعي يستندون عليه بحسب العادة والغالب ، وإن كان يحتمل استنادهم في فتواهم على دليل عقلي مثلا إلا أنّ الأغلب والأكثر هو استنادهم على دليل شرعي.

وهذا أيضا معناه أنّ الإجماع يستكشف منه بطريق الإنّ وجود الدليل الشرعي وليس هو دليلا شرعيّا بنفسه ، إلا أنّ هذا الدليل الشرعي المستكشف من الإجماع هنا ليس رواية وحديثا لفظيّا ، وإنّما هو بناء عقلائي أو متشرّعي كان مرتكزا في الأذهان على أساس عمل المعصوم أو سكوته مثلا ، وإلا لنقل لنا ذلك المستند اللفظي ولكان الاستدلال به أولى.

ويقوم هذا المسلك على أساس حساب الاحتمالات كما سيأتي توضيحه ، وهو المسلك الصحيح المختار.

والفارق بين الأساس الرابع لحجّيّة الإجماع والأسس الثلاثة الأولى ، أنّ الإجماع على الأسس الأولى يكشف عن الحكم الشرعي مباشرة ، وأمّا على الأساس الرابع فيكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم.

والفارق بين هذه المستندات أنّه بناء على الأسس الثلاثة لحجّيّة الإجماع يكون الاجماع بنفسه حجّة شرعا يستدلّ به على الحكم الشرعي ، فهو في نفسه دليل يعتمد عليه لاستنباط الحكم الشرعي ، غاية الأمر أنّ حجّيّته تارة تكون بحكم العقل وأخرى بحكم الشارع ، لكنّه على كلّ حال دليل وعلّة يستكشف بها الحكم الشرعي المعلول له ، فهو طريق للاستدلال من العلّة إلى المعلول.

وأمّا بناء على الأساس الرابع فإنّ الإجماع في نفسه ليس دليلا شرعيّا على الحكم ، وإنّما هو طريق يستكشف من خلال وجود الدليل الشرعي على الحكم فيكون كاشفا عن الدليل ، والدليل هو الكاشف عن الحكم.

وهذا معناه أنّ الإجماع إنّما يكون معلولا لوجود الدليل الشرعي ، إذ لو لا وجود

١٦٧

الدليل الشرعي لما حدث إجماع ، فهو طريق للاستدلال من المعلول على العلّة التي يستنبط منها الحكم الشرعي.

والحاصل : أنّ الإجماع على الأسس الثلاثة الأولى يعتبر دليلا مباشرا على الحكم ؛ لأنّه علّة له. بينما على الأساس الرابع لا يكون الإجماع دليلا مباشرا على الحكم ، وإنّما يدلّ على الدليل الشرعي وهو بدوره يدلّ على الحكم فهو دليل غير مباشر على الحكم.

وهناك فارق آخر أيضا وهو :

والبحث عن حجّيّة الإجماع على الأسس الثلاثة الأولى يدخل في نطاق البحث عن الدليل غير الشرعي على الحكم الشرعي ، والبحث عن حجّيّته على الأساس الأخير يدخل في نطاق إحراز صغرى الدليل الشرعي ، ويعتبر من وسائل إثبات هذا الدليل ، وهذا ما نتناوله في المقام.

وهناك فارق آخر بين هذه المستندات ، فإنّه بناء على الأسس الثلاثة الأولى لحجّيّة الإجماع يخرج الإجماع عن عنوان بحثنا أي ( وسائل الإثبات الوجداني لصدور الدليل الشرعي ) ؛ لأنّه بناء على الأساس الأوّل فالإجماع حجّة بدليل العقل ، فيكون كاشفا عن الحكم الشرعي على أساس الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فيثبت بالإجماع الحكم الشرعي لا الدليل الشرعي.

وبناء على الأساس الثاني فالإجماع حجّة ؛ لأنّ الشارع قد جعل الحجّيّة له على أساس وجود دليل شرعي لفظي أو غير لفظي ، كالسيرة مثلا على حجيّة الإجماع ولزوم العمل والتعبّد بمفاده ، فيستكشف بالإجماع الحكم الشرعي أيضا على أساس كونه حجّة شرعا يجب العمل به ، ولا يستفاد منه ثبوت الدليل الشرعي على الحكم.

وبناء على الأساس الثالث فالإجماع حجّة ؛ لأنّ المعصوم قد شهد بأنّه لا يخطأ بل يصيب الواقع ، وهذا يعني أنّه إذا قام الإجماع على شيء فهذا الشيء ثابت واقعا ، وهو الحكم الذي أجمع العلماء عليه.

والحاصل : أنّه بناء على الأسس الثلاثة يستكشف من الإجماع الحكم الشرعي لا الدليل الشرعي ، وهذا الحكم كان دليله الإجماع ، والإجماع بنفسه ليس دليلا

١٦٨

شرعيّا ؛ لأنّ الدليل الشرعي إنّما هو الكتاب والسنّة اللفظيّة وغير اللفظيّة ، أي الآيات والروايات وفعل المعصوم وتقريره ، وهو ليس منها. وعليه ، فيكون البحث عن الإجماع حينئذ بحثا عن دليل غير شرعي يراد الاستدلال به على الحكم الشرعي ، وهذا معناه أنّه خارج عن عنوان بحثنا ؛ لأنّ البحث هنا معقود لإثبات صدور الدليل على الحكم الشرعي لا لإثبات الحكم نفسه.

وأمّا بناء على الأساس الرابع ، فإنّ الإجماع كان يثبت الحكم الشرعي بتوسّط كشفه عن الدليل الشرعي على أساس الملازمة بين إجماع العلماء على فتوى معيّنة وبين وجود الدليل الشرعي على هذه الفتوى ؛ لأنّ العلماء لا يفتون عادة إلا إذا كان هناك دليل شرعي على الفتوى.

وهذا يعني أنّ الإجماع يكشف عن الدليل ، والدليل هو الكاشف عن الحكم ، فيكون البحث عن الإجماع بحثا عن إحراز صغرى الدليل الشرعي ، أي أنّ هذه الفتوى المجمع عليها يوجد عليها دليل شرعي ، ففي مورد هذا الإجماع يوجد دليل شرعي ، وهذا صغرى لكبرى كلّيّة وهي كلّما ثبت الدليل الشرعي على شيء فيحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال والعمل ، فيكون البحث حينئذ من الوسائل التي تثبت وتحرز الدليل الشرعي إحرازا وجدانيّا لا تعبديّا ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع هنا كانت على أساس كاشفيّته التكوينيّة عن الدليل القائم على أساس الملازمة المذكورة.

يبقى علينا أن نبحث عن هذه الملازمة وأنّه ما هو المنشأ لها ، وعلى أي أساس كان هناك تلازم بين الإجماع على شيء وبين وجود الدليل الشرعي عليه ، وأنّ هذه الملازمة هل هي مستنتجة من خلال القياس الاستنباطي أو مستنتجة على أساس الاستقراء وحساب الاحتمالات؟

وهذا البحث نريد أن نتناوله الآن فنقول :

وقد قسّم الأصوليّون الملازمة ـ كما نلاحظ في ( الكفاية ) (١) وغيرها (٢) ـ إلى ثلاثة أقسام ، ثمّ بحثوا عن تحقّق أي واحد منها بين الإجماع والدليل الشرعي وهي : الملازمة العقليّة والعاديّة والاتّفاقيّة ، ومثّلوا للأولى بالملازمة بين تواتر الخبر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢٢.

(٢) مصباح الأصول ٢ : ١٣٨ ـ ١٤٠.

١٦٩

وصدقه ، وللثانية بالملازمة بين اتّفاق آراء المرءوسين على شيء ورأي رئيسهم ، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه.

هذا التقسيم راجع لبيان وجه الملازمة بين الإجماع على شيء وبين وجود دليل شرعي عليه ، فإنّهم بعد أن ذكروا أنّ الإجماع يكشف عن الدليل الشرعي الكاشف عن الحكم أرادوا أن يبيّنوا الوجه في هذه الكاشفيّة وأنّها على أي نحو من أنحاء الملازمة ، حيث إنّ الأساس الرابع يثبت أنّ هناك ملازمة بين الإجماع وبين الدليل الشرعي ، فكلّما تحقّق الإجماع كان هناك دليل شرعي.

ولذلك قسّموا الملازمة تبعا للمنطق إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : الملازمة العقليّة :

وهي الملازمة الذاتيّة بين وجود شيء ووجود شيء آخر يستحيل انفكاكه عنه ، فإذا وجد أحدهما كان الآخر موجودا لا محالة ، كالعلّة والمعلول والأثر والمؤثّر ، ومثّلوا لها أصوليّا بتواتر الخبر وصدقه ، فإنّه إذا كان الخبر متواترا كان صادقا بحيث لا ينفكّ الصدق عنه ، فلا يمكن أن يكون متواترا وفي نفس الوقت غير صادق ، ولذلك كان التواتر من وسائل الإثبات الوجداني اليقيني كما تقدّم.

الثاني : الملازمة العاديّة :

وهي الملازمة التي تقتضيها العادة والعرف والطبع العامّ ، بحيث لا يستحيل الانفكاك عقلا ، إلا أنّه لا يقع الانفكاك عادة مع إمكان وقوعه أيضا ، كالملازمة بين صفات الإنسان الدالّة على الألم والمرض والضجر.

ومثّلوا لها في الأصول باتّفاق المرءوسين على شيء ملازم لرأي رئيسهم على ذلك أيضا ، فإنّهم إذا اتّفقوا على شيء كان لازمه أنّ رأي رئيسهم كذلك ، إلا أنّ ذلك ليس بمعنى استحالة الانفكاك ، بل لأنّ العادة والطبع والعرف يقتضي هذا الأمر ، وإلا فقد يتخلّف.

الثالث : الملازمة الاتّفاقيّة :

وهي الملازمة بين شيئين على سبيل الصدفة والاتّفاق ، بحيث إنّه لا يوجد تلازم عقلي ذاتي ولا تلازم طبعي بحسب العادة والعرف ، وإنّما اتّفق صدفة أن حصل التلازم نتيجة التكرر ، كالتلازم بين مجيء زيد ومجيء عمرو مثلا.

١٧٠

ومثّلوا لها في الأصول بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه ، فإنّ استفاضة الخبر لا توجب بنفسها الصدق ، وليس هناك عادة وعرف على ذلك ، بل قد يصدق وقد لا يصدق أيضا ، ولكنّه صادف أنّه تكرّر صدقه ، فحدثت الملازمة.

وبعد ذلك ذكروا أنّ الملازمة بين الإجماع ووجود الدليل الشرعي من النحو الأوّل ، أي الملازمة العقليّة الذاتيّة بحيث يستحيل أن ينفكّ الصدق عن الإجماع.

والتحقيق : أنّ الملازمة دائما عقليّة ، والتقسيم الثلاثي لها مردّه في الحقيقة إلى تقسيم الملزوم لا الملازمة.

والصحيح : أنّ التقسيم المذكور غير صحيح ، فإنّ الملازمة بين شيئين عقليّة دائما ؛ لأنّ العقل هو الذي ينتزع الملازمة من خلال التلازم الخارجي بين شيئين ، بحيث إنّ العقل إذا رأى أنّه إذا تحقّق هذا الشيء تحقّق ذاك وتكرّر ذلك انتزع من ذلك مفهوم الملازمة ، فالملازمة مفهوم عقلي منتزع من الخارج ، ولذلك ينبغي ملاحظة الخارج ؛ ليعرف وجه التلازم بين هذين الشيئين ( اللازم والملزوم ) ، فالتقسيم في الحقيقة مردّه إلى طرف الملازمة الذي هو الملزوم الذي يلزم منه وجود ذاك الشيء أي اللازم ، ولذلك نقول :

فإنّ الملزوم إذا كان ذات الشيء مهما كانت ظروفه وأحواله سمّيت الملازمة عقليّة ، كالملازمة بين النار والحرارة.

إذا كان الملزوم يترتّب عليه اللازم دائما وفي كلّ الحالات والظروف لا يشذّ عنها مطلقا ، بحيث إنّه إذا ثبت ذات الملزوم ترتّب اللازم عليها ، فهذا النوع من التلازم بين الشيئين يسمّيه العقل الملازمة العقليّة ، كالملازمة بين العلّة والمعلول والأثر والمؤثّر ، فإنّه إذا ثبت ذات النار ترتّب عليها الحرارة ، فالحرارة تابعة لذات النار لا تنفكّ عنها أبدا في مختلف الأحوال والظروف ، فلأجل أنّ الملزوم يترتّب عليه اللازم دائما يسمّى بالملازمة العقليّة.

وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف متواجدة فيه غالبا وعادة سمّيت الملازمة عاديّة.

وإذا كان اللازم يترتّب على الملزوم في بعض الظروف والحالات ولكنّها كانت هذه الظروف والحالات متوفّرة ومتحقّقة غالبا وعادة فتسمّى الملازمة بينهما عاديّة ،

١٧١

فالملازمة بينهما إنّما تنتزع فيما إذا وجدت هذه الظروف والحالات لا مطلقا ، بحيث إذا اختلّت هذه الظروف لم يكن هناك تلازم بينهما ، ولا ينتزع العقل مفهوم الملازمة.

ومثال ذلك : الملازمة بين الهرم والشيخوخة وكبر السنّ ، فإنّه إذا تحقّق الملزوم أي كبر السنّ فالغالب بحسب ما جرت عليه العادة أن يتحقّق اللازم ، إلا أنّه إنّما يتحقّق فيما إذا كان هناك ظروف وأحوال معيّنة لا مطلقا ، ولكن الغالب أن توجد هذه الظروف إلا أنّه لا يعني ثبوت اللازم دائما ، بل قد ينفكّ عن الملزوم في حالات وظروف أخرى.

وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف قد يتّفق وجودها فالملازمة اتّفاقيّة.

وإذا كان اللازم يترتّب على الملزوم في بعض الظروف والحالات التي قد يصادف وجودها فالملازمة تسمّى اتّفاقيّة ، بمعنى أنّه لا يوجد تلازم بين ذات الملزوم واللازم لا دائما ولا غالبا ، وإنّما قد تتحقّق بعض الظروف والحالات الخاصّة توجب ترتّب اللازم ، إلا أنّ هذه الظروف نادرة وقليلة وليست إلا من قبيل المصادفة فقط ، كمجيء عمرو عند مجيء زيد ، فإنّ الملازمة بينهما تنشأ نتيجة بعض الظروف الخاصّة التي لا تتوفّر دائما ولا غالبا.

وبهذا ظهر أنّ الأقسام الثلاثة تابعة للملزوم مع لازمه في الخارج لا للملازمة التي ينتزعها العقل ، فإنّها مفهوم واحد لا اختلاف فيه ، وهو أنّه إذا تحقّق شيء تحقّق شيء آخر معه ، وهذا المعنى موجود في الأقسام الثلاثة.

والصحيح : أنّه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضيّة فضلا عن الإجماع.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّه لا ملازمة بين التواتر وبين ثبوت القضيّة ، كما أنّه لا ملازمة أيضا بين الإجماع وثبوت القضيّة ، فما ذكر من أنّ هناك ملازمة عقليّة بين التواتر والإجماع من جهة وبين ثبوت القضيّة من جهة أخرى غير صحيح ؛ لأنّ الملازمة العقليّة عرفنا أنّ مردّها إلى التلازم بين ذات الملزوم وبين اللازم بحيث إنّه إذا تحقّق ذات الملزوم كان اللازم متحقّقا في كلّ الأحوال والظروف ، ولا يمكن أن ينفكّ عنه ؛ لأنّه مترتّب على ذات الملزوم.

وهنا إذا ثبت التواتر أو الإجماع فلا يترتّب على ذاتيهما ثبوت اللازم وهو ثبوت القضيّة المتواترة أو المجمع عليها ؛ لأنّه كما تقدّم سابقا في التواتر أنّ ثبوت القضيّة تابع

١٧٢

للمضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي ، الذي يتأثّر بالظروف والأحوال والعوامل الموضوعيّة والذاتيّة ، فليس ثبوت القضيّة مترتّبا على ذات التواتر فضلا عن الإجماع ، بل يرتبط ذلك بكثير من الظروف والأحوال إذا وجدت ثبتت القضيّة وإلا فلا تثبت.

وهذا لا ينفي أنّنا نعلم بالقضيّة القائلة : ( كلّ قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) ؛ لأنّ العلم بأنّ المحمول لا ينفكّ عن الموضوع غير العلم بأنّه لا يمكن أن ينفكّ عنه ، والتلازم يعني الثاني ، وما نعلمه هو الأوّل على أساس تراكم القيم الاحتماليّة وزوال الاحتمال المخالف لضآلته ، لا لقيام برهان على امتناع محتمله عقلا.

فإن قيل : إنّنا نعلم بالقضية القائلة : ( كل قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) ، فكيف يقال : إنّه لا ملازمة بين التواتر وبين ثبوت القضيّة؟!

كان الجواب : إنّ إنكار الملازمة العقلية بين التواتر أو الإجماع وبين ثبوت القضيّة لا يعني إنكار ونفي هذه القضيّة ، بل إنّ هذه القضيّة صادقة وصحيحة ، ولا تعارض ولا تنافي بين إنكار الملازمة العقلية وبين الإيمان بهذه القضيّة.

والوجه في ذلك هو : أنّ العلم بأنّ ( كل قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) معناه إذا تحقّق التواتر أو الإجماع على شيء كان ذلك الشيء ثابتا واقعا ، فنحن نعلم بثبوت القضيّة إذا تحقّق التواتر أو الإجماع ، أي أنّنا نعلم بتحقق المحمول إذا تحقّق الموضوع بحيث إذا وجد الموضوع وجد المحمول ولا ينفك المحمول عنه ، إلا أنّ هذا العلم أي ( أنّ المحمول لا ينفك عن الموضوع ) ليس معناه أنّه يستحيل الانفكاك عقلا ، فهناك فرق بين أمرين هما الإمكان الوقوعي والإمكان الذاتي.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم بأنّ المحمول لا ينفك عن الموضوع معناه أنّ المحمول ثابت وصادق ، وهذا قد يصدق مع استحالة الانفكاك عقلا كالنار والحرارة ، وقد يصدق من دون استحالة الانفكاك كما في العرض اللازم كالضاحك الذي هو وصف للإنسان فإنّه لا ينفك إلا أنّه لا يعني عدم إمكان الانفكاك عقلا ، لأنّ الإنسان لا يتوقّف على الضاحك وليس من ذاتياته ، بل يكفي كونه حيوانا ناطقا بخلاف النار والحرارة فإنّ الحرارة ، من ذاتيات النار لا تنفك عنها عقلا.

فإذا قلنا : إنّه لا ينفك فهذا معناه نفي الإمكان الوقوعي للانفكاك لا الذاتي.

وفي مقامنا عند ما نعلم بأنّ صدق القضيّة لا ينفك عن التواتر أو الإجماع ليس

١٧٣

معناه أنّه يستحيل الانفكاك عقلا ، بل قد ينفك لكنّه لم يقع خارجا ، أي أنّ المستحيل هو الإمكان الوقوعي لا الإمكان الذاتي المقابل للوجوب أو الامتناع العقليّين.

ومن جهة أخرى : أنّ الملازمة العقلية بين شيئين معناها أنّه إذا وجد الملزوم وجد اللازم ويستحيل انفكاكه عنه كالعلة والمعلول والنار والحرارة ، فالملازمة معناها استحالة الانفكاك ، وهذه القضيّة لا تعني استحالة الانفكاك بل إنّ الانفكاك لم يقع ، أمّا أنّه مستحيل أو لا ، فهذا غير معلوم.

فما نعلم به غير الملازمة لأنّ الملازمة معناها الاستحالة وما نعلم به هو عدم الانفكاك. وهذا العلم بعدم الانفكاك وأنّه لم يقع في الخارج ليس ناشئا من دليل عقلي على امتناع واستحالة الانفكاك ، بل هو ناشئ على أساس حساب الاحتمالات وتجمع القيم الاحتماليّة التي تزداد وتكبر لصالح الصدق وتتضاءل وتصغر لصالح الكذب ، إلى أن يزول احتمال الخلاف والكذب كما تقدّم ، فزوال احتمال الكذب والمخالفة للواقع كان على أساس حساب الاحتمالات المعتمد على المضعف الكمي والكيفي معا ولم يكن الزوال نتيجة برهان عقلي على استحالة الكذب ومخالفة الواقع ، ولذلك قلنا بأنّه ( إذا ثبت تواتر القضيّة ثبت صدقها ) فإنّ العلم بثبوت صدقها ناشئ من حساب الاحتمالات لا من دليل عقلي على استحالة الكذب ؛ ولذلك لا يحكم العقل باستحالة الكذب والمخالفة للواقع ، بل ذلك أمر ممكن لكنّه لم يقع في الخارج ، وهذان أمران متغايران فإنّ الاستحالة شيء وعدم الوقوع شيء آخر كما هو واضح.

فالصحيح ربط كشف الإجماع بنفس التراكم المذكور ، وفقا لحساب الاحتمال ، كما هو الحال في التواتر ، على فوارق بين مفردات الإجماع بوصفها أخبارا حدسية ومفردات التواتر بوصفها أخبارا حسية ، وقد تقدّم البحث عن هذه الفوارق في الحلقة السابقة.

وبهذا يتّضح أنّ الإجماع كالتواتر يعتمد على حساب الاحتمالات وتراكم القيم الاحتماليّة للصدق وتضاؤل القيم الاحتماليّة للكذب.

فالإجماع يكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم المجمع عليه على أساس حساب الاحتمالات كما سيأتي توضيحه.

١٧٤

غاية الأمر أنّه يوجد فرق بين مفردات التواتر ومفردات الإجماع ، وهذا يؤثّر على القيم الاحتماليّة ، فإنّ التواتر كانت مفرداته عبارة عن أخبار حسية تعتمد على المشاهدة أو السماع ونحوهما ، بينما مفردات الإجماع تعتمد على إفتاء كل مجتهد من المجتهدين بحكم مطابق لما أفتى به المجتهد الآخر ، فهو يخبرنا بالفتوى ومن خلالها نستنتج وجود الدليل الشرعي أي أنّه إخبار حدسي استنتاجي بوجود الدليل الشرعي بينما التواتر كان إخبارا حسيا مباشرا عن الدليل الشرعي.

وهذا الفارق يؤثّر على القيمة الاحتماليّة للصدق سلبا أو إيجابا ؛ لأنّ احتمال الكذب والخطأ والاشتباه في الحدس والاستنتاج أكبر منه في الحس والمشاهدة والسماع ولذلك تكون قيمة احتمال الكذب أكبر من الصدق في كل مفردة من مفردات الإجماع على عكس التواتر.

مضافا إلى فوارق أخرى تقدّم الحديث عنها في الحلقة الثانية ، فليراجع.

وتقوم الفكرة في تفسير كشف الإجماع بحساب الاحتمال على أنّ الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة ، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي ، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الإصابة والخطأ معا ، وبقدر احتمال الإصابة يتشكل قرينة احتمالية لصالح إثبات الدليل الشرعي ، وبتراكم الفتاوى تتجمع القرائن الاحتماليّة لإثبات الدليل الشرعي بدرجة كبيرة ، تتحول بالتالي إلى يقين لتضاؤل احتمال الخلاف.

وأمّا كيفيّة كشف الإجماع عن الدليل الشرعي فتقوم على أساس حساب الاحتمالات حيث إنّ الفقيه إذا أفتى بقضية فهو يعتمد على دليل لذلك ؛ لأنّ الفقيه من جملة المتشرّعة المتديّنين الذين لا يفتون إلا بعلم فهو يعتقد بوجود دليل شرعي على فتواه وإلا لما أفتى بها ، لأنّ الإفتاء بلا علم من المحرمات الواضحة لدى المتشرّعة بنص الكتاب ، وحيث إنّه من الممكن أن يكون مصيبا باعتقاده في وجود الدليل الشرعي ، فإنّه يحتمل أن يكون مخطئا أيضا بأن يكون استند إلى ما ليس بحجّة شرعا باعتقاد أنّه حجّة شرعا ، ولذلك فإنّ فتواه هذه قد تكشف عن الدليل الشرعي وقد لا تكشف ، فهي بذاتها يحتمل فيه الإصابة وعدمها ، ولكن إذا ضمّ إلى فتواه فتوى المجتهد الآخر فسوف تتشكّل قرينة احتماليّة على الإصابة أكبر بالنحو المتقدّم في

١٧٥

التواتر ، فإذا تجمعت مفردات كثيرة للاجماع سوف تتراكم القيم الاحتماليّة للإصابة وسوف تزداد تبعا للمضعف الكمي ، وبالتالي سوف تتضاءل القيمة الاحتماليّة للخلاف وبضم المضعف الكيفي حيث إنّه يبعد أن يكون كل فقيه رغم اختلاف ظروفه وأحواله وما إلى ذلك من عوامل موضوعية قد تعمد الخلاف أو الكذب ، أو أنّه اشتبه وأخطأ بنفس ما اشتبه وأخطأ فيه الآخر ، وهذا يؤدّي إلى زوال القيمة الاحتماليّة للخلاف ويحصل اليقين بوجود الدليل الشرعي على هذه الفتوى المجمع عليها.

ويستفاد من كلام المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله الاعتراض على اكتشاف الدليل الشرعي من الإجماع بالنقطتين التاليتين :

ثمّ إنّه أشكل على استفادة الدليل الشرعي من الإجماع بإشكالات عديدة أهمها الاعتراض الذي ذكره المحقّق الأصفهاني ، وهذا الاعتراض يتكّون من نقطتين ، هما :

الأولى : أنّ غاية ما يتطلبه افتراض أنّ الفقهاء لا يفتون بدون دليل هو أن يكونوا قد استندوا إلى رواية عن المعصوم اعتقدوا ظهورها في إثبات الحكم وحجيّتها سندا ، وليس من الضروري أن تكون الرواية في نظرنا لو اطلعنا عليها ظاهرة في نفس ما استظهروه منها ، كما أنّه ليس من الضروري أن يكون اعتبار الرواية سندا عند المجمعين مساوقا لاعتبارها كذلك عندنا ؛ إذ قد لا نبني إلا على حجيّة خبر الثقة ويكون المجمعون قد عملوا بالرواية لبنائهم على حجيّة الحسن أو الموثّق.

أمّا النقطة الأولى : فإنّ ما ذكر من كون الفقهاء لا يفتون عادة إلا استنادا إلى دليل شرعي لا يفيد ، وذلك لأنّه من المحتمل قويا أن يكون الفقيه قد استند إلى رواية عن المعصوم اعتقد بأنّها تامّة سندا ودلالة ، أي أنّها بحسب فهمه كانت تدلّ على الفتوى التي أفتى بها ، وبحسب مبانيه الأصولية أو الرجالية كانت صحيحة السند. إلا أنّ هذين الأمرين يختلف حالهما من فقيه لآخر ، فليس من الضروري أنّه إذا فهم فقيه شيئا من رواية أن نفهمه نحن أيضا ؛ إذ قد تكون هناك بعض النكات والقرائن والشواهد ولذلك يختلف ما يستظهره عمّا نستظهره نحن ، فكون الرواية دالة على فتواه ليس ملزما لنا ، إذ قد لا تكون دالة على هذه الفتوى بنظرنا ؛ لوجود أشياء خفيت عليه أو العكس ، وكذلك الأمر بالنسبة للسند فإنّه قد يكون اعتمد على رواية

١٧٦

صحيحة السند باعتقاده لكنها ضعيفة السند عندنا ، فإنّ المباني في الأسانيد مختلفة ، فقد يكونون قد استندوا على حجيّة الخبر الحسن وهو الإمامي الممدوح من دون توثيق أو الخبر الموثق وهو غير الإمامي الذي شهد له بالوثاقة ، بينما نحن لا نقول إلا بالخبر الصحيح وهو الذي رواه العدل الإمامي ، فيكون السند غير حجّة عندنا.

والحاصل : أنّ إفتاء العلماء معناه استنادهم على دليل شرعي ، ولكن ليس معناه أنّ هذا الدليل الشرعي تام الدلالة والسند حتّى بالنسبة إلينا ؛ ليكون حجّة علينا أيضا ، بل قد يكون ساقطا عن الاعتبار دلالة أو سندا أو كلاهما (١).

الثانية : أنّ أصل كشف الإجماع عن وجود رواية خاصّة دالة على الحكم ليس صحيحا ، لأنّنا إن كنّا نجد في مصادر الحديث رواية من هذا القبيل فهي واصلة بنفسها لا بالإجماع ، ولا بدّ من تقييمها بصورة مباشرة ، وإن كنّا لا نجد شيئا من هذا فلا يمكن أن نفترض وجود رواية ؛ إذ كيف نفسر حينئذ عدم ذكر أحد من المجمعين لها في شيء من كتب الحديث أو الاستدلال؟ مع كونها هي الأساس لفتواهم على الرغم من أنّهم يذكرون من الأخبار حتّى ما لا يستندون إليه في كثير من الأحيان.

النقطة الثانية : أنّ الإجماع لا يكشف عن وجود رواية دالة على الحكم المجمع عليه ، وذلك لأنّه إذا كانت هناك رواية فإما أن تكون موجودة في كتب الحديث وهذا يعني أن الرواية والدليل الشرعي قد وصل بنفسه إلينا لا عن طريق الإجماع ، فالإجماع لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّ الدليل الشرعي موجود بنفسه حينئذ ، فلا بد من الرجوع إلى هذه الرواية وتقييمها من حيث السند والدلالة فإن كانت تامّة فيؤخذ بها مستندا ودليلا للحكم وإلا فلا.

وإن لم تكن منقولة في كتب الحديث فكيف يمكننا أن نفترض مثل هذه الرواية؟

إذ المفروض أنّها كانت مستندا تام الدلالة والسند للحكم المجمع عليه ، والمفتون جميعا استندوا عليها ، فكيف لم ينقلها أحد منهم مع أنّهم نقلوا في كتبهم الكثير من

__________________

(١) وهذا الاشكال مبني على أن يكون المبنى الجديد الذي نقول به نحن غير موجود عند المجمعين أو لا قائل به منهم ، وإلا فلا يتمّ الإشكال لأنّه لو كان موجودا بينهم فمعناه أنّه لا يضر بصحّة الرواية دلالة وسندا وإلا لما أجمعوا على الفتوى كلّهم.

١٧٧

الروايات الصحيحة والضعيفة؟ فلما ذا لم تنقل هذه الرواية مع توفر الدواعي والظروف لنقلها؟ فعدم نقلها يدلّ على عدم وجودها وإلا لنقلت.

والحاصل : أنّ الإجماع يمنع كونه كاشفا عن الدليل الشرعي ، فلا يكون حجّة.

ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول :

إنّ الإجماع من أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين لا نريد به أن نكتشف رواية على النحو الذي فرضه المعترض لكي يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه غريبا ، وإنّما نكتشف به ـ في حالة عدم وجود مستند لفظي محدد للمجمعين ـ ارتكازا ووضوحا في الرؤية متلقى من الطبقات السابقة على أولئك الفقهاء المتقدمين ، لأنّ تلقّي هذا الارتكاز والوضوح هو الذي يفسر حينئذ إجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدمين على الرغم من عدم وجود مستند لفظي مشخص بأيديهم.

أمّا الجواب على النقطة الثانية وهي أنّنا لا نجد هذه الرواية في كتب الحديث والفقه ؛ فهو أنّ الإجماع من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين أي الذين قاربوا عصر الغيبة كالصدوق والكليني والمفيد والمرتضى والطوسي ونحوهم ، لا نريد به أن نثبت وجود رواية لفظية دلت على الحكم الذي أجمعوا عليه ؛ لكي يعترض علينا بأنّ هذه الرواية غير منقولة في الكتب وأنّ عدم نقلها غريب.

وإنّما نريد بالإجماع المنعقد اكتشاف دليل شرعي على الحكم الذي أجمعوا عليه ، وحينئذ إذا لم يكن هذا الدليل الشرعي لفظيّا ـ وهو كذلك حيث لم ينقل إلينا ـ فمن الواضح أنّه لن ينقل إلينا في كتب الحديث والفقه ؛ لأنّ الإجماع يكشف عن وجود دليل شرعي غير لفظي على الحكم المجمع عليه ، وهذا الدليل غير اللفظي هو الارتكاز والوضوح في الرؤية ـ أي سيرة عملية قد تلقاها فقهاء عصر الغيبة المتقدمين من الطبقات السابقة عليهم والتي عاصرت النص.

إذ لا يوجد مبرّر يمكن التعويل عليه في تفسير هذه الإجماع ـ مع عدم وجود مستند لفظي ( آية أو رواية ) ـ سوى أن يكون فقهاء عصر الغيبة المتقدمين قد عاشوا جوا وارتكازا ووضوحا على هذا الحكم ولذلك أجمعوا عليه ، وإلا فكيف أجمعوا على الحكم مع أنّ المفروض أنّهم لا يفتون من دون مستند شرعي باعتبارهم من

١٧٨

المتشرّعة المتدينين الذين لا يعملون إلا بالدليل ويبعد جدا ، بل لعلّه يستحيل أن يجمعوا على حكم من دون مستند شرعي له؟!

وبهذا نعرف أنّ الإجماع المنعقد من هؤلاء الفقهاء قد كان مستندا إلى ذلك الارتكاز والوضوح في الرؤية على هذا الحكم ، وهذا الارتكاز قد أخذوه ممّن كان قبلهم إلى أن تصل إلى الطبقات المعاصرة للنص فيثبت أنّ هذا الارتكاز والوضوح قد عمل به المتشرّعة بحضور الإمام عليه‌السلام ولم يردعهم عنه ولذلك يكون قد أمضاه بسكوته ، بل قد يكون هذا الارتكاز نتيجة فعل قام به المعصوم فأخذوه منه وساروا عليه.

وهذا الارتكاز والوضوح لدى تلك الطبقات التي تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الأئمّة عليهم‌السلام يكشف عادة عن وجود مبررات كافية في مجموع السنّة التي عاصروها من قول وفعل وتقرير أوحت إليهم بذلك الوضوح والارتكاز ، وبهذا يزول الاستغراب المذكور ؛ إذ لا يفترض تلقي المجمعين من فقهاء عصر الغيبة رواية محددة وعدم إشارتهم إليها ، وإنّما تلقوا جوا عاما من الاقتناع والارتكاز الكاشف ، فمن الطبيعي ألا تذكر رواية بعينها.

وهذا الارتكاز والوضوح الذي استند عليه الفقهاء المجمعون من عصر الغيبة كان موجودا عند الطبقات السابقة عليهم والتي عاصرت الأئمّة عليهم‌السلام كالكليني والصدوق ونحوهما وهذا معناه أنّ هذا الارتكاز يكشف عادة عن وجود المبررات الكافية للحكم الشرعي الذي أجمع عليه ، ولا يشترط أن تكون هذه المبررات التي يكشف عنها هذا الارتكاز دليلا شرعيا لفظيّا ؛ ليقال : إنّ عدم نقله غريب ، بل إنّ هذه المبررات استفيدت من مجموع السنّة الأعم من القول والفعل والتقرير بحيث إنّ مجموع السنّة قد أوحى إلى تلك الطبقات بهذا الجو العام والارتكاز والوضوح على الحكم ولذلك لم يطالبوا بدليل لفظي ، بل استندوا على هذا الوضوح والارتكاز ، ولهذا فلا مجال للاستغراب المذكور في الاعتراض بأنّه كيف لم تنقل إلينا هذه الرواية الصحيحة سندا ودلالة مع كونها هي المستند للحكم المجمع عليه؟ لأنّه لا توجد هناك رواية لفظية خاصّة كانت المستند لهذا الحكم وإنّما كان هناك جو عام وارتكاز ووضوح ؛ أي سيرة عمليّة من المتشرّعة.

١٧٩

ومن الواضح أنّ السيرة العمليّة من المتشرّعة ليست رواية لفظية لكي تنقل في كتب الحديث والفقه وليكون عدم نقلها غريبا.

والحاصل : أنّ الاجماع يكشف عن دليل شرعي ولكنّه ليس لفظيّا بل يكشف عن ارتكاز ووضوح أي سيرة متشرعية ، أو فلنقل كان المستند مستنتجا من مجموع السنّة الشاملة للقول والفعل والتقرير فليست هناك رواية خاصّة محددة كانت هي المستند لتنقل إلينا ، بل ذاك الارتكاز والوضوح ومن الطبيعي جدا ألا ينقل في كتب الحديث والفقه.

وعلى هذا الضوء يتّضح الجواب على النقطة الأولى أيضا ، لأنّ المكتشف بالإجماع ليس رواية اعتيادية ليعترض باحتمال عدم تماميتها سندا أو دلالة ، بل هذا الجوّ العام من الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن الدليل الشرعي.

وبهذا ظهر الجواب عن النقطة الأولى من أنّ هذه الرواية يحتمل ألا تكون تامّة سندا أو دلالة ، لأنّ المكتشف بالإجماع ـ كما تقدّم ـ ليس رواية لفظية ، بل ارتكازا وجوّا عاما ووضوحا في الرؤية مستنتج من مجموع السّنة القولية والفعليّة والتقرير ، ولنقل إنّها رواية غير لفظية أي سيرة عمليّة من المتشرّعة المعاصرين للأئمّة عليهم‌السلام قد انتقلت إلى من بعدهم من الأجيال والطبقات حتّى وصلت إلينا عن طريق إجماع العلماء.

فلا موضوع للاعتراض أصلا لأنّه مبني على أن المكتشف بالاجماع

هو رواية لفظية ، بينما المكتشف بالإجماع ليس إلا ارتكازا فقط ، أي سيرة عمليّة أو رواية غير لفظية.

وجوهر النكتة في المقام هو افتراض الوسيط بين إجماع أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة وبين الدليل الشرعي المباشر من المعصوم ، وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة الحديث وأمثاله من معاصري الأئمّة ، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقي عن الدليل الشرعي.

والنكتة في كشف الإجماع عن الدليل الشرعي هو الارتكاز المذكور ، فالإجماع يكشف عن الارتكاز والارتكاز بدوره يكشف عن الدليل الشرعي ، فيكون الإجماع كاشفا عن الدليل الشرعي بتوسط هذا الارتكاز ، ولذلك يقوم

١٨٠