شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

إذا فلا يوجد علّة أخرى للجزاء ، والوجه في بطلانهما هو : أمّا الأوّل بأن كان كلّ من العلّتين بعنوانهما الخاصّ علّة تامّة مستقلّة للجزاء ، فحيث إنّ الجزاء وجود واحد شخصي في عالم التشريع ـ ويقصد من ذلك أنّ الوجوب مثلا الذي هو مدلول هيئة الجزاء واحد بالنوع أو بالشخص في عالم الجعل والتشريع والواقع ـ فيستحيل أن يكون صادرا عن علّتين ؛ لأنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ، كما هو مقتضى القاعدة الفلسفيّة.

فلا بدّ إذا من فرض علّة واحدة أثّرت في المعلول الواحد ، وهذا معناه أنّ الافتراض الأوّل باطل ؛ لأنّه يستلزم تعدّد العلل مع وحدة المعلول ، وهو مخالف للقاعدة الفلسفيّة المذكورة (١).

وأمّا الثاني بأن كان الجامع بين العلّتين هو العلّة المؤثّرة في الجزاء كالوجوب مثلا فهنا لا يأتي المحذور السابق ؛ لأنّ الجامع واحد وقد صدر منه واحد أيضا ، إلا أنّ هذا على خلاف الظاهر والفهم العرفي من الجملة الشرطيّة.

فإنّ قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، الظاهر منه كون الشرط بعنوانه الخاصّ هو العلّة للجزاء ؛ لأنّه المتبادر والمنسبق إلى الذهن العرفي ، وهذا معناه أنّ العلّة هي الشرط لا أنّ الشرط مصداق للعلّة الحقيقيّة ، فالعرف لا يفهم أنّ هذا الشرط كان مصداقا للعلّة وليس هو نفسه العلّة ، وإنّما العقل هو الذي يحلّل هذا الأمر فيكون هذا الفرض مخالفا للظاهر وللفهم العرفي ، والشارع سار على طريقة

__________________

(١) إنّ القاعدة المذكورة ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) إن كانت مختصّة بالواحد الشخصي فيكون تصوير المحذور بهذا الشكل :

إنّ الواحد الشخصي لا يصدر إلا من واحد شخصي ، وبما أنّ الوجوب الذي هو مدلول الجزاء واحد شخصي باعتبار ملاكاته ومبادئه فلا بدّ من صدوره من واحد شخصي أيضا ، فيستحيل كون العلّتين معا كلّ منهما علّة مستقلّة للوجوب.

وإن كانت شاملة للواحد النوعي فيكون تصوير المحذور بهذا الشكل :

إنّ الواحد بالنوع لا يصدر إلا من الواحد بالنوع ، وحيث إنّ الوجوب واحد بالنوع بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، أو بلحاظ عالم المجعول ، فلا بدّ أن يصدر من واحد بالنوع أيضا لا هذا بخصوصه ولا ذاك ، فيستحيل إذا كون كلا العلّتين بعنوانهما الخاصّ علّة مستقلّة للوجوب ، بل لا بدّ من فرض علّة واحدة بالنوع تكون هي العلّة للوجوب.

٤١

العقلاء في التفاهم والتخاطب وليس له مسلك آخر.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد علّة أخرى للجزاء لا بعنوانها الخاصّ ولا بما هي مصداق لعنوان جامع بينها وبين الشرط ، فيكون الشرط هو العلّة الوحيدة للجزاء.

والجواب : أنّ بالإمكان اختيار الافتراض الأوّل ، ولا يلزم محذور ، وذلك بافتراض جعلين وحكمين متعدّدين في عالم التشريع ، أحدهما معلول للشرط بعنوانه الخاصّ ، والآخر معلول لعلّة أخرى ، فالبيان المذكور إنّما يبرهن على عدم وجود علّة أخرى لشخص الحكم لا لشخص آخر مماثل.

وجواب هذا البرهان : أنّنا نختار الشقّ الأوّل من الافتراضين المذكورين بأن نقول :

إنّه توجد علّة أخرى للجزاء بعنوانها الخاصّ بحيث تكون هناك علّتان مستقلّتان للجزاء كلّ منهما مؤثّرة فيه بعنوانها الخاصّ.

ولا يرد المحذور ( إنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، وأنّه كيف صدر الوجوب من علّتين مع أنّه واحد بالشخص أو بالنوع؟

لأنّنا نفترض أنّ كلاّ من العلّتين مؤثّر في جعل وجوب غير الوجوب الذي تجعله الأخرى كالخيارات الموجبة للفسخ.

وبتعبير آخر : نفترض أنّ الشرط علّة للجزاء بعنوانه الخاصّ ( إذا أكلت في شهر رمضان فكفّر ).

ونفترض أيضا علّة أخرى لا لهذا الجزاء بعنوانه الخاصّ والشخصي ، بل لجزاء مماثل له فنقول : ( إذا شربت في شهر رمضان فكفّر ) بنحو يكون وجوب الكفّارة في الأكل غيره في الشرب وإنّما هو مماثل ومشابه له.

فكان الجزاء في كلّ من العلّتين المستقلّتين مشابها ومماثلا للآخر ، وليس الجزاء فيهما واحد شخصي جزئي ليقال بأنّه يستحيل اجتماع علّتين مستقلّتين على شيء واحد شخصي.

وبهذا يتّضح أنّ البرهان المذكور لا يتمّ هنا ؛ لأنّ غاية ما يدلّ على أنّه يستحيل اجتماع علّتين على شيء واحد أو يستحيل صدور الواحد من المتعدّد ، وهنا لم يصدر الواحد من متعدّد ، بل كلّ وجوب صدر من علّة مستقلّة ؛ لأنّ هذا الوجوب ليس هو نفس ذلك الوجوب ، بل هو وجوب آخر مماثل له. وإذا فرض

٤٢

اجتماع هاتين العلّتين معا بأن أكل وشرب فيكون المجموع منهما هو العلّة ، كما تقدّم بسبب طرو النقصان العرضي عليهما بسبب اجتماعهما (١).

الخامس : ويفترض فيه أيضا أنّا استفدنا العلّيّة على أساس سابق ، فيقال في كيفيّة استفادة الانحصار : إنّ تقييد الجزاء بالشرط على نحوين :

أحدهما : أن يكون تقييدا بالشرط فقط ، والآخر أن يكون تقييدا به أو بعدل له على سبيل البدل.

والنحو الثاني : ذو مئونة ثبوتيّة (٢) تحتاج في مقام التعبير عنها إلى عطف العدل بـ ( أو ) ، فإطلاق الجملة الشرطيّة بدون عطف بـ ( أو ) يعيّن النحو الأوّل. وقد ذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله (٣) : أنّ هذا إطلاق في مقابل التقييد بـ ( أو ) الذي يعني تعدّد العلّة ، كما أنّ هناك إطلاقا للشرط في مقابل التقييد بـ ( الواو ) الذي يعني كون الشرط جزء العلّة ، وكون المعطوف عليه بـ ( الواو ) الجزء الآخر.

الوجه الخامس : لإثبات مفهوم الشرط هو أن يقال : إنّنا نستفيد اللزوم من خلال الوضع بأن ندعي أنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة للربط اللزومي. ونستفيد العليّة من خلال التفرّع بأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت ، أو على أساس الوضع أيضا. يبقى استفادة العلّة التامّة وكونها منحصرة وهذا يثبت بالتقريب التالي :

__________________

(١) ومن هنا كان الأصل الأوّلي هو عدم تداخل المسببات فيما بينها ، فإذا أكل ثمّ بعد ذلك شرب كان هناك وجوبان للكفّارة بحسب الأصل الأوّلي ، إلا إذا قام دليل خاصّ على التداخل وعدم تكرار الكفّارة.

يضاف إلى ذلك عدم صحّة الاستدلال بالقاعدة الفلسفيّة في مقامنا ؛ لأنّ الوجوب مثلا إن أريد به الوجوب الثابت في عالم الجعل والتشريع فهو معلول للشارع لا للشرط أو لغيره ، بمعنى أنّ الشارع هو الذي يجعل الوجوب لا الشرط ، وإنّما دور الشرط التقييد والتحصيص فقط.

وإن أريد به الوجوب في عالم المجعول فهو مجرّد اعتبار محض لا وجود له ؛ لأنّ عالم المجعول عالم افتراضي ليس إلا.

(٢) الظاهر وقوع تصحيف من الطبع في الكلمة وأنّ الصحيح إثباتيّة ، إذ لا معنى وجيه للمئونة الثبوتيّة.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٤١٨.

٤٣

أمّا الانحصار فوجهه : أنّه لا إشكال في أنّ قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) كون الجزاء فيه مقيّدا بالشرط ، بمعنى أنّه إذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، وليس الجزاء مطلقا من ناحية الشرط بحيث إنّه إذا وجد الشرط لا يوجد الجزاء ؛ لأنّ هذا مخالف للظاهر من الجملة الشرطيّة.

ثمّ إنّ تقييد الجزاء بالشرط يحتمل فيه أمران :

الأوّل : أن يكون تقييدا بالشرط فقط ، وهو معنى كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

الثاني : أن يكون تقييدا بالشرط أو بعدل آخر بديل عن الشرط وهو معنى عدم الانحصار بالشرط.

فإذا كان الشرط علّة منحصرة وكان التقييد بالشرط فقط كانت الجملة كافية يبذلك ؛ لأنّه لم يذكر فيها سوى الشرط فقط : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ولا نحتاج إلى مئونة زائدة لا ثبوتا ولا إثباتا.

وإذا كان للشرط علّة بدليّة أو عدل آخر فهذا يحتاج إلى مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا ؛ لأنّه حينئذ لا يكفي ذكر الشرط وحده في التعبير عن وجود علّة أخرى بديلة عنه ، بل لا بدّ من ذكر شيء في الكلام يدلّ عليها أيضا ، فيقال : ( إذا جاء زيد أو كان عالما فأكرمه ) ، وهذا يعني أنّنا نحتاج إلى عطف العلّة الأخرى على الشرط بـ ( أو ) للدلالة على البدليّة.

وحيث إنّ الجملة الشرطيّة لم يذكر فيها العطف بـ ( أو ) ، وكانت مطلقة من هذه الناحية فيتعيّن كون المراد هو الاحتمال الأوّل ؛ لأنّه لو أراد الاحتمال الثاني لذكر ما يدلّ عليه ، فحيث لم يذكر ذلك فهو لا يريده ، فبالإطلاق وقرينة الحكمة يتعيّن الأوّل دون الثاني ، وهذا معناه أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء.

وأمّا العلّة التامّة فوجهها : أنّ تقييد الجزاء بالشرط فيه احتمالان أيضا :

الأوّل : أن يكون الشرط علّة تامّة للجزاء ، بمعنى أنّ تقيّد الجزاء بالشرط بنحو تقيّد المعلول بعلّته التامّة.

الثاني : أن يكون الشرط جزء العلّة ، بمعنى أنّ تقيّد الجزاء بالشرط بنحو تقيّد المعلول بالجزء الأخير من العلّة.

٤٤

والاحتمال الأوّل لا يحتاج إلى مئونة زائدة ، بل يكفي أن يذكر الشرط وحده : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

وأمّا الاحتمال الثاني فهو يحتاج إلى مئونة ثبوتيّة زائدة لا بدّ من التعبير عنها بذكر شيء إثباتا ، كأن يقال : ( إذا جاء زيد وكان عالما فأكرمه ).

فإطلاق الجملة الشرطيّة وعدم العطف بـ ( الواو ) معناه أنّ الشرط هو العلّة التامّة للجزاء ؛ لأنّه لو كان جزء العلّة للزم العطف بـ ( الواو ) ، وحيث إنّه لم يذكر ذلك إثباتا فهو لا يريده ثبوتا ، فيثبت كون الشرط علّة تامّة للجزاء.

والحاصل : أنّ العلّة التامّة نثبتها بالإطلاق وقرينة الحكمة في مقابل التقييد بـ ( الواو ) ، وكون العلّة منحصرة نثبتها بالإطلاق وقرينة الحكمة في مقابل التقييد بـ ( أو ).

وكلّ هذه الوجوه الخمسة تشترك في الحاجة إلى إثبات أنّ المعلّق على الشرط طبيعي الحكم ، وذلك بالإطلاق وإجراء قرينة الحكمة في مفاد الجزاء.

وأمّا الركن الثاني فالوجوه الخمسة المذكورة تحتاج إلى إثباته ، وذلك بالإطلاق وقرينة الحكمة في الجزاء بأن يقال : إنّ طبيعي الحكم في كلّ أحواله معلّق على الشرط بحيث ينتفي كلّ فرد من أفراده بانتفاء الشرط ، لا أنّه ينتفي شخص الحكم فقط بانتفاء الشرط كما تقدّم سابقا.

والتحقيق : أنّ الربط المفترض في مدلول الجملة الشرطيّة : تارة يكون بمعنى توقّف الجزاء على الشرط ، وأخرى بمعنى استلزام الشرط واستتباعه للجزاء ؛ كما عرفنا سابقا (١).

والتحقيق فيما ذكره الميرزا هو : أنّ تقيّد الجزاء بالشرط المستفاد من تفريع الجزاء على الشرط في الجملة الشرطيّة ، حيث إنّ مقتضى التفرّع على الشرط أن يكون الجزاء مقيّدا بالشرط وليس مطلقا بحيث يوجد إذا انتفى الشرط أو ينتفي إذا وجد الشرط ، فهذا التقيّد ما ذا يراد به؟

هل يراد أنّ الجزاء مقيّد بالشرط بمعنى كونه متوقّفا على الشرط وملتصقا به ومعلّقا عليه إذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء؟ أو يراد أنّ الجزاء

__________________

(١) في ضابط المفهوم.

٤٥

مقيّد بالشرط بمعنى أنّ الشرط يستلزم ويوجد الجزاء بحيث إذا وجد الشرط وجد الجزاء ، وأمّا إذا انتفى الشرط فقد ينتفي الجزاء وقد لا ينتفي كذلك؟

فعلى الأوّل يتمّ إثبات المفهوم بلا حاجة إلى ما افترضه المحقّق النائيني رحمه‌الله من إطلاق مقابل للتقييد بـ ( أو ) ؛ وذلك لأنّ الجزاء متوقّف على الشرط بحسب الفرض ، فلو كان يوجد بدون الشرط لما كان متوقّفا عليه.

فإن كان التقيّد بمعنى التوقّف بنحو المعنى الحرفي أي النسبة التوقّفيّة فيثبت للجملة الشرطيّة مفهوم بلا حاجة إلى الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد بـ ( أو ) ؛ لأنّ معنى توقّف الجزاء على الشرط ـ كما تقدّم سابقا ـ أنّ الجزاء معلّق وملتصق ومتوقّف على الشرط ، وهذا معناه أنّ الجزاء يدور مدار الشرط وجودا وعدما ، وهذا هو الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء.

وبذلك يكون الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء ـ عند المشهور ـ ويكون المفهوم ثابتا على مستوى المدلول التصوّري بلا حاجة إلى التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة ، سواء المقابل لـ ( أو ) أو المقابل لـ ( الواو ) ؛ لأنّهما في رتبة متأخّرة ، إذ يثبتان المفهوم ـ لو تمّا ـ في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي.

وبهذا ظهر أنّه على هذا الاحتمال لا معنى لما ذكره الميرزا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وعلى الثاني لا يمكن إثبات الانحصار والمفهوم بما سمّاه الميرزا بالإطلاق المقابل لـ ( أو ) ؛ لأنّ وجود علّة أخرى لا يضيّق من دائرة الربط الاستلزامي بين الشرط والجزاء ، فلا يكون العطف بـ ( أو ) تقييدا لما هو مدلول الخطاب لينفى بالإطلاق ، بل إفادة لمطلب إضافي.

وأمّا إن كان التقيّد بمعنى الاستلزام والإيجاد بنحو المعنى الحرفي ، فلا يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم حتّى وإن جرى الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد بـ ( أو ) أو ( الواو ).

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة الاستلزاميّة أو الإيجاديّة يعبّر عنها بالمفهوم الاسمي الموازي لها بقولنا : ( مجيء زيد مستلزم أو موجد لإكرامه ) ، وهذا معناه بيان علّيّة المجيء لوجوب الإكرام على نحو القضيّة الموجبة الجزئيّة ، فإذا تحقّق المجيء تحقّق وجوب الإكرام ؛ لأنّ المعلول يوجد إذا وجدت علّته.

٤٦

وأمّا إذا انتفى المجيء فمن المحتمل انتفاء وجوب الإكرام بأن كان المجيء علّة تامّة منحصرة ، ومن المحتمل أيضا عدم انتفائه مطلقا ؛ إذ قد يكون له علّة أخرى يثبت بثبوتها ؛ لأنّ طبيعة الاستلزام تقتضي هذا المعنى لا أكثر ، وعليه فيكون المنتفي هو شخص هذا الوجوب ولا يمنع ذلك من ثبوت شخص آخر للوجوب مماثل لهذا بعلّة أخرى.

والحاصل : أنّ الاستلزام يثبت لنا قضيّة موجبة جزئيّة وهي أنّ الشرط علّة للجزاء ، وأمّا كون الشرط هو العلّة التامّة الوحيدة والمنحصرة للجزاء فهذا لا يثبت بمجرّد الاستلزام ، بل نحتاج في إثباته إلى مطلب آخر.

وأمّا ما ذكره الميرزا من إمكانيّة إثبات الانحصار بالإطلاق وقرينة الحكمة النافي للتقييد بـ ( أو ) فهو وإن صحّ إلا أنّه لا يفيد ذلك.

ببيان : أنّ الربط الاستلزامي العلّي بين الشرط والجزاء لا يتضيّق ولا يتوسّع ؛ لأنّه قضيّة جزئيّة ومن الواضح أنّ القضايا الجزئيّة تمتنع في نفسها من الصدق على كثيرين ، ولذلك فهي غير قابلة للتوسعة أصلا لتكون قابلة للتضييق.

فإذا قلنا : ( مجيء زيد علّة لوجوب إكرامه ) لا يكون وجود علّة أخرى والتقييد بـ ( أو ) موجبا لتضييق علّيّة المجيء لوجوب الإكرام ، بل يكون إفادة لمطلب آخر زائد لم يكن موجودا ، وهو أنّه يوجد علّة أخرى للوجوب ، ووجود العلّة الأخرى لا يؤثّر في علّيّة الشرط للجزاء سلبا أو إيجابا ؛ لأنّ علّيّة الشرط كانت بنحو أنّ هذا يستلزم ذاك ، وهذا الاستلزام لا يتبدّل ولا يتغيّر مع وجود العلّة الأخرى.

فإذا قلنا : شرب السمّ علّة للموت ، وقلنا : الاحتراق علّة للموت ، والغرق علّة للموت لا يؤثّر أحدهما في علّيّة الآخر تضييقا أو توسعة ؛ لأنّ العلّيّة معناها أنّ هذا يستلزم ذاك ، وهذا المعنى موجود في كلّ هذه العلل.

وبهذا يتّضح أنّ وجود ( أو ) وعدم وجودها لا يؤثّر في كون الشرط مستلزما للجزاء سلبا أو إيجابا. وعليه فلا يكون الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد بـ ( أو ) موجبا للتوسعة ؛ لأنّ وجود ( أو ) لا يوجب التقييد أصلا ، حيث إنّ المفهوم الثابت في الجملة الشرطيّة بناء على هذا الاحتمال مفهوم جزئي لا يقبل الإطلاق ولا التضييق.

٤٧

ولذلك لا معنى لجريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ الإطلاق إنّما يجري في المفاهيم الكلّيّة القابلة للتضييق كـ ( العالم ) مثلا في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فيجري الإطلاق لنفي القيود التي لو كانت موجودة لكانت موجبة للتضييق في مفهوم العالم كقولنا : ( أكرم العالم العادل ).

فإذا نفينا القيود يثبت أنّ المفهوم واسع غير مقيّد ، وبالتالي فهو يشمل كلّ الأفراد القابل للانطباق عليها ، سواء العادل والفاسق بخلاف تقييده بالعادل ، فإنّه يوجب اختصاصه بأفراد العالم العادل فقط دون الفاسق.

وأمّا هنا فإنّ وجود التقييد بـ ( أو ) كعدمه لا يوجب سعة ولا ضيقا في علّيّة الشرط للجزاء ؛ إذ العلّيّة لا تقبل التوسعة والتضييق في نفسها ، بل هي إمّا أن توجد وإمّا أن تعدم عن الشرط. وبهذا يمكننا ذكر قاعدة كلّيّة مفادها :

وليس كلّما سكت المتكلّم عن مطلب إضافي أمكن نفيه بالإطلاق ، ما لم يكن المطلب المسكوت عنه مؤدّيا إلى تضييق وتقييد في دائرة مدلول الكلام.

بيان هذه القاعدة : أنّ المطلب الإضافي المسكوت عنه على نحوين :

تارة يكون المطلب الإضافي المسكوت عنه موجبا ـ على فرض وجوده ـ للتضييق والتقييد في مدلول الكلام المذكور.

وأخرى لا يكون هذا المطلب المسكوت عنه موجبا ـ على فرض وجوده ـ للتضييق والتقييد كذلك.

فإذا كان المطلب المسكوت بالنحو الأوّل أمكن نفيه بالإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّه لو كان موجودا للزم وجود مفهوم آخر مباين للمفهوم الموجود والمدلول عليه في الكلام ، فيقال في نفيه : إنّ المتكلّم لو كان يريده جدّا وواقعا للزم أن يذكر ما يدلّ عليه في الكلام ، فما لم يذكر شيئا وسكت عن إفادته فهو لا يريده جدّا فيثبت كون المفهوم المراد هو المفهوم الواسع لا المفهوم الضيق.

كما في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّه لو كان يريد غير هذا المفهوم الواسع وكان مراده الجدّي التقييد لكان ذكر ما يدلّ عليه ؛ لأنّ هذا المفهوم الآخر المقيّد يوجب وجود مفهوم آخر مباين للمفهوم الأوّل أضيق منه دائرة ، فما دام سكت عن إفادة هذا المطلب الإضافي فهو لا يريده جدّا ، وإلا لكان ذكر ما يدلّ عليه في الكلام.

٤٨

فهنا يجري الإطلاق وقرينة الحكمة ويكون لجريان الإطلاق فائدة وهي إثبات المفهوم الواسع ونفي المفهوم الضيق.

وأمّا إذا كان المطلب المسكوت عنه من النحو الثاني ، فلا معنى لإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة لنفيه ؛ لأنّ وجوده وعدمه لا يؤثّر في المفهوم المدلول عليه في الكلام ؛ إذ المفروض أنّ هذا المطلب الإضافي لا يوجب وجوده التضييق في المفهوم الموجود ولا يوجب عدمه التوسعة فيه أيضا ؛ لأنّنا فرضنا أنّ المفهوم المدلول عليه في الكلام قضيّة جزئيّة وهي لا تقبل التوسعة كما لا تقبل التضييق ؛ لأنّ الجزئي لا ينطبق إلا على نفسه وليس لديه قابلية للانطباق على غيره لينفى ذلك بالإطلاق.

فهنا لا يكون للإطلاق فائدة أصلا وبالتالي يلغو جريانه ؛ لأنّه لو جرى لم يكن لجريانه فائدة ، وكلّ ما كان وجوده يستلزم اللغويّة فهو باطل.

ومقامنا من النحو الثاني ؛ لأنّ النسبة الاستلزاميّة المدلول عليها بالجملة الشرطيّة قضيّة جزئيّة غير قابلة للتوسعة أو التضييق ، فحتّى لو كان هناك تقييد بـ ( أو ) فهو لا يوجب ضيقا في مفهوم الربط الاستلزامي فضلا عن عدم وجوده ، ولذلك لا يجري الإطلاق هنا ؛ لأنّه لغو وبلا فائدة.

وبذلك صحّ قولنا : ( ليس كلّ مطلب إضافي سكت عنه أمكن نفيه بالإطلاق ). والمراد منها أنّ المطلب المسكوت عنه قد ينفى بالإطلاق إذا كان من النحو الأوّل ، ولا ينفى بالإطلاق إذا كان من النحو الثاني.

فالأولى من ذلك كلّه أن يستظهر عرفا كون الجملة الشرطيّة موضوعة للربط بمعنى التوقّف والالتصاق من قبل الجزاء بالشرط ، وعليه فيثبت المفهوم.

والصحيح أن نقول : إنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة لإفادة الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، بمعنى أنّها موضوعة للنسبة التوقّفيّة ، فإنّ هذا النحو من الربط يكفي وحده لإثبات المفهوم من دون حاجة إلى ما ذكر من الوجوه السابقة ؛ لأنّ توقّف الجزاء على الشرط معناه أنّ الجزاء ملتصق بالشرط فإذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، ولا يكون للجزاء علّة أخرى في حال انتفاء الشرط ؛ لأنّ وجود مثل هذه العلّة يتنافى مع التوقّف المدلول عليه في الجملة.

فإذا استظهرنا من الجملة الشرطيّة التوقّف كان ذلك كافيا لإفادة أنّ هناك التصاقا بين

٤٩

الشرط والجزاء ، وأنّ هذا الربط لا ينفكّ أبدا ، وهو معنى العلّيّة الانحصاريّة عند المشهور.

وهذا المعنى يدلّ عليه الوجدان العرفي والتبادر والمنساق إلى الذهن أيضا.

ويضاف إلى ذلك الركن الثاني وهو كون المعلّق على الشرط هو طبيعي الجزاء لا شخصه ، وهذا ما نثبته بالإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد الهيئة.

وأمّا ما نحسّه من عدم التجوّز في حالات عدم الانحصار فيمكن أن يفسّر بتفسيرات أخرى ، من قبيل أنّ هذه الحالات لا تعني عدم

استعمال الجملة الشرطيّة في الربط المذكور ، بل عدم إرادة المطلق من مفاد الجزاء ، ومن الواضح أنّ هذا إنّما يثلم الإطلاق وقرينة الحكمة ، ولا يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

يبقى تفسير استعمال الجملة الشرطيّة في الموارد التي لا مفهوم لها ، حيث نحسّ بالوجدان أنّ استعمالها في سائر الجمل ليس مجازا ، فكيف يتمّ التوفيق بين عدم الإحساس بالمجازيّة في تلك الموارد وبين ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة؟ وهذا الأمر يمكننا بيانه بما يلي :

تارة تستعمل الجملة الشرطيّة ويكون لها مفهوم كقولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

وأخرى تستعمل ولا يكون الشرط علّة منحصرة ، بل هناك علل أخرى فلا يكون لها مفهوم ، كقولنا : ( إذا كسفت الشمس فصلّ ).

وثالثة تستعمل ولا يكون الشرط علّة تامّة بل جزء العلّة ، وهذه أيضا لا مفهوم لها ، كقولنا : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ).

ورابعة تستعمل ولا يكون هناك لزوم بين الشرط والجزاء ، بل وإن لم يكن فيها ربط أصلا بأن كانت لمجرّد صدفة واتّفاق ، كقولنا : ( إذا جاء زيد تكون الساعة التاسعة ).

وخامسة تستعمل ولا يكون هناك أي ربط أصلا بين الشرط والجزاء ، كقولنا : ( إذا كان الإنسان ناطقا فالحصان صاهل ).

وسادسة يكون الجزاء جملة إخباريّة ، كقولنا : ( إذا شربت السمّ فتموت ).

فنقول في بيان عدم ثبوت المفهوم في هذه الجمل ، ما يلي :

أمّا الجملة الأولى : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فالجملة موضوعة لغة للتوقّف ، والذي

٥٠

معناه الانتفاء عند الانتفاء ، وبضمّ كون المعلّق هو طبيعي الجزاء لا شخصه يثبت للجملة مفهوم.

وأمّا الجملة الثانية : ( إذا كسفت الشمس فصلّ ) فهذه لا مفهوم لها ؛ لأنّ الإطلاق في الجزاء مختلّ حيث ثبت أنّ الجزاء يثبت مع علّة أخرى وقد بيّن المتكلّم ذلك ، فيكون قد قيّد الجزاء بقوله : ( إذا خسف القمر فصلّ ) ، فالجملة مستعملة في معناها الموضوعة له وهو التوقّف ، غاية الأمر أنّ الركن الثاني هو المختلّ لعدم جريان الإطلاق ؛ لأنّه قد بيّن التقييد وذكره ولو منفصلا ، فلا مجازيّة هنا.

وأمّا الجملة الثالثة : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فكان الشرط جزء العلّة لا العلّة التامّة ، فهذا أيضا ناشئ من عدم جريان الإطلاق في الشرط حيث ثبت القيد بدليل آخر ، وهو قوله : ( إذا خفي الأذان فقصّر ) الدالّ على أنّ الشرط وحده ليس العلّة بل هو جزءها ، وهذا لا يلزم المجازيّة ؛ لأنّ الجملة تدلّ على التوقّف أيضا بين الشرط والجزاء ، غاية الأمر كان التوقّف على جزء العلّة.

وأمّا الجملة الرابعة : ( إذا جاء زيد فتكون الساعة العاشرة ) ، فهي كالجملة السادسة :

( إذا شربت السمّ فتموت ) ، الجزاء فيها إخبار عن قضيّة خارجيّة أي إخبار عن النسبة التصادقيّة في الخارج بين هذا وذاك ، ولا مفهوم لهذه الجملة ؛ لأنّه يعلم بكذب هذه النسبة التصادقيّة وأنّ التصادق بينهما كان خطأ لا واقعيّة له ، فلا مجازيّة أيضا ؛ لأنّ الجملة تدلّ على التوقّف إلا أنّ المتوقّف عليه هو النسبة وقد تبيّن كذبها.

وأمّا الجملة الخامسة : ( إذا كان الإنسان ناطقا فالحصان صاهل ) ، فهي خطأ في التركيب وغلط ، إذ لا يوجد فيها أي نحو من التوقّف ولو ادّعاء ؛ لأنّ كون الحصان صاهلا لا يرتبط أصلا بكون الإنسان ناطقا ، فهذا من الخطأ في الاستعمال.

وبهذا يتمّ التوفيق بين ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة في موارد التوقّف وبين عدم المجازيّة في موارد عدم ثبوت المفهوم للجملة بالنحو الذي ذكرناه.

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع :

يلاحظ في كلّ جملة شرطية تواجد ثلاثة أشياء ، وهي : الحكم والموضوع والشرط ، والشرط تارة يكون أمرا مغايرا لموضوع الحكم في الجزاء ، وأخرى يكون محقّقا لوجوده.

٥١

تتألّف الجملة الشرطيّة من أداة الشرط ، والشرط ، والموضوع ، والجزاء ، كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

فـ ( إذا ) أداة شرط ، والمجيء هو الشرط ، وزيد هو الموضوع ، ووجوب الإكرام هو مفاد الجزاء.

ثمّ إنّ الشرط الموجود في الجملة على قسمين :

الأوّل : أن يكون الشرط مغايرا لموضوع الحكم في الجزاء ، كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، فإنّ المجيء الذي هو الشرط مغاير لزيد الذي هو موضوع الحكم ، بحيث إنّه إذا انتفى الشرط يبقى الموضوع موجودا.

الثاني : أن يكون الشرط محقّقا وموجدا لموضوع الحكم في الجزاء ، بحيث إذا انتفى الشرط ينتفي الموضوع أيضا ؛ لأنّه يوجد بالشرط ، كما في قولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) فإنّ الشرط الذي هو رزق الولد ، والموضوع الذي هو الولد ليسا متغايرين ؛ لأنّ الولد لا يتحقّق إلا إذا رزقه الله تعالى ، فإذا انتفى الرزق فلا وجود للولد أصلا ، وهذا ما يسمّى بالجملة الشرطيّة المسوقة لتحقّق الموضوع.

ومن هنا يبحث في هذين القسمين حول ثبوت المفهوم للشرطيّة فيهما ، ولذلك قال :

فالأوّل كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فإنّ موضوع الحكم زيد ، والشرط المجيء ، وهما متغايران.

والثاني كما في قولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) فإنّ موضوع الحكم بالختان هو الولد ، والشرط أن ترزق ولدا ، وهذا الشرط ليس مغايرا للموضوع ، بل هو عبارة أخرى عن تحقّقه ووجوده.

أمّا النحو الأوّل فالموضوع ثابت سواء تحقّق الشرط أو انتفى ، ولذلك يبحث في مثل هذه الجملة حول ثبوت المفهوم لها ، فبعد انتفاء الشرط عن الموضوع هل يبقى الحكم ثابتا للموضوع أم أنّه ينتفي عنه؟

بينما في النحو الثاني فالشرط محقّق وموجد للموضوع ، بحيث إنّه لو لا الشرط لم يكن الموضوع موجودا ، ولهذا فإذا انتفى الشرط انتفى الموضوع أيضا. فلا معنى للبحث عن ثبوت المفهوم لمثل هذه الجملة ؛ لأنّ الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

٥٢

ومفهوم الشرط ثابت في الأوّل ، فكلّما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط دلّت الجملة الشرطيّة على انتفاء الحكم عن موضوعه بسبب انتفاء الشرط.

أمّا القسم الأوّل وهو كون الشرط مغايرا للموضوع فلا إشكال في ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة كما تقدّم سابقا ؛ لأنّها تدلّ على التوقّف والالتصاق للشرط بالجزاء ، وبهذا يمكننا بيان ضابطة كلّيّة مفادها :

كلّما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط يثبت المفهوم للجملة الشرطيّة ، بحيث ينتفي الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط كما هو مقتضى التوقّف بينهما ، وهذا ما كنّا نبحث عنه فعلا فيما سبق.

وأمّا حالات الشرط المحقّق للموضوع فهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشرط المحقّق لوجود الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ، كما في مثال الختان المتقدّم.

والآخر : أن يكون الشرط أحد أساليب تحقيقه ، كما في : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّ مجيء الفاسق بالنبإ عبارة أخرى عن إيجاد النبأ ، ولكنّه ليس هو الأسلوب الوحيد لإيجاده ؛ لأنّ النبأ كما يوجده الفاسق يوجده العادل أيضا.

بعد أن عرفنا المراد من الشرط المحقّق للموضوع ، وأنّه عبارة عن نوع اتّحاد بين الشرط والموضوع بحيث يكون الشرط هو المحقّق والموجد للموضوع ، نبحث حول ثبوت المفهوم لهذه الجمل وعدم ثبوته.

فنقول : إنّ هذه الجمل على قسمين :

الأوّل : أن يكون الشرط المحقّق لوجود الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقّق الموضوع ، بحيث لا يمكن تحقّق ووجود الموضوع من دون هذا الشرط ، فليس هناك طريقة أخرى ولا أسلوب آخر لتحقّق الموضوع غير هذا الشرط ، كما في مثال الختان : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) ، فإنّ رزق الولد يحقّق ويوجد الولد وهو الأسلوب الوحيد لتحقّقه ؛ إذ لا يمكن أن يوجد الولد في الخارج من دون أن يكون مرزوقا من الله عزّ وجلّ ؛ لأنّه إذا لم يرزق الإنسان ولدا فلا مجال لتحقّقه ووجوده.

الثاني : أن يكون الشرط أحد أساليب وطرق تحقّق الموضوع بحيث يمكن أن يتحقّق

٥٣

الموضوع بشرط آخر أيضا ، فهنا نحوان وطريقان لتحقّق الموضوع ، أحدهما الشرط الموجود ، والآخر شرط آخر ، كما في قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّ النبأ الذي هو موضوع الحكم بوجوب التبيّن له نحوان من التحقّق والوجود ، فتارة يتحقّق بمجيء الفاسق بالنبإ ، وأخرى يتحقّق بمجيء العادل بالنبإ ، وهذا معناه أنّ الشرط الموجود وإن كان محقّقا للموضوع وموجدا له ، إلا أنّه ليس الأسلوب الوحيد لذلك ؛ لأنّ النبأ يتحقّق بشرط آخر أيضا وهو مجيء العادل.

ولذلك يبحث في ثبوت المفهوم وعدم ثبوته للجمل الشرطيّة المسوقة لتحقّق الموضوع على أساس هذين التقسيمين ، فنقول :

ففي القسم الأوّل : لا يثبت مفهوم الشرط ؛ لأنّ مفهوم الشرط من نتائج ربط الحكم بالشرط وتقييده به على وجه مخصوص ، فإذا كان الشرط عين الموضوع ومساويا له فليس هناك في الحقيقة ربط للحكم بالشرط وراء ربطه بموضوعه ، فقولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) في قوّة قولنا : ( اختن ولدك ).

إنّ مفهوم الشرط متوقّف على وجود ربطين في الجملة الشرطيّة : أحدهما : ربط الحكم بالموضوع ، والآخر : ربط الحكم وموضوعه بالشرط.

والربط الأوّل لا يوجب ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ؛ لأنّ كلّ حكم مرتبط بموضوعه بحيث إذا انتفى الموضوع انتفى الحكم المرتبط به ، كما هو الحال في كلّ جملة فيها موضوع وحكم ، كقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ وجوب الإكرام مرتبط بالعالم الذي هو الموضوع ، فإذا انتفى الموضوع ينتفي الحكم المرتبط به تبعا للعلاقة بين الحكم والموضوع ، وهو المسمّى بالسالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا الربط الثاني فهو يوجب ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ، فيما إذا كان ربط الحكم وموضوعه بالشرط بالنحو الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء وهو التوقّف.

فقولنا : ( إذا جاء زيد فأكرمه ) يرتبط وجوب إكرام زيد بمجيئه ، فهنا إذا انتفى المجيء ينتفي وجوب إكرام زيد ؛ لأنّه متوقّف ومعلّق على مجيئه كما تقدّم سابقا ويكون للجملة مفهوم.

والحاصل : أنّ ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة موقوف على أن يكون هناك ربط بين

٥٤

الحكم وموضوعه بالشرط ، ويكون هذا الربط موجبا للانتفاء عند الانتفاء بنحو التوقّف.

وأمّا ربط الحكم بموضوعه فهو لا علاقة له بالمفهوم أصلا ؛ لأنّ كلّ حكم مرتبط بموضوعه بحيث ينتفي إذا انتفى الموضوع ويكون انتفاؤه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وفي مقامنا لكي يكون للجملة المسوقة لتحقّق الموضوع مفهوم يجب أن يكون هناك ربط بين الحكم وموضوعه بالشرط ، ولا يكفي أن يكون الحكم مرتبطا بالموضوع فقط.

وعليه ، فإذا كان الشرط المسوق لتحقيق الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقّقه بحيث كان الموضوع لا يوجد إلا بالشرط المذكور ولا يوجد مع غيره ، فهذا معناه أنّ الموضوع والشرط متساويان ومتّحدان معا ، فيكون أحدهما تعبيرا عن الآخر ، وليس شيئا زائدا عنه ، وبالتالي لا يكون لدينا إلا ربط واحد فقط وهو ربط الحكم بالموضوع ؛ لأنّ الشرط بحسب الفرض هو نفس الموضوع فربط الحكم بالشرط تعبير آخر عن ربط الحكم بالموضوع فهناك ربط واحد ، وهذا الربط الواحد لا يكفي لثبوت المفهوم.

فقولنا مثلا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) يوجد فيها ربط واحد ، وهو أنّ وجوب الختان مرتبط برزق الولد أو مرتبط بالولد فإنّهما شيء واحد ، ولا معنى لأن نقول : إنّ وجوب ختان الولد مرتبط برزق الولد ؛ لأنّه يكون حينئذ من القضيّة بشرط المحمول وهي بقوّة قولنا : ( اختن ولدك ) أي بقوّة الموجبة الحمليّة ، فإذا انتفى الولد فلا وجوب للختان من باب المفهوم ، بل من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا في القسم الثاني : فيثبت المفهوم ؛ لأنّ ربط الحكم بالشرط فيه أمر وراء ربطه بموضوعه ، فهو تقييد وتعليق حقيقي. وليس قولنا : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) في قوّة قولنا : ( تبيّنوا النبأ ) ؛ لأنّ القول الثاني لا يختصّ بنبإ الفاسق بينما الأوّل يختصّ به ، وهذا الاختصاص نشأ من ربط الحكم بشرطه فيكون للجملة مفهوم.

وأمّا إذا كان الشرط أحد أساليب تحقّق الموضوع ، فهذا معناه أنّه يوجد ربطان في الجملة الشرطيّة ، أحدهما ربط الحكم بموضوعه والآخر ربط الحكم وموضوعه

٥٥

بالشرط ، فيثبت للجملة مفهوم ، حيث يكون هناك ربط آخر زائدا عن ربط الحكم بموضوعه ، وهذا الربط الآخر ربط حقيقي وليس ربطا صوريّا وتعبيرا آخر عن ربط الحكم بالموضوع.

فقولنا : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) هناك ربط لوجوب التبيّن بالنبإ وهناك ربط آخر وهو ربط وجوب تبيّن النبأ بمجيء الفاسق ، وهذا الربط الثاني ربط حقيقي وليس تعبيرا آخر عن الربط الأوّل ؛ لأنّ المفروض أنّ مجيء الفاسق ليس هو الأسلوب الوحيد لتحقّق النبأ ، بل يتحقّق النبأ بغيره أيضا أي بمجيء العادل ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ يثبت للجملة مفهوم ؛ لأنّ الموضوع متحقّق أيضا مع مجيء العادل حين انتفاء الفاسق فلا يجب التبيّن.

وليست هذه الجملة : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) في قوّة قولنا : ( تبيّنوا النبأ ) ؛ لأنّ الجملة الأولى الشرط فيها هو مجيء الفاسق فالحكم بوجوب التبيّن للنبإ مرتبط ومعلّق على مجيء الفاسق ، بينما في الجملة الثانية يكون وجوب التبيّن شاملا لمجيء الفاسق ومجيء العادل ، وهذا غير محتمل من قوله تعالى ؛ لأنّه يجعل العادل كالفاسق وهو خلاف الظاهر من الآية (١).

__________________

(١) هذا كلّه بناء على أنّ الموضوع في الآية هو النبأ والشرط هو مجيء الفاسق ، فيكون للجملة مفهوم.

وأمّا إذا كان الموضوع هو نبأ الفاسق والشرط هو مجيء الفاسق فيكون الشرط حينئذ هو الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ؛ إذ من الواضح أنّ نبأ الفاسق لا يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق فيكون الشرط متّحدا مع الموضوع ، فيوجد ربط واحد فقط وليس هناك ربطان ، ولذلك لا يكون للجملة مفهوم.

والصحيح : هو الأوّل أي أنّ الموضوع هو النبأ والشرط هو مجيء الفاسق ، وبما أنّه ليس الأسلوب الوحيد فيثبت للجملة مفهوم.

٥٦

مفهوم الوصف

٥٧
٥٨

مفهوم الوصف

إذا تعلّق حكم بموضوع وأنيط بوصف في الموضوع ، كوصف العدالة الذي أنيط به وجوب الإكرام في : ( أكرم الفقير العادل ) فهل يدلّ بالمفهوم على انتفاء طبيعي الحكم بوجوب الإكرام عن غير العادل من الفقراء ، بعد الفراغ عن دلالته على انتفاء شخص الحكم تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود؟

الوصف على أنحاء أربعة ، هي :

الأول : أن يكون مساويا للموصوف ، كقولنا : ( أكرم الإنسان الناطق ) ، فهنا لا شكّ في عدم المفهوم ؛ لأنّ انتفاء أحد المتساويين يوجب انتفاء الآخر ، فإذا انتفى الناطق ينتفي الإنسان ، وبالتالي ينتفي موضوع الحكم فيكون الحكم منتفيا من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

الثاني : أن يكون الوصف أعمّ من الموصوف كقولنا : ( أكرم الإنسان الهاشمي ) فهاهنا أيضا لا مفهوم ؛ لأنّ انتفاء الأعمّ يوجب انتفاء الأخصّ ، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذان الموردان خارجان عن محلّ الكلام أصلا.

الثالث : أن يكون بين الوصف والموصوف عموم وخصوص من وجه ، كقوله عليه‌السلام : « في الغنم السائمة زكاة » فإنّ السوم والغنم قد يجتمعان ويفترقان ، ولذلك فإذا انتفى أحدهما قد يبقى الآخر وقد ينتفي ، فيدخل هذا المورد في محلّ الكلام.

الرابع : أن يكون الوصف أخصّ من الموصوف ، كقولنا : ( أكرم الإنسان العادل ) فإنّ العادل أخصّ من الإنسان ، فإذا انتفى قد ينتفي الإنسان ، وقد لا ينتفي ؛ لأنّ الأخصّ إذا انتفى لا يوجب انتفاء الأعمّ جزما ، وهذا داخل في محلّ الكلام أيضا.

ثمّ إنّ الوصف دخيل في موضوع الحكم بلا شكّ ، فقولنا : ( أكرم الفقير العادل ) لا

٥٩

شكّ في أنّ وصف العدالة دخيل في الموضوع ، وذلك بناء على قاعدة احترازيّة القيود في أنّ المتكلّم كلّ ما يذكره في كلامه فهو يريده جدّا.

وقد ذكر هنا وصف العدالة فيكون دخيلا في موضوع الحكم ، ولذلك إذا انتفى وصف العدالة ينتفي شخص هذا الحكم بوجوب إكرام الفقير ، أي أنّ الفقير غير العادل لا يجب إكرامه من جهة العدالة جزما ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه.

وإنّما الكلام في أنّه هل ينتفي طبيعي وجوب الإكرام عند انتفاء الوصف أم لا؟ وهذا معناه أنّه هل للجملة الوصفيّة مفهوم أم لا؟ وهذا ما ينبغي البحث عنه هنا ، فنقول :

والجواب : أنّه على مسلك المحقّق العراقي رحمه‌الله في إثبات المفهوم يفترض أنّ دلالة الجملة المذكورة على الربط المخصوص المستدعي لانتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسلّمة ، وإنّما يتّجه البحث إلى أنّ المربوط بالوصف والذي ينتفي بانتفائه هل يمكن أن نثبت كونه طبيعي الحكم بالإطلاق وقرينة الحكمة أو لا؟

فإذا أخذنا بمسلك المحقّق العراقي القائل بأنّ كلّ الجمل المبحوث عنها في ثبوت المفهوم لها أو عدم ثبوته تدلّ على ذاك الربط المخصوص المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ـ أي التوقّف أو العلّيّة ـ كما تقدّم سابقا عند الحديث عن ضابط المفهوم وأسمينا هذا المسلك بمسلك المحقّق العراقي ، وهذا يعني أنّ الركن الأوّل مفروغ عنه.

يبقى الكلام في إثبات الركن الثاني وهو أنّ المنتفي والمعلّق عليه هل هو طبيعي الحكم أو شخصه؟ وهذا يثبت عند إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مدلول الهيئة الدالّة على الحكم ، فإذا جرت قرينة الحكمة يثبت أنّ المعلّق هو الطبيعي فيكون المنتفي أيضا هو الطبيعي ، وإلا كان المعلّق والمنتفي شخص الحكم فقط.

وعلى هذا فلا بدّ من البحث حول جريان الإطلاق في الجملة الوصفيّة أو عدم جريانه فنقول :

والصحيح : أنّه لا يمكن ؛ لأنّ مفاد هيئة ( أكرم ) مقيّدة بمدلول المادّة باعتباره طرفا لها ، ومدلول المادّة مقيّد بالفقير ؛ لأنّ المطلوب إكرام الفقير ، والفقير مقيّد بالعدالة تقييد الشيء بوصفه. وينتج ذلك أنّ مفاد هيئة ( أكرم ) هو حصّة خاصّة من وجوب الإكرام يشتمل على التقييد بالعدالة ، فغاية ما يقتضيه الربط المخصوص

٦٠