شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

[ ٣ ـ دليل العقل ]

وأمّا دليل العقل فله شكلان

الشكل الأوّل : ويتلخّص في الاستدلال على حجيّة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات من الرواة بالعلم الإجمالي.

وبيانه : أنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير من هذه الروايات عن المعصومين عليهم‌السلام ، والعلم الإجمالي منجّز بحكم العقل كالعلم التفصيلي على ما تقدّم في حلقة سابقة ، فتجب موافقته القطعيّة ، وذلك بالعمل بكل تلك الروايات التي يعلم إجمالا بصدور قسط وافر منها.

الدليل الثالث : على حجيّة خبر الثقة هو العقل ، وتقريب الاستدلال به بأحد وجهين :

الشكل الأوّل : أن يستدلّ بمنجزية العلم الإجمالي على لزوم العمل بأخبار الثقات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا ؛ وذلك لأنّنا إذا لاحظنا مجموع أخبار الثقات ضمن هذه الكتب تشكّل لدينا علم إجمالي بأنّ بعض هذه الأخبار صادرة عن المعصومين ، أو أنّ بعضها مطابق للواقع ؛ إذ من غير المعقول أن تكون هذه الأخبار بمجموعها كاذبة أو غير مطابقة للواقع.

وبهذا يحصل لنا علم إجمالي بصدق وبصدور بعضها ، ولمّا كان هذا البعض غير معلوم تفصيلا ، وكان يحتمل أن يكون كل خبر من أخبار الثقات داخلا في هذا المعلوم بالإجمال ، كان هذا العلم الإجمالي منجّزا لجميع أطرافه وهي دائرة أخبار الثقات ضمن هذه الأخبار الواصلة إلينا ، وحينئذ يجب العمل بهذه الأخبار كلّها لأنّ منجزية العلم الإجمالي تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة كالعلم التفصيلي تماما ، وهذا معناه لزوم الأخذ والعمل بأخبار الثقات لتنجّز العمل بها بالعلم

٢٦١

الإجمالي ، وهذا يعني أنّ أخبار الثقات حجّة يجب العمل بها ، فثبت المطلوب من حيث النتيجة العمليّة.

وهذا نظير العلم الإجمالي بنجاسة عدد من الإناءات ضمن مجموع مائة إناء موجودة عندنا ، فإنّه يحتمل أن يكون كل إناء بنفسه داخلا فيما علم إجمالا نجاسته ، فيكون طرفا للعلم الإجمالي ، وحيث إنّ هذا العلم الإجمالي منجّز ، ومنجزيته تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة كان الاجتناب عن كل هذه الإناءات واجبا بحكم هذه المنجزية العقلية للعلم الإجمالي ، وبالتالي يجب ترك جميع هذه الإناءات ، وهذه النتيجة كالنتيجة في العلم التفصيلي بنجاسة المائة جميعا من جهة وجوب الاجتناب عن الجميع.

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين :

الأوّل : نقضي ، وحاصله :

أنّه لو تمّ هذا لأمكن بنفس الطريقة إثبات حجيّة كل خبر حتّى أخبار الضعاف لأنّنا إذا لاحظنا مجموع الأخبار بما فيها الأخبار الموثّقة وغيرها نجد أنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير منها ، فهل يلتزم بوجوب العمل بكل تلك الأخبار تطبيقا لقانون منجزية العلم الإجمالي؟!

اعترض الشيخ الأنصاري في رسائله على هذا الشكل من دليل العقل باعتراضين : أحدهما نقضي ، والآخر حلي.

أمّا النقض : فحاصله أنّنا يمكننا أن نطبّق هذا العلم الإجمالي في كل الأخبار الواصلة إلينا ، سواء كانت أخبار الثقات أو غيرهم من الضعاف والمجهولين ، وذلك على أساس أنّنا إذا لاحظنا مجموع هذه الأخبار كلّها نجد أنّه من غير المعقول أن تكون كلّها كاذبة بل بعضها صادر وبعضها مطابق للواقع حتّى ضمن أخبار الضعاف ؛ إذ لا يعقل أن تكون كل أخبار الضعفاء ليست مطابقة للواقع بل يحتمل أن يكون بعضها مطابقا للواقع.

وحينئذ يقال : إنّه لو كان العلم الإجمالي المذكور سابقا منجزا لجميع أطرافه بسبب العلم بصدور بعض الأخبار من المعصومين ضمن دائرة أخبار الثقات لكان هذا العلم الإجمالي أيضا منجّزا لجميع الأخبار بما فيها الضعفاء لأنّه يعلم بصدور أو بمطابقة بعض هذه الأخبار للواقع ، فهل يمكن الالتزام بوجوب العمل بكل خبر حتّى ما كان ضعيفا أو غير ثقة أو مجهولا؟!

٢٦٢

فحيث إنّه لا يلتزم بذلك كان معناه أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لوجوب العمل بأخبار الثقات بمجرّد العلم بصدور بعض أخبارهم ، إذ لو كان منجزا لها لكان العلم الإجمالي الذي ذكرناه منجّزا أيضا لجميع الأخبار بما فيهم الضعفاء ، لأنّه يعلم بمطابقة بعضها للواقع ، فإما أن يلتزم بذلك أو يرفع اليد عن أصل هذا الدليل ، إذ لا وجه للتفكيك بين هذين العلمين والقول بأنّ الأوّل منجّز وحجّة دون الثاني ، لأنّ أركان العلم الإجمالي موجودة فيهما على حدّ سواء ، وحيث إنّه لا يمكن الالتزام بالعلم الإجمالي الثاني دلّ هذا على أنّ الالتزام بالعلم الإجمالي الأوّل غير تام.

والجواب على هذا النقض ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من انحلال أحد العلمين الإجماليين بالآخر وفقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ـ المتقدّمة في الحلقة السابقة ـ إذ يوجد لدينا علمان إجماليّان :

الأوّل : العلم الذي أبرز من خلال هذا النقض وأطرافه كل الأخبار.

والثاني : العلم المستدل به وأطرافه أخبار الثقات ، ولانحلال علم إجمالي بعلم إجمالي ثان وفقا للقاعدة التي أشرنا إليها شرطان ـ كما تقدّم في محلّه ـ :

أحدهما : أن تكون أطراف الثاني بعض أطراف الأوّل.

والآخر : ألا يزيد المعلوم بالأوّل عن المعلوم بالثاني.

وأجاب صاحب ( الكفاية ) على هذا النقض بأنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي السابق تطبيقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير.

أمّا كون العلم الإجمالي المذكور في النقض كبيرا فلأنه يشمل أخبار الثقات والضعاف وغيرهم.

وأمّا كون العلم الإجمالي المذكور في الاستدلال صغيرا فلأنّه مختص بأخبار الثقات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا.

ومن الواضح أنّ دائرة أخبار الثقات أخص وأصغر من دائرة أخبار الثقات والضعاف وغيرهم.

وأمّا وجه انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير فهذا يتوقّف على وجود شرطين هما :

٢٦٣

الأوّل : أن يكون العلم الإجمالي الصغير داخلا في العلم الإجمالي الكبير ، أي أن تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فكلّ أطراف العلم الإجمالي الصغير داخلة في أطراف العلم الإجمالي الكبير.

والثاني : أن لا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير أزيد من حيث العدد والمصداق من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ، بل إما أن يكون أقل منه أو مساويا له.

مثال ذلك : أن نعلم إجمالا بنجاسة خمسة إناءات من مجموع مائة إناء مختلفة الألوان ، ثمّ نعلم إجمالا بنجاسة خمسة إناءات من مجموع الإناءات السوداء في مجموع الإناءات المائة ، فهنا أطراف العلم الإجمالي الصغير وهي الإناءات السوداء من جملة أطراف العلم الإجمالي الكبير ، والمعلوم بالإجمال في العلمين متساو ، وهو الإناءات الخمسة ، ولذلك ينحل العلم الكبير بالعلم الصغير.

وتطبيق هذا الكلام على موردنا بأن يقال :

وكلا الشرطين منطبقان في المقام فإنّ العلم الإجمالي الثاني في المقام ـ أي العلم المستدل به على الحجيّة ـ أطرافه بعض أطراف العلم الأوّل الذي أبرز في النقض ، والمعلوم في الأوّل لا يزيد عن المعلوم فيه فينحل الأوّل بالثاني وفقا للقاعدة المذكورة.

وفي مقامنا نقول : إنّ العلم الإجمالي المستدلّ به على حجيّة خبر الثقة كانت دائرة أطرافه خصوص أخبار الثقات الواصلة إلينا في الكتب المعتبرة ، وهذه الأخبار تعتبر جزءا من دائرة أطراف العلم الإجمالي الذي أبرز في النقض لأنّ أطرافه كل الأخبار سواء منها أخبار الثقات وأخبار الضعفاء وغيرهم ، فالشرط الأوّل موجود (١).

__________________

(١) والتحقيق في المسألة عدم تماميّة الاستدلال بهذا العلم الإجمالي ، لأنّ العلم الإجمالي الكبير لا ينحل فيه لعدم توفر الشرط الثاني فصحيح أنّ أخبار الثقات داخلة ضمن أطراف العلم الإجمالي الكبير الشامل لأخبار الثقات وغيرها ، إلا أنّ المعلوم بالإجمال الموجود في العلم الإجمالي الكبير أزيد من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ، وذلك لأنّنا بعد أن نفرز أخبار الثقات يبقى لدينا علم بوجود تكاليف ضمن سائر الشبهات والأخبار الأخرى ، إذ من غير المعقول أن تكون كلّها كاذبة وغير صادرة ، فيبقى العلم الإجمالي الكبير منجزا لها أيضا.

٢٦٤

ثمّ إنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير وهو أنّ عددا كبيرا من هذه الأخبار صادر عن المعصومين عليهم‌السلام لا يزيد عن المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ضمن دائرة أخبار الثقات ، وذلك لأنّنا لو فرزنا أخبار الثقات من مجموع الأخبار في مختلف الأبواب الفقهية لكان المعلوم بالإجمال كونه صادرا من المعصومين موجودا فيها أيضا بحيث لا يبقى مجال لاحتمال صدور الأحكام في غيرها من أخبار الضعفاء وغيرهم ، فالشرط الثاني موجود.

والنتيجة هي أنّ المعلوم بالإجمال صدوره واقعا صار ضمن دائرة أخبار الثقات فقط فيكون منجّزا لها وموجبا للموافقة القطعيّة بالعمل على وفق أخبار الثقات وهو معنى الحجيّة.

وأمّا سائر الأخبار الأخرى فلا يعلم إجمالا بصدور بعض منها أو يشك شكا بدويا في كونها صادرة عنهم ، وفي مثل هذه الحالة تجري الأصول العمليّة الترخيصيّة كالبراءة ونحوها لإثبات المعذرية والترخيص.

فتحصّل أنّ العلم الإجمالي المستدلّ به تام ومنجّز ، وبه تثبت حجيّة أخبار الثقات.

الثاني : جواب حلّي ، وحاصله : أنّ تطبيق قانون تنجيز العلم الإجمالي لا يحقق الحجيّة بالمعنى المطلوب في المقام ، وذلك :

أوّلا : لأنّ هذا العلم لا يوجب لزوم العمل بالأخبار المتكفلة للأحكام الترخيصيّة ، لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا وملزما في حالة كونه علما إجماليا بالتكليف لا بالترخيص ، بينما الحجيّة المطلوبة هي حجيّة خبر الثقة بمعنى كونه منجزا إذا أنبأ عن التكليف ، ومعذّرا إذا أنبأ عن الترخيص.

وأمّا الحلّ : فتقريبه : أنّ هذا العلم الإجمالي لو فرض تماميّة الاستدلال به فهو لا يثبت حجيّة خبر الثقة بالمعنى المراد من الحجيّة ؛ وذلك لأنّ الحجيّة معناها كون الشيء منجزا ومعذرا ، فإذا قامت الحجّة على التكليف كانت منجزة لوجوب الالتزام بهذا التكليف فعلا أو تركا ، كما لو قام خبر الثقة على وجوب التصدّق عند رؤية الهلال ، أو على حرمة شرب التتن ، وإذا قامت الحجّة على نفي التكليف كانت معذرة للمكلف إذا خالف الواقع وكان التكليف ثابتا كما لو قام خبر الثقة على نفي وجوب

٢٦٥

التصدّق وكان الوجوب ثابتا في الواقع ، فإنّ المكلّف يكون معذورا لأنّه استند إلى ما هو حجّة شرعا أو تكوينا.

وفي مقامنا المطلوب هو الاستدلال على حجيّة خبر الثقة بمعنى كونه منجّزا ومعذّرا ، وأمّا العلم الإجمالي الذي ذكر دليلا على حجيّة خبر الثقة فهو لا يثبت هذه الحجيّة وإنّما يثبت المنجزية فقط دون المعذرية.

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة لو فرض كونه دائرا بين طرفين إلزاميين أو كان المعلوم بالإجمال إلزاما وتكليفا كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، أو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين فهنا يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب الإتيان بالظهر والجمعة ولحرمة ارتكاب الإناءين أو أحدهما.

وأمّا إذا كان العلم الإجمالي علما إجماليا بعدم التكليف كما إذا علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين فإنّه لا يوجب الالتزام بطهارة كلا الإناءين ، أو علم إجمالا بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف أي التي تثبت الترخيص والجواز أو الاستحباب أو الكراهة ، فهنا لا يقال بكونه منجزا للدائرة التي يعلم باشتمالها على هذه الأخبار ، لأنّه من الواضح أنّ المنجزية الثابتة للعلم الإجمالي كانت لأجل الاحتياط العقلي وعدم الابتلاء بمخالفة الواقع الإلزامي ، وأمّا هنا فلا مخالفة للواقع أصلا ، لأنّه لو علم تفصيلا بهذه الأخبار النافية للتكليف لم يلزم العقل بها لأنّه يجوّز للمكلف الفعل والترك ، فلا يكون العلم الإجمالي ملزما بفعلها أو تركها ، لأنّه ليس بأحسن حالا من العلم التفصيلي.

وهكذا يتّضح أنّ العلم الإجمالي غاية ما يثبت به التنجيز فقط ، وهو جزء من الحجيّة لا الحجيّة كلّها ، فالدليل أخصّ من المدّعى فلا يثبته.

وثانيا : لأنّ العمل بأخبار الثقات على أساس العلم الإجمالي إنّما هو من أجل الاحتياط للتكاليف المعلومة بالإجمال ، ومن الواضح أنّ الاحتياط لا يسوّغ أن يجعل خبر الثقة مخصّصا لعام أو مقيّدا لمطلق في دليل قطعي الصدور ، فإنّ التخصيص والتقييد معناهما رفع اليد عن عموم العام أو إطلاق المطلق في دليل قطعي الصدور ومعلوم الحجيّة.

٢٦٦

ومن الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عمّا هو معلوم الحجيّة إلا بحجيّة أخرى تخصيصا أو تقييدا ، فما لم تثبت حجيّة خبر الثقة لا يمكن التخصيص بها أو التقييد ، فإذا ورد مطلق قطعي الصدور يدلّ على الترخيص في اللحوم مثلا ، وورد خبر ثقة على حرمة لحم الأرنب لم يكن بالإمكان الالتزام بتقييد ذلك المطلق بهذا الخبر ما لم تثبت حجيّته بدليل شرعي.

والوجه الثاني لمنع حجيّة خبر الثقة على أساس العلم الإجمالي ، أن يقال : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا للتكليف من باب الاحتياط العقلي ، حيث إنّ التكليف المنكشف إجمالا يكون موردا للاحتياط ، إذ لو ترك العمل به لاحتمل مخالفة الواقع ، فالاحتياط يقتضي العمل بالتكليف لئلا يقع المكلّف في مخالفة الواقع.

وحينئذ نقول : إنّ التخصيص أو التقييد للعموم أو الاطلاق إنّما يكونان فيما إذا كان المخصّص أو المقيّد حجّة ، لأنّ العام أو المطلق إذا كانا قطعيي الصدور بأن كانا من الكتاب أو السنّة المتواترة وكانا ظاهرين في العموم والإطلاق فإنّ هذا الظاهر حجّة ، لأنّ كل ظهور حجّة ، وبالتالي يتعيّن العمل بالعموم والإطلاق لكونهما حجّة ، ولا يجوز رفع اليد عنهما إلا إذا كان المخصّص أو المقيّد حجّة أيضا ، حيث يقع التعارض بين حجتين : إحداهما ظاهرة والأخرى نص ، ويقدم النص على الظاهر ، لأنّه قرينة على تفسير المراد من الظاهر.

وهذا يفترض أن يكون الخاص أو المقيّد كلاهما حجّة ، إمّا تكوينا أو تعبدا ، كما إذا كان هناك عموم أو إطلاق يدلّ على حليّة أو إباحة كل اللحوم ، وورد خبر ثقة حجّة في حرمة لحم الأرنب ، فهنا يقال بالتخصيص أو التقييد لكون خبر الثقة حجّة تعبدا.

وأمّا إذا قلنا : إنّ خبر الثقة يجب العمل به لأجل منجزية العلم الإجمالي من باب الاحتياط العقلي فهنا مجرّد الاحتياط لا يسوّغ لنا رفع اليد عن العموم أو الإطلاق والقول بالترخيص أو التقييد ؛ لأنّ العموم والإطلاق لمّا كانا قطعيي الصدور ، وكان ظاهرهما حجّة لم يمكن رفع اليد عمّا هو حجّة بدليل لم تثبت حجيّته لا تكوينا ولا تعبّدا ، وإنّما كان العمل به لازما من باب الاحتياط العقلي ، لأنّ العمل بخبر الثقة على هذا الأساس لا يعني الحجيّة التعبديّة كما ذكرنا ؛ لأن الحجيّة التعبديّة معناها التنجيز

٢٦٧

والتعذير ، والاحتياط العقلي يوجب العمل بخبر الثقة المنجّز فقط دون المعذّر ، إذ لا احتياط في العمل بخبر الثقة النافي للتكليف.

وعلى هذا ، فلا يمكن رفع اليد عن العموم أو الإطلاق لمجرّد أنّ العمل بخبر الثقة المنجّز موافق للاحتياط ، ففي المثال المذكور لا يمكن التخصيص أو التقييد بالخبر الدال على حرمة لحم الأرنب ، لأنّه لم تثبت حجيّته بعد ، بينما العموم والإطلاق حجّة ، ورفع اليد عن الحجّة لا يكون إلا بحجّة أقوى والحال أنّه لا يوجد حجّة أقوى في مفروض الكلام ، وهذا فارق عملي بين القول بحجيّة خبر الثقة تعبّدا ، وبين القول بوجوب العمل به من باب الاحتياط ومنجزية العلم الإجمالي.

اللهمّ إلا أنّ يقال : إنّ مجموعة العمومات والمطلقات الترخيصيّة في الأدلّة القطعيّة الصدور يعلم إجمالا بطروّ التخصيص والتقييد عليها ، فإذا لم تثبت حجيّة خبر الثقة بدليل خاص فسوف لن نستطيع أن نعيّن مواطن التخصيص والتقييد ، وهذا يجعلنا لا نعمل بها جميعا تنفيذا لقانون تنجيز العلم الإجمالي.

وبهذا ننتهي إلى طرح إطلاق ما دل على حلية اللحوم في المثال والتقيّد احتياطا بما دلّ على حرمة لحم الأرنب مثلا ، وهذه نتيجة مشابهة للنتيجة التي ينتهى إليها عن طريق التخصيص والتقييد.

نعم ، قد يقال هنا : إنّ عدم التخصيص والتقييد بخبر الثقة ـ لأنّه ليس حجّة شرعا ـ يوجب أن يكون العموم والإطلاق حجّة وبالتالي لا نرفع اليد عنهما أبدا ، بل نطرح هذا الخبر الدال على التقييد أو التخصيص تمسكا بما هو حجّة وطرحا لما لم تثبت حجيّته.

وهذا المقدار لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بطروّ المقيّدات والمخصصات لكثير من العمومات والإطلاقات ، حتّى اشتهر القول : إنّه ما من عام إلا وقد خصّ. فهذا العلم الإجمالي يثبت صدور المقيّدات والمخصّصات في الشريعة ، ونحن نحتمل أن يكون هذا العلم الإجمالي موجودا ضمن دائرة أخبار الثقات الدالة على التخصيص والتقييد ، وهذا علم إجمالي منجّز يوجب الموافقة القطعيّة ، ومفاده لزوم العمل بأخبار الثقات المخصّصة والمقيّدة من باب الاحتياط العقلي ومنجزية العلم الإجمالي وبالتالي نرفع اليد عن عموم العام وإطلاق المطلق في كل مورد ثبت فيه خبر الثقة الدال على التخصيص أو التقييد.

٢٦٨

ففي المثال المذكور نلتزم بحرمة لحم الأرنب لا من باب كون خبر الثقة الدال على الحرمة مخصّصا أو مقيّدا للعموم أو الإطلاق لأنّه لم تثبت حجيّته بعد ليرفع اليد به عمّا هو ثابت الحجيّة ، وإنّما نلتزم بذلك من باب الاحتياط العقلي والعلم الإجمالي الذي مفاده وجود المخصصات والمقيّدات لكثير من العمومات والمطلقات ، وحيث إنّ هذا العام والإطلاق يحتمل كون التقييد والتخصيص قد صدر له واقعا ، فلا يمكن الأخذ به ؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز لنا كل المقيّدات والمخصّصات ضمن دائرة أخبار الثقات ويوجب العمل بها تطبيقا لقانون منجزية العلم الإجمالي لكل أطرافه.

وحينئذ سوف ننتهي إلى نفس نتيجة القول بحجيّة خبر الثقة المخصّص أو المقيّد للعموم والإطلاق ، لأنّنا رفعنا اليد عن العموم والإطلاق عمليّا وإن كنّا لا نحكم بالتخصيص والتقييد لأنّه لم تثبت الحجيّة لخبر الثقة.

فيكون الفارق نظريا بين كون خبر الثقة حجّة تعبدا وبين كونه يجب العمل به احتياطا في مثل هذا المورد (١).

الشكل الثاني للدليل العقلي ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهو ـ لو تمّ ـ يثبت حجيّة الظن بدون اختصاص بالظن الناشئ من الخبر فيكون دليلا على حجيّة مطلق الأمارات الظنية بما في ذلك أخبار الثقات ، وقد بيّن ضمن مقدمات :

الشكل الثاني للدليل العقلي على حجيّة خبر الثقة : ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهذا الدليل لو تمّ فهو يثبت لنا حجيّة مطلق الظن لا خصوص الظن الناشئ من خبر الثقة ، بل الأعم منه ومن الظن الناشئ من الشهرة والإجماع المنقول والقياس وكل الأمارات الظنية ، فيكون كل ظن حجّة بحكم العقل أي أنّ العقل هو الذي يحكم بالحجيّة لمطلق الظن ، وهذا ما يسمّى بمسلك الحكومة ، أو يكون العقل كاشفا عن جعل الحجيّة لمطلق الظن شرعا أي أنّ الشارع حكم بحجيّة كل ظن والعقل كشف عن ذلك وهذا ما يسمّى بمسلك الكشف.

__________________

(١) نعم ، تبقى مسألة الآثار واللوازم الأخرى فإنّها تثبت على القول بحجيّته لأنّه من جملة الأمارات حيث انّ مثبتات الأمارة حجّة ، بينما لا تثبت على القول بأنّه يجب العمل به احتياطا لأنّ الاحتياط يتقدّر بمقداره ، حيث إنّه احتياط عقلي والاحتياط العقلي من جملة الأدلّة اللبّية فيقتصر فيه على القدر المتيقن ولا يتعدّى إلى أكثر من ذلك.

٢٦٩

ثمّ إنّ الاستدلال بهذا الدليل يتمّ عن طريق مقدمات خمسة ، كما رتّبها صاحب ( الكفاية ) ، وهي :

الأولى : إنّا نعلم إجمالا بتكاليف شرعية كثيرة في مجموع الشبهات ، ولا بدّ من التعرض لامتثالها بحكم تنجيز العلم الإجمالي.

المقدّمة الأولى : وجود علم إجمالي منجّز وبيانه :

إنّنا إذا لاحظنا دائرة الشبهات يحصل لنا علم إجمالي بوجود تكاليف شرعيّة صادرة من المعصومين ضمن دائرة هذه الشبهات ، لأنّها تتضمن أحكاما إلزاميّة وجوبا أو تحريما.

وحيث إنّ هذه الأحكام والتكاليف موجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات فيجب بحكم العقل امتثال هذه الأحكام ، وحيث إنّها معلومة إجمالا لا تفصيلا والعلم الإجمالي منجّز فيجب امتثال كل الأحكام الإلزاميّة الموجودة في هذه الشبهات تحصيلا للبراءة اليقينية بفراغ الذمة وخروجها عن عهدة الامتثال والطاعة.

الثانية : إنّه لا يوجد طريق معتبر ـ لا قطعي وجداني ولا تعبدي قام الدليل الشرعي الخاص على حجيّته ـ يمكن التعويل عليه في تعيين مواطن تلك التكاليف ومحالّها ، وهذا ما يعبّر عنه بانسداد باب العلم والعلمي.

المقدّمة الثانية : أنّ تحصيل العلم الوجداني بهذه الأحكام والتكاليف الموجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات لا يمكن لأنّه من الواضح جدا أنّ الأحكام والتكاليف المعلومة قطعا ووجدانا قليلة جدا بالنسبة لمجموع الأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنّه قادر على تحصيل العلم الوجداني بكل هذه الأحكام ؛ لأنّ أكثرها أو جلّها واردة في طرق غير قطعية السند والصدور ، حيث إنّ الأحكام والتكاليف الموجودة في الكتاب الكريم والسنّة المتواترة قليلة جدا كما هو واضح لمن تأمل ذلك ، فالعلم الوجداني لا يمكن التعويل عليه لتحصيل كل الأحكام والتكاليف.

وأمّا العلم التعبّدي أي الطريق الخاص الذي جعله الشارع حجّة لاستكشاف الأحكام والتكاليف عن طريقه ، فهذا أيضا غير موجود لعدم ثبوت مثل هذا الدليل الخاص في موردنا ـ كما هو المفروض ـ بمعنى أنّه يدعى عدم قيام الدليل القطعي

٢٧٠

الخاص على حجيّة هذه الطرق الخاصّة التي يدعى أنّها مجعولة من الشارع ، وما يذكر من أدلة على ذلك كلّها ظنيّة لا توجب العلم.

وهذا معناه أنّ باب العلم الوجداني وباب العلم التعبّدي منسدّان لا يمكن التعويل عليهما في تشخيص الأحكام والتكاليف الشرعيّة الموجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات ، وهذه المقدّمة تسمّى بانسداد باب العلم والعلمي أي انسداد باب العلم الحقيقي الوجداني وباب العلمي أي ما جعله الشارع كالعلم أي العلم التعبّدي (١).

الثالثة : أنّ الاحتياط بالموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور في المقدّمة الأولى غير واجب ، لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج نظرا إلى كثرة أطراف العلم الإجمالي.

المقدّمة الثالثة : أنّ هذا العلم الإجمالي المنجّز لمجموع الأحكام والتكاليف ضمن دائرة الشبهات لا يمكن موافقته القطعيّة ، وذلك عن طريق الاحتياط العقلي في كل شبهة من الشبهات الالزاميّة ، لأنّ هذا الاحتياط يؤدّي إلى العسر والحرج ، إذ لا يمكن للإنسان أن يحتاط في كل هذه الشبهات ، لأنّها كثيرة جدا تخرج عن حدّ الحصر ، ولذلك لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط التام في كل الشبهات الدالة على الإلزام لهذا المحذور.

مضافا إلى أنّ الشريعة الإسلامية يعلم أنّها غير مبتنية على الاحتياط بمعنى أنّها لا تتبنى الاحتياط كمسلك عام يسلكه الناس جميعا في كل الشبهات ، لأنّها شريعة سمحاء مبتنية على التخفيف والتوسعة على الناس ، ورفع الحرج والمشقّة والضيق عنهم ، والحال أنّ سلوك الاحتياط التام يؤدّي إلى خلاف روح هذه الشريعة (٢).

__________________

(١) وهذه المقدّمة هي الأساس الذي يبتني عليه دليل الانسداد ، إذ لو قيل بانفتاح باب العلمي أي لو ثبت قيام الدليل القطعي الخاص على حجيّة بعض الأمارات والطرق لكان التعويل عليها في اكتشاف الأحكام والتكاليف ضمن تلك الشبهات ، ولذلك تكفي هذه المقدّمة عن سائر المقدّمات.

(٢) وثالثا : أنّ الاعتماد على الاحتياط التام في سائر الشبهات لكل الناس يؤدّي إلى اختلال النظام الاجتماعي للناس لما يحتويه من التوقف والإرجاء والتكرار والتريث في كثير من المواقف والموارد التي لا تتحمل بطبيعتها ذلك.

ورابعا : يؤدّي إلى عدم حصول الترخيص والإباحة ونحوهما من الأحكام الترخيصيّة ، لأنّ المكلّف سوف يحتاط دائما في كل شبهة يحتمل فيها التكليف الإلزامي ، وهذا الأمر موجود في كل مورد ، لأنّه لن يحصل على العلم الوجداني كما هو المفروض سابقا.

٢٧١

الرابعة : أنّه لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة في كل شبهة بإجراء البراءة ونحوها ، لأنّ ذلك على خلاف قانون تنجيز العلم الإجمالي.

المقدّمة الرابعة : إنّه اذا لم يمكن التعويل على الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج ، إلا أنّه مع ذلك لا ينحل هذا العلم الإجمالي ولا تبطل منجزيته ، وهذا معناه أنّه لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة الترخيصيّة ، كالبراءة والطهارة والحلية والتخيير واستصحاب عدم التكليف ، لأنّ جريان مثل هذه الأصول يؤدّي إلى الترخيص في كل شبهة من الشبهات ، وبالتالي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وحيث إنّنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزامية ضمن هذه الشبهات ، فجريان الأصول الترخيصيّة فيها جميعا يؤدّي إلى ترك التكليف المعلوم بالإجمال ، وهذا ممنوع عقلا.

مضافا إلى أنّ العلم الإجمالي نفسه يقتضي عدم جريان الأصول الترخيصيّة في أطرافه ، لأنّها قد تنجّزت به ومعه لا مجال لجريان الأصول ، لأنّها إنّما تجري في الشبهات التي لم تتنجز بعد.

وثالثا : أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كل الشبهات معناه أنّه لا توجد أحكام إلزامية وجوبية أو تحريمية ، وهذا بديهي البطلان.

الخامسة : أنّه ما دام لا يجوز إهمال العلم الإجمالي ، ولا يتيسّر تعيين المعلوم الإجمالي بالعلم والعلمي ، ولا يراد منا الاحتياط في كل واقعة ، ولا يسمح لنا بالرجوع إلى الأصول العمليّة ، فنحن إذن بين أمرين : إمّا أن نأخذ بما نظنه من التكاليف ونترك غيرها ، وإمّا أن نأخذ بغيرها ونترك المظنونات ، والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن الأوّل.

وبهذا يثبت حجيّة الظن بما في ذلك أخبار الثقات.

المقدّمة الخامسة : وهي النتيجة للمقدمات السابقة حيث يقال : إنّه ما دام هناك علم إجمالي منجّز للتكاليف ضمن دائرة الشبهات كلّها ، وهذا العلم الإجمالي لا يجوز إهماله لأنّه كما تقدّم يؤدّي إلى إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال ، وما دام هذا المعلوم بالإجمال لا يمكن تعيينه لا بالعلم الوجداني ولا بالعلم التعبّدي لانسدادهما كما هو المفروض ، وما دام الاحتياط غير ممكن لاستلزامه العسر والحرج ،

٢٧٢

ولأنّه غير مطلوب شرعا ، وما دام لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة الترخيصيّة لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

إذن يدور الأمر بين أمرين لا ثالث لهما : إمّا أن نعمل بالظن الحاصل من كل شبهة نواجهها.

وإمّا أن نعمل بالاحتمال المقابل للظن ، لأنّ كل ظن يقابله احتمال مخالف لما يظن.

ومن الواضح أنّ العمل بالظن هو المتعيّن لأنّ العمل بالاحتمال المقابل له معناه ترجيح الاحتمال الموهوم على الاحتمال الراجح ، وهذا قبيح عقلا ؛ ولأنّ العمل بالمظنون أقرب من العمل بالوهم من حيث المطابقة والإصابة للواقع ، ولأنّ الظن في حالة الانسداد يصبح كالعلم الوجداني حالة الانفتاح من حيث كونه طريقا لمعرفة الأحكام والتكاليف بناء على الحكومة ، وبناء على الكشف كذلك ، إذ لا يعقل أن يجعل الشارع الحجيّة للموهوم والمشكوك دون المظنون ، لأنّ كاشفيّة الظن أقوى من كاشفيتهما.

فإذا تمّت هذه المقدّمات ثبت أنّ الظن مطلقا هو الطريق الذي يعوّل عليه لمعرفة الأحكام ، وحيث إنّ خبر الثقة يحتمل كونه حجّة تعبّدا فهو القدر المتيقن من جملة الظنون ولذلك يقدم على غيره ويكون العمل به هو المتعيّن دون سائر المظنونات ، لأنّه كلما كان هناك قدر متيقن في مقام الشك أخذ به خصوصا مع كون الدليل العقلي المذكور دليلا لبّيا والدليل اللبّي يقتصر في الأخذ به على القدر المتيقن وهو خبر الثقة ؛ لأنّه إمّا حجّة تعبدا وإمّا حجّة مطلقا.

وأمّا إذا لم تحتمل الحجيّة التعبديّة لخبر الثقة فهو كغيره من الطرق الظنيّة يكون حجّة لحجيّة مطلق الظن ، وبالتالي تثبت الحجيّة لكل الأمارات الظنية الأخرى ويجب الأخذ بها جميعا.

ونلاحظ على هذا الدليل :

أوّلا : إنّه يتوقّف على عدم قيام دليل شرعي خاص على حجيّة خبر الثقة ، وإلا كان باب العلمي مفتوحا وأمكن بأخبار الثقات تعيين التكاليف المعلومة بالإجمال ، فكأن دليل الانسداد ينتهى إليه حيث لا يحصل الفقيه على أيّ دليل شرعي خاص يدلّ على حجيّة بعض الأمارات الشائعة.

٢٧٣

الجواب عن هذا الدليل : أولا : المنع من المقدّمة الثانية التي هي عمدة الاستدلال بهذا الدليل.

وتوضيح ذلك : أنّه ادعي في المقدّمة الثانية أنّ باب العلم الوجداني منسدّ ، فهذا وإن سلّم به لقلة موارد القطع والعلم التكويني في كثير من الفروع والتفصيلات ، إلا أنّ باب العلم التعبّدي مفتوح ، بمعنى أنّ الشارع قد جعل بعض الطرق والأمارات الكاشفة كشفا ظنيا عن الواقع حجّة شرعا وأنّه يجوز التعويل عليها لاكتشاف أحكام الشارع ، كما هو الحال بالنسبة للظهورات ولخبر الثقة اللذين هما أهم الطرق والأمارات الظنية وعليهما العمدة في اكتشاف مراد الشارع وأحكامه وتكاليفه.

وعلى هذا فلا يتمّ هذا الدليل لأنّه متوقّف على تماميّة هذه المقدّمة التي لا مجال للتسليم بها أبدا ، فإنّ الدليل القطعي قد قام على حجيّة الظهور وخبر الثقة سواء من الشارع ابتداء كالآيات والأخبار التي يقطع بصدور بعضها أو إمضاء كالسيرة العقلائيّة القائمة على العمل بهذين الطريقين في مرأى ومسمع من الشارع ولم يردع عنهما.

نعم ، لو فرضنا عدم تماميّة شيء من الطرق والحجج والأمارات ولم يقم الدليل القطعي الخاص على حجيّتها والتعبد بها لأمكن المصير إلى هذا الدليل بعد تماميّة سائر المقدّمات الأخرى.

وبهذا اتّضح أنّ الاستدلال بدليل الانسداد على حجيّة مطلق الظن متوقّف على القول بانسداد الطريق العلمي التعبّدي وأنّه لا يوجد دليل خاص يدلّ على حجيّته شرعا ، وقد عرفت قيام هذا الدليل.

وثانيا : أنّ العلم الإجمالي المذكور في المقدّمة الأولى منحلّ بالعلم الإجمالي في دائرة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات كما تقدّم ، والاحتياط التام في حدود هذا العلم الإجمالي ليس فيه عسر ومشقة.

وثانيا : المنع من المقدّمة الأولى ، فإنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بعلم إجمالي أصغر منه مع توفر كلا الشرطين للانحلال.

وبيان ذلك : إنّا وإن كنّا نعلم بوجود عدد كبير من التكاليف ضمن دائرة الشبهات

٢٧٤

كلّها ، إلا أنّنا لو أخذنا أخبار الثقات في مختلف الأبواب الفقهية لوجدنا إنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير منها لا يقل عن العدد المعلوم إجمالا في العلم الإجمالي الكبير ، وحيث إنّ أخبار الثقات داخلة في العلم الإجمالي الكبير أيضا فينحل هذا العلم ، وبالتالي تبطل منجزيته الشاملة لمجموع الشبهات ، ويصبح العلم الإجمالي الصغير الذي دائرته خصوص أخبار الثقات هو المنجّز فقط.

وحينئذ ، فغاية ما يقتضيه هذا العلم الإجمالي هو وجوب الموافقة القطعيّة لكل أطراف دائرة أخبار الثقات تبعا لمنجزيته العقلية فيجب الاحتياط بالأخذ بالتكاليف التي تتضمنها أخبار الثقات وهذا الاحتياط لا مانع منه ولا محذور فيه ، لأنّ دائرة أخبار الثقات أطرافها يمكن الاحتياط فيها ، إذ لا عسر ولا مشقة في ذلك ، ولأنّ الاحتياط فيها لا يلازمه وجوب الاحتياط في كل الشبهات لأنّ سائر الشبهات الأخرى تصبح مشكوكة شكا بدويا فتكون مجرى للأصول الترخيصيّة ، وبالتالي لن يكون الاحتياط هو المسلك والطريق الذي تعتمده الشريعة الإسلامية ، وإنّما هناك طرق أخرى يسلكها المكلّف في سائر الشبهات. فإذا مثل هذه الاحتياط ممكن عقلا ، ومطابق للشريعة أيضا.

وعلى هذا فلا يثبت حجيّة مطلق الظن في سائر الشبهات كما هو المدّعى في هذا الدليل ، وإنّما خصوص الظن الناشئ من خبر الثقة فقط ، ضمن دائرة أخبار الثقات.

وثالثا : إنّا إذا سلّمنا عدم وجوب الاحتياط التام ـ لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج ـ فهذا إنّما يقتضي رفع اليد عن المرتبة العليا من الاحتياط بالقدر الذي يندفع به العسر والحرج ، مع الالتزام بوجوب سائر مراتبه ، لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها ، فيكون الأخذ بالمظنونات حينئذ باعتباره مرتبة من مراتب الاحتياط الواجبة ، وأين هذا من حجيّة الظن؟!

وثالثا : أنّ عدم وجوب الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج إنّما هو فيما إذا كان المقصود من الاحتياط الاحتياط الكامل والتام في سائر الشبهات ، فإنّ هذا يؤدّي إلى العسر والحرج وهما منفيان شرعا ، إلا أنّ نفيهما شرعا ليس معناه نفي الحكم لا حقيقة ولا ادعاء ، وإنّما معناه رفع اليد عن إطلاق الحكم لحالة يكون فيها ضرر أو حرج. وهذا

٢٧٥

معناه أنّه لا إطلاق للأحكام الشرعيّة لحالتي العسر والحرج ، لا أنّه لا حكم أصلا في هذين الموردين.

وعلى هذا فيكون المنفي هو الاحتياط التام والكامل أي المرتبة العليا من الاحتياط الشاملة لكل الشبهات والوقائع والحوادث ، لأنّه القدر المتيقن من لزوم العسر والحرج.

وأمّا سائر المراتب الأخرى من وجوب الاحتياط والتي لا عسر ولا حرج فيها فتبقى على حالها من وجوب الاحتياط فيها ، إذ لا عسر ولا حرج ليرفع اليد عنها.

ومن الواضح : أنّ الضرورات تقدر بقدرها لا بأزيد من ذلك ، فإذا كان هناك محذور من الأخذ بالاحتياط فهو في الاحتياط الكامل والتام الشامل لكل الشبهات دون غيره من المراتب الأخرى ، فإنّه لا محذور فيها فيجب الأخذ بالاحتياط في مواردها.

وحينئذ يجب الأخذ بما يظن أنّه الحكم الشرعي الواقعي من باب الاحتياط لا من باب حجيّة مثل هذا الظن.

وفرق كبير بين القول بحجيّة مطلق الظن الشامل بإطلاقه للظن بالتكليف والظن بعدمه ، وبين القول بوجوب الأخذ بالظن من باب الاحتياط العقلي ، فإنّه يختص فيما إذا ظن بالتكليف فقط ، لأنّه يوافق الاحتياط العقلي ، وأمّا إذا ظن بعدم التكليف فلا يكون هذا الظن موافقا للاحتياط العقلي إذ لا احتياط بترك التكليف كما هو واضح.

وهذا معناه لزوم العمل بخصوص الظن بالتكليف أي الظن الذي يكون منجّزا للحكم لا الأعم منه ومن الظن المعذّر أيضا ، وهذا المعنى لا يساوق ولا يلازم الحجيّة ، لأنّ الحجيّة معناها المنجزية والمعذرية على حدّ سواء ، فكان هذا الدليل أخصّ من المدّعى فلا يتمّ المطلوب.

اللهم إلا أن يدّعى قيام الإجماع على أنّ الشارع لا يرضى بابتناء التعامل مع الشريعة على أساس الاحتياط ، فإذا ضمّت هذه الدعوى أمكن أن نستكشف حينئذ أنّه جعل الحجيّة للظن.

اللهم إلا أن يدّعى قيام الإجماع على أنّ الشارع لم يجعل الاحتياط كطريق عام يسلكه الناس جميعا في سائر الشبهات وفي مختلف الأبواب الفقهية وفي شتّى ميادين الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والقضاء والحدود وغيرها.

فإنّ المتتبّع للشريعة الإسلامية ولمفاهيمها وعقائدها يحصل له القطع بأنّ الإسلام

٢٧٦

دين الحياة بمختلف نواحيها وميادينها وقد سنّ القوانين والقواعد والأحكام العامّة والكليّة لبني البشر جميعا على أساس الملاكات والمبادئ والمصالح والمفاسد والاحتياط إنّما جعل في بعض الأبواب والفروع فقط ، ولم يجعل الاحتياط واجبا وطريقا ومسلكا لمعرفة الأحكام الشرعيّة جميعا ، وإنّما جعل الاحتياط حسنا فقط.

وهذه الدعوى لا يبعد صحتها فإنّ الشارع لا يرضى بكون الاحتياط هو الأسلوب الوحيد للتعامل مع أحكامه لأنّ الشريعة سهلة سمحاء ، ولأنّها مبنية على التخفيف والتوسعة في كثير من الحالات ، فهذا كلّه يجعلنا نستبعد أن يكون العمل بالمظنونات كان لأجل موافقتها للاحتياط كما ذكرنا آنفا ، وإنّما كان العمل بالمظنونات من أجل حجيّة الظن وكاشفيّته عن الواقع ولو كشفا ناقصا ، ولذلك إمّا أن يكون العمل بالظن قد ثبت بشكل مطلق من الشارع ، وإمّا أن يكون العمل به قد ثبت بنحو خاص ، والأوّل يتوقّف على تماميّة مثل هذه الدليل والذي تقدّم النقاش في كثير من مقدماته ، والثاني هو المدّعى في خصوص الظهورات وخبر الثقة.

وعلى كلا التقديرين فالعمل بالظن لأجل كاشفيّته وحجيّته إما عقلا وإما تعبدا وإما بنحو مطلق وإما بنحو خاص ، وليس التعويل على الظن من باب كونه احتياطا لأنّ الاحتياط يقطع بكونه غير مطابق لروح الشريعة الإسلامية السمحاء.

وقد تلخص من استعراض أدلة الحجيّة أنّ الاستدلال بآية النبأ تام ، وكذلك بالسّنة الثابتة بطريق قطعي كسيرة المتشرّعة والسيرة العقلائيّة.

وإلى هنا نخلص بنتيجة مفادها : أنّ خبر الواحد حجّة لقيام الدليل الشرعي الخاص على حجيّته سواء من الكتاب الكريم كآية النبأ التي مفادها حجيّة خبر العادل الذي هو قسم من خبر الواحد ، أو من السنّة الشريفة القطعيّة الثابتة بسيرة المتشرّعة أو سيرة العقلاء القائمتين على العمل بخبر الثقة (١).

وبهذا يتمّ الدليل الخاص على انفتاح باب العلمي المانع من تماميّة الاستدلال بدليل الانسداد المبتني على انسداد باب العلمي كما تقدّم.

__________________

(١) وأمّا الإجماع فلا يمكن ادعاء كونه قائما على العمل بخبر الثقة ليجعل دليلا على حجيّته ، لأنّ الإجماع على خبر الثقة لا يمكن ادعاؤه مع وجود المخالف له بل مع وجود الإجماع على خلافه أيضا كما ادعاه البعض ، ولذلك لا يمكن جعله دليلا في المقام.

٢٧٧
٢٧٨

المرحلة الثانية

في تحديد

دائرة حجيّة الأخبار

٢٧٩
٢٨٠