شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

بما ذكره المفصّل في الغفلة بل يوجد لهذا الاحتمال مناشئ عديدة ومختلفة أيضا ، فإذا أريد نفي هذا الاحتمال بأصل عقلائي كأصالة عدم القرينة مثلا فلا بدّ أن يكون هذا الأصل العقلائي ذا حيثيّة كشف نوعيّة عن المراد والواقع.

وعلى هذا فلا بدّ أن نفتّش عن المناشئ التي يمكن على أساسها أن ينشأ احتمال وجود القرينة على الخلاف لنرى أنّه هل بالإمكان نفي هذا الاحتمال أم لا؟ فإذا كان بالإمكان نفيه فهذا يعني وجود أصل عقلائي له حيثيّة كشف نوعيّة تصحّح لنا نفي هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّ الاعتماد على أصالة عدم القرينة لنفي احتمال وجودها لا بدّ أن يكون له منشأ عقلائي وهذا يفترض مسبقا أن يكون هناك حيثيّة كشف نوعيّة لدى العقلاء يمكن الاستناد عليها وتبرير نفي هذا الاحتمال على أساسها ، فإذا أمكننا التوصل إلى هذا فلا يكون للتفصيل مورد ، وإلا لكان التفصيل في محلّه.

وعلى هذا فالبحث ينبغي أن ينصب على هذه النقطة بالذات ولا يكفي مجرّد ادعاء وجود مثل هذا الأصل عند العقلاء.

ومن هنا نقول : إنّ شكّ الشخص غير المقصود بالإفهام في إرادة المتكلّم للمعنى الظاهر ينشأ من أحد أمور :

الأوّل : احتمال كون المتكلّم متستّرا بمقصوده وغير مريد لتفهيمه بكلامه.

الثاني : احتمال كونه معتمدا على قرينة منفصلة.

الثالث : احتمال كونه معتمدا على قرينة متّصلة غفل عنها السامع.

الرابع : احتمال كونه معتمدا على قرينة ذات دلالة خاصّة متفق عليها بين المتكلّم وشخص آخر كان نظر المتكلّم إليه.

الخامس : احتمال وجود قرينة متّصلة التفت إليها السامع ولكنّه لم ينقلها إلينا ولو من أجل أنّها كانت متمثّلة في لحن الخطاب أو قسمات وجه المتكلّم ونحو ذلك ممّا لا يعتبر لفظا.

ونأتي الآن لاستعراض المناشئ التي توجب احتمال وجود القرينة على الخلاف ، وأنّ المتكلّم لم يرد ظاهر كلامه بالنسبة للشخص غير المقصود بالإفهام ، ولذلك نقول بأنّه توجد مناشئ خمسة لهذا الاحتمال ، وهي :

٣٨١

الأوّل : أن يكون المتكلّم متستّرا بمقصوده وغير مريد لتفهيم مراده الجدّي لغير المقصود بالإفهام ، أي أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان والتفهيم لمراده الجدّي بل كان في مقام الإجمال والإهمال والإخفاء ، وعلى هذا الأساس لم يرد ما هو ظاهر كلامه بل أظهر في كلامه ما هو مخالف لمراده الحقيقي والواقعي ، ولأجل ذلك لم يكن الظاهر حجّة لغير المقصود بالإفهام.

الثاني : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة منفصلة لبيان ما هو مراده الجدّي والواقعي ، ولهذا يكون مريدا لخلاف ما هو الظاهر من كلامه ، وإنّما مراده واقعا مطابق لما تحكيه هذه القرينة المنفصلة ؛ ولأجل ذلك لم يكن خطابه مبيّنا للشخص غير المقصود بالإفهام لأنّ مراده الجدّي غير ما هو الظاهر فعلا.

الثالث : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة متّصلة في كلامه إلا أنّ السامع غفل عنها ولذلك لم ينقلها إلى غيره ممّن لم يقصد بالإفهام ، فيكون احتمال عدم حجيّة ظاهر الكلام ناشئا من وجود هذه القرينة المتّصلة التي لم تنقل بسبب الغفلة عنها ، وبهذا يكون المراد الجدّي للمتكلّم على خلاف الظهور الفعلي الذي لم تذكر فيه القرينة.

الرابع : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة لها دلالة خاصّة وليست نوعيّة وعامّة ، وهذه القرينة الخاصّة تمّ الاتفاق عليها بين المتكلّم والمقصود بالإفهام بنحو لا يتمكن غير المقصود بالإفهام من معرفتها لأنّها ليست قرينة عامّة نوعيّة يفهمها العرف وأهل اللغة بل هي خاصّة متفق عليها بينهما.

الخامس : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة متّصلة التفت إليها السامع والمقصود بالإفهام فقط ، ولكنّه لم ينقلها إلينا باعتبار أنّ هذه القرينة لم تكن لفظية ، بل كانت لبّية أو قرينة حالية ، كالإشارة أو حركة اليد أو تقسيمات الوجه ونحو ذلك من القرائن غير اللفظيّة ، وعلى هذا لم يكن ظاهر كلامه حجّة لغير المقصود من أجل احتمال وجود مثل هذه القرينة.

فبأحد هذه المناشئ احتمل غير المقصود بالإفهام أنّ ظاهر كلام المتكلّم لم يكن هو المراد الجدّي والواقعي ، ولذلك لم يكن الظهور حجّة له.

والفرق بين المقصود بالإفهام وغيره أنّ المقصود بالإفهام لا يوجد الاحتمال

٣٨٢

الأوّل بشأنه ، وكذلك الاحتمال الرابع ، كما أنّ الاحتمال الخامس غير موجود بشأن السامع المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا بالإفهام أم لا.

وحجيّة الظهور في حق غير السامع ممّن لم يقصد إفهامه تتوقّف على وجود حيثيات كشف مبرّرة عقلائيّا لإلغاء الاحتمالات الخمسة بشأنه ، وهي موجودة فعلا ، بالبيان التالي :

والفرق في هذه الاحتمالات الخمسة بين المقصود بالإفهام وغيره هو أنّ الاحتمال الأوّل غير وارد بالنسبة للمقصود بالإفهام أصلا ؛ لأنّ كونه مقصودا بالإفهام يعني أن المتكلّم أراد أن يبيّن له على الأقلّ مراده الجدّي ، فهو في مقام البيان والتفهيم بالنسبة له ، ولا يتصور كونه مجملا ومهملا لمراده بالنسبة إليه ، لأنّه خلاف مراده من كونه مقصودا بالإفهام.

وأمّا الاحتمال الثاني فيستوي فيه المقصود بالإفهام وغيره ، بمعنى أنّ اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة معقول في نفسه بحقهما.

والاحتمال الثالث كذلك فإنّه يمكن للمتكلّم أن يعتمد على قرينة متّصلة يغفل عنها السامع المقصود بالإفهام وغيره.

وأمّا الاحتمال الرابع فلا يرد بحق المقصود بالإفهام إذ لا معنى لأنّ يتفق المتكلّم مع شخص آخر غيره على قرينة تبيّن المراد الجدّي من دون أن يكون المقصود بالإفهام عالما بها ، إذ هذا خلاف كونه مقصودا بالإفهام الذي يحتّم على المتكلّم أن يبيّن له كل ما هو دخيل في مراده الواقعي والذي من جملته هذه القرينة الخاصّة. نعم ، هذا الاحتمال وارد بحق من لم يقصد إفهامه.

وأمّا الاحتمال الخامس فهو لا يشمل المقصود بالإفهام وكذلك لا يشمل السامع الموجود في المجلس المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا بالإفهام أم لا ، لأنّ هذه القرينة اللبيّة أو الحاليّة كانت في المجلس والمفروض أنّ هذا الشخص كان موجودا هناك فيكون ملتفتا إليها أيضا.

ثمّ بعد ذلك نأتي إلى البحث حول إمكانية نفي هذه المناشئ والاحتمالات على أساس حيثيات كشف عقلائيّة نوعيّة فهل بالإمكان وجود مثل هذه الحيثيات الكاشفة التي يمكن على أساسها نفي احتمال وجود القرينة على الخلاف بحق غير المقصود بالإفهام أم لا؟

٣٨٣

والجواب : أنّ هذا ممكن ، لأنّه توجد هذه الحيثيات الكاشفة لإبطال كل المناشئ لاحتمال وجود القرينة على الخلاف ؛ ولتوضيح ذلك نذكر الحيثية الكاشفة في كل واحد من هذه الاحتمالات فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل فينفى بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام تفهيم مراده بكلامه.

أمّا الاحتمال الأوّل القائم على أساس الاخفاء والإجمال لمن لم يقصد إفهامه ، فهذا يمكن إبطاله ونفيه بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي والواقعي في شخص كلامه ، وهذا الظهور يشمل المقصود بالإفهام وغيره على حدّ سواء ، لأنّ الإجمال والإخفاء مخالف لما هو المتعارف عند أهل اللسان والمحاورة من العقلاء ، ولذلك يكون نفي هذا الاحتمال قائما على حيثيّة كشف نوعيّة وهي أنّه مخالف للعقلاء والعرف.

وأمّا الاحتمال الثاني فينفى بظهور حاله في أن ما يقوله يريده ، أي أنّه في مقام تفهيم مراده بشخص كلامه.

وأمّا الاحتمال الثاني القائم على أساس اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة ، فهذا يمكن إبطاله على أساس التمسّك بظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي الواقعي ، ولما هو دخيل في موضوع حكمه بنفس هذا الخطاب وشخصه فينعقد مراده الجدّي على طبق ما يذكره ويبيّنه في شخص كلامه فقط فيكون ظاهر كلامه حجّة ، بحيث يكون اعتماد المتكلم على القرائن المنفصلة حالة نادرة واستثنائيّة عند العقلاء والعرف وأهل المحاورة ، ولذلك ينفى هذا الاحتمال على أساس حيثيّة الكشف النوعيّة العقلائيّة من عدم الاعتماد على القرائن المنفصلة غالبا إلا إذا أحرز ذلك في مورد خاص ، ومع عدم إحراز ذلك يتمسك بظاهر الكلام لاكتشاف المراد الجدّي والواقعي.

وأمّا الاحتمال الثالث فينفى بأصالة عدم الغفلة

وأمّا الاحتمال الثالث القائم على أنّ المتكلّم ذكر قرينة متّصلة غفل عنها السامع ولم ينقلها ، فهذا يمكن إبطاله بأصالة عدم الغفلة ، والتي هي من الأصول العقلائيّة الكاشفة عن المراد الجدّي على أساس أنّ الغالب كون الإنسان ملتفتا لما يقوله ويسمعه

٣٨٤

وينقله إلا إذا ثبت الخلاف في مورد خاص ، وهنا لم تثبت الغفلة لا بحق المتكلّم ولا بحق السامع ولا بحق المنقول إليه.

وأمّا الاحتمال الرابع ـ وهو ما أبرزه المفصّل ـ فينفى بظهور حال المتكلّم العرفي في استعمال الأدوات العرفية للتفهيم ، والجري وفق أساليب التعبير العام.

وأمّا الاحتمال الرابع الذي أبرزه صاحب هذا التفصيل من إمكان اعتماد المتكلّم على قرينة خاصّة متفق عليها بينه وبين المقصود بالإفهام فقط ، فهذا يمكن إبطاله ونفيه بالتمسّك بظهور حال المتكلّم العرفي في أنّه يستعمل الأدوات والألفاظ والقرائن المتعارفة عند أهل اللغة والمحاورة وفقا لأساليب التعبير العام وطبقا لما هو ثابت في اللغة ، ولذلك يكون اعتماده على قرائن خاصّة جدا حالة شاذة ونادرة عمّا هو المتعارف ، وهذا الاحتمال ينفى بأنّ المتكلّم يتبع ما هو المتعارف عند أهل لغته وعرفه ولا يشذّ عنهم إلا إذا ثبت في مورد خاص ذلك ، وأمّا مع الشك والاحتمال فيحمل على أنّه استعمل وعبّر بما هو المتعارف فقط ، وهذا يشمل المقصود بالإفهام وغيره ، لأنّهما معا من أبناء العرف واللغة.

وأمّا الاحتمال الخامس فينفى بشهادة الناقل ـ ولو ضمنا ـ بعدم حذف ما له دخل من القرائن الخاصّة في فهم المراد.

وأمّا الاحتمال الخامس القائم على أساس أنّ السامع التفت إلى القرينة لكنّه لم ينقلها إلينا فهذا ينفى بشهادة الناقل الضمنيّة في أنّه استوعب في نقله تمام ما هو دخيل في مراد المتكلّم الجدّي الواقعي ، لأنّ عدم النقل لهذه القرينة إن كان عمدا فهو خلاف إحراز وثاقته التي هي شرط في حجيّة نقله ، وإن كان غفلة ونسيانا وسهوا فهو خلاف أصالة عدم الغفلة ، ولذلك فلا يوجد مبرّر لعدم النقل إلا أنّ المتكلّم لم يذكرها في كلامه أو ليست دخيلة في تحديد المراد الجدّي للمتكلّم ، وبهذا يكون ظاهر الكلام حجّة لغير المقصود بالكلام أيضا ، لأنّ هذا الاحتمال منفي بحيثية كشف نوعيّة عقلائيّة كما أوضحنا.

وبهذا ظهر أنّ هذا التفصيل غير صحيح.

القول الثاني : وتوضيحه : أنّ ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظن ـ على

٣٨٥

الأقلّ ـ بأنّ مراد المتكلّم هو المعنى الظاهر ، لأنّه أمارة ظنيّة كاشفة عن ذلك ، فإذا لم تحصل أمارة ظنيّة على خلاف ذلك أثّر الظهور فيما يقتضيه وحصل الظن الفعلي بالمراد ، وإذا حصلت أمارة ظنيّة على الخلاف وقع التزاحم بين الأمارتين فقد لا يحصل حينئذ ظنّ فعلي بإرادة المعنى الظاهر بل قد يحصل الظن على خلاف الظهور تأثرا بالأمارة الظنية المزاحمة.

وعلى هذا فقد يستثنى من حجيّة الظهور حالة الظن الفعلي بعدم إرادة المعنى الظاهر ، بل قد يقال بأنّ حجيّة الظهور أساسا مختصّة بصورة حصول الظن الفعلي على وفق الظهور.

ويمكن تبرير هذا القول بأنّ حجيّة الظهور ليست حكما تعبديّا ، وإنّما هي على أساس كاشفيّة الظهور ، فلا معنى لثبوتها في فرض عدم تأثير الظهور في الكشف الظني الفعلي على وفقه.

التفصيل الثاني : ما ذكره المحقّق النراقي من أنّ حجيّة الظهور يشترط فيها عدم الظن الفعلي بالخلاف ، فإذا حصل ظن فعلي بالخلاف فلا يكون الظهور حجّة.

وتوضيح ذلك : أنّ ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظن بأنّ المتكلّم يريد واقعا وجدّا ما هو ظاهر من كلامه ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الظهور يعتبر أمارة عقلائيّة كاشفة عن الواقع والمراد الجدّي ، وهذا يجعل الظهور مفيدا للظن على أقل تقدير ، وحينئذ فهذا الظن الحاصل من الظهور يكون حجّة ويجوز التمسّك به والتعويل عليه إذا لم يكن هناك ظن فعلي على خلافه ، وإلا سوف يتعارض الظن النوعي الحاصل من الظهور مع الظن الفعلي الحاصل للشخص من وجود أمارة ظنيّة أخرى على خلافه ، سواء كانت معتبرة شرعا أم لا ، وعليه فيحصل التزاحم والتعارض بين هاتين الكاشفيتين فإنّ كان الظهور الفعلي المخالف أقوى فهذا يعني تقديمه على الظن الحاصل من الظهور ، وإن لم يكن أقوى فهو مانع ومزاحم للعمل بالظن الحاصل من الظهور لأنّه لن يوجب حصول الظن الشخصي الفعلي بالوفاق.

وبتعبير آخر : أنّ الظن الحاصل من الظهور إما ألا يكون هناك ظن فعلي شخصي على خلافه وإما أن يكون هناك ظن فعلي على خلافه ، وإما أن يكون هناك ظني فعلي شخصي على وفاقه.

٣٨٦

فإذا كان هناك ظن فعلي على وفاقه أو لم يكن ظن فعلي على خلافه فالظهور حجّة ، وأمّا إذا كان هناك ظن فعلي شخصي على خلافه فلا يكون حجّة.

والوجه في ذلك أنّ الكاشفيّة الظنية الحاصلة من الظهور تتعارض مع الكاشفيّة الظنية الحاصلة من الأمارة على الخلاف ، سواء كانت حجّة شرعا أم لا ، كالقياس مثلا أو الشهرة الفتوائية ونحوها ، وحينئذ إما أن تكون الأمارة الظنية الشخصيّة على الخلاف أقوى فتقدّم على الظهور ، وإما ألا تكون أقوى فتعارضه وتزاحمه وتمنع عن تماميّة كاشفيّته.

وبهذا ظهر وجه التفصيل المذكور فإنّ الظهور حجّة إلا فيما إذا كان هناك أمارة عقلائيّة ـ وإن لم تكن حجّة شرعا ـ موجبة للظن الشخصي لا النوعي بالخلاف ، فلا يكون الظهور حجّة حينئذ.

بل قد يقال أكثر من ذلك : وهو التفصيل بين الظهور الذي قام الظن الشخصي الفعلي على وفاقه فهو حجّة ، وبين الظهور الذي لم يقم ظن فعلي على وفاقه سواء كان هناك ظن فعلي على خلافه أم لا ، فلا يكون حجّة.

فتكون حجيّة الظهور من الأساس مشروطة بحصول ظن شخصي على الوفاق ولا يكفي الظن النوعي.

والوجه في ذلك أنّ حجيّة الظهور ليست حكما تعبّديا لأنّها أصل عقلائي ، والأصول العقلائيّة إنّما تكون على أساس حيثيّة كشف نوعيّة ، فإذا لم يكن هناك كشف فلا معنى للقول بحجيّة الظهور. وعليه ، فإذا لم يكن الظهور مؤثّرا في حصول الظن للشخص فلا معنى للتمسّك به ، والقول بحجيّته ، لأنّه في هذه الحالة يكون العمل به تعبديّا وهو خلاف المفروض في الأمارات والأصول العقلائيّة ، ولذلك يجب أن يكون الظهور مؤثّرا ومفيدا لحصول الظن لدى الشخص بالوفاق ، فإنّه في هذه الحالة يكون كاشفا عن المراد الجدّي والواقعي.

ومن الأمثلة التي طرحت لهذا التفصيل هو ما إذا كان هناك خبر صحيح وقامت الشهرة على خلافه مع أنّ الشهرة ليست حجّة ولكنها توجب المنع من العمل بهذا الظهور.

وكذا لو كان لدينا عموم أو إطلاق وكان هناك خبر مجمل يحتمل كونه

٣٨٧

مخصّصا أو مقيّدا فإنّه يمنع من التمسّك بالعموم والإطلاق ، وكذلك لو كان هناك كلام ظاهر في معناه الحقيقي ووجد ما يصلح أن يكون صارفا له إلى المجاز ، فإنّه يمنع من حمله على الحقيقة.

فهذه الأمثلة كلّها ترجع إلى أنّه لا يحصل ظن فعلي للشخص على الوفاق ، ولذلك لا يمكن التمسّك بالظهور.

وقد اعترض الأعلام على هذا التفصيل بأنّ مدرك الحجيّة بناء العقلاء ، والعقلاء لا يفرّقون بين حالات الظن بالوفاق وغيرها ، بل يعملون بالظهور فيها جميعا ، وهذا يكشف عن الحجيّة المطلقة.

واعترض على هذا التفصيل بأنّه مخالف لسيرة العقلاء والعلماء وأهل اللغة فإنّهم لا يتوقّفون في العمل بالظهور إلا إذا ثبت بدليل معتبر عدم إرادته ، وأمّا إذا لم يتمّ مثل هذا الدليل فلا يفرّقون في حجيّة الظهور والتمسّك به بين ما إذا كان هناك ظن شخصي فعلي على خلافه أم لا ، لأنّ المناط هو وجود الظن النوعي ، حيث إنّ مدرك حجيّة الظهور هو بناء العقلاء وسيرتهم القائمة على أساس كاشفيّة الظهور النوعيّة عن المراد والواقع ، وهذا الظن النوعي لا يرفع اليد عنه ـ بعد أن كان حجّة عقلائيّة ممضاة من الشارع أيضا ـ إلا إذا وجدت حجّة أقوى منه ، والمفروض هنا أنّه لا توجد مثل هذه الحجيّة ، ومجرّد الظن الشخصي بخلافه أو عدم الظن الشخصي بوفاقه لا يكون مانعا عن العمل بالظهور بعد أن كان كاشفا نوعيّا عن المراد والواقع.

والحاصل : أنّ العقلاء يبنون على الظهور وعلى حجيّته مطلقا في كل الموارد والحالات باعتباره كاشفا نوعيّا ، إلا إذا كان هناك أمارة ظنيّة نوعيّة معارضة له فلا يكون حجّة في هذه الحالة ، وأمّا الظن الشخصي على الوفاق أو الخلاف فلا مدخليّة له في الحجيّة ؛ ليكون وجوده وعدمه مؤثّرا في بقاء حجيّته وعدمها.

وهذا الاعتراض من الأعلام قد يبدو غير صحيح بمراجعة حال الناس ، فإنّا نجد أنّ التاجر لا يعمل بظهور كلام تاجر آخر في تحديد الأسعار إذا ظنّ بأنّه لا يريد ما هو ظاهر كلامه ، وأنّ المشتري لا يعتمد على ظهور كلام البائع في تحديد وزن السلعة إذا ظنّ بأنّه يريد غير ما هو ظاهر كلامه ، وهكذا.

وهذا الكلام من العلماء على إطلاقه غير صحيح ، فإنّ العقلاء يمتنعون عن العمل

٣٨٨

بالظهور في بعض الموارد التي يكون فيها ظن فعلي شخصي على الخلاف ، أو لا يكون فيها ظن فعلي على الوفاق ، وليس دائما يبنون على حجيّة الظهور.

فمثلا التاجر الذي يخبره تاجر آخر بأسعار السلع وأنّه يجب بيعها بهذا الثمن فقط لا أكثر ، فإنّه إذا حصل لهذا التاجر ظن شخصي فعلي بأنّ هذا التاجر الذي أخبره بتحديد أسعار السلع لا يريد ما هو ظاهر كلامه واقعا وجدّا ، وإنّما أخبره بذلك لرغبات شخصيّة ونحو ذلك ، فهنا لا يتمسّك هذا التاجر بظهور كلامه ويعتمده حجّة بل لا يتأمّل فيه أصلا.

وكذا الحال بالنسبة للمشتري الذي يخبره البائع بثمن السلعة فإنّه إذا حصل له ظن شخصي بالخلاف أو لم يظن بالوفاق لا يعمل بظهور كلام البائع بل يسأل غيره ولعلّه يتركه فورا ولا يبتاع منه.

فهذا كلّه دليل وشاهد وجداني على أنّ العقلاء يفرّقون بين الظهور الذي لا يوجد ظن فعلي على خلافه أو الظن على وفاقه وبين الظهور الذي يوجد على خلافه ظن شخصي أو لا يحصل على وفاقه ظن شخصي.

وليس كما قال الأعلام أنهم مطلقا وفي كل الحالات يعملون بالظهور ولا يفرّقون بين الحالات الشخصيّة وغيرها.

ومن هنا عمّق المحقّق النائيني رحمه‌الله اعتراض الأعلام ، إذ ميّز بين العمل بالظهور في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ، والعمل به في مجال الامتثال وتنظيم علاقات الآمرين بالمأمورين.

ففي المجال الأوّل لا يكتفى بالظهور لمجرّد اقتضائه النوعي ما لم يؤثّر هذا الاقتضاء في درجة معتدّ بها من الكشف الفعلي ، وفي المجال الثاني يكتفى بالكشف النوعي الاقتضائي للظهور تنجيزا وتعذيرا ، ولو لم يحصل ظن فعلي بالوفاق أو حصل ظن فعلي بالخلاف.

والأمثلة المشار إليها تدخل في المجال الأوّل لا الثاني.

ومن أجل ما ذكرناه من أمثلة تدلّ على أنّ العقلاء يفرّقون بين حالات الظهور ، عمّق الميرزا اعتراض الأعلام بنحو آخر.

فقال : إنّ العمل بالظهور في حياة العقلاء على نحوين :

٣٨٩

فتارة يعمل العقلاء بالظهور في مجال تحصيل الأغراض التكوينيّة الشخصيّة.

وأخرى يعملون بالظهور في مجال الأغراض التشريعيّة فيما بينهم أي بين الآمرين والمأمورين.

فإذا أريد المجال الأوّل أي الاعتماد على الظهور من أجل اكتشاف وتحصيل الغرض الشخصي التكويني بأن كان للشخص غرض في معرفة معنى الكلمة ليضعها في كتابه أو رسالته ، فهنا يكون الظهور حجّة ما لم يقم على خلافه ظن فعلي شخصي أو لم يكن على وفاقه ظنّ كذلك ؛ وذلك لأنّ هذا الشخص لا يكتفي بالاعتماد على الظن النوعي الحاصل من الظهور لتحصيل غرضه الشخصي إلا اذا كان هذا الظهور النوعي يفيد لديه حصول الظن الشخصي الفعلي أيضا ، وإلا فلا يكون طريقا للغرض الشخصي ، بمعنى أنّ كل عاقل من العرف إذا كان له غرض شخصي خاص به يريد تحصيله فإنّه يتبع ويستخدم الطرق والوسائل التي تؤدّي إلى تحصيل هذا الغرض بنظره واعتقاده لا بنظر واعتقاد الآخرين. وعليه فإذا كانت وسائل وطرق الآخرين توجب تحصيل الغرض بنظره فيأخذ بها من باب أنّها كاشفة عن الواقع والمراد كشفا معتدّا به في نظره لا في نظرهم ، وإلا فلا يأخذ بها.

وإذا أريد المجال الثاني أي الاعتماد على الظهور لتنظيم العلاقات بين الآمرين والمأمورين فهنا لا يوجد غرض شخصي بل هناك غرض نوعي عام بين كل آمر وكل مأمور ، بمعنى أنّ كل آمر يعتمد على الطرق والأساليب التي تستخدم عادة وعرفا ونوعا بين كل آمر مع مأموريه ، ولذلك يكون الظهور النوعي الكاشف عن الواقع عند عامّة الناس من العقلاء وأبناء اللغة وأهل المحاورة ، حجّة لأنّه يراد به إثبات التنجيز أو التعذير من خلال ظاهر كلام الآمر وهذا يرتبط بمدلول الكلام لا بما يفهمه كل شخص لوحده ، لأنّ الآمر لا يوجّه كلامه وخطابه لهذا الشخص دون ذاك وإنّما للعموم ، وبما أنّ كلامه لهم جميعا واحد فيجب أن يكون مراده الجدّي الواقعي واحد أيضا.

وهذا لا يمكن إلا إذا استند على تفسير كلامه بما هو المتّفق عليه عند النوع بأن يؤخذ بظاهر كلامه لأنّه كاشف نوعي لدى الجميع ، بخلاف الظن الشخصي بالوفاق أو عدم الظن الشخصي بالخلاف فإنّه يختلف من شخص لآخر ، ولذلك يختلف فهم وتفسير مراد المولى وبالتالي يختلّ نظام العلاقة بين الآمر والمأمور.

٣٩٠

وبهذا ظهر أنّه في الأغراض الشخصيّة يبنى في حجيّة الظهور على عدم وجود ظن بالخلاف أو على وجود ظن بالوفاق.

بينما في الأغراض التشريعيّة يبنى على حجيّة الظهور مطلقا سواء كان هناك ظن بالوفاق أم لا وسواء كان هناك ظن بالخلاف أم لا.

والأمثلة التي ذكرت سابقا كانت داخلة في الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ولذلك احتاج العمل بالظهور إلى عدم وجود ظن على خلافه أو على وجود ظن بوفاقه.

وهذا الكلام وإن كان صحيحا وتعميقا لاعتراض الأعلام ، ولكنّه لا يبرز نكتة الفرق بين المجالين ولا يحلّ الشبهة التي يستند إليها التفصيل على النحو الذي شرحناه آنفا.

وهذا الكلام من الميرزا متين وصحيح في نفسه ، إلا أنّه لا يبرز النكتة التي على أساسها كان الظهور حجّة في مجال الأغراض التشريعيّة ولم يكن حجّة في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، وعليه فيمكن أن يقال اعتراضا على كلامه بأنّ حجيّة الظهور ما دامت ليست تعبديّة محضة لأنّها من الأصول العقلائيّة التي تكون بلحاظ ما لها من حيثيّة كشف عن الواقع والمراد فكيف كانت هذه الكاشفيّة حجّة في الأغراض التشريعيّة وليست حجّة في الأغراض الشخصيّة مع أنّ الكاشفيّة فيهما على حدّ سواء.

وعليه ، فالشبهة تبقى على حالها أو أنّه أجاب عن الشبهة السابقة إلا أنّه حصلت شبهة أخرى لا بدّ من الإجابة عنها.

فالتحقيق الذي يفي بذلك أن يقال :

إنّ ملاك حجيّة الظهور هو كشفه ، ولكن لا كشفه عند المكلّف بل كشفه في نظر المولى ، بمعنى أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه فتارة يلحظها بنظرة تفصيلية فيستطيع بذلك أن يميّز بصورة جازمة ما أريد به ظاهره عن غيره ، لأنّه الأعرف بمراده ، وأخرى يلحظها بنظرة إجماليّة فيرى أنّ الغالب هو إرادة المعنى الظاهر ، وذلك بجعل الغلبة كاشفا ظنيا عند المولى عن إرادة المعنى الظاهر بالنسبة إلى كل كلام صادر منه حينما يلحظه بنحو الإجمال ، وهذا الكشف هو ملاك الحجيّة لوضوح أنّ حجيّة الأمارة حكم ظاهري وارد لحفظ الأغراض الواقعيّة الأكثر

٣٩١

أهمية ، وهذه الأهميّة قد اكتسبتها الأغراض الواقعيّة التي تحفظها الأمارة المعتبرة بلحاظ قوّة الاحتمال ، كما تقدّم في محلّه.

ومن الواضح أنّ قوّة الاحتمال المؤثّرة في اهتمام المولى إنّما هي قوّة احتماله لا قوّة احتمال المكلّف ، فمن هنا تناط الحجيّة بحيثية الكشف الملحوظة للمولى وهي الظهور لا بالظن الفعلي لدى المكلّف.

والتحقيق في الإجابة عن هذا التفصيل مع إبراز نكتة الفرق بين الأغراض التشريعيّة والأغراض الشخصيّة ، أن يقال : إنّ ملاك حجيّة الظهور هو كونه كاشفا عن المراد والواقع ، وهذا الكشف بلحاظ ما رآه المولى لا المكلّف ، ولذلك فيكون المدار على وجود الكاشفيّة للظهور وعدمها عند المولى ، لا عند المكلّف.

وتوضيح ذلك : أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه الصادرة منه في مقام التشريع أي الأوامر والنواهي يكون بين أمرين :

الأوّل : أن يلحظ هذه الظواهر بنحو التفصيل بأن يلحظ كل ظهور ظهور ، فهنا يمكنه أن يميّز بصورة قاطعة بين الظهور الذي يكشف عن مراده الواقعي وبين الظهور الذي لا يفي بذلك ، بمعنى أنّ المولى باعتباره عالما بمراده الجدّي الواقعي يمكن أن يلحظ هذا الظهور ليرى هل هو كاشف عن مراده أو ليس بكاشف؟ وهنا يعطي المولى ضابطة شخصيّة تتعلّق بكل ظهور تبعا لما لاحظه بنفسه تفصيلا من كاشفيّته وعدمها.

الثاني : أن يلحظ المولى ظواهر كلامه بصورة عامّة وإجماليّة في مجموع ظواهر كلامه لا كل ظهور ظهور ، فهنا إمّا أن يرى أنّ الغالب في هذه الظهورات كونها كاشفة عن مراده الجدّي أو يرى أنّ الغالب فيها عدم الكاشفيّة أو لا يكون هناك أغلبيّة لشيء منهما ، فإذا لم يكن الأغلب فيها الكاشفيّة ، أو كان احتمال الكاشفيّة وعدمها متساويا فيها فهنا لن يجعل الشارع الظهور حجّة ، وهذا يستدعي منه أن يصدر حكما ظاهريّا ينهى فيه عن العمل بظواهر كلامه باعتبار أنّ السيرة العقلائيّة منعقدة على العمل بالظهور ممّا يحتّم على الشارع الردع والنهي في حالة مخالفته.

وقد تقدّم سابقا أنّ الشارع سكت ولم يردع عن هذه السيرة ممّا يعني أنّه أمضى السيرة المذكورة ، وهذا يعني أنّ الشارع قد لاحظ أنّ الأغلب في مجموع الظهورات

٣٩٢

أن تكون كاشفة عن مراده الواقعي ، وحينئذ يجعل الشارع هذه الغلبة كاشفا ظنيا عن المراد الجدّي والواقعي للكلام الصادر منه.

والطريق الذي اختاره الشارع هو الثاني لا الأوّل لأنّه الأوثق بتنظيم العلاقة بين الشارع وعبيده والأسهل بالنسبة إلى كيفيّة جعل الأحكام وأنّها عامّة وشاملة لكل المكلّفين في كل زمان ومكان.

وعلى هذا الأساس نصل إلى أنّ حجيّة الظهور كانت بملاك أنّ الغالب في الظهورات عند ما يلحظها الشارع بصورة إجماليّة هو كونها كاشفة عن المراد الواقعي للكلام الصادر منه ، فملاك الحجيّة هو هذه الكاشفيّة لدى الشارع.

والدليل على ذلك : هو أنّ حجيّة الظهور من الأمارات التكوينيّة الكاشفة عن الواقع ؛ لأنّه بناء على ما ذكرنا كان جعل الشارع الحجيّة للظهور باعتبار غلبة كشفه عن الواقع ، وقد تقدّم في بحث الحكم الظاهري أنّه على ثلاثة أقسام : لأنّه إما أن يكون بملاك قوّة الاحتمال أي الكاشفيّة فقط أو بملاك قوّة المحتمل فقط من دون ملاحظة الكشف فيه ، أو بملاك المحتمل والاحتمال معا ، والأوّل هو الأمارة ، والثاني هو الأصل العملي المحض ، والثالث هو الأصل المحرز أو التنزيلي.

وبما أنّ الحجيّة كانت بملاك الغلبة الكاشفة عن الواقع فهي إمارة ؛ لأنّه من خلال هذه الكاشفيّة يكون الشارع قد لاحظ ما هو الأهم من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف لها ، فعند ما يجعل الشارع الظهور حجّة من باب الكاشفيّة فهذا يعني أنّ الظهور والعمل به يكون أحفظ لملاكات وأغراض الشارع الواقعيّة من غيره.

ومن الواضح أيضا كما تقدّم أن قوّة الاحتمال والكاشفيّة التي تجعل الشيء أمارة إنّما هي الكاشفيّة بنظر المولى لأنّه الأعرف بأغراضه الواقعيّة وبكيفيّة الحفاظ عليها لأنّ المولى هو الذي يشخّص هذه الأهميّة باعتبارها تتعلّق بأحكامه هو ، وليس للمكلف أيّة مدخليّة في ذلك.

ومن هنا نعرف أنّ مناط الحجيّة للظهور هو كونه كاشفا عن الملاكات الواقعيّة وأنّه الأهم في مقام الحفاظ عليها ، وهذا يستلزم أن يكون الشارع هو الذي شخّص هذه الكاشفيّة والأهميّة لا المكلّف ، ولذلك فيكون الظهور حجّة باعتباره كاشفا بنظر

٣٩٣

المولى بقطع النظر عن حال المكلّف وأنّه سوف يحصل له ظن فعلي شخصي بالوفاق أو بالخلاف أم لا.

وعلى هذا الأساس اختلف مجال الأغراض التكوينيّة عن مجال علاقات الآمرين بالمأمورين ؛ إذ المناط في المجال الأوّل كاشفيّة الظهور لدى نفس العامل به فقد يكون منوطا بحصول الظن له ، والمناط في المجال الثاني مقدار كشفه لدى الآمر الموجب لشدة اهتمامه الداعية إلى جعل الحجيّة.

وعلى هذا الأساس نعرف وجه الفرق بين الأغراض الشخصيّة التكوينيّة وبين الأغراض التشريعيّة ، فإنّه في الأغراض الشخصيّة تكون حجيّة الظهور منوطة بالكشف الظني الذي يحصل لنفس الشخص الذي يريد العمل بالظهور إذ لا يوجد طرف آخر غيره ، وهنا يعقل التفصيل بين الظهور الذي لا يوجد ظن على خلافه فهو حجّة دون غيره ، أو الظهور الذي يوجد ظن على وفاقه فهو حجّة دون غيره.

بينما في الأغراض التشريعيّة حيث يوجد طرفان ( آمر ومأمور ) فإنّ المناط في حجيّة الظهور كون الظهور كاشفا عن المراد لدى شخص الآمر ، لأنّ حجيّته كما ذكرنا باعتباره كاشفا عن الملاكات الواقعيّة الأهم في مقام الشك والاختلاط وعدم التمييز والشارع والآمر هو الذي يشخّص هذه الغالبيّة والأهميّة ، ولذلك لا مدخليّة لظن المكلّف لا بالوفاق ولا بالخلاف ، بل المناط على ظهور الكلام عند النوع ؛ لأنّ الشارع لم يلاحظ شخص المكلّف ولا كل ظهور وإنّما لاحظ مجموع الظهورات لكل المكلّفين.

فالصحيح إذا عدم التفصيل هنا ، بل الظهور حجّة مطلقا ولا عبرة بالظن الفعلي على الخلاف أو على الوفاق.

* * *

٣٩٤

الخلط بين الظهور والحجيّة

٣٩٥
٣٩٦

الخلط بين الظهور والحجيّة

اتّضح ممّا تقدّم أن مرتبة الظهور التصوّري متقوّمة بالوضع ، ومرتبة الظهور التصديقي بلحاظ الدلالة التصديقيّة الأولى والدلالة التصديقيّة الثانية متقوّمة بعدم القرينة المتّصلة ، لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه يفيد مراده بشخص كلامه ، فإذا كانت القرينة متّصلة دخلت في شخص الكلام ولم يكن إرادة ما تقتضيه منافيا للظهور الحالي ، وأمّا عدم القرينة المنفصلة فلا دخل له في أصل الظهور وليس مقوّما له ، وإنّما هو شرط في استمرار الحجيّة بالنسبة إليه.

تقدّم سابقا أنّ الظهور ينقسم إلى قسمين : تصوّري ، وتصديقي.

والظهور التصوّري : هو المعنى الذي يخطر في الذهن من سماع اللفظ ، ولذلك يتوقّف على وضع اللفظ للمعنى.

والظهور التصديقي ـ وهو على نحوين ـ : الظهور التصديقي على مستوى الدلالة التصديقيّة الأولى أي الإرادة الاستعمالية ، والظهور على مستوى الدلالة التصديقيّة الثانية أي الإرادة الجديّة.

وهذا الظهور يتوقّف على عدم وجود القرينة المتّصلة على الخلاف فإنّ كل متكلّم يؤخذ بمراده الجدّي الظاهر من كلامه فعلا أي ما يكون مرادا جديّا له بشخص كلامه لا بكلام آخر سوف يأتي فيما بعد.

وعلى هذا فنقول : إنّ لم تكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف كان المدلول التصديقي مطابقا للمدلول التصوّري وانعقد المراد الجدّي على طبقه ، وإن كان هناك قرينة على الخلاف فإنّ المراد الجدّي ينعقد على خلاف الظهور التصوّري وهذا يعني أنّ الظهور التصوّري محفوظ دائما حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف فضلا عن المنفصلة ، ويعني أيضا أنّ القرينة المتّصلة تدخل في تكوين المراد الجدّي والظهور

٣٩٧

التصديقي باعتبارها ممّا ذكره في شخص كلامه ، ولا منافاة بين كون مراده الجدّي على طبق هذه القرينة المتّصلة وبين ظهور حاله في أنّ كل ما يريده فإنّه يذكره في شخص كلامه ، وذلك لأنّه ذكر أنّ مراده على طبق هذه القرينة المتّصلة فلا يكون مخالفا لظهور عرفي سياقي.

وأمّا القرينة المنفصلة فوجودها وعدمها لا يؤثّر على أصل انعقاد الظهور ، بمعنى أنّ الكلام إذا تمّ ولم يذكر المتكلّم قرينة على خلافه فينعقد مراده الجدّي على طبق ما ظهر من كلامه ويكون ظهور كلامه حجّة وكاشفا عن المراد الواقعي ، فإذا جاءت بعد ذلك قرينة منفصلة على خلاف هذا الظهور كانت معارضة له وبالتالي قد تتقدم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي ، فترتفع حجيّة الظهور من حين مجيء هذه القرينة المنفصلة لا من أوّل الأمر ، بمعنى أنّ استمرار حجيّة الظهور ينهدم ، وأمّا إذا لم تأت القرينة المنفصلة على الخلاف فيستمر الظهور على حجيّته.

وبهذا نعرف أنّ القرينة المنفصلة ليست مقوّمة لأصل الظهور وانعقاده ، وإنّما هي شرط في استمرار حجيّة الظهور وعدمه ، بخلاف القرينة المتّصلة فإنها مقوّمة لأصل انعقاد الظهور لأنّها تدخل في شخص كلام المتكلّم فتكون دخيلة في أصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة.

ومن هنا يتّضح وجه الخلط في كلمات جملة من الأكابر الموهمة لوجود ثلاث رتب من الظهور كلّها سابقة على الحجيّة ، ككلام المحقّق النائيني رحمه‌الله ، وهي :

الأولى : مرتبة الظهور التصوّري.

الثانية : مرتبة الظهور التصديقي على نحو يسوّغ لنا التأكيد على أنّه قال كذا وفقا لهذا الظهور.

الثالثة : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الواقعي على نحو يسوّغ لنا التأكيد على أنّه أراد كذا وفقا لهذه المرتبة من الظهور.

والأولى لا تتقوّم بعدم القرينة ، والثانية تتقوّم بعدم القرينة المتّصلة ، والثالثة تتقوّم بعدم القرينة مطلقا ولو منفصلة.

والحجيّة حكم مترتّب على المرتبة الثالثة من الظهور ، فمتى وردت القرينة المنفصلة ـ فضلا عن المتّصلة ـ هدمت المرتبة الثالثة من الظهور ورفعت بذلك موضوع الحجيّة.

٣٩٨

إلا أنّ بعض كلمات الأعلام وقع فيها خلط بين الظهور والحجيّة ، كما حصل بالنسبة لكلام الميرزا حيث ذكر : أنّ هناك ثلاث مراتب من الظهور كلّها سابقة على الحجيّة ، والحجيّة مترّتبة عليها ، هي :

أوّلا : مرتبة الظهور التصوّري للكلام ، وهذه المرتبة لا تتقوّم بالقرينة مطلقا لا المتّصلة ولا المنفصلة ، كما ذكرنا لأنّها ناشئة من الوضع ، ولذلك فإنّ هذه المرتبة محفوظة دائما حتّى مع القرينة على الخلاف.

وثانيا : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن أنّه أراد إخطار هذا المعنى في ذهنه وفي ذهن السامع ، أي الارادة الاستعمالية ، وهذه المرتبة متقوّمة بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، بمعنى أنّه إذا لم يذكر القرينة المتّصلة على الخلاف دلّ ذلك على أنّه قد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي الموضوع له تصوّرا ووضعا ، وإذا ذكر القرينة المتّصلة اختل هذا الظهور وانعقد للكلام ظهور آخر في أنّه أراد استعمال اللفظ في غير المعنى الذي وضع له على سبيل المجاز لا الحقيقة.

وثالثا : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الجدّي الواقعي على نحو يمكننا التأكيد بأنّه أراد واقعا وجدّا هذا المعنى الذي ظهر من كلامه ، وهذا ـ باعتقاد الميرزا ـ متوقف على عدم ذكر القرينة مطلقا المتّصلة والمنفصلة ، خلافا لما اخترناه من أنّه متوقف على عدم القرينة المتّصلة فقط.

وعلى مبناه فإذا جاءت القرينة المنفصلة على الخلاف دلّت على عدم انعقاد ظهور كلامه في معناه الذي ظهر منه في أوّل الأمر ، فتكون رافعة وهادمة لأصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع حجيّة الظهور ، وهذا يعني أنّ حجيّة الظهور متوقفة على عدم ذكر القرينة المنفصلة فضلا عن المتّصلة.

والحاصل : أنّ القرينة المنفصلة ـ على مبنى الميرزا ـ تهدم أصل الظهور من أوّل الأمر لا أنّها تهدم استمرار حجيّة الظهور فقط ، وهذا الكلام منه خلط بين الظهور وبين الحجيّة ، فإنّه جعل الظهور متوقفا على عدم ذكر القرينة المنفصلة ، بينما الصحيح هو أنّ الحجيّة هي التي تتوقّف على عدم ذكر القرينة المنفصلة لا الظهور ، فإنّه متوقف على عدم ذكر القرينة المتّصلة على الخلاف.

ولتوضيح ذلك نقول :

٣٩٩

وهذا الكلام لا يمكن قبوله بظاهره ، فإنّه وإن كان على حقّ في جعل الظهور التصديقي موضوعا للحجيّة كما تقدّم ، غير أنّ الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي استعمالا جديّا ليس متقوّما بعدم القرينة المنفصلة ، بل بعدم القرينة المتّصلة فقط ؛ لأنّ هذا الظهور منشؤه ظهور حال المتكلّم في التطابق بين المدلول التصوّري لكلامه والمدلول التصديقي ، والتطابق بين المدلول التصديقي الأوّل والمدلول التصديقي الثاني ، والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكل ما يتضمنه من خصوصيات ، فإذا اكتمل شخص الكلام وتحدّد مدلوله التصوّري والمعنى المستعمل فيه تنجّز ظهور حال المتكلّم في أنّ ما قاله وما استعمل فيه اللفظ هو المراد جدا ، ومجيء القرينة المنفصلة تكذيب لهذا الظهور الحالي لا أنّه يعني نفيه موضوعا.

والتحقيق : أنّ ما ذكره الميرزا لا يمكن قبوله على ظاهره وإطلاقه ، فهو وإن كان محقّا بالنسبة للظهور التصوّري حيث إنّه لا يتقوّم بالقرينة مطلقا ، وبالنسبة لجعل موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري ، إلا أنّ ما ذكره بالنسبة للمدلول التصديقي الذي على أساسه نحدّد المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم غير صحيح ، فإنّه جعله متقوّما بعدم ذكر القرينة المنفصلة على الخلاف بينما الصحيح كونه متقوّما بعدم ذكر القرينة المتّصلة فقط.

والوجه في ذلك : هو أنّ المتكلّم إذا تكلم بكلام ولم يذكر فيه قرينة متّصلة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور تصوّري في أنّه أخطر هذا المعنى من اللفظ ، وانعقد على طبق هذا المدلول التصوّري مدلول تصديقي أوّل وهو أنّه استعمل هذا اللفظ في ذاك المعنى ، أي أنّه أراد أن يخطر هذا المعنى في الذهن ، بناء على أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل.

ثمّ إنّه إذا لم يذكر القرينة المتّصلة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور تصديقي ثان في أنّه أراد جدّا هذا المعنى الذي أخطره واستعمل اللفظ فيه بناء على أصالة التطابق بين المدلولين التصديقي الأوّل والثاني.

ومن هنا يصحّ لنا القول بأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه أراد جدّا المعنى الذي استعمل اللفظ فيه والذي أخطره هذا اللفظ في الذهن تبعا لوضعه له لغة.

٤٠٠