شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

مفهوم الحصر

لا شكّ في أنّ كلّ جملة تدلّ على حصر حكم بموضوع تدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الحصر يستبطن انتفاء الحكم المحصور عن غير الموضوع المحصور به.

الجملة الحصرية ، كقولنا : ( إنّما العالم زيد ) ، وكقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) ، وقولنا : ( العالم زيد ).

والحصر لغة يدلّ على كلا الركنين في المفهوم ، أي على التوقّف وعلى أنّ المحصور هو طبيعي الحكم لا شخصه ، ولذلك كان مفهوم الحصر أقوى المفاهيم ؛ لأنّ دلالته عليه بكلا ركنيه وضعيّة ، فلا نحتاج إلى قرينة خارجيّة أصلا.

ومعنى الحصر إفادة تأكيد الربط الحاصل والموجود في الجملة قبل دخول أداة الحصر عليها ، فقولنا مثلا : ( زيد عالم ) هناك ربط بين زيد والعلم إلا أنّه لا ينفي العلم عن غيره ، فإذا دخلت أداة الحصر فصارت الجملة : ( إنّما العالم زيد ) أفادت معنى جديدا لم يكن موجودا في الجملة وهو أنّ هذا الربط بين العلم وزيد بنحو الحصر ، أي أنّه العلم محصور على زيد ومتوقّف ثبوته على زيد ولا يوجد إلا معه ، فإذا انتفى زيد انتفى العلم ، فالربط الخاصّ متحقّق إذا.

والحصر بنفسه قرينة على أنّ المحصور طبيعي الحكم لا حكم ذلك الموضوع بالخصوص ، إذ لا معنى لحصره حينئذ ؛ لأنّ حكم الموضوع الخاصّ مختصّ بموضوعه دائما. وما دام المحصور هو الطبيعي فمقتضى ذلك ثبوت المفهوم ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وأمّا الركن الثاني وهو أنّ المحصور هو طبيعي الحكم فهذا مستفاد من أداة الحصر أيضا ؛ لأنّ شخص الحكم محصور بموضوعه ومختصّ به دائما تبعا للعلاقة بين الحكم وموضوعه.

٨١

فقولنا : ( يجب إكرام زيد ) يفيد أنّ هناك وجوبا خاصّا بإكرام زيد ومحصور به ولا ينطبق على غيره ؛ لأنّ الخاصّ لا ينطبق إلا على نفسه. فإذا دخلت أداة الحصر ( إنّما يجب إكرام زيد ) دلّت على أنّ الحكم المحصور هو طبيعي الوجوب لا شخصه ؛ لأنّ شخصه محصور في رتبة سابقة فلا معنى لحصره من جديد ، بل لا يكون لأداة الحصر فائدة أصلا من حصر شخص الحكم إلا التأكيد الذي هو خلاف الظاهر من وضع أدوات الحصر في اللغة ؛ لأنّ الأصل فيه أنّه موضوع لمعنى جديد. وبذلك يثبت الركن الثاني أيضا.

والنتيجة ثبوت المفهوم لجملة الحصر بلا إشكال منهم.

وإنّما الكلام في تعيين أدوات الحصر ، فمن جملة أدواته كلمة ( إنّما ) ، فإنّها تدلّ على الحصر وضعا بالتبادر العرفي.

نعم ، وقع الخلاف بينهم في تعيين أدوات الحصر ، ومن جملة هذه الأدوات التي وقع النزاع فيها كلمة ( إنّما ).

فقال الشيخ الأنصاري بعدم دلالتها على الحصر ؛ لأنّ موارد استعمالها مختلفة ، ولا يوجد في الفارسيّة مرادف لها ليعرف ما هو المتبادر منها.

وأجابه في ( الكفاية ) بأنّه يكفي التبادر عند أهل اللغة والعرف ، والعرف اللغوي والمتبادر أنّ هذه الكلمة تدلّ على الحصر. ولذلك قال السيّد الشهيد بأنّ التبادر العرفي من هذه الكلمة هو الحصر.

ومن أدواته جعل العامّ موضوعا مع تعريفه والخاصّ محمولا ، فيقال : ( ابنك هو محمّد ) بدلا عن أن نقول : ( محمّد هو ابنك ) ، فإنّه يدلّ عرفا على حصر البنوّة بمحمّد ، والنكتة في ذلك أنّ المحمول يجب أن يصدق بحسب ظاهر القضيّة على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ، ولا يتأتّى ذلك في فرض حمل الخاصّ على العامّ إلا بافتراض انحصار العام بالخاصّ.

ومن الأدوات التي وقع النزاع فيها كون العامّ المعرّف هو الموضوع وكون الخاصّ هو المحمول ، كقولنا : ( العالم هو زيد ) و ( ابنك هو محمّد ) ، فإنّ الأصل في هاتين الجملتين هو ( زيد هو العالم ) و ( محمّد هو ابنك ).

ولا إشكال في دلالة هذا السياق على الحصر للتبادر وللفهم العرفي ، حيث يفهم

٨٢

من الجملة الأولى حصر العالميّة بزيد ، ومن الثانية حصر البنوّة بمحمّد ، فلا عالم غير زيد ، ولا ابن غير محمّد.

والسرّ في ذلك أنّه في القضيّة الحمليّة يجب أن يصدق المحمول على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ، فقولنا : الإنسان ضاحك أو الإنسان ماش أو الإنسان حيوان ناطق يجب أن يصدق المحمول الذي هو حكم على تمام أفراد الموضوع سواء كان الصدق بينهما في المفهوم والمصداق أو في المصداق فقط.

وفي مقامنا : ( ابنك هو محمّد ) يجب أن يصدق محمّد على تمام أفراد الابن ليتمّ الحمل ويكون صحيحا ، وهذا لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا لم يكن هناك ابن آخر سوى محمّد ، فحينئذ يكون محمّد صادقا على تمام ما يصدق عليه الابن ، وهذا هو الحصر ، أي أنّ كلّ أفراد البنوّة ينطبق عليها محمّد وهذا معناه أنّه لا ابن غيره. فيكون العامّ وهو الابن منحصرا بالخاصّ ليتمّ صدق الخاصّ على تمام أفراد العام (١).

__________________

(١) وخالف في ذلك بعض ، كصاحب ( الكفاية ) حيث ادّعى بعدم كفاية ذلك لإفادة الحصر ، بل لا بدّ من قرينة خاصّة على ذلك.

ومن الجمل التي وقع النزاع فيها العدد واللقب ، ولا شكّ في عدم المفهوم لهما ولا كلام فيهما زائدا عمّا تقدّم.

٨٣
٨٤

تحديد دلالات

الدليل الشرعي

٨٥
٨٦

الدليل الشرعي غير اللفظي

الدليل الشرعي غير اللفظي يشتمل على الفعل والتقرير ، فيقع البحث في كلّ منهما.

والدليل الشرعي غير اللفظي هو كلّ ما يصدر عن المعصوم عليه‌السلام ممّا ليس من نوع الكلام ، ويكون له دلالة على الحكم الشرعي باعتباره موقفا من المعصوم عليه‌السلام.

وهذا يشمل نحوين : فتارة يقوم المعصوم بفعل ما يكون دالا على حكم شرعي ، وأخرى يسكت عن فعل تمّ بمحضره أو سمع بفعل فسكت عنه ، فهذا يسمّى بالتقرير والإمضاء لهذا الفعل ، وسوف نبحث عن كلا القسمين :

دلالات الفعل :

تقدّم منّا في الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل أو الترك ، وأنّه إن اقترن بقرينة فيتحدّد مدلوله على أساس تلك القرينة ، وإن وقع مجرّدا كان له بعض الدلالات من قبيل دلالة صدور الفعل على عدم حرمته ، ودلالة تركه على عدم وجوبه ، ودلالة الإتيان به على وجه عبادي على مطلوبيّته ، إلى غير ذلك.

تقدّم فى الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل والترك ، وهناك قلنا : إنّه توجد حالتان لذلك :

فتارة يقترن فعل أو ترك المعصوم بقرينة حاليّة أو مقاليّة سابقة أو لاحقة تفيد بأنّ هذا الفعل مختصّ بالمعصوم ، كما في تعدّد الزوجات أكثر من أربعة أو وجوب التهجّد بالليل أو جواز الزواج بهبة المرأة نفسها ، ونحو ذلك ممّا علم اختصاصه به.

٨٧

وقد تكون القرينة دالّة على أنّ فعله هذا إرشادي وتعليمي فيؤخذ به أيضا ، كالدليل اللفظي من قبيل ما ورد عنه في أمر الحجّ كقوله ( صلّى الله عليه وآله ) : « خذوا مناسككم عنّي » أو « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » فهذا قرينة على أنّ فعله ليس مختصّا به ، وأنّه لأجل التعليم والإرشاد ويجب الأخذ والعمل به.

وأخرى لا تكون هناك قرائن من هذا القبيل لتعيّن الوجه الذي وقع عليه الفعل هل هو من الأمور المختصّة به أو هو من الأمور التي يجب الأخذ والاقتداء به فيها؟ فهنا لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن من فعله وهو :

إن كان هناك فعل فيدلّ فعله على عدم الحرمة ؛ لأنّ المعصوم لا يفعل الحرام. وإن كان هناك ترك دلّ تركه على عدم وجوبه ؛ لأنّ المعصوم لا يترك الواجب. وإن كان لهذا الفعل أو الترك وجه عبادي بأن كان لا يتأتّى هذا الفعل أو الترك إلا من قبل الشارع فيستفاد كون الفعل مطلوبا وراجحا ، وكون الترك مرجوحا خصوصا إذا تكرّر منه ذلك بنفس الظروف.

وقد يقال أكثر من ذلك بأن يكون فعله دالا على الاستحباب لا على مجرّد الجواز فقط ، وأن يكون تركه دالا على الكراهة لا على مجرّد عدم الحرمة ، بناء على أنّ المعصوم لا يفعل المكروه ولا يترك الأولى ، خاصّة إذا كان الفعل عباديّا ، كالصلاة مثلا.

إلا أنّ الحكم المستكشف من الفعل لا يمكن تعميمه لكلّ الحالات ؛ لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ، وإنّما يثبت ذلك الحكم في كلّ حالة مماثلة لحالة المعصوم من سائر الجهات المحتمل كونها مؤثّرة في ثبوت ذلك الحكم ، على ما مرّ سابقا (١).

ثمّ إنّ فعل المعصوم الكاشف عن الحكم الشرعي بطريق الإنّ ، حيث إنّ فعله معلول للحكم الشرعي ، لا يمكن تعميمه وإطلاقه لكلّ الحالات والظروف حتّى تلك التي لم تكن موجودة حين فعله أو تركه ؛ وذلك لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ، حيث إنّ الإطلاق والعموم من شئون الألفاظ والفعل ليس لفظا ؛ ليجري فيه الإطلاق أو ليثبت كونه عامّا.

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : دلالة الفعل.

٨٨

وعليه ، فإذا كانت هناك حالة مختلفة عن الحالات التي وقع فيها الفعل ، أو احتمل وجود ظروف لها مدخليّة في فعله ، فلا يمكن إسراء الحكم المستكشف من هذا الفعل إلى تلك الحالات التي لا توجد فيها تلك الظروف التي يحتمل مدخليّتها في الفعل ، وإنّما يقتصر في دلالة الفعل على ذاك الحكم فيما إذا كان هناك ظروف مشابهة لظروف المعصوم ؛ لأنّها القدر المتيقّن ، بحيث يعلم أنّ هذه الظروف هي المؤثّرة في صدور الفعل منه.

وبهذا يظهر أنّ تعميم الحكم المستكشف من الفعل يشترط فيه إحراز تلك الظروف التي كانت موجودة حين صدوره منه ، وأمّا غيرها من الحالات والظروف فلا يمكن تعدية هذا الحكم لها ، إذ لا دليل على ذلك (١).

دلالات التقرير :

سكوت المعصوم عن موقف يواجهه يدلّ على إمضائه : إمّا على أساس عقلي باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف متّفقا مع غرضه لكان سكوته نقضا للغرض ، أو باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف سائغا شرعا لوجب على المعصوم الردع عنه والتنبيه عليه.

وإمّا على أساس استظهاري باعتبار ظهور حال المعصوم في كونه بصدد المراقبة والتوجيه.

إذا سكت المعصوم عن موقف جرى بمرأى وبمسمع منه فإنّ سكوته هذا يدلّ على إمضائه ، وذلك بإحدى النكات التالية :

الأولى : نقض الغرض ، فإنّ هذا الموقف الذي سكت عنه المعصوم إذا كان متّفقا مع غرضه فكان سكوته عنه حسنا عقلا ، وأمّا إن لم يكن متّفقا مع غرضه كمعصوم

__________________

(١) وقد يقال : إنّ نفس مقام العصمة والنبوّة والإمامة ظرف وحالة من الحالات التي وقع الفعل فيها ، ولذلك فلا يمكن تعميم الحكم والعمل به حتّى وإن اتّحدت سائر الظروف المحتملة ؛ لأنّ مقام العصمة غير موجود عندنا.

والجواب : أنّ هذه الشبهة واضحة الدفع ؛ لأنّ الآيات الدالّة على وجوب الاقتداء والتأسّي بالنبي والإمام تدلّ على وجوب العمل وفقا لما فعله المعصوم ، وهي بنفسها دالّة على إلغاء خصوصيّة هذا المقام وعدم اعتباره مانعا من التأسّي والاقتداء به.

٨٩

فيكون السكوت عنه قبيحا عقلا ؛ لأنّه يكون قد نقض غرضه بنفسه والعاقل لا يقدم على ذلك ، إذا فالفعل المذكور ليس مخالفا لغرض المعصوم وإلا لردع عنه لو كان كذلك.

وغرض المعصوم هو أنّه بحكم عصمته فهو يهدف إلى إيجاد مجتمع صالح من خلال تعليمه وإرشاده وتوجيهه نحو الصواب والصراط القويم ، فهذا الفعل المسكوت عنه يجب أن يصبّ في هذا الطريق والغرض ، وإلا لكان المعصوم يسمح بعدم تحقّق غرضه ، وهذا ما يأباه مقام العصمة المفروض ، فيكون عدم الردع دالا عقلا على إمضائه وكونه مشروعا.

الثانية : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ المعصوم بوصفه مكلّفا كغيره من الناس يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا الموقف المسكوت عنه مصداقا للمعروف فيكون سكوته عنه جائزا وموافقا لتكليفه ، وأمّا إذا كان هذا الموقف منكرا فالسكوت عنه حرام ، بل يجب عليه النهي والردع عنه وقلعه من جذوره وبيان مفاسده وأضراره. فإذا سكت عنه كشف سكوته عن عدم كونه منكرا أو حراما أو غير مشروع ، وإلا لكان المعصوم مخلاّ بتكليفه وهذا يأباه مقام العصمة ، فالعقل يحكم بمشروعيّة هذا الموقف نتيجة لسكوت المعصوم عنه الكاشف عن حسنه شرعا.

وهذا طبعا يشترط فيه توفّر سائر الشروط والظروف للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتي من جملتها عدم التقيّة أيضا ، فإذا أحرز أنّ شروط الأمر والنهي لم تكن متحقّقة كما إذا كان في مورد التقيّة ونحوها لم يستكشف من سكوته كون هذا الموقف سائغا شرعا.

الثالثة : ظهور حال المعصوم ، فإنّ المعصوم هو المسئول عن تقويم الزيغ والاعوجاج وإيجاد الصلاح والاستقامة في المجتمع ، ولذلك فهو بحكم هذه المسئوليّة يقوم دائما بمراقبة المجتمع الإسلامي وتصحيح التصرّفات وتوجيهها نحو الخير والصلاح ، فإذا كان هذا الموقف غير منسجم مع هذا الشيء بأن كان يؤدّي بالمجتمع إلى الانحراف عن جادّة الصواب لكان الواجب يحتّم عليه تقويمهم وردعهم عن ذلك ، وبما أنّه سكت عنه فيستكشف من ظهور حاله بأنّه في مقام المراقبة والتوجيه أنّ هذا الموقف

٩٠

ليس منافيا مع تلك الأمور التي يراقبها المعصوم ويصونها من الضياع والانحراف.

وهذا استظهار لحال المعصوم وهو لا يتوقّف على توفّر شروط الأمر والنهي.

والموقف قد يكون فرديّا ، وكثيرا ما يتمثّل في سلوك عامّ يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة ، ومن هنا كانت السيرة العقلائيّة دليلا على الحكم الشرعي ، ولكن لا بذاتها ، بل باعتبار تقرير الشارع لها وإمضائه المكتشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه ، وفي هذا المجال ينبغي التمييز بين نوعين من السيرة.

ثمّ إنّ الموقف الذي يواجهه المعصوم على نحوين :

الأوّل : أن يواجه المعصوم موقفا فرديّا كأن يقوم شخص أو بعض الأشخاص بالقيام بفعل معيّن أو بترك فعل كذلك ، ومثل هذا الموقف يكون سكوت المعصوم عنه متحدّدا بظروف وشروط ومن ضمنها وجود خصوصيّة لهذا الشخص أو الأشخاص ، ولذلك يكون سكوته كاشفا عن الحكم الشرعي لهؤلاء لا لغيرهم ، إلا إذا اتّحدت الظروف معهم تماما وأحرز ذلك.

الثاني : أن يواجه المعصوم موقفا عامّا وهو الأكثر ، وهذا ما يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة ، بأن يكون للعقلاء جميعا موقف ما يعملون على أساسه ويتصرّفون من خلاله في مختلف النواحي والأغراض والشئون ، وهذا الموقف الذي هو سلوك عامّ للعقلاء إذا سكت المعصوم عنه ولم يردع دلّ سكوته على إمضائه ، وكونه مشروعا وجائزا ويصبّ في غرضه.

ولهذا كانت السيرة العقلائيّة كاشفة عن الحكم الشرعي لا بذاتها ونفسها ، بل بضمّ سكوت وإمضاء المعصوم وعدم ردعه عنها ، فإنّ مجرّد السيرة وبناء العقلاء على أمر لا يكون بنفسه موجبا لوجود حكم شرعا يصحّح عملهم ، بل العكس هو الصحيح. نعم مع سكوت المعصوم وعدم ردعه تكون سيرتهم كاشفة عن الحكم ، ولذلك لا بدّ من إحراز عدم ردع المعصوم عن هذه السيرة لتكون دالّة على الحكم الشرعي إنّا.

ثمّ إنّ هذه السيرة العقلائيّة تنقسم إلى قسمين.

أو بتعبير آخر : أنّ الموقف الذي يتّخذه العقلاء بشكل عامّ يكون على نوعين :

أحدهما : السيرة بلحاظ مرحلة الواقع ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن

٩١

باعتباره الموقف الذي ينبغي اتّخاذه واقعا في نظر العقلاء ، سواء كان مرتبطا بحكم تكليفي ـ كالسيرة على إناطة التصرّف في مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لفظيّا ـ أو بحكم وضعي ، كالسيرة على التملّك بالحيازة في المنقولات.

النوع الأوّل : السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة : والمقصود من ذلك أن يتّخذ العقلاء موقفا ما باعتباره أنّه الموقف الذي ينبغي للشارع اتّخاذه واقعا ، فيكون بناؤهم العقلائي على أنّ هذا الموقف الذي ساروا عليه وتبانوا واتّفقوا عليه بما هم عقلاء ينبغي أن يكون له نظير في الشريعة واقعا ، بأن يكون هناك حكم واقعي على طبق الموقف الذي اتّخذوه ، وهذا يمكن إثباته بلحاظ سكوت المعصوم وعدم ردعه عن موقفهم ، فمعناه أنّه يوجد حكم واقعي على طبقه.

ثمّ إنّ هذا الموقف تارة يكون بلحاظ حكم واقعي تكليفي ، وأخرى يكون بلحاظ حكم واقعي وضعي.

فإذا كان موقف العقلاء وسيرتهم على حلّيّة شيء ونحوها من الأحكام التكليفيّة كان موقفهم هذا بلحاظ الحكم الواقعي التكليفي ، من قبيل بناء العقلاء على أنّه يجوز التصرّف بمال الغير بمجرّد طيب نفسه ولو لم يأذن بذلك لفظيّا ، فيكفي عندهم الرضا القلبي للمالك وإن لم يتلفّظ بذلك ، فهذا موقف على الجواز الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة.

وإذا كان موقفهم وسيرتهم على حكم معاملي كالملكيّة ونحوها فيكون موقفهم بلحاظ الحكم الواقعي الوضعي ، من قبيل بناء العقلاء على أنّ الحيازة سبب للملكيّة فيحكمون بأنّ من حاز شيئا من المشتركات العامّة لكلّ الناس فهو مالك له ، ومن الواضح كون الملكيّة من الأحكام الوضعيّة.

والنوع الآخر : السيرة بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظنّ ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن في حالة الشكّ في أمر واقعي اكتفاء بالظنّ مثلا ، من قبيل السيرة على الرجوع إلى اللغوي عند الشكّ في معنى الكلمة واعتماد قوله وإن لم يفد سوى الظنّ ، أو السيرة على رجوع كلّ مأمور في التعرّف على أمر مولاه إلى خبر الثقة ، وغير ذلك من البناءات العقلائيّة على الاكتفاء بالظنّ أو الاحتمال في مورد الشكّ في الواقع.

٩٢

النوع الثاني : السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة : والمقصود من ذلك اكتفاء العقلاء بالظنّ عند الشكّ في الأمر الواقعي ، فيعتمد العقلاء على الظنّ والاكتفاء به عند انسداد الواقع أمامهم كموقف وطريق للعمل ظاهرا.

ثمّ إنّ اعتمادهم على هذا الظنّ بوصفه حكما ظاهريّا له نحوان :

فتارة يعملون بالظنّ ويكتفون به كموقف وحلّ عملي ظاهري في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، كاعتمادهم على قول اللغوي الموجب للظنّ بوضع الكلمات لمعانيها فيما إذا شكّ بوضع كلمة لهذا المعنى أو لغيره ، فيرجع إلى اللغوي ويعتمد على قوله مع أنّه لا يفيد سوى الظنّ ، وليس ذلك إلا لأنّ الظنّ باعتقادهم هو الطريق الوحيد للعمل ظاهرا عند انسداد الواقع والعلم.

وأخرى يعتمدون على الظنّ ويكتفون به في مجال أغراضهم التشريعيّة ، من قبيل اكتفاء المأمورين العرفيّين بخبر الثقة المفيد للظنّ للاطّلاع على أوامر المولى العرفي في حالة انسداد الواقع والعلم بأوامره. فيجعلون الظنّ كالعلم منجّزا ومعذّرا ، بحيث يستحقّ المأمور المؤاخذة عند عدم امتثاله لأوامر المولى إذا أخبره الثقة بها ، ويكون معذورا إذا اعتمد على خبر الثقة وكان مخالفا للواقع فيما إذا كان شاكّا في الواقع أو محتملا له ، وهكذا الحال بالنسبة لسائر البناءات العقلائيّة كالظهور واليد.

وبهذا ظهر أنّ السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة تشمل الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة معا.

والسيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة تشمل الأغراض التكوينيّة والأغراض التشريعيّة معا.

وعليه ، فلا بد من الحديث عن كلا هذين النوعين لنرى سكوت المعصوم وعدم ردعه للموقف العقلائي ما ذا يثبت به؟

أمّا النوع الأوّل : فيستدلّ به على أحكام شرعيّة واقعيّة ، كحكم الشارع بإباحة التصرّف في مال الغير بمجرّد طيب نفسه ، وبأنّ من حاز يملك ، وهكذا. ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه ، حيث إنّ الشارع لا بدّ أن يكون له حكم تكليفي أو وضعي فيما يتعلّق بذلك التصرّف ، فإن لم يكن مطابقا لما يفترضه العقلاء ويجرون عليه من حكم كان على المعصوم أن يردعهم عن ذلك ، فسكوته يدلّ على الإمضاء.

٩٣

أمّا النوع الأوّل : وهو السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة كجواز التصرّف في ملك الغير بمجرّد رضاه وكالملكيّة بمجرّد الحيازة ، فيمكن الاستدلال بهذه السيرة على ثبوت الحكم الواقعي على طبق هذه السيرة ، فيستكشف منها أنّ الشارع قد حكم بجواز التصرّف بملك الغير بمجرّد رضاه ، وأنّه قد حكم بالملكيّة بمجرّد الحيازة.

وتقريب ذلك : أنّ للشارع أحكاما واقعيّة ثابتة في كلّ الوقائع والقضايا إمّا بنحو التفصيل أو بنحو العموم ، وهذا معناه أنّ للشارع حكما بشأن تحقّق الملكيّة بالحيازة أو عدمها ، وبجواز التصرّف في ملك الغير أو بحرمته ، فإذا كان هذا الموقف العقلائي موافقا للحكم الشرعي الواقعي كان سكوت المعصوم عنه صحيحا وله مبرّر عقلي وبالتالي يكون سكوته إمضاء لصحّة البناء العقلائي.

وأمّا إذا لم يكن هذا الموقف العقلائي مطابقا للواقع بمعنى أنّ الشارع لم يكن حكمه الواقعي على وفق ما سار عليه العقلاء ، فهنا يجب على المعصوم المعاصر والشاهد لهذا الموقف أن يردع عنه وينبّههم إلى الموقف الشرعي الصحيح ، وحيث إنّه سكت ولم يردع دلّ سكوته على أنّ هذا الموقف ليس مخالفا للشرع ، وإلا لكان المعصوم مفوّتا لغرضه أو راضيا بالمنكر أو لا يريد بناء مجتمع صالح ، وهذه كلّها مستحيلة بحقّه لمقام العصمة التي يتّصف بها ، والتي تجعله مدافعا عن الشريعة وناهيا عن المنكر ورادعا عنه ـ مع توفّر شروطه ـ ومرشدا وهاديا لبناء مجتمع صالح وعادل ، ولذلك تجري هنا كلّ تلك الأدلّة الثلاثة التي ذكرت لاستكشاف الإمضاء من سكوته وعدم ردعه ، وبالتالي يثبت الحكم الشرعي الواقعي وأنّه مطابق لما قامت عليه السيرة العقلائيّة.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ، ولذلك تكون السيرة العقلائيّة حجّة أي منجّزة ومعذّرة لا بذاتها ، وإنّما بواسطة إمضاء المعصوم لها المستكشف من سكوته وعدم ردعه.

وأمّا النوع الثاني : فيستدلّ به عادة على أحكام شرعيّة ظاهريّة ، كحكم الشارع بحجّيّة قول اللغوي وحجّيّة خبر الثقة ، وهكذا.

وفي هذا النوع قد يستشكل في تطبيق ما ذكرناه عليه ، وتوضيح الاستشكال : أنّ التعويل على الأمارات الظنّيّة كقول اللغوي وخبر الثقة له مقامان :

وأمّا النوع الثاني من السيرة وهو السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة كحجّيّة خبر

٩٤

الثقة وقول اللغوي المفيدين للظنّ فقط ، فيراد من خلال سيرة العقلاء على العمل بذلك أن يستكشف أنّ الشارع أيضا قد حكم ظاهرا بحجّيّة خبر الثقة وقول اللغوي ، فيما إذا شكّ المكلّف في الحكم الواقعي وانسدّ عليه باب العلم بالواقع.

وهنا يثار إشكال في تطبيق أدلّة الإمضاء على سكوت المعصوم بحيث يقال : إنّ سكوت المعصوم وعدم ردعه عن سيرة العقلاء لا يضرّ ولا يؤثّر في نقض غرضه أو عدم نهيه عن المنكر أو في ظهور حاله ؛ لأنّ هذه السيرة لا تتنافى مع ذلك.

ولتوضيح الإشكال لا بدّ من التوسّع والتفصيل ، فنقول : إنّ سيرة العقلاء على العمل والاكتفاء بالأمارات الظنّيّة كحكم ظاهري يرجع إليه كخبر الثقة وقول اللغوي لها مجالان :

المقام الأوّل : التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص لأغراضه الشخصيّة التكوينيّة ، من قبيل أن يكون لشخص غرض في أن يستعمل كلمة معيّنة في كتابه ، فيرجع إلى اللغوي في فهم معناها ليستعملها في الموضع المناسب ، ويكتفي في هذا المجال بالظنّ الحاصل من قول اللغوي.

المقام الأوّل : أن يكون المراد التعويل على الظنّ الحاصل من قول اللغوي وخبر الثقة في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ، كما إذا كان هناك غرض لشخص في معرفة وفهم المعنى اللغوي لكلمة ما ليعلم معناها ، فيرجع إلى اللغوي ويأخذ بقوله في فهم ومعرفة معناها وإن لم يفده قوله إلا الظنّ فقط ، وبالتالي يكتفي بقوله كمرجع له ويرتّب عليه الآثار المطلوبة منه فيستعملها في الموضع المناسب الذي أخبر اللغوي به.

أو أن يكون هناك غرض شخصي لإنسان في الاعتماد على خبر الثقة في معرفة بعض الأمور الشخصيّة التكوينيّة فيرجع إليه ويأخذ بخبره ، كما هو الحال بخبر الطبيب مثلا أو المهندس ونحوهما ، ويرتّب الأثر التكويني على إخبارهم هذا وإن لم يفد سوى الظنّ.

المقام الثاني : التعويل عليها بصدد تحصيل المأمور لمؤمّن أمام الآمر ، أو لتحصيل الشخص الآمر لمنجّز للتكليف على مأموره ، من قبيل أن يقول الآمر : ( أكرم العالم ) ولا يدري المأمور أنّ كلمة ( العالم ) هل تشمل من كان لديه علم وزال علمه أو لا؟

٩٥

فيرجع إلى قول اللغوي لتكون شهادته بالشمول منجّزة وحجّة للمولى على المكلّف ، وشهادته بعدم الشمول معذّرة وحجّة للمأمور على المولى.

المقام الثاني : أن يكون التعويل على الظنّ الحاصل من قول اللغوي وخبر الثقة من أجل تحصيل منجّز أو معذّر وهو الحجّيّة بالمصطلح الأصوليّ ، بمعنى أنّ الآمر يرجع إلى قول اللغوي أو خبر الثقة ليكون قولهما منجّزا لتكاليفه وأوامره على مواليه وعبيده ومأموريه ، ويرجع المأمور إليهما ليكون قولهما معذّرا عن التكليف المحتمل أو المشكوك.

من قبيل أن يأمر المولى العرفي بقوله : ( أكرم العالم ) ولا يعلم المأمور أنّ كلمة العالم هل تشمل جميع العلماء حتّى من كان عالما ثمّ زال عنه العلم ، أو أنّه يختصّ بمن هو عالم بالفعل؟

وبالتالي فهو يشكّ في وجوب إكرام من هو فاقد للعلم فعلا ولكنّه كان متلبّسا به من قبل. فيرجعان إلى قول اللغوي ليرى ما هو قوله في ذلك ، وهل أنّ كلمة العالم التي هي من المشتقّات تشمل من كان متلبّسا بالمبدإ وزال عنه أو أنّها تختصّ بالمتلبّس بالمبدإ فعلا؟

فإذا شهد بأنّ الكلمة تشمل الموردين كان قوله حجّة بمعنى كونه منجّزا للتكليف على المأمور فيجب عليه الامتثال ويستحقّ العقاب على المخالفة ، وإذا شهد بأنّ الكلمة مختصّة بالعالم فعلا فيكون حجّة بمعنى كونه معذّرا للمأمور عند عدم امتثال إكرام من زال عنه العلم فعلا وكان الآمر يريد إكرامه واقعا.

وهكذا الحال بالنسبة لخبر الثقة يرجع إليه الآمر والمأمور في التنجيز والتعذير عن الأحكام التكليفيّة التي لا يعلم بها ، فيكون إخباره بالإلزام منجّزا للتكليف وإخباره بالترخيص مؤمّنا ومعذّرا عن التكليف.

وبعد أن اتّضح ذلك نرجع إلى بيان الإشكال فنقول :

وعلى هذا فبناء العقلاء على الرجوع إلى اللغوي والتعويل على الظنّ الناشئ من قوله : إن كان المقصود منه بناء العقلاء في المقام الأوّل فهذا لا يعني حجّيّة قول اللغوي بالمعنى الأصولي أي المنجّزيّة والمعذّريّة ؛ لأنّ التنجيز والتعذير إنّما يكون بالنسبة إلى الأغراض التشريعيّة التي فيها آمر ومأمور ، لا بالنسبة إلى

٩٦

الأغراض التكوينيّة ، فلا يمكن أن يستدلّ بالسيرة المذكورة على الحجّيّة شرعا.

إنّ السيرة العقلائيّة بلحاظ الأحكام الظاهريّة إن كان المقصود منها السيرة القائمة على الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، أي المقام الأوّل فمن الواضح أنّ الاعتماد على قول اللغوي أو خبر الثقة لتحصيل الأغراض التكوينيّة الشخصيّة لا يرتبط بالحجّيّة كمصطلح أصولي الذي هو عبارة عن المنجّزيّة والمعذّريّة ؛ إذ لا يوجد في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة تكاليف شرعيّة ولا يوجد آمر ومأمور ليكون قول الآمر منجّزا أو عدم امتثال المأمور معذورا فيه.

ولذلك لا يصلح هذا القسم من السيرة للاستدلال به على أنّ الشارع قد جعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة ( منجّزا ومعذّرا ) ؛ لأنّ الحجّيّة الشرعيّة تفترض مسبقا وجود علاقة مولويّة بين الآمر والمأمور ، وتفترض أنّ المأمور يجب عليه إطاعة وامتثال أوامر المولى بحيث يكون التخلّف عنها موجبا للذمّ والعقاب ، فالحجّيّة إذا من شئون الأغراض التشريعيّة لا الأغراض التكوينيّة.

وبهذا يكون هذا النحو من السيرة خارجا عن محلّ الكلام تخصّصا ؛ إذ محلّ الكلام حول الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة شرعا ، وهذه السيرة تثبت أنّ العقلاء يعوّلون على قول اللغوي وخبر الثقة في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة لا التشريعيّة ، فالاستدلال بها باطل تماما.

وإن كان المقصود بناء العقلاء في المقام الثاني فمن الواضح أنّ جعل شيء منجّزا أو معذّرا من شأن المولى والحاكم لا من شأن المأمور ، فمردّ بناء العقلاء على جعل قول اللغوي منجّزا ومعذّرا إلى أنّ سيرة الآمرين انعقدت على أنّ كلّ آمر يجعل قول اللغوي حجّة في فهم المأمور لما يصدر عنه من كلام بنحو ينجّز ويعذّر.

وإن كان المقصود من السيرة وبناء العقلاء هو المقام الثاني ، أي الأغراض التشريعيّة ، بمعنى أنّ العقلاء يجعلون قول اللغوي وخبر الثقة حجّة بين الآمر والمأمور ، فيكون منجّزا ومعذّرا ، فهذا يدخل في مورد الكلام ويمكن أن يستدلّ به ولكن بنحو آخر وهو : أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة لغير العلم تحتاج إلى جعل خاصّ من قبل نفس المولى والحاكم ، بمعنى أنّ المولى والحاكم يعتبر أنّ هذا الطريق حجّة بينه وبين

٩٧

مواليه بحيث يكون منجّزا ومعذّرا ، ولا ارتباط ولا مدخليّة للمأمورين في ذلك ، فليس لهم حقّ التدخّل بما هم مأمورون في شئون المولى.

وعليه فمعنى سيرتهم وبنائهم أنّ سيرة الآمرين والحكّام قد انعقدت على جعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة لا سيرة المأمورين ، إذ لا مدخليّة لهم في جعل شيء حجّة وعدم ذلك ، فيكون المقصود من سيرة العقلاء خصوص سيرة الآمرين والموالي والحكّام من العقلاء ، وأنّهم جعلوا قول اللغوي حجّة منجّزا ومعذّرا ، ويمكن تعميم السيرة للمأمورين أيضا بأن يقال :

وبعبارة أشمل : إنّ سيرة كلّ عاقل اتّجهت إلى أنّه إذا قدّر له أن يمارس حالة آمريّة يجعل قول اللغوي حجّة على مأموره.

أو يقال : إنّ سيرة العقلاء تشمل كلّ الناس سواء الآمرين والمأمورين لا خصوص الآمرين فقط ، وذلك بأن نفترض أنّ كلّ عاقل لو قدّر له أن يصبح حاكما وآمرا فهو يتّخذ خبر الثقة وقول اللغوي حجّة بينه وبين مواليه ومأموريه ، وهذا يشمل الآمرين والمأمورين ؛ لأنّهم من العقلاء فتنطبق هذه القضيّة الشرطيّة بالفعل على الآمرين وبالقوّة على المأمورين ، وحينئذ نقول :

ومن الواضح أنّ السيرة بهذا المعنى لا تفوّت على الشارع الأقدس غرضه ، حتّى إذا لم يكن قد جعل قول اللغوي حجّة ومنجّزا ومعذّرا بالنسبة إلى أحكامه ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة يمارسها كلّ مولى في نطاق أغراضه التشريعيّة مع مأموريه ، ولا يهمّ الشارع الأغراض التشريعيّة للآخرين.

وحينئذ يرد الإشكال وهو : أنّ هذه السيرة بهذا المعنى وهي أنّ سيرة الآمرين انعقدت فعلا أو سيرة العقلاء جميعا فرضا وتقديرا على العمل بقول اللغوي وخبر الثقة في نطاق الأحكام التشريعيّة الظاهريّة ، لا تضرّ بالأحكام التشريعيّة للشارع الأقدس ولا تفوّت غرضه حتّى وإن لم يجعل خبر الثقة وقول اللغوي حجّة ( منجّزا ومعذّرا ) ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة المفروض أنّها سيرة بين كلّ آمر مع مأموريه بلحاظ أغراضه التشريعيّة لا بلحاظ الأغراض التشريعيّة للآخرين.

إذ لا مولويّة لهذا الشارع على سائر الموالي والحكّام الآخرين ليعتبر سيرته بينه وبين مواليه ومأموريه حجّة على أولئك ويجب عليهم العمل على وفقها ، بل كلّ شارع

٩٨

ومولى وحاكم له مولويّة وسلطة على خصوص مواليه ومأموريه ولا علاقة له بغيره من الموالي والحكّام.

وعليه فسيرة الآمرين العقلائيّين إنّما تثبت أنّ الآمرين قد اتّفقوا على جعل قول اللغوي حجّة ، إلا أنّ اتّفاقهم هذا لا يلزم الشارع الأقدس ولا يجب عليه أن يسير وفقا لآراء العقلاء ، بل هم أنفسهم لا يعتبرونه ملزما باتّباع سيرتهم ؛ لأنّهم يؤمنون بأنّ كلّ شارع له الحريّة المطلقة في أن يجعل ما يشاء حجّة بينه وبين مأموريه ومواليه ولا يجب عليه الالتزام بسيرة الآخرين واتّباع آرائهم.

ولذلك لا يكون سكوت المعصوم وعدم ردعه عن سيرة العقلاء هذه كاشفا عن إمضائه ورضاه بها ، إذ لا يجب عليه الالتزام بها وهي ليست ملزمة له أصلا لكي يتّخذ منها موقفا إيجابا أو سلبا ، بل لا يعنيه ذلك ؛ لأنّ كلّ شارع إنّما يحدّد العلاقة بينه وبين مأموريه هو نفسه لا غيره ، ولذلك لا يكون هناك ضرر من سيرتهم في حال عدم الردع عنها ، وإن كان الشارع الأقدس لا يقبلها ، بل عليه أن يبيّن ما جعله حجّة بينه وبين مأموريه بقطع النظر عن سيرة العقلاء.

فكم فرق بين سيرة العقلاء على ملكيّة الحائز ، وسيرتهم على حجّيّة قول اللغوي ؛ لأنّ السيرة الأولى تقتضي سلوكا لا يقرّه الشارع إذا كان لا يرى الحيازة سببا للملكيّة.

وأمّا ما تقتضيه السيرة الثانية من سلوك فلا يتجاوز الالتزام بأنّ قول اللغوي منجّز ومعذّر في علاقات الآمرين بالمأمورين من العقلاء ، ولا يضرّ الشارع ذلك على أي حال.

فهناك فرق شاسع بين السيرتين المذكورتين وهو : أنّ السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة تفترض أنّ العقلاء قد اتّخذوا موقفا وسلوكا لو كان خطأ وغير مقبول لدى الشارع لكان مؤثّرا على أغراضه التشريعيّة ؛ لأنّ العقلاء اعتبروا أنّ الحيازة سبب للملكيّة ، وأنّ الرضا القلبي كاف لجواز التصرّف في ملك الغير.

وهذا الأمر وغيره من الأحكام التشريعيّة التي لا بدّ أن يكون للشارع فيها حكم إن كان مطابقا لغرضه فسكوته معتبر وصحيح عقلا ، وإن كان مخالفا له فيكون سكوته مع عدم قبوله لسيرتهم ناقضا لغرضه وهدفه وهو قبيح عقلا صدوره من العاقل

٩٩

الحكيم ، ولذلك كان بناء العقلاء يمسّ مباشرة أحكام الشارع ولذلك كان سكوته إمضاء وقبولا بها.

وأمّا السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة التي تتعلّق بالأغراض التشريعيّة للآمرين والمأمورين ، فقد تقدّم أنّ هذا البناء إنّما يحدّد ويلزم كلّ آمر مع مأموريه بما جعله حجّة بينه وبينهم بحيث يكون منجّزا ومعذّرا ، ولا ارتباط لذلك بغيره من الآمرين ، ولو فرض اتّفاق الآمرين من العقلاء جميعا على جعل شيء حجّة فهو لا يلزم الشارع الأقدس بأن يجعله حجّة أيضا ؛ لأنّ كلّ شارع له الخيار ومطلق الحريّة في أن يجعل أي شيء يراه مناسبا حجّة بينه وبين مأموريه ولا يلزمه أحد بذلك ولا يختار له أحد الطريق ويفرضه عليه ، إذ لا مولويّة لأحد عليه كما هو المفروض.

ولذلك لا يكون سكوت المعصوم وعدم ردعه قبولا ببناء العقلاء وإمضائه لحجّيّة قول اللغوي أو خبر الثقة حتّى بلحاظ أحكامه التشريعيّة ، إذ لا ربط له بهم كما لا ربط لهم به ؛ ولأنّ سيرتهم إنّما تلزم من كان من الآمرين العرفيّين فقط ، وأمّا الشارع الأقدس فلا يمكنهم إلزامه بما يرونه ويتّفقون عليه ، بل العكس هو الصحيح ، ولذلك لا مجال للاستدلال بالسيرة على جعل الحجّيّة الظاهريّة في مجال الأغراض التشريعيّة.

فإن قال قائل : لما ذا لا يفترض بناء العقلاء على أنّ قول اللغوي حجّة بلحاظ كلّ حكم وحاكم وأمر وآمر بما فيهم الشارع ، فيكون هذا البناء مضرّا بالشارع إذا لم يكن قد جعل الحجّيّة لقول اللغوي؟!

فإذا قيل : نفترض أنّ الشارع داخل في السيرة العقلائيّة أيضا باعتباره من جملة العقلاء ، بل هو رئيس العقلاء ، وحيث إنّ العقلاء قد اتّفقوا على أنّ كلّ عاقل إذا مارس حالة الآمريّة والحاكميّة فهو يجعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة ، فيكون الشارع داخلا في سيرتهم.

وعليه ، فإذا كان مخالفا لهم فيجب أن يردعهم عن ذلك ، فمع سكوته وعدم ردعه يستكشف إمضاؤه وقبوله لهذه السيرة حتّى بلحاظ أغراضه التشريعيّة ، وإلا لكان بناؤهم مضرّا بالشارع ومفوّتا لغرضه وهو قبيح عقلا.

قلنا : إنّ كون قول اللغوي منجّزا لحكم أو معذّرا عنه أمر لا يعقل جعله واتّخاذ قرار به ، إلا من قبل جاعل ذلك الحكم بالنسبة إلى مأموره ومكلّفه ، فكلّ أب مثلا

١٠٠