شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

إذا هذا الظهور التصديقي الذي يحدّد المراد الجدّي يعتمد على شخص كلام المتكلّم وأنّه لم يذكر فيه القرينة على الخلاف استنادا إلى أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث ، فإذا لم يذكر هذه القرينة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور وصار هذا الظهور حجّة بالفعل باعتباره كاشفا عن المراد والواقع ، بل حتّى لو ذكر القرينة متّصلة على الخلاف فإنّ المراد الجدّي والواقعي ينعقد على طبق هذه القرينة باعتبارها داخلة في شخص كلامه لأنّه ذكر وقال ما أراده جدا وواقعا ، فلا يكون ذكر القرينة المتّصلة متنافيا مع ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يذكره ويقوله ويستعمل اللفظ فيه هو مراده الجدّي لأنّه بحسب الفرض قد ذكر هذه القرينة في شخص كلامه ، غاية الأمر يختل التطابق بين الدلالات الثلاث فقط ، وهذا لا مانع منه لأنّه لا يؤثّر على ظهور حال المتكلّم العرفي المذكور.

وأمّا إذا ذكر القرينة منفصلة بعد أن انعقد ظهور لكلامه على طبق ما ذكره وقاله واستعمل اللفظ فيه ، وبعد أن تنجّز عليه الظهور وصار حجّة ، فهنا تكون هذه القرينة المنفصلة مكذّبة لهذا الظهور المنعقد فعلا والكاشف عن المراد الواقعي لا أنّها رافعة وهادمة له من أوّل الأمر ، بل إنّ هذه القرينة المنفصلة تكشف عن كون المراد الواقعي ليس على طبق الظهور المنعقد فعلا وأنّ هذا الظهور المنعقد بالفعل ليس مطابقا للمراد الجدّي الواقعي ، ولذلك يقع التنافي والتكاذب بين ما هو المنكشف في هذه القرينة المنفصلة وبين ما هو منكشف فعلا على أساس الظهور التصديقي ، فلا بدّ من تحكيم قواعد التعارض عليهما وأنّه مستقر أو يمكن الجمع العرفي بينهما إلى غير ذلك.

فالصحيح إذا أنّ موضوع الحجيّة ليس متوقفا على عدم القرينة المنفصلة لأنّ الظهور التصديقي الثاني منعقد فعلا عند عدم القرينة المتّصلة على الخلاف. نعم ، استمرار حجيّة هذا الظهور تتوقّف على عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أقوى من الظهور السابق.

والدليل على ما ذكرناه هو :

ولهذا كان الاعتماد على القرينة المنفصلة خلاف الأصل العقلائي ؛ لأنّ ذلك على خلاف الظهور الحالي ، ولو كان الاعتماد عليها وورودها يوجب نفي المرتبة التي هو موضوع الحجيّة من الظهور لما كان ذلك على خلاف الطبع ولكان حاله

٤٠١

حال الاعتماد على القرائن المتّصلة التي تمنع عن انعقاد الظهور التصديقي على طبق المدلول التصوّري.

ويدلّ على ما ذكرناه ـ من عدم كون القرينة المنفصلة هادمة لأصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة ـ أنّ الاعتماد على القرائن المنفصلة لا وجود له في حياة العقلاء ، بل يعتبر الاعتماد عليها حالة استثنائيّة نادرة مخالفة للطبع وللمرتكز وللبناء العقلائي ، ومخالفة لظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يقوله ويذكره ويستعمل اللفظ فيه هو مراده الجدّي ، لأنّه بذلك يكون قد أراد جدّا وواقعا ما لم يذكره في شخص كلامه مع أنّ ظاهر حاله أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي والواقعي في شخص كلامه.

وعليه فلو جاز أن يقال : إنّ القرينة المنفصلة يعتمد عليها لهدم ولرفع أصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة كما ذكرنا سابقا عن الميرزا لكان الاعتماد على القرائن المنفصلة كالاعتماد على القرائن المتّصلة في كونها مطابقة للطبع وللميل العقلائي من دون فرق بينهما ، وهذا معلوم البطلان فإنّ العقلاء يرون الاعتماد على القرينة المنفصلة في مقام الدلالة على المراد الجدّي الواقعي على خلاف مقام المتكلّم وظهور حاله في أنّه يبيّن ويريد ما هو موجود في كلامه من ألفاظ.

وبتعبير آخر : أنّ العقلاء يرون أنّ الاعتماد على القرينة المتّصلة موافق للطبع ولظهور حال المتكلّم لأنّه يكون قد أراد جدّا ما ذكره في كلامه. نعم ، يكون ذكر القرينة المتّصلة هادما لأصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الاستعمالي ، وليس خارقا لما هو المتعارف بين العقلاء عند التخاطب والتحاور.

بينما الاعتماد على القرينة المنفصلة يكون بنظر العقلاء حالة نادرة وشاذة لأنّه يكون مخالفا لما هو المتعارف في مقام المحاورة وخارقا لظهور عرفي سياقي في أن كل ما يقوله ويذكره هو مراده الجدّي والواقعي.

* * *

٤٠٢

الظهور الحالي

٤٠٣
٤٠٤

الظهور الحالي

وكما أنّ الظهور اللفظي حجّة كذلك ظهور الحال ، ولو لم يتجسّد في لفظ أيضا ، فكلما كان للحال مدلول عرفي ينسبق إليه ذهن الملاحظ اجتماعيّا أخذ به.

الظهور الحالي هو الظهور الذي لا يكون لفظا وإنّما ينشأ من حال المتكلّم ، بمعنى أنّ المتكلّم قد تصدر منه بعض الأفعال والحركات والتصرّفات تدلّ على أنّه يريد معنى معينا من خلال ما صدر منه ، وهذا ما يسمّى بالتقرير أو الفعل بالنسبة للمعصوم فإنّ المعصوم إذا فعل شيئا فظاهر حاله أنّ هذا الفعل صحيح وكذا إذا سكت عن فعل.

وأمّا المتكلّم الاعتيادي فقد يصدر منه فعل أو تصرّف أو حتّى سكوت أو تقطيب للوجه ، أو عبوس فإنّ هذا كلّه له ظهور. فهل يكون ظهور الحال كظهور اللفظ حجّة أم لا؟

وبتعبير آخر : أنّ المعنى الذي ينسبق إلى ذهن الإنسان الاجتماعي عند ما يلاحظ هذا الحال هل يكون حجّة أم لا؟

والجواب عن ذلك : أنّه توجد ثلاثة أدلة لحجيّة الظهور اللفظي فهل بالإمكان تماميّة شيء من هذه الأدلّة هنا أم لا؟

غير أنّ إثبات الحجيّة لهذه الظواهر غير اللفظيّة لا يمكن أن يكون بسيرة المتشرّعة وقيامها فعلا في عصر المعصومين على العمل في مقام استنباط الأحكام بظواهر الأفعال والأحوال غير اللفظيّة ؛ لأنّ طريق إثبات قيامها في الظواهر اللفظيّة قد لا يمكن تطبيقه في المقام لعدم شيوع ووفرة هذه الظواهر الحاليّة المجرّدة عن الألفاظ لتنتزع السيرة من الحالات المتعدّدة.

الطريق الأوّل : للاستدلال على حجيّة الظهور الحالي هو سيرة المتشرّعة.

والصحيح أنّ سيرة المتشرّعة لا يمكن من خلالها إثبات حجيّة الظهور الحالي ، لأنّه

٤٠٥

لا يمكن إثبات قيام وانعقاد سيرة الصحابة والأصحاب فعلا على الأخذ والعمل بظهور حال الشارع ؛ لأنّ تصرفات وأفعال وأحوال الشارع كانت نادرة جدا بحيث لا يمكننا من خلال عدد من الوقائع أن نثبت أنّ الشارع قد اعتمد على استنباط أحكامه من خلال ظهور حاله ، فإنّ الأحكام التي استفيدت من ظهور حال الشارع كانت من خلال ما نص عليه هو نفسه كما بالنسبة للحج وأفعاله أو للصلاة حيث إنّه أمر بالأخذ عنه حسب ما يفعله ويقوم به ، ولا توجد ظواهر توجب أو توحي بأن سيرة المتشرّعة كانت قائمة فعلا على العمل بظهور حال الشارع لاستنباط الأحكام الشرعيّة منه.

ومع عدم إمكانيّة إثبات السيرة لا يمكن جعلها دليلا على الحجيّة كما هو واضح.

كما لا يمكن أن يكون إثبات الحجيّة لها بالأدلة اللفظيّة الآمرة بالتمسّك بالكتاب وأحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام كما هو واضح ، لعدم كونها كتابا ولا حديثا.

الطريق الثاني : للاستدلال على حجيّة الظهور الحالي هو الأحاديث الآمرة بالتمسّك بالكتاب والسنّة كحديث الثقلين وغيره.

والصحيح أنّ هذا الطريق لا يمكننا من خلاله إثبات أكثر من كون الكتاب والسنّة كألفاظ يجب العمل بها وبظهورها ، ـ كما تقدّم سابقا ـ وأمّا الظهور الحالي فهو ليس كتابا ولا سنّة ولا حديثا ؛ ليكون داخلا في عموم الكتاب والسنّة كما هو واضح.

وإنّما الدليل هو السيرة العقلائيّة على ألا يدخل في إثبات إمضائها التمسّك بظهور حال المولى وسكوته في التقرير والإمضاء لأنّ الكلام في حجيّة هذا الظهور.

الطريق الثالث : هو السيرة العقلائيّة.

والصحيح أنّه يمكن الاستدلال بسيرة العقلاء على حجيّة الظهور الحالي ، وذلك لأنّ بناء العقلاء منعقد فعلا على العمل بظهور حال المتكلّم سواء في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة أم في الأغراض التشريعيّة.

ووجه الاستدلال بها من خلال الارتكاز والإيحاء الموجب للإضرار بغرض الشارع فيما لو لم يكن راضيا بذلك ، فإنّ هذا البناء من شأنه بحكم ارتكازه عند العقلاء أن

٤٠٦

يعمل به في أحكام الشارع أيضا بأن تستنبط الأحكام وفقا لظهور حال الشارع ، فمع عدم ردعه وسكوته يكتشف إمضاؤه وتقريره وقبوله بهذا البناء العقلائي.

إلا أنّه يشترط في كيفيّة اكتشاف الإمضاء ألا يدخل فيه استظهار حال الشارع ، بل يكتشف من خلال الطريق العقلي أي كونه آمرا وناهيا أو كونه هادفا وذا غرض ، والعاقل لا يفوّت غرضه.

وأمّا استظهار حال الشارع فاكتشاف الإمضاء به يكون مصادرة ودورا واضحا لأنّ الكلام في أصل إثبات حجيّة مثل هذا الظهور الحالي فما لم تثبت حجيّته لا يمكن جعله دليلا كما هو واضح.

* * *

٤٠٧
٤٠٨

الظهور التضمّني

٤٠٩
٤١٠

الظهور التضمّني

إذا كان للكلام ظهور في مطلب فظهوره في ذلك المطلب بكامله ظهور استقلالي ، وله ظهور ضمني في كل جزء من أجزاء ذلك المطلب ، ومثال ذلك أداة العموم في قولنا : ( أكرم كل من في البيت ) ونفرض أن في البيت مائة شخص ، فلأداة العموم ظهور في الشمول للمائة باعتبار دلالتها على الاستيعاب ، ولها ظهور ضمني في الشمول لكل واحد من وحدات هذه المائة ، ولا شكّ في حجيّة كل ظواهرها الضمنيّة.

تقدّم سابقا أنّ للكلام مدلولا مطابقيّا ومدلولا التزاميّا ، وهنا نريد أن نذكر المدلول الثالث وهو المدلول التضمني للكلام فهل هو حجّة أم لا؟

المراد من المدلول التضمني هو أن يكون للكلام ظهور في مطلب ما ويكون له ظهور في الشمول والاستيعاب لتمام أفراده ومصاديقه وأجزائه ، فإنّ ظهوره هذا يسمّى بالظهور الضمني أو التضمني.

ومثاله أدوات العموم ، كقولنا : ( أكرم كل من في البيت ) وفرضنا أنّ الموجودين في البيت مائة شخص ، فهنا يكون للكلام ظهور استقلالي ومدلول مطابقي وهو ثبوت حكم واحد على هذا المجموع ، وله أيضا ظهور تضمني في الشمول لكل فرد من الأفراد الموجودين في البيت بحيث ينحل وجوب الإكرام إلى وجوبات عديدة بعدد الأفراد الموجودين.

وكذلك الحال بالنسبة للأمر بالمركّب كالصلاة ، فإنّ وجوبها ينحل ويتعدّد بتعدّد الأجزاء ، فيسمّى وجوب الركوع والسجود ونحوهما وجوبا ضمنيّا ، ولا إشكال في حجيّة هذا الظهور التضمني ؛ لأنّ الشمول والاستيعاب والانحلال لكلّ الأفراد دخيل في وضع أداة لغة في لفظ العموم أو في حقيقة المركّب ، وهذا لا كلام لنا فيه.

٤١١

ولكن إذا ورد مخصّص منفصل دلّ على عدم وجوب بعض أفراد العام ، ولنفرض أنّ هذا البعض يشمل عشرة من المائة ، فهذا يعني أنّ بعض الظواهر الضمنيّة سوف تسقط عن الحجيّة لمجيء المخصّص.

والسؤال هنا : هو أنّ الظواهر الضمنيّة الأخرى التي تشمل التسعين الباقين هل تبقى على الحجيّة أو لا؟

فإن قيل بالأوّل كان معناه أنّ الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة ، وإن قيل بالثاني كان معناه التبعيّة ، كما تكون الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة.

وكلامنا فيما إذا ورد مخصّص منفصل يدلّ على عدم وجوب إكرام بعض الأفراد كما في المثال المذكور ، فنفرض أنّه ورد لا تكرم هؤلاء العشرة من الموجودين في البيت ، فهنا لا إشكال في سقوط المدلول المطابقي عن حجيّته وشموله لكل الأفراد ، لأنّنا نعلم بعدم الشمول ، وهذا يستلزم أيضا أنّ بعض الظواهر الضمنيّة سوف تسقط عن الحجيّة بسبب مجيء المخصّص المنفصل إذ العشرة التي ورد فيها المخصّص المنفصل ساقطة عن الحجيّة ولا يشملها العموم.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أيضا.

وإنّما الإشكال والكلام في وجوب الباقي من المدلولات والظهورات التضمنيّة فهل الأفراد الأخرى التي لم يرد فيها مخصّص حجّة أم أنّها تسقط عن الحجيّة تبعا لسقوط المدلول المطابقي أيضا؟

فإنّ قيل بأنّها لا تسقط عن الحجيّة بل تبقى واجبة كان معناه أنّ الظهور التضمني غير تابع للظهور المطابقي الاستقلالي في الحجيّة ، وإن قيل بأنّها تسقط عن الحجيّة أيضا ، كان معناه أنّها تابعة للظهور الاستقلالي في الحجيّة ، كما كانت الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة.

والأثر العملي بين القولين أنّه على الأوّل نتمسّك بالعام لإثبات الحكم لتمام من لم يشملهم التخصيص ، وعلى الثاني تسقط حجيّة الظواهر التضمنيّة جميعا ولا يبقى دليل حينئذ على أن الحكم هل يشمل تمام الباقي أم لا؟

والفارق العملي بين القولين : هو أنّه على القول بعدم تبعيّة المدلول التضمني

٤١٢

للمدلول الاستقلالي في الحجيّة سوف تكون الظواهر التضمنيّة الباقية على حجيّتها ، وذلك تمسكا بالعام ، فإنّ العام حجّة في الشمول والاستيعاب لكل أفراده خرج منه بعض الأفراد والمفروض أنّ هذا التخصيص للبعض لا يؤثّر على ظهور العام في الباقي فيكون الباقي لا يزال داخلا تحت العام ومشمولا لحكمه.

بينما على القول بتبعيّة الظهور التضمني للاستقلالي فهذا يعني أنّ الظهورات الباقية لا دليل على ثبوت الحكم فيها ؛ إذ المفروض أنّ العام سقطت حجيّته في الشمول لكل الأفراد ، وأنّ كل الظهورات التضمنيّة سقطت عن الحجيّة ، وعليه فلا يعلم الحكم المقصود من العام من حيث الأفراد هل هو شامل لتمام الأفراد الباقية أم لا؟

وقد ذهب بعض الأصوليّين إلى سقوط الظواهر والدلالات التضمنيّة جميعا عن الحجيّة ؛ وذلك لأنّ ظهور الكلام في الشمول لكل واحد من المائة في المثال المذكور إنّما هو باعتبار نكتة واحدة وهي الظهور التصديقي لأداة العموم في أنّها مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاستيعاب ، وبعد أن علمنا أنّ الأداة لم تستعمل في الاستيعاب بدليل ورود المخصّص وإخراج عشرة من المائة نستكشف أنّ المتكلّم خالف ظهور حاله واستعمل اللفظ في المعنى المجازي ، وبهذا تسقط كل الظواهر الضمنيّة عن الحجيّة ؛ لأنّها كانت تعتمد على هذا الظهور الحالي الذي علم بطلانه ، وفي هذه الحالة يتساوى افتراض أن تكون الأداة في المثال مستعملة في التسعين أو في تسعة وثمانين لأنّ كلا منهما مجاز ، وأيّ فرق بين مجاز ومجاز؟!

ذهب بعض الأصوليّين ممّن تقدّم على سلطان المحقّقين إلى أنّ العام بعد تخصيصه بالمخصّص المنفصل يسقط عن الحجيّة في الباقي ، وهذا هو معنى سقوط الدلالات التضمنيّة جميعا عن الحجيّة بعد ورود المخصّص المنفصل على العام ، فإذا قيل : ( أكرم كل من في الدار ) وكان المجموع مائة.

ثمّ ورد مخصّص منفصل يستثني عشرة منهم لسبب خاص فهنا يعلم بأن أداة العموم لم تستعمل في معناها الحقيقي الذي وضعت له لغة وهو الشمول والاستيعاب لكل أفراد المدخول ، إذ المفروض أنّ المخصّص المنفصل قد أسقط بعض الأفراد عن الحجيّة وأخرجها عن العموم والاستيعاب المدلول عليه بالأداة ، وهذا يعني أنّ المراد الجدّي الواقعي لم يكن متطابقا مع المراد الاستعمالي وهذا أيضا لم يكن متطابقا مع

٤١٣

المدلول التصوّري للأداة ؛ لأنّ المراد الجدّي المنعقد وفقا للقرينة المنفصلة يدلّ على أنّه استعمل أداة العموم في غير ما وضعت له أي الاستيعاب لكل الأفراد لأنّه علم يقينا بأنّها لم تستعمل إلا في البعض لا في تمام الأفراد كما هو مفاد المخصّص المنفصل.

فينتج من ذلك أنّ أداة العموم مستعملة في المعنى المجازي لا الحقيقي والدليل الكاشف عن ذلك هو ورود المخصّص المنفصل المسقط لبعض الأفراد عن الشمول والاستيعاب ، فيكون المتكلّم مخالفا لظهور حاله أوّلا في أنّه قد استعمل أداة العموم في الشمول والاستيعاب لكل الأفراد والذي هو المعنى الحقيقي الموضوعة الأداة له ، وإنّما استعملها في معناها المجازي بقرينة ورود المخصّص المنفصل المسقط لبعض الظواهر التضمنيّة.

وبما أنّه قد ثبت أنّ الأداة غير مستعملة في معناها الحقيقي وإنّما استعملت في المعنى المجازي فلا دليل ولا معيّن لحجيّة العموم في باقي الأفراد إذ كما يحتمل أن يكون ما هو الباقي على الحجيّة هو التسعين كذلك يحتمل الأقلّ من ذلك وحيث لا معين لأحدها على الآخر يكون المراد الجدّي بعد التخصيص مجملا ، ولا يعلم يقينا أيّة مرتبة من مراتب المجاز أراد ؛ لأنّ كل المراتب الأخرى مجاز إذ لا استيعاب فيها لتمام الأفراد ، وما دام الاستعمال مجازيا فأيّ فرق بين هذا المجاز وذاك؟! إذ كل المراتب على حدّ سواء في ذلك ، ومجرّد أقربيّة التسعين مثلا من غيرها إلى المائة لا يوجب ترجيحها وتعيينها على غيرها لأنّ هذه الأقربيّة ليست من المعنى وإنّما من المصداق والعدد خارجا.

وقد أجاب على ذلك جملة من المحقّقين كصاحب ( الكفاية ) رحمه‌الله بأنّ المخصّص المنفصل لا يكشف عن مخالفة المتكلّم لظهور حاله في استعمال الأداة في معناها الحقيقي ، وإنّما يكشف فقط عن عدم تعلّق إرادته الجديّة بإكرام الأفراد الذين تناولهم المخصّص ، فبالإمكان الحفاظ على هذا الظهور وهو ما كنّا نسمّيه بالظهور التصديقي الأوّل فيما تقدّم ونتصرّف في الظهور التصديقي الثاني وهو ظهور حال المتكلّم في أن كل ما قاله وأبرزه باللفظ مراد له جدا ، فإنّ هذا الظهور لو خلّي وطبعه يثبت أنّ كل ما يدخل في نطاق المعنى المستعمل فيه فهو مراد جدّا ، غير أنّ المخصّص يكشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا كذلك ، فكلّ فرد كشف

٤١٤

المخصّص عن عدم شمول الإرادة الجديّة له نرفع اليد عن الظهور التصديقي الثاني بالنسبة إليه ، وكل فرد لم يكشف المخصّص عن ذلك فيه نتمسّك بالظهور التصديقي الثاني لإثبات حكم العام له.

وقد أجاب بعض المحقّقين على ذلك بأنّه بالإمكان التمسّك بالعام في الأفراد الباقية بعد التخصيص. فذكر صاحب ( الكفاية ) رحمه‌الله أنّ للكلام ثلاثة مداليل كما تقدّم ، وهي :

١ ـ مرحلة المدلول التصوّري وهي مرتبطة بوضع اللفظ للمعنى وهذه المرتبة محفوظة دائما حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف.

٢ ـ مرحلة المدلول التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعماليّة وهي أنّه أراد إخطار واستعمال هذا اللفظ في معناه الموضوع له لغة ، وهذه المرتبة تتوقّف على عدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، إذ مع وجودها يكون استعمال اللفظ مجازا.

٣ ـ مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، أي الإرادة الجديّة ، أي أنّه أراد جدّا هذا المعنى الموضوع له اللفظ ، وهذه المرتبة تتوقّف على عدم ورود القرينة مطلقا سواء المتّصلة والمنفصلة على الخلاف.

وعلى هذا فإذا ورد المخصّص المنفصل كشف عن أن مراده الجدّي ليس مطابقا لمراده الاستعمالي ، بمعنى أنّه أراد جدّا خلاف ما أراده استعمالا ، ولذلك يختلّ التطابق بين الارادة الاستعماليّة والإرادة الجديّة ، فيكون المخصّص المنفصل كاشفا عن عدم تعلّق مراده الجدّي بإكرام تمام الأفراد خلافا لما أفاده في مرحلة الإرادة الاستعماليّة ، وهذا يعني أنّ المنثلم هو المدلول التصديقي الثاني لا الأوّل ، فالأداة لا تزال مستعملة في معناها الحقيقي الذي وضعت له ، بينما المدلول التصديقي الثاني وهو مراده الجدّي والذي كنّا نثبته على أساس ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يقوله ويبرزه في كلامه فهو مراده الجدّي ، ينكشف بالمخصّص المنفصل عدم تحققه.

وبتعبير آخر : أنّ ظهور حال المتكلّم في أنّه أراد جدا ما أبرزه واستعمل اللفظ فيه لو خلّي وطبعه ولم يذكر المتكلّم قرينة على خلافه فهو يقتضي أنّ كل ما أفاده وقاله هو مراده الجدّي ، وحيث إنّه ذكر الأداة الدالة على العموم والاستيعاب لكل الأفراد ، فيكون مراده الجدّي هو شمول الحكم لتمام الأفراد ، فإذا جاء المخصّص المنفصل

٤١٥

كشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا مرادين جدّا ، وأمّا سائر الأفراد الأخرى فهي داخلة تحت العموم والاستيعاب ، إذ لا مخرج لها.

وبكلمة أوضح : أنّ كل فرد من الأفراد داخل في المراد الجدّي ولا يرفع اليد عن العموم بلحاظه ما لم تكن هناك قرينة على الخلاف ، فإذا جاء المخصّص المنفصل وأخرج بعض الأفراد من المراد الجدّي ثبت عدم إرادة العموم والشمول لهذا البعض من الأفراد.

وأمّا سائر الأفراد الأخرى فحيث إنّه لم يثبت خروجها عن المراد الجدّي ، وحيث إنّ الأداة لا تزال مستعملة في معناها الحقيقي وهو الشمول والاستيعاب فهي لا تزال داخلة في العموم ، فإذا شكّ في عدم إرادتها بعد ورود التخصيص أمكننا التمسّك بالعام لإثبات حكمه بلحاظها.

وبهذا ظهر أنّ العام يبقى على حجيّته بلحاظ الأفراد الباقية بعد ورود المخصّص المنفصل ، وذلك تمسّكا بالعام فيها ، إذ لا دليل على خروجها عن عموم العام (١).

__________________

(١) وأجاب الميرزا النائيني عن ذلك أيضا وفقا لمبناه من أنّ الظهور التصديقي متوقف على عدم القرينة المنفصلة على الخلاف فمع ورود المخصّص المنفصل يثبت أنّ مراده الجدّي هو الباقي بعد التخصيص ، لأنّ ورود المخصّص المنفصل يكشف عن كون المراد الجدّي ليس تمام الأفراد بل البعض فقط ولذلك يكون الظهور التصديقي منعقدا من أوّل الأمر على شمول باقي الأفراد فقط ، لا للجميع ، وذلك بقرينة ورود المخصّص المنفصل الذي أخرج ذلك البعض.

وبهذا لا يكون المخصّص المنفصل موجبا للمجازية أصلا ، وإنّما يوجب تضييق دائرة المراد الجدّي والظهور التصديقي ، فبعد أن كانت دائرته أوسع صارت دائرته أضيق بسبب هذا المخصّص المنفصل.

وعليه ، فالمخصّص المنفصل يوجب تضييق دائرة مدخول الأداة فقط ، وهي لا تزال مستعملة لاستيعاب تمام أفراد مدخولها فتكون باقي الأفراد حجّة وداخلة تحت العام وضمن المراد الجدّي.

وأجاب الشيخ الأنصاري عن ذلك بأنّنا نلتزم بالمجازية مع ورود المخصّص المنفصل ، ولكن مع ذلك يبقى العام حجّة في باقي الأفراد ؛ وذلك لأنّ دلالة العام على كل فرد فرد ليست مترابطة من حيث الدلالة ، فكلّ فرد يشمله العام بقطع النظر عن الفرد الآخر ، فمع ورود المخصّص المنفصل المخرج لبعض الأفراد معناه أنّ الأداة لم تستعمل في معناها الحقيقي أي الشمول لكل الأفراد ، إلا أنّ شمولها للبعض لا يزال ثابتا إذ لا ارتباط لهذا البعض بالبعض الآخر ، والمفروض أنّه لا دليل على خروجه أيضا فيتمسك بالعام بلحاظه.

٤١٦

وفي بادئ الأمر قد يخطر في ذهن الملاحظ أنّ هذا الجواب ليس صحيحا ، لأنّه لم يصنع شيئا سوى أنّه نقل التبعيض في الحجيّة من مرحلة الظهور التصديقي الأوّل إلى مرحلة الظهور التصديقي الثاني ، فإذا كان الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة فلما ذا لا نعمل على التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الأوّل؟ وإذا كان تابعا له كذلك فكيف نعمله في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ونلتزم بحجيّة بعض متضمناته دون بعض؟

قد يقال : إنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) لا يجيب عن التساؤل المطروح سابقا ؛ وذلك لأنّه لم يصنع شيئا سوى أنّه نقل التبعيض من الدلالة التصديقيّة الأولى إلى الدلالة التصديقيّة الثانيّة ، أي أنّه ادّعى أنّ المخصّص المنفصل يوجب التبعيض في المراد الجدّي لا في المراد الاستعمالي خلافا لما تقدّم سابقا من وجه سقوط الظواهر التضمنيّة المبني على أنّ الأداة استعملت مجازا ، وهذا لا يعد وأن يكون دعوى مقابل دعوى ، إذ لم يذكر النكتة والمناط الذي على أساسه يكون المخصّص المنفصل موجبا للتبعيض في مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، فإنّه وان كان على حقّ في نقل هذا التبعيض إلى هذه المرحلة إلا أنّه لم يبيّن نكتة ذلك.

وعليه فيمكن لمعترض أن يقول : إنّ الظهور التضمني إذا كان تابعا للظهور الاستقلالي في الحجيّة فما دام قد علم بسقوط الظهور الاستقلالي فهذا يستلزم سقوط الظهور التضمني سواء كان التبعيض في مرحلة المدلول التصديقي الأوّل كما هو الادّعاء السابق ، أم المدلول التصديقي الثاني كما هو ادّعاء صاحب ( الكفاية ) ؛ لأنّه إذا كان ساقطا فلا يضرّنا كون التبعيض في الارادة الاستعمالية وأنّ الأداة مستعملة مجازا ، أو كونها مستعملة حقيقة والتبعيض في الإرادة الجديّة.

وإذا كان الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة بمعنى أنّه حتّى وإن سقط المدلول المطابقي عن الحجيّة فالمدلول التضمني لا يزال على الحجيّة فهنا نتمسّك بحجيّة هذا المدلول التضمني لإثبات بقاء الباقي تحت العام سواء كان التبعيض في الإرادة الاستعمالية أم في الإرادة الجديّة ، أي سواء كانت الأداة مستعملة حقيقة أم مجازا لأنّ الباقي ما دام حجّة فلا يضرنا الأوّل ولا ينفعنا شيئا زائدا الثاني.

والحاصل أنّ كلام الآخوند لم يصنع شيئا في الجواب على هذا الإشكال إذ مجرّد

٤١٧

التبعيض من دون إبراز المناط والنكتة لا يفيد شيئا ، إذ لا مرجّح لإحدى الدعويين على الأخرى ، إذ الأوّل يفيد اختلال التطابق بين المدلول التصوّري والإرادة الاستعمالية ، والثاني يفيد اختلال التطابق بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجديّة وكلا الاصالتين مبتنيتان على ظهور حال المتكلّم الذي علم بالمخصّص المنفصل انهدامه.

وردّنا على هذه الملاحظة :

إنّ فذلكة الجواب ونكتة نقل التبعيض من مرحلة إلى مرحلة هي أنّ الظواهر الضمنيّة في مرحلة الظهور التصديقي الأوّل مترابطة ولها نكتة واحدة ، فإن ثبت بطلان تلك النكتة لم يسلم شيء من تلك الظواهر الضمنيّة ، والنكتة هي ظهور حال المتكلّم في أنّه يستعمل اللفظ استعمالا حقيقيّا ، فإنّ هذا هو الذي يجعلنا نستظهر أنّ هذا الفرد من المائة داخل في نطاق الاستعمال وذاك داخل ، وهكذا.

فإذا علمنا بأنّ اللفظ قد استعمل مجازا وأنّ المتكلّم قد خالف ظهوره الحالي المذكور فلا موجب بعد ذلك لافتراض أن هذا الفرد أو ذاك داخل في نطاق الاستعمال.

ويمكننا الإجابة عن هذه الملاحظة بأنّه توجد نكتة على أساسها ينقل التبعيض من المدلول التصديقي الأوّل إلى الثاني.

وتوضيح ذلك : أنّ الظواهر الضمنيّة تارة تكون بلحاظ المدلول التصديقي الأوّل ، وأخرى بلحاظ المدلول التصديقي الثاني ، فإن كانت على مستوى الإرادة الاستعمالية فهذا يعني أنّنا أثبتنا أنّ أداة العموم في المثال المتقدّم مستعملة في معناها الحقيقي الموضوعة له وهو الاستيعاب والشمول لكل الأفراد ، فالمثبت لهذه الظواهر هو أصالة التطابق بين المدلول التصوّري في أنّه أخطر المعنى من اللفظ الموضوع له ، وبين المدلول التصديقي الأوّل في أنّه استعمل اللفظ في هذا المعنى استنادا إلى ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يخطره في الذهن فهو يريد استعماله على نحو الحقيقة لا المجاز ، وعلى أساس هذه الأصالة يثبت دخول كل فرد من الأفراد التي ينطبق عليه مدخول الأداة في الإرادة الاستعمالية ، وهذه الأصالة لا يرفع اليد عنها إلا إذا ثبت أنّه خالف ظهور حاله ، واستعمل اللفظ في غير المعنى الموضوع له مجازا ، فإن وجد ما يدلّ على المجاز بأن ذكر قرينة متّصلة على الخلاف كان ذلك هادما لهذه الأصالة والتي هي النكتة

٤١٨

الوحيدة التي تثبت دخول كل الأفراد في الاستعمال ، فإذا اختلت وبطلت هذه النكتة لم يبق دليل على أنّ هذا الفرد داخل في الاستعمال أو ذاك.

وبذلك يكون كلام المستشكل تامّا هنا إذ لا فرق في المجاز بين إرادة هذا البعض دون الآخر ، لأنّه ترجيح بلا مرجّح فيكون الكلام مجملا ، وبالتالي لا يمكننا إثبات أنّ العام مستعمل في باقي الأفراد ؛ لأنّ النكتة الوحيدة التي تفيد هذا الترابط قد علم بطلانها.

وهذا خلافا للظواهر الضمنيّة في مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، فإنّ نكتة كل واحدة منها مستقلّة عن نكتة الباقي ، فإنّ كل جزء من أجزاء مدلول الكلام ـ أي المعنى المستعمل فيه ـ ظاهر في الجديّة ، فإذا علمنا ببطلان هذا الظهور في بعض أجزاء الكلام فلا يسوّغ ذلك رفع اليد عن ظهور الأجزاء الأخرى من مدلول الكلام في الجديّة.

وأمّا إذا كانت الظواهر الضمنيّة على مستوى المدلول التصديقي الثاني أي الإرادة الجديّة أي أنّ أداة العموم المستعملة حقيقة في العموم يراد بها جدّا الاستيعاب والشمول لكل فرد من الأفراد ، فإنّ النكتة في كون كل فرد من الأفراد مرادا على نحو الجديّة تختلف عن النكتة في سائر الأفراد ، أي أنّه لا يوجد ترابط بين إرادة هذا الفرد وبين إرادة غيره ؛ إذ يمكن للمتكلّم أن يريد تمام الأفراد أو بعضها فإنّ هذا تابع لما هو المراد الجدّي الواقعي ، والذي يعرف من خلال أصالة التطابق بين المدلول التصديقي الأوّل والثاني ، أي أنّه أراد جدّا ما استعمل اللفظ فيه ، وحيث إنّه استعمل اللفظ في العموم والشمول لكل الأفراد لأنّه لم ينصب قرينة على الخلاف فهو يريد جدا دخول كل فرد من الأفراد.

وعليه ، فإذا علمنا فيما بعد بعدم إرادة دخول تمام الأفراد بأن ذكر قرينة منفصلة على إخراج بعض الأفراد دلّ هذا على أنّ مراده الجدّي ليس متعلّقا بالجميع ، وأمّا أنّ الباقي هل هو مراد جدا له أم لا؟ فهذا يثبت بما ذكرناه الآن من أنّ كل فرد له نكتة مستقلّة عن غيره من الأفراد على مستوى الإرادة الجديّة ؛ ولذلك يثبت بالمخصّص المنفصل سقوط النكتة الموجبة لدخول الأفراد الذين دلّ المخصّص على خروجها وأمّا الأفراد الباقية فنكتة إرادتها جدا لا تزال على حالها ولا موجب لسقوطها.

وبذلك يكون كلام صاحب ( الكفاية ) تامّا أي أنّه إذا كان التبعيض في الإرادة

٤١٩

الجديّة لا الاستعمالية أمكننا إثبات حجيّة الباقي بنفس كون العام مستعملا في معناه الموضوع له على نحو الحقيقة وهو الاستيعاب والشمول لكل الأفراد.

وهكذا يثبت أنّ العام حجّة في الباقي ،

وحيث إنّنا ذكرنا سابقا أنّ المخصّص المنفصل لا يتدخّل في الإرادة الاستعمالية ولا في أصل انعقاد الإرادة الجديّة وإنّما يكشف فقط عن عدم حجيّة الظهور التصديقي من حين مجيء المخصّص المنفصل ، فهذا يعني أنّ التبعيض كان بلحاظ المدلول التصديقي الثاني لا الأوّل ، وبالتالي يكون ما ذكره صاحب ( الكفاية ) صحيحا ، لأنّنا نتمسّك بنفس العام لإثبات دخول الباقي في المراد استنادا إلى أنّ اللفظ لا يزال مستعملا في معناه الحقيقي فهو يشمل كل الأفراد تصوّرا وقد استعمل في ذلك تصديقا غير أنّه علم بخروج بعض الأفراد وأنّها ليست مرادة جدّا ، وأمّا الباقي فهو لا يزال على حاله لأنّ نكتة دخوله في الإرادة الجديّة غير مرتبطة بغيرها بل مستقلّة عن النكتة لكلّ فرد من الأفراد الأخرى.

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنّ الاستشكال في حجيّة العام في تمام الباقي بعد التخصيص ـ على النحو المتقدّم ـ إنّما أثير في المخصّصات المنفصلة دون المتّصلة ، نظرا إلى أنّه في حالات المخصّص المتّصل كما في ( أكرم كل من في البيت إلا العشرة ) تكون الأداة مستعملة في استيعاب أفراد مدخولها حقيقة غير أنّ المخصّص المتّصل يساهم في تعيين هذا المدخول وتحديده ، فلا تجوّز ليقال : أيّ فرق بين مجاز ومجاز؟

هذا كلّه بالنسبة إلى المخصّص المنفصل ، وأمّا المخصّص المتّصل فلم يستشكل أحد في أنّ الباقي بعد التخصيص حجّة.

والوجه في ذلك : هو أنّه إذا قيل : ( أكرم كل من في البيت إلا العشرة ) دلّ ابتداء على أنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب تمام أفراد مدخولها فلا بدّ إذا من تحديد هذا المدخول.

وهنا لا بدّ أن يلاحظ كل ما ذكره في كلامه لتحديد مدخول الأداة ، وحيث إنّه ذكر ( كل من في البيت إلا العشرة ) فتكون الأداة داخلة على هذا المفهوم الذي أخرج منه العشرة أي أنّها داخلة ابتداء على التسعين وتفيد الاستيعاب والشمول لتمام أفراد

٤٢٠