شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

العنوان ، بحيث كان لهذا الإرجاع ضابطة كلية عامّة وهي أنّ خبر الثقة حجّة أو الثقة يجوز التعويل والاعتماد على إخباره ، وهذا الإرجاع جاء في بعض الأخبار ابتداء من الإمام بأن كان ردّا وجوابا على سؤال من استعلم عمّن يرجع إليه ، أو كان تعليلا للأمر بالرجوع إلى بعض الأشخاص والأخذ عنهم بحيث يفهم من ذلك أنّ الإرجاع لم يكن له عنوان خاص وإنّما كان لأجل كونهم ثقات.

وهذه الطائفة أحسن ما يمكن أن يستدلّ به على حجيّة خبر الواحد مطلقا ، لأنّ لسانها ومنطوقها يدلّ على ذلك صريحا.

ثمّ إنّ أخبار هذه الطائفة تقسم إلى قسمين : فبعضها يمكن المناقشة فيها دلالة ، وبعضها الآخر تام الدلالة ، يبقى إثبات صدورها فقط ، ولذلك قال :

وفي روايات هذه الطائفة ما لا يخلو من مناقشة أيضا ، من قبيل قوله : « فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأننا نفاوضهم بسرّنا ونحمله إياهم إليهم ».

فإنّ عنوان ( ثقاتنا ) أخصّ من عنوان ( الثقات ) ، ولعلّه يتناول خصوص الأشخاص المعتمدين شخصيا للإمام والمؤتمنين من قبله ، فلا يدلّ على الحجيّة في نطاق أوسع من ذلك.

القسم الأوّل من أخبار الطائفة العاشرة ، ما ورد منهم بلسان الإرجاع إلى بعض الأشخاص تحت عنوان ( ثقاتنا ) ، فإنّ هذا اللسان يمكن المناقشة فيه ، بمنع دلالته على حجيّة مطلق خبر الثقة بالنحو المبحوث عنه أصوليّا ؛ وذلك لأنّ عنوان الثقات المضاف إليهم أخصّ من عنوان الثقات مطلقا. وعليه ، فربما يكون الإرجاع إلى هؤلاء الثقات من باب إحراز الإمام لوثاقته ويقينه بأنّه لا يقول إلا الصدق فقط ، وإنّ قوله يوجب العلم لدى السامع ، ولذلك لا ينبغي التشكيك فيما يرويه هذا الثقة والمعتمد.

فغاية ما تدلّ هذه الأخبار على أنّ هؤلاء الثقات الذين وثّقهم الإمام والذين يفاوضهم الإمام بسرّه يجب قبول ما يحدّثون به حتّى وإن لم يفد العلم للسامع ، لأنّ أمثالهم لا يحدّثون إلا بما هو صادر عن الأئمّة وبما هو ثابت واقعا ، ولا دلالة لها على أنّ مطلق الثقة يجب قبول خبره.

مضافا إلى أنّ الرواية تضمّنت ما يحتمل معه كون هؤلاء الثقات يحدّثون بأخبار

٢٤١

عن أحوال الأئمّة الخاصّة التي لا يطّلع عليها إلا الخواص من الأصحاب ولذلك لا ينبغي رفضها لمجرّد غرابتها أو عدم العلم بها.

وفي روايات هذه الطائفة ما لا مناقشة في دلالتها ، من قبيل ما رواه محمد بن عيسى ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك إني لا أكاد أصل إليك لأسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : « نعم ».

ولمّا كان المرتكز في ذهن الراوي أنّ مناط التحويل هو الوثاقة وأقرّه الإمام على ذلك دلّ الحديث على حجيّة خبر الثقة.

القسم الثاني من أخبار الطائفة العاشرة : ما ورد بلسان الإرجاع إلى الثقات بعنوان عام وكلّي بحيث يفهم منها أنّ مناط الإرجاع إليهم كان لمجرّد وثاقتهم التي يشخصها ويحرزها الراوي لا الإمام ، بحيث يفهم من الرواية المذكورة أنّ الراوي قد ارتكز في ذهنه أنّ كل ثقة يجب العمل بخبره ، ولذلك سأله عن تشخيص الصغرى فقط وهي : أنّ يونس هل هو ثقة لكي آخذ عنه معالم الدين أو ليس كذلك؟ فأجابه الإمام أنّه ثقة وسكت عن الكبرى ، فسكوته عن هذه الكبرى إقرار وإمضاء بأنّ كل ثقة يجوز بل يجب التعويل على إخباره وقوله ، وهذه الكبرى معناها حجيّة خبر الثقة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، لترك الإمام والسائل الاستفصال عن ذلك.

فدلالة هذه الأخبار تامّة ، يبقى إثبات صدورها وسندها ، فنقول :

غير أنّ عدد الروايات التامّة دلالة على هذا المنوال لا يبلغ مستوى التواتر لأنّه عدد محدود. نعم ، قد تبذل عنايات في تجميع ملاحظات توجب الاطمئنان الشخصي بصدور بعض هذه الروايات لمزايا في رجال سندها ونحو ذلك.

وأمّا سند هذه الروايات فهو ليس قطعيّا لأنّها أخبار آحاد فهي ظنيّة السند ولذلك لا يمكن الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لأنّها هي نفسها أخبار آحاد فيكون الاستدلال بها مصادرة على المطلوب ، حيث ان الاستدلال عين المدعى ، فيلزم منه الدور الباطل ، وليست هذه الأخبار بالغة مستوى التواتر ليقال بصحّة سند بعضها على أساس التواتر لأنّها من حيث العدد والكم لا يمكن أن يحصل منها على أساس

٢٤٢

المضعّف الكمّي المتقدّم في حساب الاحتمالات اليقين لأنّ مجموع هذه الروايات لا يتجاوز الخمسة عشر رواية فقط.

نعم ، قد يقال بأنّه توجد بعض الخصوصيات والمزايا والملاحظات والقرائن توجب حصول الاطمئنان الشخصي بصدور بعض هذه الأخبار لوجود مزايا في رجال سندها ، كما هو الحال في رواية الحميري المروية في الكافي ج ١ ص ٣٣٠ ، فإنّه بضمّ هذه الخصوصيات والمزايا والتي هي المضعّف الكيفي إلى المضعّف الكمّي المتقدّم يمكن أن يحصل الاطمئنان الشخصي بصدور هذه الرواية وأنّها قطعية فتتمّ بذلك الدلالة على حجيّة خبر الواحد دلالة وسندا (١).

والطريق الآخر لإثبات السنّة هو السيرة ، وذلك بتقريبين :

الأوّل : الاستدلال بسيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمّة على العمل بأخبار الثقات ، وقد تقدّم كيفيّة استكشاف الدليل الشرعي عن طريق السيرة ، سواء كانت سيرة أولئك المتشرّعة على ما ذكرناه بوصفهم الشرعي أو بما هم عقلاء.

الطريق الثاني : أن يستدلّ على حجيّة خبر الواحد بالسيرة التي يستكشف بها السنّة ، وهذه السيرة يتمّ استكشاف السنّة بها على أحد أساسين لأنّها على قسمين ، سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء.

التقريب الأوّل : أن يستدلّ بسيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمّة حيث إنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بأخبار الثقات الذين كانوا ينقلون الأخبار عن الأئمّة المتقدمين ، فعملهم هذا دليل على أنّ العمل بخبر الثقة جائز شرعا وحجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ؛ لأنّ أصحاب الأئمّة ليس كلّهم على تلك الدرجة الرفيعة من الوثاقة والعدالة والورع ، بل كانوا يختلفون بذلك ، فليس كلّهم كان خبره يفيد العلم ليقال

__________________

(١) ويمكن بيان هذه المزية بأن كتاب ( الكافي ) الذي وردت فيه رواية الحميري مقطوع كونه للكليني الذي هو ثقة الإسلام والراوي الجليل الذي لا يتعمد الكذب ، والراوي لهذه الرواية هو الحميري الذي اتفق الأصحاب على وثاقته ومكانته وأنّه شيخ الأصحاب في قم الذين يدققون جدا في سند الأخبار والضعفاء كما هو المعروف تاريخيا عنها.

وبهذا يثبت أنّ هذه الرواية صادرة عن المعصومين : ودلالتها واضحة كما تقدّم فيثبت ويتمّ الاستدلال بها على المطلوب.

٢٤٣

باختصاص العمل وقبول أخبارهم فيما إذا أفاد العلم فقط ، بل كان فيهم الثقة الجليل وكان فيهم دون ذلك بدرجات.

يبقى إثبات أنّ سيرة المتشرّعة كانت قائمة بالفعل على العمل بأخبار الثقات ، وهذا يمكن إثباته بإحدى الطرق التي تقدمت في إثبات السيرة في الحلقة الثانية ، والتي أهمّها أنّه لو لم يكن العمل بخبر الثقة ثابتا بين المتشرّعة مع احتياجهم لطريق معرفة أحكامهم لكان المفروض وجود طريق آخر هو المعتمد في ذلك ، وحيث إنّ المسألة محل ابتلاء فلا بدّ أن يستعلم عنها وبالتالي يكثر السؤال والجواب ، وكما هو المعتاد لا بدّ أن يصلنا شيء عن هذا الطريق الآخر البديل مع توفر الدواعي لنقله حيث إنّ الرواة رووا ما لا حاجة للناس به وما ليس موردا للابتلاء نوعا ، وحيث إنّه لا وجود لهذا الطريق الآخر البديل لزم كون العمل بخبر الثقات كان هو المتبع والمعتمد عند الأئمّة خصوصا مع وجود الروايات المتقدّمة التي بعضها يدلّ على العمل به صريحا أو التزاما ، وهذا المقدار يكفي للقول بأنّ عمل أصحاب الأئمّة بخبر الواحد كان مستفادا من المعصومين أنفسهم عليهم‌السلام ، وهذا بدوره يكشف عن طريق الإن على وجود السنّة الشريفة ؛ لأنّ عمل الأصحاب معلول دائما للدليل الشرعي ، وذلك بوصفهم متدينين ومتشرعين لا يعملون إلا وفق الموازين الشرعيّة ، فيكون عملهم هذا بنفسه كاشفا عن السنّة كشف المعلول عن علته ، ولا يحتاج إلى إثبات رضا الإمام بذلك عن طريق السكوت وعدم الردع.

نعم ، يحتاج إلى ذلك فيما إذا كان المتشرّعة يعملون بخبر الثقة على أساس طبيعتهم وسليقتهم العرفية العقلائيّة لا بوصفهم متشرّعة ، فهنا نحتاج إلى ضمّ سكوت الإمام وعدم ردعه عن عملهم وبنائهم ليكون كاشفا عن الإمضاء والقبول ، وهذا الأمر يمكن إثباته أيضا بأحد الطرق المتقدّمة ؛ لأنّ عملهم هذا إذا لم يكن مورد القبول من الأئمّة لكان من اللازم الردع عنهم ونهيهم عن ذلك ، لأنّ بناءهم هذا يؤثّر على الأحكام الشرعيّة ، إما بنحو مباشر أو غير مباشر ، وبالتالي لا بدّ من وجود ما يدلّ على هذا النهي ، كما هو الحال بالنسبة للقياس وغيره ، وحيث إنّه لم يصلنا شيء يدلّ على النهي عن العمل بخبر الواحد بل الواصل عكس ذلك ثبت أنّ خبر الواحد والعمل به صحيح وجائز شرعا ، وهو المطلوب.

٢٤٤

الثاني : الاستدلال بسيرة العقلاء على التعويل على أخبار الثقات ، وذلك أنّ شأن العقلاء ـ سواء في مجال أغراضهم الشخصيّة التكوينيّة أم في مجال الأغراض التشريعيّة وعلاقات الآمرين بالمأمورين ـ العمل بخبر الثقة والاعتماد عليه ، وهذا الشأن العام للعقلاء يوجب قريحة وعادة لو ترك العقلاء على سجيتهم لأعملوها في علاقاتهم مع الشارع ولعوّلوا على أخبار الثقات في تعيين أحكامه ، وفي حالة من هذا القبيل لو أنّ الشارع كان لا يقرّ حجيّة خبر الثقة لتعيّن عليه الردع عنها حفاظا على غرضه ، فعدم الردع حينئذ معناه التقرير ومؤداه الإمضاء.

التقريب الثاني : أن يستدلّ على استكشاف السنّة من خلال السيرة العقلائيّة ، وهذه السنّة مؤداها العمل بخبر الواحد وحجيّته.

وتقريب الاستدلال بالسيرة العقلائيّة أن يقال : إنّ العقلاء يعملون بخبر الواحد في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة بحيث إنّ كل عاقل يعتمد على خبر الواحد الثقة في تحصيل غرضه الشخصي التكويني كالرجوع إلى اللغوي مثلا لتحصيل الغرض الشخصي والاطلاع على معنى الكلمة ، أو الرجوع إلى الأطباء وغيرهم من ذوي الخبرات في الأمور التي يختصون بها وقبول إخباراتهم فيها لمجرّد الوثوق بهم ، هذا في الأغراض التكوينيّة.

ويمكن أيضا أن تكون السيرة العقلائيّة قائمة أيضا على الاعتماد على العمل بخبر الثقة في مجال أغراضهم التشريعيّة وذلك نظرا إلى علاقة الآمرين بالمأمورين ، والرؤساء بالمرءوسين ، حيث إنّهم يحتجّون بخبر الثقة إذا أخبر بأحكام المولى والرئيس ، فيما لو ادّعى المأمور بأنّ خبر الثقة ليس حجّة فلا يكون منجزا أو معذّرا ، فيرون أنّه يستحق المؤاخذة والعقوبة لتركه العمل بخبر الثقة لمجرّد ادعاء عدم الحجيّة له ، وهكذا أيضا يكون معذّرا للعبد فيما لو أمره بعدم التكليف فلم يمتثل فإنّه يصحّ أن يحتج به على مولاه.

وعلى كل حال سواء كانت السيرة العقلائيّة وبناء العقلاء قائمة على العمل بخبر الثقة في أغراضهم التشريعيّة أم على الأقلّ كانت قائمة على العمل به في الأغراض التكوينة ، فهي في كلا الحالين تشكّل إيحاء لدى العقلاء ـ ولو كان هذا الإيحاء خاطئا ـ بأنّ الشارع يرضى بالعمل بخبر الواحد الثقة بلحاظ أغراضه التشريعيّة بينه

٢٤٥

وبين عبيده ومواليه أيضا ، وأنّ العمل بخبر الثقة جائز شرعا وحجّة كذلك ، على أساس تأثرهم بالعمل به في أغراضهم والتعويل عليه في تحصيل وتنظيم العلاقات التشريعيّة عندهم ، فإنّ هذا الإيحاء بحكم كونه سيرة عامّة فإنّه يكون مستحكما ، وحينئذ يكون الشارع أمام أحد أمرين ، فإنّه إذا كان راضيا بذلك وأنّ العمل بخبر الواحد حجّة أيضا في تحصيل أغراضه التشريعيّة فيكفيه السكوت ، لأنّ بناء العقلاء وعادتهم وسجيتهم هذه كافية لتحقيق ذلك.

وأمّا إن لم يكن راضيا بالعمل به ولم يكن يعتبره حجّة لكان من اللازم عليه أن ينهاهم عن العمل به ، وأن يرشدهم إلى الطريق الصحيح لتحصيل أغراضه التشريعيّة ، وبالتالي لا بدّ أن تتوفر دواعي الردع والنهي عن العمل بخبر الواحد ، وسوف تكون هناك نواه عديدة وكثيرة جدا بحكم استحكام العمل بخبر الواحد عند العقلاء ، ولا بدّ في هذه الحالة من أن تكثر الأسئلة والأجوبة أيضا ، وحيث إنّه لا يوجد شيء يدلّ على الردع عن العمل بخبر الواحد ولا يوجد هكذا استفسارات دل ذلك على أن العمل بخبر الواحد حجّة شرعا ومقبول عند الشارع ، وأنّ السيرة العقلائيّة موافقة لرأي الشارع فيكون السكوت وعدم الردع عنها إمضاء لها ، وأنّها شرعية ، وبالتالي تكون هذه السيرة كاشفة عن وجود السنّة على حجيّة خبر الواحد.

والفارق بين التقريبين :

أنّ التقريب الأوّل يتكفل مئونة إثبات جري أصحاب الأئمّة على العمل بخبر الثقة ، بينما التقريب الثاني لا يدعي ذلك بل يكتفي بإثبات الميل العقلائي العام أي العمل بخبر الثقة ، الأمر الذي يفرض على الشارع الردع عنه ـ على فرض عدم الحجيّة ـ لئلا يتسرّب هذا الميل إلى مجال الشرعيات.

والفارق بين سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء هو أنّ سيرة المتشرّعة لا تحتاج إلى إثبات السكوت وعدم الردع الدال على الإمضاء والحجيّة ؛ وذلك لأنّ عمل الأصحاب والمتشرّعة بخبر الثقة بنفسه يدلّ على وجود دليل شرعي يجوّز العمل والتعويل على خبر الثقة ، لأنّ المتشرّعة بحكم كونهم متدينين لا يعملون إلا إذا كان هناك دليل شرعي لأنّ عملهم معلول للدليل الشرعي ، فيكون جريهم وعملهم بنفسه كاشفا عن

٢٤٦

الدليل الشرعي ، ولا يحتاج إلى توسط عدم الردع ، ولذلك يكون عمل المتشرّعة متحدّدا بالمقدار الذي انعقد عليه عملهم ، لأنّ سيرتهم تعني انعقاد العمل فعلا في الخارج ، فالثابت بهذه السيرة هو الموضوع الجزئي فقط.

وأمّا سيرة العقلاء فتحتاج إلى إثبات عدم الردع والسكوت الكاشف عن الإمضاء وذلك لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة وتعويلهم عليه في مجال أغراضهم التكوينيّة أو حتّى التشريعيّة إنّما يكشف عن وجود إيحاء وميل وعادة لدى العقلاء على ذلك ، وأمّا أنّ هذه العادة والبناء حجّة شرعا أو ليس كذلك فهذا لا تثبته نفس السيرة ، بل نحتاج في إثباته إلى دليل آخر كما تقدّم في محلّه من كون الشارع هادفا أو كونه آمرا وناهيا أو كونه يريد تحقيق أهدافه وأغراضه أو ظهور حاله ، فإنّ ذلك كلّه يشكل دلالة على أنّه لو لم يكن خبر الثقة حجّة لدى الشارع لنهى عنه وردع عن العمل به في مجال أغراضه التشريعيّة ، وعدم ردعه وسكوته عن ذلك يكشف عن إمضائه وهو كاشف عن وجود الدليل الشرعي على حجيّته.

ولذلك فهذه السيرة تثبت مفهوما كليّا أي تلك القضيّة القائلة بأن خبر الواحد حجّة في الأحكام الشرعيّة ، فالممضى هو ذاك الأمر الكلّي سواء كان هناك عمل فعلي في الخارج أم لا. وعليه ، فيكون الإمضاء أوسع من الخارج لأنّه إمضاء لمفهوم وقضيّة كليّة لا جزئيّة.

وهناك اعتراض يواجه الاستدلال بالسيرة وهو أنّ السيرة مردوع عنها بالآيات الناهية عن العمل بالظن الشاملة بإطلاقها لخبر الواحد.

الاعتراض على السيرة :

ثمّ إنّه يعترض على الاستدلال بسيرة العقلاء على حجيّة خبر الواحد بأنّ هذه السيرة كما تقدّم تحتاج إلى إثبات عدم الردع عنها لتكون كاشفة عن الإمضاء والحجيّة ، والحال أنّ الردع عنها ثابت وذلك بإطلاق الآيات الناهية عن العمل بالظن من قبيل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، وغيرها من الآيات التي تنهى عن العمل بما ليس بعلم.

وحيث إنّ خبر الواحد المطلوب الاستدلال على حجيّته هو الخبر الذي لا يفيد العلم فيكون مشمولا لإطلاق النهي وداخلا في موضوعها لأنّه ليس علما ، فيكون

٢٤٧

العمل به منهيا عنه ومردوعا وبالتالي لا تكون هذه السيرة ممضاة من الشارع لأنّه قد ثبت الردع عنها.

والحاصل : أنّ هذه السيرة قد ثبت الردع عن العمل بها ، لأنّ مطلقات النهي عن العمل بما ليس علما وبكل ما هو ظن تشمل خبر الواحد لأنّه ظني ولا يفيد العلم ، فكيف يستدلّ بها على الحجيّة مع وجود الردع عنها؟!

وتوجد عدة أجوبة على هذا الاعتراض :

الجواب الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ السيرة حاكمة على تلك الآيات ، لأنّها تخرج خبر الثقة عن الظن وتجعله علما ، بناء على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجيّة.

الجواب الأوّل : ذكر المحقّق النائيني جوابا عن هذا الاعتراض مبنيا على ما اختاره في جعل الحجيّة من مسلك جعل الطريقية والعلمية في الحجج والإمارات ، فالسيرة العقلائيّة حيث إنّها تجعل الحجيّة لخبر الواحد والحجيّة معناها العلمية فيكون مفادها أنّ خبر الواحد علم تعبدا ، وحينئذ تكون حاكمة على مطلقات النهي وعمومات الآيات التي تنهى عن العمل بالظن وكل ما ليس بعلم ؛ لأنّ هذه المطلقات والعمومات وإن كانت شاملة لخبر الواحد باعتباره ليس علما تكوينا إلا أنّها صارت محكومة للسيرة التي تدّعي أنّ خبر الواحد علم تعبدا ، حيث إنّ السيرة تخرج مصداقا حقيقيا عن دائرة المطلقات والعمومات بلسان تعبّدي ادعائي ومثل هذا اللسان يسمّى بالحكومة كما تقدّم وسيأتي مفصّلا في محلّه.

ومن الواضح أنّ الدليل الحاكم مقدم على الدليل المحكوم بمقتضى قواعد الجمع العرفي التي سيأتي ذكرها في باب التعارض ؛ لأنّ الحكومة لسانها التوسعة أو التضييق ، وهنا السيرة توسّع من موضوع العلم ليشمل العلم الوجداني التكويني والعلم التعبّدي الادعائي ، فكما أنّ مطلقات النهي لا تشمل حقيقة العلم الوجداني لأنّه خارج من موضوعها تكوينا ، فكذلك لا تشمل العلم التعبّدي لأنّه خارج عن موضوعها ادّعاء ، فالحكومة هنا كالتخصيص أو التقييد يعتبر قرينة عرفيّة نوعيّة على الجمع العرفي بين الدليلين ، وبه يحلّ التعارض البدوي لأنّه تعارض غير مستقر.

٢٤٨

والنتيجة هي : أنّ السيرة تقدّم على مطلقات النهي لحكومتها عليها ، والدليل الحاكم يتقدّم على الدليل المحكوم عرفا ، لأنّه قرينة على تفسير المراد منه.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه إذا كان معنى الحجيّة جعل الأمارة علما كان مفاد الآيات النافية لحجيّة غير العلم نفي جعلها علما ، وهذا يعني أنّ مدلولها في عرض مدلول ما يدلّ على الحجيّة ، وكلا المدلولين موضوعهما ذات الظن فلا معنى لحكومته المذكورة.

ويرد على ما ذكره الميرزا :

أوّلا : أنّه لا معنى للحكومة المذكورة بين السيرة والآيات ، وذلك لأنّ جعل الحجيّة على المبنى المذكور وإن كان معناه جعل الأمارة علما فتكون السيرة مفادها جعل العلمية لخبر الواحد ، إلا أنّه في مقابل ذلك تكون مطلقات النهي عن العمل بالظن وما ليس بعلم مفادها أيضا نفي جعل الحجيّة لكل ظن ، وبالتالي تنفي العلمية عن الظن وعن غير العلم.

وحينئذ يكون هناك دليلان أحدهما السيرة التي تثبت الحجيّة والعلمية لخبر الواحد الظني ، والآخر مطلقات النهي التي تنفي الحجيّة والعلمية عن كل ظن ، وحيث إنّ موضوعهما واحد ، وهو الظن وكل ما ليس بعلم تكوينا فيكونان في مرتبة واحدة ، أي أنّ مدلولهما ومفادهما في عرض واحد ، أحدهما يثبت والآخر ينفي ، ومثل هذا المدلول لا يمكن أن يصار إلى الجمع العرفي فيه ، لأنّه تعارض مستقر ، وبالتالي لا معنى لحكومة أحدهما على الآخر ؛ لأنّ الحكومة تتصور بين المدلولين الطوليين حيث يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر لسان توسعة أو تضييق ، وهنا لسان السيرة لا يمكن أن يكون ناظرا إلى مفاد مطلقات النهي لأنّه بصدد إثبات أصل الحجيّة والعلمية لخبر الواحد ، ولا يعقل أن يكون ناظرا إلى هذا الأمر وإلى حكومة مفادها على مفاد الآيات والمطلقات ، لأنّهما شيئان مترتبان في التعقّل والتصور ، لأنّ الشيء يثبت أوّلا ثمّ تلاحظ النسبة بينه وبين غيره ثانيا ، فالدليل الذي يثبت أصل جعل الحجيّة والعلمية لا يمكنه أن يتعرض إلى النسبة بينه وبين غيره ؛ لأنّ هذا في طول ذاك وبعد الفراغ عنه.

والحاصل : أنّ التعارض بين مفاد السيرة والمطلقات تعارض مستقر ، لأنّ

٢٤٩

موضوعهما واحد ومحمولهما متناف فيكون التعارض مستحكما ، وحينئذ يحكم بالتساقط ولا يصار إلى أحدهما ، إلا أنّ النتيجة العمليّة تكون إلى صالح المطلقات حيث إنّه يرجع إلى الأصول العمليّة عند الشك في الحجيّة لخبر الواحد ، والأصل عند الشك في الحجيّة عدمها ، كما تقدّم سابقا (١).

وثانيا : أنّ الحاكم إن كان هو نفس البناء العقلائي فهذا غير معقول ؛ لأنّ الحاكم يوسّع موضوع الحكم أو يضيّقه في الدليل المحكوم ، وذلك من شأن نفس جاعل الحكم المراد توسيعه أو تضييقه ، ولا معنى لأنّ يوسع العقلاء أو يضيقوا حكما مجعولا من قبل غيرهم.

وإن كان الحاكم الموسّع أو المضيّق هو الشارع بإمضائه للسيرة فهذا يعني أنّه لا بدّ لنا من العلم بالإمضاء لكي نحرز الحاكم ، والكلام في أنّه كيف يمكن إحراز الإمضاء مع وجود النواهي المذكورة الدالة على عدم الحجيّة؟!

ويرد عليه ثانيا : أنّ الدليل الحاكم كما تقدّم يوسع أو يضيق الدليل المحكوم وهذا يستلزم أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم ، وإحراز النظر إنّما يكون ثابتا فيما إذا كانت التوسعة والتضييق في الدليل المحكوم من شئون جاعل الدليل الحاكم.

وعلى هذا نقول : إنّ الدليل الحاكم الذي هو السيرة العقلائيّة ، إن كان المقصود به نفس البناء العقلائي القائم على العمل بخبر الواحد فهذا البناء لا يعقل أن يكون حاكما على مطلقات النهي وموسعا أو مضيقا لمفادها ؛ وذلك لأنّ مطلقات النهي مجعولة من الشارع حيث إنّها من الأحكام الشرعيّة التي بيد الشارع جعلها ورفعها ، بينما السيرة العقلائيّة بناء للعقلاء ، ولا يحق للعقلاء التدخل في أحكام غيرهم ؛ لأنّها ليست من شئونهم ، وجعلها ورفعها ليس بيدهم ، بل يحرم عليهم التدخل في أحكام الشارع لأنّهم مكلفون بالإطاعة والامتثال لها.

وهذا معناه أنّ سيرة العقلاء المذكورة لا يمكن أن تكون حاكمة على مطلقات النهي لأنّ الجاعل في الدليل الحاكم هو العقلاء ، بينما الجاعل في الدليل المحكوم هو الشارع ، فمع اختلاف الجاعل لا تكون هناك حكومة ، لأنّه لا يحرز النظر الذي هو

__________________

(١) مضافا إلى أنّ الحكومة إنّما تتصور بين الأدلّة اللفظيّة ، والسيرة هنا ليست دليلا لفظيّا وإنّما هي دليل لبّي فلا مورد للحكومة أصلا.

٢٥٠

شرط الحكومة ، إذ من الواضح حينئذ أنّ مطلقات النهي لا يمكن للعقلاء أن يوسعوها أو يضيقوها لأنّ ذلك يعدّ تصرفا منهم في أحكام غيرهم من دون أن يكون لهم الحق في ذلك.

وأمّا إن كان المقصود من السيرة العقلائيّة الموسّعة أو المضيّقة هو الشارع حيث إنّ السيرة العقلائيّة بنفسها لا اعتبار لها شرعا ، وإنّما تكون معتبرة وحجّة فيما إذا سكت الشارع عنها ، فيكون سكوته وعدم ردعه إمضاء لها ، فيكون الحاكم في الحقيقة هو إمضاء الشارع للسيرة الكاشف عن قبوله وحجيّتها شرعا ، فهذا ممكن لأنّ الجاعل في الدليلين الحاكم والمحكوم صار واحدا وهو الشارع ، إلا أنّنا لا بدّ أن نحرز أنّ الشارع قد أمضى ولم يردع عن السيرة لتكون حجّة وبالتالي تكون حاكمة على مطلقات النهي.

وهذا الأمر كيف يمكن إحرازه في الفرض المذكور ، حيث إنّ مطلقات النهي تصلح أن تكون رادعة عن السيرة وبالتالي لا تكون حاكمة ؛ إذ مع الردع عنها لا تكون حجّة أصلا ، فكيف يمكننا إحراز إمضاء الشارع والحال هذه؟!

نعم ، لو فرض ثبوت الإمضاء في مرحلة سابقة لكانت السيرة حجّة شرعا ، وبالتالي تكون حاكمة على مطلقات ومخرجة منها أحد أفرادها ، وهو خبر الواحد إخراجا ادعائيا تعبديّا.

وأمّا قبل إحراز الإمضاء المذكور تبقى السيرة العقلائيّة مشكوكة من حيث جعل الحجيّة لها وعدم ذلك خصوصا مع وجود النواهي عن العمل بكل ظن وما ليس بعلم ، ومع الشك في الحجيّة يحكم بعدمها كما تقدّم مرارا ، وبالتالي لا تصلح لأنّ تكون دليلا على الحجيّة فضلا عن كونها حاكمة على غيرها.

والحاصل : أنّ النظر غير محرز على كلا الاحتمالين ، إما لاختلاف الجاعل بين الدليلين ، وإما لعدم الإمضاء الدال على الحجيّة.

الجواب الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) رحمه‌الله من أنّ الردع عن السيرة بتلك العمومات الناهية غير معقول ، لأنّه دور.

وبيانه : أنّ الردع بالعمومات عنها يتوقّف على حجيّة تلك العمومات في العموم ، وهذه الحجيّة تتوقّف على عدم وجود مخصّص لها ، وعدم وجود

٢٥١

مخصّص يتوقّف على كونها رادعة عن السيرة ، وإلا لكانت مخصّصة بالسيرة ولسقطت حجيّتها في العموم.

الجواب الثاني على الاعتراض المذكور ، ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الردع عن السيرة بمطلقات وعمومات النهي غير معقول في نفسه ، لاستلزامه الدور المحال ، وكل ما يلزم منه الدور فهو غير معقول.

وبيان الدور أن يقال : إنّ مطلقات النهي إنّما تكون رادعة عن السيرة فيما إذا كانت هذه المطلقات والعمومات حجّة في إطلاقها وعمومها ، إلا أنّ حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص أو المقيّد لها ؛ إذ لو كان هناك مخصّص أو مقيّد لها لم تكن حجّة في العموم وبالتالي لا تكون رادعة عن السيرة ، فلا بد من إثبات عدم وجود مثل هذا المخصّص أو المقيّد.

غير أنّ عدم وجود هذا المخصّص أو المقيّد فرع أن تكون هذه العمومات والمطلقات رادعة عن السيرة بحيث تكون السيرة مشمولة لعموم النهي ، لأنّه إذا لم تكن رادعة عنها وانعقدت السيرة على حجيّة خبر الواحد كانت مخصصة أو مقيّدة لهذه العمومات والمطلقات ، وبالتالي تسقط العمومات عن الحجيّة في العموم.

فتحصّل أنّ رادعية العمومات والمطلقات عن السيرة متوقفة على شمولها للسيرة ورادعيّتها عنها ، وهو توقف الشيء على نفسه الذي هو دور صريح ، لأنّها إذا لم تكن شاملة للسيرة ورادعة عنها لم تكن حجّة في العموم ، وبالتالي تكون مخصّصة بالسيرة فلا تصلح للرادعية.

والجواب على ذلك :

إنّ توقف الردع بالعمومات على حجيّتها في العموم صحيح ، غير أنّ حجيّتها كذلك لا تتوقّف على عدم وجود مخصّص لها ، بل على عدم إحراز المخصّص ، وعدم إحراز المخصّص حاصل فعلا ما دامت السيرة لم يعلم بإمضائها ، فلا دور.

ويرد على هذا الجواب :

إنّ الدور المذكور متوقف على مقدمة غير تامّة ، حيث إنّه ذكر أنّ رادعيّة العمومات والمطلقات متوقفة على أن تكون هذه العمومات والمطلقات حجّة في العموم ، وأنّ حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص ، فإنّنا وإن كنّا نسلّم

٢٥٢

بما ذكره أوّلا من توقف الرادعيّة بالعمومات والمطلقات على كونها حجّة في العموم ؛ إذ مع عدم حجيّتها في العموم لا تكون شاملة للسيرة ، فلا يتمّ الردع ، إلا أن ما ذكره من كون حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص غير صحيح ، لما تقدّم في مبحث العموم من أنّ العموم حجّة ما لم يعلم بوجود المخصّص ، سواء كان هناك مخصّص واقعا أم لا ، فما دام المخصّص غير محرز كان العموم حجّة في نفسه ، وينعقد للكلام ظهور في العموم ، ولذلك إذا جاء المخصّص فيما بعد لم يكن رافعا لأصل ظهور الكلام في العموم ، وإنّما يكون معارضا له ويقدّم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي ؛ لأنّ المخصّص يكون نصا عادة والنص مقدم على الظاهر.

فالحاصل : أنّ حجيّة العمومات والمطلقات في العموم والشمول فرع عدم إحراز المخصّص لا فرع عدم وجوده واقعا.

وعليه ، فالآيات الناهية عن العمل بالظن ظاهرة في العموم والشمول لكل ظن وما ليس بعلم ، ومفادها نفي الحجيّة عنه.

يبقى أنّ السيرة المنعقدة على العمل بخبر الواحد هل هي حجّة شرعا لتكون مخصّصة لهذا العموم أو ليست حجّة ، فيكون العموم شاملا لها ورادعا عن العمل بها؟

وهذا المطلب يتوقّف على أنّ هذه السيرة هل هي ممضاة من الشارع أو أنّها مردوع عنها فإذا كانت ممضاة فهي حجّة فتكون مخصصة ، وإن لم تكن ممضاة فهي ليست حجّة ، وبالتالي يتمّ الردع عنها ، وحيث انّ مطلقات النهي تصلح لأنّ تكون رادعة وشاملة لها ، وحيث إنّ الإمضاء للسيرة غير محرز يقينا صحّ القول بأنّ المخصّص لعموم الآيات غير محرز ظاهرا ، وبالتالي تتم حجيّة العموم ؛ لأنّها فرع عدم إحراز المخصّص ، وهذا متحقّق فعلا ، فيتم العموم وتصبح الآيات رادعة عن السيرة ، ولا يلزم عن ذلك محذور الدور المتقدّم.

وبتعبير آخر : أنّ محذور الدور إنّما يتمّ لو كانت حجيّة الآيات في العموم فرع ألا يكون هناك مخصّص واقعا ، بينما الصحيح أنّ الحجيّة المذكورة فرع عدم إحراز المخصّص ، وهذا ثابت وجدانا ، لأنّنا نشك في حجيّة السيرة للشك في أنّها ممضاة أم لا ، ومع الشك يصدق أنّنا لا نعلم ولا نحرز وجود المخصّص فينعقد العموم ويشمل السيرة فيتم الردع عنها.

٢٥٣

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله من أنّ ظهور العمومات المدعى ردعها لا دليل على حجيّته ، لأنّ الدليل على حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة ، ومع انعقادها على العمل بخبر الثقة لا يمكن انعقادها على العمل بالظهور المانع عن ذلك ، لأنّ العمل بالمتناقضين غير معقول.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ رادعية مطلقات النّهي عن السيرة يلزم منه محذور اجتماع النقيضين.

وبيانه : أنّ مطلقات وعمومات النهي ظاهرة في العموم والشمول للسيرة ، فلكي تكون رادعة عنها يلزم أن يكون ظهورها في العموم حجّة لأنّه مع عدم حجيّتها في العموم لا تكون شاملة للسيرة ، فلا تكون رادعة عنها ، إذن نحتاج إلى إثبات أنّها ظاهرة في العموم وأنّ هذا الظهور حجّة.

أمّا أنّها ظاهرة في العموم فهذا مسلّم ، لأنّه وجداني ، وأمّا أنّ هذا الظهور حجّة فيحتاج إلى دليل ، وحيث إنّ الدليل على حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة كان لا بدّ أن تكون السيرة العقلائيّة منعقدة على العمل بظهور مطلقات وعمومات النهي ، ولكن بما أنّ سيرة العقلاء قد انعقدت على العمل بخبر الثقة استحال انعقادها على العمل بظهور مطلقات النهي في العموم ؛ وذلك لأنّ انعقادها على العمل بخبر الثقة معناه أنّهم يبنون على العمل بما يفيد الظن لأنّ خبر الثقة غاية ما يفيد الظن فقط ، بينما انعقاد سيرتهم على العمل بظهور عمومات النهي في العموم معناه أنّهم لا يبنون على العمل بكل ظن وما ليس بعلم ، وانعقاد مثل هاتين السيرتين محال ، لأنّه يعني انعقاد سيرتين متناقضتين ، إحداهما تجوّز العمل بخبر الثقة الظني ، والأخرى تمنع من العمل بكل ظن ، وهذا معناه انعقاد سيرتين على موضوع واحد بينما محمولهما متناف ومتغاير ، إذا إحدى القضيتين موجبة جزئيّة ، وهي البناء على العمل بخبر الثقة الظني ، والأخرى سالبة كلية وهي حجيّة العموم الظاهر في النهي عن العمل بكل ما يفيد الظن.

والنتيجة هي أنّه ما دامت سيرتهم قد انعقدت فعلا على العمل بخبر الثقة الظني ؛ لأنّ ذلك ثابت وجدانا فمن المحال أن تنعقد على العمل بظهور مطلقات النهي في العموم والشمول لأنّه إذا ثبت أحد النقيضين امتنع الآخر. وعليه ، فلا ظهور لمطلقات النهي في العموم ، وبالتالي لا تكون رادعة من العمل بخبر الثقة.

٢٥٤

وهذا الجواب غريب ؛ لأن انعقاد السيرة على العمل بالظهور معناه انعقادها على اكتشاف مراد المولى بالظهور وتنجّزه بذلك ، وهذا لا ينافي استقرار عمل آخر لهم على خلاف ما تنجّز بالظهور ، فالعمل العقلائي بخبر الثقة ينافي مدلول الظهور في العمومات الناهية ولا ينافي نفس

بنائهم على العمل بهذا الظهور وجعله كاشفا وحجة.

ويرد عليه : أنّه وقع خلط بين مطلبين ، هما : بناء العقلاء على الأخذ بالظهور واعتباره حجّة وكاشفا عن مراد المتكلّم ، والآخر العمل بمدلول الظهور أو المنكشف به.

وتوضيح ذلك : أنّ انعقاد السيرة العقلائيّة على الأخذ بالظهور واعتباره حجّة معناه أنّ مراد المتكلّم يكتشف من خلال ما ظهر من كلامه سواء كان منجزا أم معذرا ، فإذا قال : ( أكرم العالم ) انعقد لكلامه ظهور في الإطلاق فيعلم بذلك أنّ مراده الجدّي هو الإطلاق ، وأنّه يجب إكرام كل عالم من العلماء سواء كان عادلا أم فاسقا ، ولا يختص كلامه بالعادل فقط ، لأنّه على خلاف ظهور كلامه ، فيتمسك بهذا الظهور ويعتبر حجّة لتفسير كلام المتكلّم ومراده الجدّي.

والأمر الآخر هو أنّ المنكشف بهذا الظهور والمدلول الظاهر للكلام هو الشمول والعموم والإطلاق لكل أفراد العالم ، وأنّه في مقام العمل والامتثال يجب إكرام الجميع من دون فرق بين العادل والفاسق.

وهذان المطلبان وقع الخلط بينهما في كلام المحقّق الأصفهاني ، حيث اعتبر أنّه يوجد تناقض وتناف بين القول بحجيّة الظهور والأخذ بالظهور في مقام اكتشاف مراد المتكلّم الجدّي ، وبين العمل بمدلول ومفاد المنكشف بهذا الظهور ، مع أنّه لا تنافي بينهما لأنّ أحدهما في طول الآخر ، والتعارض والتنافي إنّما يكون بين شيئين في رتبة واحدة وفي عرض واحد.

وحينئذ لا تعارض بين انعقاد سيرة العقلاء على حجيّة الظهور واكتشاف مراد المتكلّم الجدّي من خلاله ، وبين انعقاد سيرتهم على العمل بخبر الثقة ؛ لأنّ العمل بخبر الثقة لا ينافي ظهور عمومات ومطلقات النهي في العموم لأنّها أسبق رتبة منه ، وإنّما ينافي مدلول هذا العموم ، وهو أنّ كل ظن لا يجوز العمل به ، فإنّ هذا المفاد في

٢٥٥

رتبة العمل بخبر الثقة ، إلا أنّ هذا التنافي والتعارض ينحلّ بتقديم أحد العملين والمفادين على الآخر أو بتساقطهما معا إن لم يكن هناك مرجّح لأحدهما على الآخر ولم يمكن الجمع العرفي بينهما ، لا أنّه ينحلّ برفع اليد عن أصل انعقاد سيرة العقلاء بالأخذ بحجيّة الظهور واكتشاف مراد المتكلّم الجدّي من خلال ظاهر كلامه ، لأنّه لا معارضة بين هذه السيرة وبين العمل بخبر الثقة لاختلاف الرتبة بينهما كما ذكرنا.

ولأجل ذلك كان الجواب المذكور غريبا لأنّه صوّر التعارض بين شيئين لا اتحاد بينهما في الرتبة ، ولأنّه حلّ التعارض برفع اليد عن أصل الظهور وحجيّته.

وبتعبير آخر : أنّ القول بحجيّة الظهور واعتباره حجّة وكاشفا عن المراد يختلف عن العمل بمدلول ومفاد هذا الظهور ، ولذلك لا يقع التنافي بينهما ، لأنّ كل واحد منهما ينظر إلى مطلب غير ما ينظر إليه الآخر ، فالأوّل يراد به اكتشاف المراد بينما الثاني يراد به العمل بالمدلول والمفاد ، فلا يتصور التعارض بينهما لاختلاف الرتبة ، فإنّ الأوّل مدلول تصوّري بينما الثاني مدلول تصديقي من أجل الامتثال والعمل (١).

فالصحيح في الجواب أن يقال :

إنّه إن ادّعي كون العمومات رادعة عن سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين من صحابة ومحدّثين فهذا خلاف الواقع لأنّنا أثبتنا في التقريب الأوّل أنّ هذه السيرة كانت قائمة بالفعل على الرغم من تلك العمومات ، وهذا يعني أنّها لم تكن كافية للردع وإقامة الحجّة ، وإن ادّعي كونها رادعة عن السيرة العقلائيّة بالتقريب الثاني فقد يكون له وجه ، ولكن الصحيح مع هذا عدم صلاحيتها لذلك أيضا ؛ لأنّ مثل هذا الأمر المهم لا يكتفى في الردع عنه عادة بإطلاق دليل من هذا القبيل.

والصحيح في الجواب عن الاعتراض المذكور أن يقال : إنّه إن أريد أنّ عمومات

__________________

(١) وهذا نظير ظهور عمومات الآيات الآمرة بالصلاة أو الصوم ونحوهما فإنّ ظهورها حجّة والعقلاء يبنون على حجيّة هذا الظهور من أجل اكتشاف مراد المتكلّم وأنّه عام وشامل لكل الناس ، وهذا لا يتنافي ولا يتعارض مع عدم امتثال كثير من الناس لهذا الظهور بل ومخالفته صريحا ، فإنّ عدم قيامهم بالصلاة والصيام لا يعني أنّ العمومات المذكورة لا ظهور لها في العموم أو أنّ ظهورها فيه ليس حجّة ، كما هو واضح.

٢٥٦

ومطلقات النهي عن العمل بالظن وما ليس بعلم رادعة عن سيرة المتشرّعة الذين كانوا معاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللأئمّة عليهم‌السلام ، فهذا غير معقول ، لأنّ الوجدان والواقع على خلاف ذلك ؛ إذ من الواضح أنّ سيرة المتشرّعة من صحابة ومحدّثين ورواة ومتدينين كانت منعقدة بالفعل على العمل بخبر الثقة كما تقدّم بيانه على أساس الطريق الثالث ، على الرغم من وجود هذه العمومات والمطلقات ، وهذا يدلّ التزاما على أنّ هذه المطلقات ليست شاملة لخبر الثقة وإلا لم يكن هناك ما يبرّر التزامهم وبناءهم على العمل والأخذ بخبر الثقة رغم تديّنهم المانع من كونهم يتصرّفون على أساس الآراء والأهواء ، فمثل هذه السيرة تدلّ على أنّ مطلقات النهي ليست صالحة للردع عن العمل بخبر الثقة ، وإلا لكانوا ارتدعوا عن ذلك مع توفّر المبرّرات الكافية لردعهم لأنّهم متشرعة ومتدينون لا يتصرّفون إلا وفق الموازين الشرعيّة.

وإن أريد أنّ هذه العمومات والمطلقات رادعة عن السيرة العقلائيّة فهذا ، وإن كان ممكنا ثبوتا ومعقولا في نفسه إلا أنّه لا يمكن القول به ؛ وذلك لأنّ الإيحاء والعادة التي توحيها سيرتهم وبناءهم على العمل بخبر الثقة كانت بدرجة من الاستحكام والقوة بحيث لا يكفي معها عادة الردع بظهور إطلاق أو عموم رغم الخطر الكبير الذي سوف يقع لو كان الشارع لا يرى حجيّة هذه السيرة العقلائيّة ، لأنّ المفروض في ظروف كهذه أن يكون الردع والنهي بدرجة قويّة جدّا ، ولكان المفروض أيضا أن يكون لسان النهي والردع صريحا لا احتمال على خلافه ، وفي مثل هكذا حالة لكان لا بدّ من وصول شيء صريح يدلّ على النهي والردع عن العمل بخبر الثقة في مجال الأغراض الشرعيّة ، والحال إنّه لم يصلنا شيء من هذا القبيل رغم توفّر الدواعي للنقل لكثرة الابتلاء بهذا الأمر إذ العمل بخبر الثقة لا يقلّ شأنا وأهمية عن القياس ونحوه من الأدلّة الظنية التي نهى الشارع عنها نهيا صريحا وقويا.

والحاصل : أنّ هذه المطلقات لا تصلح للردع عن السيرة بكلا نحويها ، وبالتالي تكون السيرة على العمل بخبر الثقة حجّة وممضاة شرعا ، وبها تثبت الحجيّة للخبر بلا معارض.

* * *

٢٥٧
٢٥٨

دليل العقل

٢٥٩
٢٦٠