شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي

الظهور سواء كان تصوّريا أم تصديقيا تارة يراد به الظهور في ذهن إنسان معيّن ، وهذا هو الظهور الذاتي.

وأخرى يراد به الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام ، وهذا هو الظهور الموضوعي.

والأوّل يتأثّر بالعوامل والظروف الشخصيّة للذهن والتي تختلف من فرد إلى آخر تبعا إلى أنسه الذهني وعلاقاته ، بخلاف الثاني الذي له واقع محدد يتمثل في كل ذهن يتحرك بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام.

الظهور الذاتي والموضوعي :

الظهور كما تقدّم يقسم إلى قسمين : ظهور تصوّري وهو الذي ينشأ من وضع اللفظ للمعنى ، وظهور تصديقي وهو الذي ينشأ من ظاهر حال المتكلّم في إرادة استعمال اللفظ في معناه وكونه مرادا له جدا.

والظهور كما تقدّم حجّة وموضوعه هو الظهور التصديقي ، والبحث الآن في أنّ الظهور الحجّة هل هو الظهور الذاتي أو الظهور الموضوعي؟

والمراد من الظهور الذاتي هو الظهور الذي يحصل في ذهن إنسان معيّن أي الظهور لدى الشخص ذاته.

والمراد من الظهور الموضوعي هو الظهور الثابت كحقيقة واقعيّة تكوينية بموجب علاقات اللغة ووضع اللفظ للمعنى على أساس ما هو المتعارف عند العرف والشرع العام من أساليب التعبير في محاوراتهم العرفية.

والفرق بين هذين الظهورين أنّ الظهور الذاتي أمر نسبي يختلف من شخص لآخر لأنّه يتأثّر بالعوامل والظروف الذاتية والشخصيّة للفرد وهذه الظروف تختلف

٣٦١

من فرد لآخر تبعا لما هو مرتكز عنده وما هو موجود في ذهنه من أنس على أساس يوجب انصراف ذهنه إلى معنى معيّن نتيجة ندرة وجود غيره عنده أو كثرة استعماله فيه.

بينما الظهور الموضوعي أمر حقيقي ثابت بنحو مطلق لدى النوع والعرف ولا يتغيّر ولا يختلف من شخص لآخر ، لأنّه تابع لقوانين اللغة وقواعدها وأساليب المحاورات والتعبير العام لدى أهل اللغة ، وهذه ثابتة عند العرف العام والنوع.

وعلى هذا نعود للإجابة عن السؤال المطروح فنقول :

وما هو موضوع الحجيّة الظهور الموضوعي لأنّ هذه الحجيّة قائمة على أساس أنّ ظاهر حال كل متكلّم إرادة المعنى الظاهر من اللفظ ، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله باعتباره إنسانا عرفيّا إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعيّا لا ما هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصيّة في ذهن هذا السامع أو ذاك.

والصحيح : أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي ؛ وذلك لأنّ حجيّة الظهور قائمة على حيثيّة الكشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم من خلال ظهور حاله في أنّه أراد جدّا ما استعمله وأخطره من معنى في كلامه.

ومن الواضح أنّ المعنى يرتبط باللفظ على أساس أنّ اللفظ موضوع للمعنى ، والوضع إنّما كان لأهل اللغة بشكل عام لا للفرد الشخصي.

فالمتكلم يتحدد مراده الجدّي باعتباره فردا من أبناء اللغة لا باعتباره الشخصي وهذا يعني أنّه يريد المعنى الذي يفهمه النوع العام وفقا لقواعد اللغة وأساليب التعبير.

فحجيّة الظهور التي تقوم على أساس الكاشفيّة إنّما تكون كذلك لأنّ اللفظ يكون كاشفا عن المعنى وكاشفيّته مرتبطة بوضعه له ، وليس على أساس بعض الظروف والملابسات التي يتأثّر بها الشخص ، فإنّ هذا الظاهر ليس حجّة إلا على نفس الشخص فقط ، ولا يكون كاشفا وحجّة لدى النوع.

والمراد من حجيّة الظهور كون ما يظهر من الكلام حجّة للسامع باعتباره النوعي لا باعتباره الشخصي ، لأنّ حجيّة الظهور كانت قائمة على أساس السيرة العقلائيّة لأهل اللغة والعرف والمحاورة ، فيجب أن يكون المعنى ظاهرا عندهم ليكون حجّة.

وأمّا الظهور الذاتي وهو ما قد يعبّر عنه بالتبادر أو الانسباق فيمكن أن يقال

٣٦٢

بأنّه أمارة عقلائيّة على تعيين الظهور الموضوعي ، فكلّ إنسان إذا انسبق إلى ذهنه معنى مخصوص من كلام ولم يجد بالفحص شيئا محدّدا شخصيا يمكن أن يفسّر ذلك الانسباق فيعتبر هذا الانسباق دليلا على الظهور الموضوعي.

وأمّا الظهور الذاتي فيمكن أن يكون له فائدة وهي :

بما أنّ الظهور الذاتي عبارة عمّا ينسبق ويتبادر إلى ذهن الشخص من معنى فهناك حالتان :

الأولى : أن يكون انسباق المعنى إلى الذهن وتبادره من اللفظ نتيجة لبعض الظروف والملابسات والأنس الشخصي كما تقدّم وفي هذه الحالة لا يكون هذا الظهور حجّة ، ولا يكون كاشفا عن المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ ، لأنّه يعلم بأنّه كان ناتجا عن العوامل والظروف الشخصيّة المحيطة بالشخص ذاته.

الثانية : أن يكون انسباق المعنى إلى الذهن وتبادره من اللفظ غير متأثر بهذه العوامل والظروف والملابسات الشخصيّة بأن فحص الإنسان ودقّق في هذا المعنى الذي تبادر إلى ذهنه فلم يجد شيئا من العوامل الذاتية والشخصيّة كان مؤثرا على تبادر هذا المعنى ، فهنا يمكن لهذا الشخص بعد التأكد من عدم وجود مبرّر شخصي وذاتي لتبادره أن يستكشف أنّ هذا المعنى الذي تبادر إلى ذهنه هو نفس المعنى الموضوع له اللفظ عند العرف العام والنوع من أهل اللغة والمحاورة. وبالتالي يكون هذا التبادر كاشفا عن الظهور الموضوعي أي أنّ هذا المعنى الظاهر من اللفظ ظاهر لكل أبناء النوع من أهل اللغة والمحاورة ، والظهور الموضوعي بدوره يكون كاشفا عن الوضع الحقيقي وأنّ هذا المعنى هو المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ.

وبهذا ينبغي أن يميّز بين التبادر على مستوى الظهور الذاتي والتبادر على مستوى الظهور الموضوعي.

فالأوّل : كاشف عن الظهور الموضوعي وبالتالي عن الوضع.

والثاني : كاشف إنّي تكويني ـ مع عدم القرينة ـ عن الوضع.

وبهذا يتّضح أنّه يوجد نحوان من التبادر يجب التمييز بينهما ، هما :

الأوّل : التبادر على مستوى الظهور الذاتي والذي يكون كاشفا عن الظهور الموضوعي كما ذكرنا ، والظهور الموضوعي يكشف عن الوضع ، فيكون هذا التبادر

٣٦٣

كاشفا عن الوضع بتوسط الظهور الموضوعي ، وأمّا منشأ هذا التبادر فقد يكون الوضع وقد يكون عدم وجود المبررات والظروف الذاتية والشخصيّة.

الثاني : التبادر على مستوى الظهور الموضوعي وهو الذي تقدّم سابقا أنّه كاشف عن وضع اللفظ للمعنى على نحو الحقيقة في مقابل المجاز ، فهذا التبادر يكشف عن الوضع ابتداء مع عدم وجود القرينة على المجاز ، لأنّه في الحقيقة معلول للوضع فيكون كاشفا إنيّا عن الوضع ، أي أنّ هذا المعنى الذي تبادر إلى الذهن منشؤه الوضع العام عند أهل اللغة والمحاورة.

* * *

٣٦٤

الظهور الموضوعي في عصر النص

٣٦٥
٣٦٦

الظهور الموضوعي في عصر النص

لا شكّ في أنّ ظواهر اللغة والكلام تتطور وتتغير على مرّ الزمن بفعل مؤثرات مختلفة لغوية وفكرية واجتماعية ، فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفا للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث.

وموضوع الحجيّة هو الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له ، لأنّها حجيّة عقلائيّة قائمة على أساس حيثيّة الكشف والظهور الحالي.

ومن الواضح أنّ ظاهر حال المتكلّم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلا في زمان صدور الكلام منه ، وعليه فنحن بالتبادر نثبت ـ بطريق الإنّ ـ الظهور الذاتي وبالظهور الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع.

بعد أن عرفنا أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي ، فنسأل هل الظهور الموضوعي الذي هو الموضوع للحجيّة هو الظهور في عصر النّص ، أو في عصر السماع؟

وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بأس بالإشارة إلى أمر وهو أنّ اللغة في حالة تطور وتغير دائما على مرّ العصور والأزمنة ، وهذا الأمر لا شكّ فيه ؛ لأنّه ثابت بالوجدان فهناك الكثير من المفردات في اللغة قد هجرت أو نقلت عن معناها ، وهناك الكلمات والمفردات الدخيلة على اللغة ، والتي صارت بمرور الوقت جزءا من اللغة ، ومنشأ هذا التغير والتطور هو العوامل والظروف المختلفة ، فإنّ الفكر الإنساني في حالة تقدّم دائما ، وكلما اكتشف شيئا جديدا لا بدّ أن يضع بإزائه لفظا يدلّ عليه وهذا لم يكن موجودا سابقا ، وكذلك العوامل الاجتماعية من اختلاط الناس والألسنة والشعوب وانتقال الثقافات وتبادلها بين الشعوب. وعلى هذا الأساس قد يكون اللفظ ظاهرا في

٣٦٧

معنى في عصر النصّ والصدور وليس ظاهرا فيه الآن أو العكس ، وقد يكونان متطابقين معا ، من قبيل كلمة الشبهة أو الشك الواردتين في الأحاديث فإنّ معناها في عصر النصّ يختلف عن معناها الآن خصوصا في علم الأصول والفقه.

بعد هذا نعود للإجابة عن السؤال المطروح ، فإنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي للفظ في معناه الثابت في عصر النصّ والصدور ، وليس في عصر السماع المغاير له. نعم ، لو كانا متطابقين فلا إشكال في كون الحجيّة موضوعها كلا الظهورين.

والوجه في كون الظهور الموضوعي في عصر النصّ هو الموضوع للحجيّة هو أنّ حجيّة الظهور كما تقدّم قائمة على أساس حيثيّة الكشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم والذي يستكشف من خلال ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد جدا ما ذكره وقاله ، وما هو ظاهر كلامه.

ومن الواضح أنّ كل متكلّم يريد جدا ما ظهر من كلامه فعلا ، فالشارع إذا تكلم بكلام له ظهور فيكون مراده الجدّي ما يكون ظاهرا من كلامه فعلا أي حين التكلم وليس ما سوف يظهر من كلامه في المستقبل إذ يلزم أن لا يكون مبينا لمراده الجدّي مع كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي بشخص كلامه كما تقدّم ، ولهذا يكون مخلاّ بما هو المتعارف عند العقلاء وأهل المحاورة من أساليب التعبير. وبهذا ظهر أنّ مراده الجدّي يتحدد طبقا لما يدلّ عليه ظاهر كلامه حين تكلمه وهذا يعني أنّ الظهور الموضوعي للكلام في عصر النصّ وصدور الكلام هو موضوع الحجيّة دون غيره.

وأمّا كيفيّة إثبات الظهور الموضوعي فقد تقدّم سابقا أنّ إحراز الظهور الموضوعي إمّا بالوجدان بأن يعلم المتكلّم أنّ هذا اللفظ يدلّ على هذا المعنى عند النوع ، وإما من خلال الظهور الذاتي فإنّ ما يتبادر إلى الذهن من معنى إذا لم يكن هناك عوامل ذاتية وشخصيّة لنشوئه دلّ ذلك من طريق الإنّ على الظهور الموضوعي.

وبتعبير آخر : أنّ الظهور الذاتي القائم على أساس التبادر الشخصي دالّ بطريق الإنّ على الظهور الموضوعي عند عدم وجود المبررات الذاتية ، إلا أنّه يدلّ على الظهور الموضوعي الثابت في عصر السماع.

٣٦٨

وأمّا كيفيّة إثبات أنّ هذا الظهور الموضوعي الثابت في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي الثابت في عصر النصّ فهذا يمكن إثباته بأصل عقلائي ثابت في المقام يسمّى بأصالة عدم التغير أو عدم النقل أو الاستصحاب القهقرى ، وفقا للتوضيح التالي :

ويبقى علينا أن نثبت أن الظهور الموضوعي في عصر السماع يطابق الظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي هو موضوع الحجيّة ، وهذا ما نثبته بأصل عقلائي يطلق عليه أصالة عدم النقل ، وقد نسمّيه بأصالة الثبات في اللغة.

وأمّا إثبات التطابق بين الظهور الموضوعي في عصر السماع وبين الظهور الموضوعي في عصر النصّ والصدور والكلام ، فهذا يمكن إثباته بأصل عقلائي كاشف عن الواقع كشفا نوعيّا ، وهذا الأصل العقلائي عبّر عنه بتعبيرات مختلفة ، ففي كلمات القدماء عبّر عنه بالاستصحاب القهقرى والمراد منه : الاستصحاب الذي يكون اليقين فيه لاحقا والشك سابقا بعكس الاستصحاب المصطلح.

فنحن هنا على يقين بأنّ هذا اللفظ يدلّ على المعنى في عصر السماع ونشك في أنّه يدلّ عليه أيضا في عصر الصدور والنصّ الذي هو أسبق زمانا على عصر السماع أم لا؟ فيقال : إنّ هذا الاستصحاب يجري لإثبات أنّ المعنى كان ثابتا هناك أيضا ، وبالتالي يرتفع الشك ويثبت التطابق بين العصرين.

وحديثا يعبّر عن هذا الأصل بأصالة عدم النقل أو أصالة عدم التغير أو أصالة الثبات في اللغة ، فإنها تعبيرات مختلفة ولكن المقصود واحد وهو أنّ الأصل في الألفاظ الموضوعة لمعانيها أنّها لم تنقل إلى معنى آخر لأنّ النقل يحتاج إلى دليل وقرينة ، وهو غير موجود ، وكذلك فإنّ اللغة والوضع الأصل فيهما عدم التّغير أي أنّهما ثابتان فإذا شككنا في أنّهما قد تغيّرا أم لا نتمسّك بأصالة الثبات وعدم التغير ، وبالتالي يثبت أنّ هذا المعنى الظاهر من اللفظ في عصر السماع هو نفسه المعنى الذي كان ظاهرا من اللفظ في عصر النصّ على أساس أنّ التّغير خلاف الأصل ، ويحتاج إلى دليل لإثباته ، لأنّ الثبات في اللغة هو الأساس والأصل الأوّلي ولا يرفع اليد عنه إلا في كل مورد خاص يثبت فيه النقل والتغير.

يبقى أنّ هذا الأصل العقلائي لا بدّ أن يكون له كاشفيّة نوعيّة ليكون التمسّك به

٣٦٩

عقلائيّا ، ولذلك لا بد أن نعرف الحيثية الكاشفة وكيفيّة دلالتها على المدّعى ، وعليه فنقول :

وهذا الأصل العقلائي يقوم على أساس ما يخيّل لأبناء العرف ـ نتيجة التجارب الشخصيّة ـ من استقرار اللغة وثباتها ، فإنّ الثبات النسبي والتطور البطيء للغة يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيّرها وتطابق ظواهرها على مرّ الزمن.

وهذا الإيحاء وإن كان خادعا ولكنّه على أيّة حال إيحاء عام استقرّ بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالة استثنائيّة نادرة تنفى بالأصل ، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم النقل ، أو أصالة الثبات ، ولا يعني الإمضاء تصويب الشارع للإيحاء المذكور وإنّما يعني من الناحية التشريعيّة جعله احتمال التطابق حجّة ما لم يقم دليل على خلافه.

والمنشأ لهذا الأصل العقلائي هو أنّ العقلاء من أبناء اللغة والعرف يخيّل إليهم أنّ اللغة مستقرة وثابتة لما يشاهدونه بأنفسهم من خلال تجاربهم الشخصيّة واستقرائهم لظهور الألفاظ ودلالتها على معانيها ، فإنّ كل فرد منهم يتخيّل أنّ هذه اللغة الموجودة الآن والمعاني الموضوعة لها الألفاظ كانت ولم تتغير عن حالتها.

والوجه في هذا التخيّل هو أنّ تغيّر اللغة وتطورها وإن كان حقيقة ثابتة وواقعيّة ، ولكن اللغة إنّما يحدث فيها التغير والتطور مع مرور الزمن وليس فجأة ، وهذا معناه أنّ الثبات نسبي أي أنّه موجود في حياة الفرد ؛ لأنّ التغير لا يتمّ إلا بوقت طويل. وعليه ، فكلّ فرد يتخيّل الثبات لما يحسّه بالوجدان.

وهذا التخيّل مع التطوّر البطيء للغة يوحي للناس العاديين أنّ ظواهر اللغة ثابتة وغير متغيرة ، ولكن بالدقة والتحليل نجد أنّ التغير موجود ، إلا أنّ هذا الإيحاء وإن كان خادعا وخاطئا لكنّه يشكّل ظاهرة عامّة لدى كل الناس العاديين بأنّ الظواهر مستقرة ولذلك يبنون على إلغاء احتمال التغير أو يعتبرونه حالة نادرة واستثنائيّة ، فإذا شكّ في التغير في مورد ما يبنى على عدمه على أساس أصالة عدم النقل وعدم التغير وعلى أساس هذا الإيحاء بالثبات للغة.

والشارع لاحظ هذا الأمر في حياة العقلاء ومع ذلك سكت عنه فهذا يكشف عن إمضائه وبالتالي نستكشف أن أصالة عدم النقل مقبولة شرعا والشارع أجاز التعبّد بها.

٣٧٠

وبهذا نعرف أنّ أصالة عدم النقل وعدم التغيّر كاشفة عن الثبات وبالتالي تكشف عن الظهور الموضوعي في عصر النصّ أيضا ، وأنّه مطابق للظهور الموضوعي في عصر السماع ، وهذه الكاشفيّة ولو كانت خادعة إلا أنّ الشارع أمضاها ، وإمضاؤه معناه أنّه سمح باكتشاف ظهور كلامه على أساس هذا الأصل.

وليس معنى إمضائه أنّه قد صادق وصوّب على صحّة هذا الإيحاء ، بل الإيحاء خاطئ بالدقة إلا أنّ الشارع اعتبر أنّ هذا الإيحاء كاشف تعبدي عن الظهور ، وأنّ احتمال الخلاف منتف. وبالتالي فيكون احتمال التطابق بين الظهورين حجّة إلا أن يثبت خلافه ، وأنّ التغير قد وقع في هذا المورد بخصوصه فعلا.

هذا كلّه بالنسبة للسيرة العقلائيّة وكيفيّة الاستدلال بها على أصالة عدم النقل.

ولا شكّ أيضا في أنّ المتشرّعة الذين عاصروا المعصومين خلال أجيال عديدة طيلة قرنين ونصف من الزمان كانت سيرتهم على العمل بأصالة عدم النقل وعلى الاستناد في أواسط هذه الفترة وأواخرها إلى ما يرونه من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة مع أنّها كانت فترة حافلة بمختلف المؤثّرات والتجديدات الاجتماعية والفكرية التي قد يتغيّر الظهور بموجبها.

ويستدلّ أيضا على أصالة عدم النقل والتغير بسيرة المتشرّعة ممّن عاصر الأئمّة عليهم‌السلام خلال أجيال متعدّدة ، تبلغ قرنين ونصف من الزمان ، فإنّ سيرتهم كانت قائمة فعلا على الأخذ بظاهر كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الماضين عليهم‌السلام وفق ما هو ظاهر بالفعل في عصرهم ، بمعنى أنّهم كانوا في عصر الإمام الحادي عشر مثلا يعملون بما يرونه ظاهرا فعلا من كلام الإمام الأوّل مثلا ، أو كلام النبيّ ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ من دون شكّ أو ارتياب في ذلك ، ومن دون الالتفات إلى التغير النسبي في اللغة بل كانوا يسيرون عمليّا ويبنون على أصالة عدم النقل وأنّ الظاهر من اللفظ الآن هو المعنى الذي كان ظاهرا سابقا ، وهذا يعني إلغاء احتمال الخلاف وعدم التطابق في الظهور بين العصرين.

وهذا العمل والبناء من المتشرّعة كان قائما بالفعل رغم تدينهم واحتياطهم وعدم تصرفهم إلا بما يكون صادرا ومقبولا من الشارع ، ولذلك يكشف عملهم هذا بطريق الإنّ عن كون العمل بالظهور الفعلي حجّة شرعا ، وأنّ الشارع يقبل بذلك على الرغم

٣٧١

من أنّ تلك الفترة بالذات قد شهدت تغيرات كثيرة في اللغة بحيث كانت كل العوامل والظروف التي تساعد على التغير والتطور موجودة آنذاك من دخول أقوام ولغات وشعوب متعدّدة على بلادهم ، فكلّ ذلك لم يكن بنظرهم واعتقادهم مانعا عن العمل بالظهور الفعلي وكونه حجّة.

وبذلك يظهر أنّ العمل بالظهور في عصر السماع حجّة لأنّه كاشف عن الظهور في عصر النصّ والصدور ، ومجرّد احتمال التغير لا يشكّل مانعا عن ذلك إلا إذا ثبت في مورد خاص التغير والنقل ، ولذلك نقول :

ولكن أصالة عدم النقل لا تجري فيما إذا علم بأصل التغير في الظهور أو الوضع ، وشك في تاريخه لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه الحالة على افتراض عدم النقل في الفترة المشكوكة.

والسرّ في ذلك أنّ البناءات العقلائيّة إنّما تقوم على أساس حيثيات كشف عامّة نوعيّة ، فحينما يلغى احتمال النقل عرفا يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أنّ النقل حالة استثنائيّة في حياة اللغة بحسب نظرهم ، وأمّا حيث تثبت هذه الحالة الاستثنائيّة فلا تبقى حيثيّة كشف مبرّرة للبناء على نفي احتمال تقدمها.

ثمّ إنّ أصالة عدم النقل لا تجري في موردين ، هما :

المورد الأوّل : أن يعلم بأصل وجود النقل والتغير في اللغة أو الظهور أو الوضع ، بحيث نجزم بأنّ هذا اللفظ كان ظاهره مغايرا لما هو الظاهر منه الآن ، إلا أنّنا لا نعلم تاريخ هذا النقل وأنّه هل حصل التغير قبل صدور الكلام من الشارع أم بعده؟ فلو كان التغير موجودا قبل صدور الكلام من الشارع فهذا معناه أنّ الكلام كان ظاهرا من أول الأمر في المعنى الجديد الموجود عندنا الآن ، وإن كان قبل صدوره فهذا يعني أنّ المعنى الظاهر من كلام الشارع مغاير لما هو موجود الآن.

وحيث إنّنا نشك في فترة وتاريخ التغير والنقل فلا تجري أصالة عدم النقل والتغير لنفي احتمال التغير ؛ وذلك لأنّ العقلاء لا يبنون في هذه الحالة على إلغاء احتمال التغيّر إذ المفروض العلم بحصوله ولو إجمالا ، ففي هذه الحالة يختلّ البناء العقلائي المبرّر لجريان أصالة عدم النقل.

والوجه في ذلك : أنّ البناءات العقلائيّة كما ذكرنا مرارا تقوم على أساس الكاشفيّة

٣٧٢

عن الواقع والمراد وليس عند العقلاء أصول وبناءات تعبّدية محضة ، وعلى هذا فحيثية الكشف الموجودة في أصالة عدم النقل والتغير في موارد جريانها هي ذلك الإيحاء الخادع الذي يوحي بالثبات في اللغة نتيجة كون التغير بطيئا بحيث لا يحصل في حياة الفرد عادة.

وهذه الحيثية يعلم بعدم وجودها هنا لأنّه مع العلم بالنقل والتغير كيف يمكننا إلغاء احتمال التغير بأصالة عدم النقل؟ إذ لا مبرّر ولا كاشفيّة لهذه الأصالة في الفرض المذكور حيث يعلم بوقوع التغير جزما والكاشفيّة كانت تعتمد على تخيل الثبات والاستقرار في اللغة والوضع ، وهي لا تجتمع مع العلم المفروض.

بل لا يخلو التمسّك بأصالة عدم النقل من الاشكال في الموارد التي علم فيها بوجود ظروف معينة بالإمكان أن تكون سببا في تغيّر مدلول الكلمة ، وإنّما المتيقن منها عقلائيّا حالات الاحتمال الساذج للتغير والنقل.

المورد الثاني : فيما إذا علم بوجود الظروف والعوامل والمؤثّرات المختلفة سواء الفكرية والاجتماعية واللغوية وغير ذلك ، فإنّ هذه المؤثّرات من شأنها حال وجودها في فترة ما أن تؤثر على اللغة فتغيّر من ظواهرها أو تدخل ألفاظا جديدة على اللغة بحسب التقدم والتطور الفكري والاجتماعي للشعوب.

وهذا يعني أنّه من المظنون جدا أن يحصل النقل والتغير في ظواهر الالفاظ في الفترة التي توجد فيها هذه المؤثّرات النوعيّة ؛ ولذلك فيكون احتمال النقل والتغير احتمالا معتدا به نوعا لوجود كافة المبررات لذلك. وحينئذ لا يمكننا التمسّك بأصالة عدم النقل لأنّ المفروض وجود أمارات ظنيّة معاكسة لهذه الأصالة تقتضي حصول التغير والنقل ، وهذه الأمارات لها كاشفيّة ظنيّة نوعيّة عن الواقع لأنّه في الغالب والعادة أن تحدث التغيرات عند حصول أسبابها وظروفها ، والمفروض أنّنا نعلم بوجود هذه الأسباب والظروف والعوامل ونشك في حصول التغير مع كون البناء العقلائي هنا على حدوثه وحصوله.

وعلى هذا فيقع التعارض بين أصالة عدم النقل الكاشفة نوعا عن إلغاء احتمال التغير والنقل وبين هذه الأمارات الظنية الكاشفة نوعا عن التغير والنقل وإذ لا ترجيح لأحدهما فيتعارضان ويتساقطان ، وبالتالي لا يمكن إثبات عدم النقل والتغير.

٣٧٣

وبهذا يتلخص أنّ أصالة عدم النقل إنّما تجري في موارد الاحتمال الساذج للنقل والتغير ، أي الاحتمال البدوي الذي لا يكون مقرونا بعلم إجمالي بحصول أصل التغير أو بعلم تفصيلي بوجود الظروف والعوامل والمؤثّرات المقتضية للنقل والتغير ، وأمّا مع الاحتمال المقرون بأحد هذين العلمين فلا يمكن نفيه على أساس أصالة عدم النقل لعدم وجود الحيثية الكاشفة لها عندئذ.

٣٧٤

التفصيلات في الحجيّة

٣٧٥
٣٧٦

التفصيلات في الحجيّة

توجد عدة أقوال تتجه إلى التفصيل في حجيّة الظهور ـ وقد أشرنا إلى أحدها في الحلقة السابقة ـ ونذكر فيما يلي اثنين من تلك الأقوال :

توجد ثلاثة أقوال تفصّل في حجيّة الظهور :

القول الأوّل : ما ذهب إليه الأخباريّون وقد تقدّم ذكره في الحلقة السابقة ولا بأس بالإشارة إليه إجمالا.

فنقول : ذهب الأخباريّون إلى أنّ ظواهر الكتاب الكريم ليست حجّة ، فالإطلاق والعموم الكتابيان لا يمكن التمسّك بحجيتهما استنادا إلى حجيّة الظهور ، فإنّ هذه الحجيّة يجب رفع اليد عنها في خصوص ظواهر الكتاب ، وذلك لوجوه :

١ ـ الآيات التي تنهى عن الأخذ بالمتشابه بدعوى أنّ المتشابه يشمل المجمل والظاهر أيضا.

٢ ـ الروايات والأخبار الكثيرة التي ينصّ بعضها على حرمة تفسير القرآن بالرأي ، وبعضها الآخر على اختصاص فهم القرآن بالأئمّة المعصومين دون غيرهم ، وبعضها على عدم جواز تفسير القرآن إلا بالرجوع إلى المعصومين.

٣ ـ العلم الإجمالي وذلك أنّنا نعلم بطروّ المخصصات والمقيّدات على عمومات وإطلاقات الكتاب بالجملة ، وهذا يعني أنّ هذه الإطلاقات والعمومات ليست حجّة في ظهورها في العموم والإطلاق ، وحيث لا يعلم تفصيلا مقدار العموم والإطلاق اللذين خصّصا وقيّدا فيكون هناك علم إجمالي منجز لكل أطرافه فيجب الاجتناب عن الأخذ بما هو ظاهر الكتاب.

والصحيح عدم الفرق بين الكتاب وغيره ، فالظهور حجّة مطلقا ما لم تثبت القرينة على الخلاف.

٣٧٧

القول الأوّل : التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره ، فالمقصود بالإفهام يعتبر الظهور حجّة بالنسبة إليه ، لأنّ احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف بالنسبة إليه لا موجب له ـ مع عدم إحساسه بها ـ إلا احتمال غفلته عنها فينفى ذلك بأصالة عدم الغفلة باعتبارها أصلا عقلائيّا ، وأمّا غيره فاحتماله للقرينة لا ينحصر منشؤه بذلك بل له منشأ آخر وهو احتمال اعتماد المتكلّم على قرينة تمّ التواطؤ عليها بصورة خاصّة بينه وبين المقصود بالإفهام خاصّة ، وهذا الاحتمال لا تجدي أصالة عدم الغفلة لنفيه ، فلا يكون الظهور حجّة في حقّه.

وأمّا القولان الآخران اللذان يتجهان للتفصيل في حجيّة الظهور ، فهما :

التفصيل الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( القوانين ) من التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره ، فالمقصود بالإفهام يكون الظهور بالنسبة إليه حجّة ، وأمّا غيره فلا يكون حجّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ احتمال وجود قرينة متّصلة على خلاف الظهور بالنسبة لمن قصد إفهامه لا منشأ له إلا احتمال غفلة المتكلّم أو السامع عن هذه القرينة ، لأنّ المفروض أنّ المقصود إفهامه لم يحرز وجود هذه القرينة ولم يحسّ بوجودها ، وهذا الاحتمال يمكن نفيه استنادا إلى أصالة عدم الغفلة في كلّ منهما ، فالمتكلم وخصوصا الشارع المعصوم يبين كل ما هو دخيل في مراده الجدّي ، فعدم ذكره للقرينة على الخلاف معناه أنّ تمام مراده الجدّي هو ظاهر كلامه ، وأمّا المقصود بالإفهام سواء كان حاضرا أم غائبا ، أي سواء كان مشافها بالكلام أم مراسلا به ، فاحتمال وجود القرينة إليه مع عدم إحساسه بها لا مبرّر له إلا أن يكون المتكلّم قد ذكر القرينة ولم يلتفت إليها السامع وغفل عنها ، وهذا على خلاف المتعارف من كون الإنسان يكون ملتفتا إلى ما يسمعه أو يقرأه ، فينفى هذا الاحتمال اعتمادا على أصالة عدم الغفلة والتي هي أصل عقلائي كاشف عن الواقع كشفا نوعيّا.

وأمّا غير المقصود بالإفهام كأمثالنا فاحتمال وجود القرينة على خلاف الظهور لا ينحصر في الغفلة عنها بل هناك مناشئ عديدة لهذا الاحتمال من جملتها أن يكون المتكلّم قد اتفق مع المقصود إفهامه على قرينة متّصلة غير لفظية كالإشارة مثلا أو كونه في مقام التقية أو كان هناك قرينة لبيّة مرتكزة في ذهن من قصد

٣٧٨

إفهامه ، ولأجل ذلك لم تنقل إلينا هذه القرينة لأنّها ليست لفظا لتذكر في الرواية.

وعلى هذا فلا تنفعنا أصالة عدم الغفلة هنا لوجود مناشئ أخرى ، وهذه المناشئ الأخرى لا يمكن نفيها بأصل عقلائي آخر ، لأنّنا نعلم إجمالا باختفاء كثير من القرائن بسبب الضياع أو الاتلاف وغيرها ، وعليه فلا يكون ظهور الكلام حجّة ما لم يحرز عدم وجود القرينة على الخلاف ، ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن التمسّك بحجيّة الظهور.

وقد اعترض على ذلك جملة من المحقّقين بأنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي برأسه يجري لنفي احتمال القرينة في الحالة المذكورة ، وليس مردّها إلى أصالة عدم الغفلة ليتعذّر إجراؤها في حق غير المقصود بالإفهام الذي يحتمل تواطؤ المتكلّم مع من يقصد إفهامه على القرينة.

وقد اعترض على هذا التفصيل جملة من العلماء المحقّقين كالشيخ وغيره ، وذهبوا إلى عدم الفرق في الحجيّة بين من قصد إفهامه وبين غيره ؛ وذلك لأنّ احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن قصد إفهامه ينفى بما ذكر من أصالة عدم الغفلة وأمّا بالنسبة لمن لم يقصد بالإفهام فإنّ هذا الاحتمال ينفى بأصالة عدم القرينة ، فإنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي قائم بذاته بنحو مستقل عن أصالة عدم الغفلة وليس مردّه إليها ليقال بعدم جريانه هنا.

والوجه في ذلك : أنّ سيرة العقلاء قائمة على الأخذ بظهور كلام المتكلّم عند عدم وجود القرينة على الخلاف ويبنون على عدم وجود مثل هذه القرينة عند احتمالها على أساس أصالة عدم القرينة من دون فرق بين من قصد إفهامه وغيره.

وكذلك سيرة أهل اللسان والعرف والمحاورة في التمسّك بظاهر كلام المتكلّم عند عدم القرينة على الخلاف من دون فرق أيضا.

وسيرة العلماء على ذلك أيضا ، فإنهم يأخذون بالإقرار والوصية والشهادة الواصلة إليهم كتابة ويعملون بظاهرها مع أنّهم ليسوا مقصودين بالإفهام ، ويعتمدون على أصالة الحقيقة أيضا عند عدم وجود القرينة على الخلاف ، بل إنّ سيرة المتشرّعة قائمة على العمل بظواهر الأخبار التي نقلت إليهم عن الأئمّة السابقين كما تقدّم سابقا مع أنهم ليسوا مقصودين بالإفهام.

وهناك الكثير من الأدلّة والشواهد على عدم الفرق بين من قصد إفهامه وبين غيره

٣٧٩

في كون ما يظهر من الكلام حجّة ، ولا يلتفت إلى احتمال وجود قرينة تمّ التواطؤ عليها بين المتكلّم والمقصود بالإفهام خاصّة ، لأنّه على خلاف المتعارف عند أهل اللسان والمحاورة ، ويبنون على عدم وجود مثل هذه القرينة لمجرّد احتمالها استنادا على أصالة عدم القرينة.

والتحقيق : أنّ هذا المقدار من البيان لا يكفي لأنّ الأصل العقلائي لا بدّ أن يستند إلى حيثيّة كشف نوعيّة لئلا يكون أصلا تعبّديا على خلاف المرتكزات العقلائيّة ، وهي متوفرة لنفي احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من احتمال غفلة السامع عنها ، فإذا أريد نفي احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من سائر المناشئ أيضا بأصل عقلائي فلا بدّ من إبراز حيثيّة كشف نوعيّة تنفي ذلك ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفتّش عن مناشئ احتمال إرادة خلاف الظاهر عموما وملاحظة مدى إمكان نفي كل واحد منها بحيثية كشف نوعيّة مصحّحة لإجراء أصل عقلائي مقتض لذلك.

والتحقيق في هذه المسألة : أنّ هذا المقدار من الجواب لا يكفي ردّا على ما ذكره المفصّل ؛ وذلك لأنّ أصالة عدم القرينة إن كانت أصلا تعبديّا بحتا فلا بدّ من وجود دليل خاص عليها وهو مفقود ؛ إذ لا يوجد دليل شرعي يدلّ على حجيّة مثل هذا الأصل مضافا إلى أنّ الأصول العقلائيّة ليست تعبّدية بل هي قائمة على أساس حيثيات الكشف النوعي فيها.

وإن كانت أصلا عقلائيّا ـ كما هو الصحيح ـ فلا بد أن تكون مستندة على حيثيّة كشف نوعيّة لدى العقلاء ؛ وذلك لأنّ العقلاء لا يبنون على الأصول والقواعد إلا إذا كانت كاشفة كشفا نوعيّا عن الواقع والمراد.

وحينئذ نقول : إنّ احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن قصد إفهامه منشؤه كما ذكر في التفصيل احتمال الغفلة وهذا الاحتمال ينفى بأصالة عدم الغفلة لأنّها أصل عقلائي كاشف نوعا عن المراد والواقع ، حيث إنّ العقلاء في مثل هذه الحالة يبنون على حجيّة ظاهر كلام المتكلّم ، ويعتبرون أنّ احتمال الغفلة عنها ساقط عن الاعتبار ؛ لأنّ الأصل في كل إنسان أن يكون ملتفتا لما يقول ويسمع ، فمع عدم إحساسه بالقرينة على الخلاف يعني ذلك أنّها غير موجودة واقعا.

وأمّا احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن لم يقصد بالإفهام فلا ينحصر

٣٨٠