شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

وبهذا التفسير ينحل الإجمال في الدليلين وبالتالي تبطل منجزية العلم الإجمالي بالجامع لسريانه إلى الفرد.

الرابعة : أن يأتي دليل من الخارج ويثبت أحد المحتملين من الدليل المجمل ، ولكن لا بنحو يكون هذا الإثبات مستلزما لنفي الآخر ، بل يبقى الآخر محتملا في نفسه أيضا ، بأن كان المجمل يدور أمره بينهما على أساس مانعة الخلو ولكن يحتمل اجتماعهما أيضا ، فهنا لا يكون هذا الدليل موجبا لبطلان منجزية العلم الإجمالي بالجامع مباشرة ، وإنّما يوجب اختلال الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي الذي هو جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين ، فإنها لا تجري في المحتمل الذي ثبتت منجزيته بهذا الدليل الخاص ، ولذلك تجري في المحتمل الآخر من دون مانع ولا محذور فينحل العلم الإجمالي حينئذ.

وتوضيح ذلك : إذا ورد دليل يدلّ على جواز التيمم بالصعيد ، ولكنّه مجمل ومردّد بين كون المراد من الصعيد مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، ثمّ يأتي دليل آخر يثبت أنّ التيمم بالتراب ، فهنا يكون هذا الدليل مثبتا لأحد المحتملين من المجمل ، ولكنّه لا ينفي المحتمل الآخر ، إذ لا منافاة بين الأمرين ، ولكن مع ذلك يسقط الجامع لاختلال الركن الثالث من أركانه ، لأنّ أحد طرفيه قد تنجّز على كل تقدير ولذلك لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة المؤمّنة ، بينما تجري في الآخر من دون معارض ولذلك ينحلّ الجامع وتبطل منجزيته.

وكما في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) وتردّد المراد من الأم بين النسبيّة أو هي والسببيّة ، ثمّ يأتي دليل آخر يثبت أنّ الأمّ النسبيّة هي التي تحرم على الإنسان ، فإنّه يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية لأنّ أحد أطرافه قد تنجز بمنجز شرعي فتجري الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر من دون معارض ، إذ لا يمكن جريانها في الطرف الذي قام عليه المنجز ، وبالتالي تنحل منجزية هذا العلم الإجمالي بالجامع.

وأمّا النصّ فلا شكّ في لزوم العمل به ولا يحتاج إلى التعبد بحجيّة الجانب الدلالي منه إذا كان نصّا في المدلول التصوّري والمدلول التصديقي معا.

وأمّا حجيّة النص فهي ممّا لا شكّ فيها ويجب العمل بمفاده ، ولا نحتاج إلى التعبد

٣٢١

بحجيّة الظهور فيه أصلا ، فيما إذا كان نصّا في مدلوله التصوّري والاستعمالي والتصديقي الجدّي كما هو المفروض من النص ، وذلك لأنّه يكون حجّة تكوينا ووجدانا ، وبالتالي يجب العمل والامتثال لمدلوله بحكم الحجيّة التكوينيّة الثابتة للقطع.

* * *

٣٢٢

دليل حجيّة الظهور

٣٢٣
٣٢٤

دليل حجيّة الظهور

وأمّا الظاهر فظهوره حجّة ، وهذه الحجيّة هي التي تسمّى بأصالة الظهور ، ويمكن الاستدلال عليها بوجوه :

الوجه الأوّل : الاستدلال بالسنّة المستكشفة من سيرة المتشرعين من الصحابة وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام حيث كان عملهم على الاستناد إلى ظواهر الأدلّة الشرعيّة في تعيين مفادها ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة توضيح الطريق لإثبات هذه السيرة.

وأمّا الدليل الظاهر :

فظهوره حجّة ، للأدلة التي سوف نذكرها ، وهي :

الوجه الأوّل : الاستدلال بسيرة المتشرّعة من الصحابة والأصحاب فإنّ عمل المتشرّعة كان قائما على الأخذ بظاهر كلام الشارع سواء من الكتاب أم السّنة ، وعملهم هذا بعد إثباته بأحد الطرق المذكورة سابقا يثبت به أنّ الشارع يرضى بالعمل والأخذ بالظهور ، لأنّ سيرة المتشرّعة تكشف عن طريق الإن موافقة المعصوم ، لأنّها معلولة للدليل الشرعي ، إذ فرض كونهم متشرعة معناه أنّهم لا يعملون ولا يتصرفون بشيء إلا إذا كان صادرا من الشارع ، فعملهم هذا يكشف يقينا عن رضى المعصوم ، ولا نحتاج إلى إثبات ذلك ، لأنّ المعلول إذا تحقّق فعلته متحققة حتما ، ولا يمكن وقوعه من دونها إذ هذا خلف معلوليّته لها.

إلا أنّ المهم هنا هو إثبات انعقاد سيرة المتشرّعة فعلا على العمل والأخذ بالظواهر ، وهذا يمكن إثباته بالطرق المذكورة سابقا ، والمهم منها هنا هو الطريق الخامس الذي مفاده أنّه إذا لم يكن العمل بالظهور حجّة وصادرا من الشارع لكان هناك سلوك آخر بديل عنه ، وهذا السلوك الآخر البديل يعتبر ظاهرة غير مألوفة وغريبة ، ولذلك لا بدّ من

٣٢٥

ذكرها وتسجيلها وبالتالي لا بدّ أن تصل إلينا إلا أنّ الواصل إلينا خلاف ذلك ، فهذا يدلّ على أنّه لم يكن هناك سلوك بديل عنها.

مضافا إلى النقل التاريخي عبر كتب التاريخ والسيرة وكتب الأخبار التي يستفاد منها استدلال الأئمّة عليهم‌السلام وغيرهم بظواهر الكتاب والسنّة والتمسّك بها والعمل بمفادها ، وكذلك فإنّ أصالة عدم النقل أو عدم التغيّر تثبت أنّ السيرة المنعقدة الآن على الأخذ بالظواهر ليست سيرة حادثة بل هي ممتدة إلى عصر النصّ والتشريع أيضا.

الوجه الثاني : الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على العمل بظواهر الكلام ، وثبوت هذه السيرة عقلائيّا ممّا لا شكّ فيه ، لأنّها محسوسة بالوجدان ، ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين ، إذ لم يعهد لها بديل في مجتمع من المجتمعات ، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعا تكون هذه السيرة دليلا على حجيّة الظهور.

الوجه الثاني : أن يستدلّ بسيرة العقلاء على حجيّة الظهور بتقريب أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ العقلاء يبنون على العمل والأخذ بظهور الكلام سواء في ذلك الأغراض التكوينيّة الشخصيّة كما في الرجوع إلى كتب اللغة لمعرفة معنى الكلام أم في الأغراض التشريعيّة لهم أي في علاقات الآمرين والمأمورين معا ، فإنهم يحكمون باستحقاق المأمور للعقاب لو لم يعمل بظاهر كلام الآمر ، ولا يسمع منه أنّ ظاهر كلامه ليس حجّة ، بل يكون عذره هذا أقبح عندهم من مخالفته ، كما أنّهم يعتبرون المأمور مطيعا ويستحق المدح أو الثواب لو عمل بظاهر كلام الآمر ولا يسمع من الآمر احتجاجه بأنّه لا يبني على حجيّة الظهور.

ثمّ إنّ هذا البناء العقلائي يشكّل ميلا وارتكازا وإيحاء ولو خطأ في أنّه يجوز استكشاف مراد الشارع اعتمادا على ما يظهر من كلامه ، وهذا يشكّل خطرا على أغراض الشارع وأحكامه فيما لو لم يكن يرى الظهور حجّة ولكان يجب عليه الردع عن هذه السيرة ، فسكوته وعدم ردعه عنها معناه أنّه يرضى بالعمل والأخذ بالظهور وهذا معنى حجيّة الظهور.

والدليل على أنّ سيرة العقلاء منعقدة فعلا على العمل والأخذ بالظواهر هو

٣٢٦

الوجدان الشاهد بذلك ، لأنّ بناءهم هذا محسوس لدى كل عاقل من العقلاء في كل المجتمعات وليست هذه السيرة مختصّة بفترة زمنية معينة ، فإنّ سيرة العقلاء المعاصرة تأخذ بالظواهر وعن طريق أصالة عدم النقل أو عدم التغير نثبت كونها كانت موجودة حتّى في عصر الشارع وليست حادثة وطارئة ومتأخّرة عنه ، بل كانت قبله ومعه وبعده.

مضافا إلى أنّنا لو تتبعنا واستقرأنا كل المجتمعات بوصفها العقلائي لاستكشفنا أنّه لم يعهد للعمل بالظواهر بديل آخر بحيث إنّه لا يوجد مجتمع من المجتمعات لا يبني على العمل بالظواهر ، وهذا معناه أنّها مرتكزة عند كل عاقل في كل زمان ومكان.

الوجه الثالث : التمسّك بما دلّ على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة والعمل بهما ، بتقريب أنّ العمل بظاهر الآية أو الحديث مصداق عرفا لما هو المأمور به في تلك الأدلّة فيكون واجبا ، ومرجع هذا الوجوب إلى الحجيّة.

الوجه الثالث : أن يستدلّ على حجيّة الظهور بالروايات الصحيحة سندا الدالة على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة ، كحديث الثقلين ، أو الدالة على الرجوع إلى الكتاب والسنّة وتحكيمهما عند التعارض أو عند الاختلاف والتنازع والتحاكم.

فإنّ هذه الروايات تدلّ إما على التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة بما هما ألفاظ أو بما هما معان ، وعلى كلا التقديرين يكون العمل بالظاهر أي بظاهر الآية أو بظاهر الرواية عملا بالكتاب إمّا لكونه مصداقا للعمل بالألفاظ وإمّا لكونه مصداقا للعمل بالمعنى ، وهذا يعني أنّ هذه الأخبار لها إطلاق لفظي أو مقامي للعمل بالظاهر ؛ لأنّ العمل بالظاهر يعتبر ـ عرفا ـ مصداقا للتمسّك والعمل بالكتاب والسنّة ، وحيث إنّ التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة قد وقعا متعلّقا للأمر فيكونان واجبين ، وبما أنّ العمل بالظاهر مصداق عرفا لهما فيكون العمل به واجبا أيضا ، لكونه مصداقا للمأمور به ، وليس هناك معنى لوجوبه إلا كونه حجّة شرعا فيثبت المطلوب.

وبين هذه الوجوه فوارق :

فالوجه الثالث مثلا بحاجة إلى تماميّة دليل على حجيّة الظهور ولو في الجملة دونهما ، لأنّ مرجعه إلى الاستدلال بظهور الأحاديث الآمرة بالتمسّك وإطلاقها فلا بد من فرض حجيّة هذا الظهور في الرتبة السابقة.

٣٢٧

كما أنّ الوجهين الأوّلين يجب ألا يدخل في تتميمهما التمسك بظهور حال المولى لإثبات الإمضاء ، لأنّ الكلام الآن في حجيّته ، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة.

الفوارق بين هذه الوجوه :

ثمّ إنّه توجد بعض الفوارق بين هذه الوجوه ، منها :

إنّ الوجه الثالث وهو الاستدلال بما دل على التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة يحتاج إلى فرض حجيّة الظهور في الجملة ؛ وذلك لأنّ تماميّة الاستدلال بهذه الروايات متوقفة على كون ظهورها في الإطلاق اللفظي أو الإطلاق المقامي الشاملين للعمل بالظاهر حجّة في رتبة سابقة ، إذ لو لم يكن هذا المقدار حجّة لم يمكن الاستدلال بهذا الدليل لاستلزامه الدور أو المصادرة على المطلوب لأنّ الكلام في إثبات حجيّة الظهور مطلقا ـ أي كل ظهور ـ وهذا مبنيّ على أن يكون ظهور تلك الروايات بشكل خاص ثابتا وجدانا أو يوجد اطمئنان شخصي به ، أو كان ظهورهما في مرتبة عليا من الظهور لا يمكن التشكيك بها.

وبتعبير آخر : أنّ هذا الدليل كان يستدلّ بظاهر الروايات الدالة على لزوم التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة الشاملة بإطلاقها للعمل بظاهر الكتاب والسنّة ، فإذا كان الظهور لم يفرغ عن حجيّته بعد فكيف يستدلّ بظهور هذه الروايات على العمل بالظهور وعلى حجيّة الظهور؟ إذ من الواضح حينئذ أنّ المدّعى والبرهان واحد.

والجواب : إنّنا نفترض أنّ ظهور الروايات الدالة على التمسّك بالكتاب والسنّة حجّة في مرتبة سابقة ، وذلك بأن نفرض حجيّة الظهور بالجملة ، أي أنّه توجد هناك مرتبة من الظهور لا إشكال في حجيّتها وفي العمل بها ، وهذه المرتبة موجودة في هذه الروايات ، ونريد أن نستدلّ من خلال ظهور هذه الروايات الواصلة إلى تلك المرتبة على حجيّة كل ظهور ، أي نريد الاستدلال بالروايات بعد الفراغ عن حجيّة الظهور بالجملة على حجيّة الظهور بكل تفصيلاته وجزئيّاته ، بحيث يكون الظهور الإجمالي الموجود في هذه الروايات حجّة للاستدلال على الظهور التفصيلي المطلوب إثباته.

وهذا نظير التبادر الذي يكون علامة على الحقيقة ، فإنّه متوقف على العلم الإجمالي الارتكازي بالوضع ، ويراد بالتبادر معرفة الوضع التفصيلي.

٣٢٨

وأمّا الوجهان الأولان فلا يتوقفان على ذلك ، لأنّ السيرة ؛ ـ سواء المتشرعية أم العقلائيّة ـ ليست دليلا لفظيّا ليتمسك بظاهرها ، وإنّما هي من الأدلّة اللبّية.

نعم ، يشترط في الاستدلال بالسيرة العقلائيّة (١) أن تكون كاشفة عن الإمضاء عن طريق عدم الردع ، ولكن اكتشاف عدم الردع فيها يجب أن لا يكون على أساس ظهور حال الشارع في مقام التوجيه والإرشاد والتعليم والمراقبة على تطبيق الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ هذا معناه أن يكون الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على حجيّة الظهور متوقفا على حجيّة ظهور حال الشارع ، وهذا النحو من الظهور الحالي لم نفرغ من إثبات حجّيته بعد ، فيكون مصادرة على المطلوب ؛ لأنّ حجيّة الظهور المراد إثبات حجّيتها تشمل كل ظهور سواء اللفظي أو المقامي أو الحالي.

فلا بدّ من اكتشاف عدم الردع عن السيرة العقلائيّة من خلال الدليلين العقليين أي كون الشارع آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر أو كونه هادفا وله غرض.

وقد يلاحظ على الوجه الأوّل :

إنّ سيرة المتشرّعة وإن كان من المعلوم انعقادها في أيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام على العمل بظواهر الدليل الشرعي ، ولكن الشواهد التاريخية إنّما تثبت ذلك على سبيل الإجمال ، ولا يمكن التأكد من استقرار سيرتهم على العمل بالظواهر في جميع الموارد ، فهناك حالات تكون حجيّة الظهور أخفى من غيرها ، كحالة احتمال اتصال الظهور بقرينة متّصلة ، فقد بنى المشهور على حجيّة الظهور في هذه الحالة خلافا لما اخترناه في حلقة سابقة.

وهنا نقول : إنّ مدرك الحجيّة إذا كان هو سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين فكيف نستطيع أن نتأكد أنّها جرت فعلا على العمل بالظهور في هذه الحالة بالذات؟ وأمّا إذا كان مدرك الحجيّة السيرة العقلائيّة فيمكن للقائلين بالحجيّة أن يدعوا شمول الوجدان العقلائي لهذه الحالة أيضا.

__________________

(١) وأمّا الاستدلال بالسيرة المتشرعية فلا نحتاج فيها إلى ذلك ، لأنّها لا تحتاج إلى إثبات عدم الردع أصلا ، لأنّها تكشف عن قول الشارع بطريق الإن ، وشمول العبارة لها من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو من باب المسامحة في التعبير.

٣٢٩

قد يشكل على الاستدلال بالسيرة المتشرعية أنّها وإن كان يحرز انعقادها فعلا أيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، إلا أنّ هذا العمل كان قائما على الأخذ بظواهر ألفاظ الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ، ـ أي بالظهور اللفظي ـ وأمّا سائر الظواهر التي يراد إثبات حجيّتها كالظهور الحالي مثلا الذي لا دلالة عليه في الكلام فكيف يمكننا التأكد أنّ سيرة المتشرّعة كانت قائمة فعلا على الأخذ به ، مع عدم اليقين بذلك؟ بل حتّى بعض الظهورات اللفظيّة الخفية لا يمكن التأكد واليقين بالعمل والأخذ به من خلال سيرة المتشرّعة ، وبما أنّ السيرة دليل لبّي فيقتصر فيه على القدر المتيقن لا أزيد وهو هنا الظواهر اللفظيّة الواضحة والجلية دون غيرها.

وبهذا تكون سيرة المتشرّعة عبارة عن قضيّة خارجية شخصيّة لا يمكن تعميمها لكل الحالات الأخرى ، فهي تثبت العمل والأخذ بالظواهر بنحو مجمل ، وقدره المتيقن هو الظواهر اللفظيّة الواضحة فتكون قضيّة مهملة بقوّة الجزئيّة ، فكيف يمكن استفادة حجيّة الظهور منها ، كقاعدة كلية عامّة تشمل كل موارد الظهور وأقسامه؟!

ومثال ذلك : أنّ احتمال اتّصال الكلام بقرينة متّصلة يعتبر من الحالات التي وقع الخلاف فيها ، بمعنى أنّ احتمال وجود مثل هذه القرينة في الكلام هل يمنع من انعقاد ظهور الكلام أو لا يمنع من ذلك؟

مذهب المشهور أنّ ذلك لا يمنع من التمسّك بالظهور ، بل يبقى الظهور على حجيّته ما لم تحرز هذه القرينة المتّصلة ، فاحتمال وجودها عندهم كالقطع بعدمه.

بينما اخترنا نحن أنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة كالقطع بوجودها يمنع من انعقاد ظهور الكلام إذ من المحتمل أن تكون هذه القرينة على فرض اتصالها ووصولها إلينا مانعة وصارفة للظهور ، فكيف يمكن الاعتماد على الظهور والقول بحجيّته؟ فلو وصل إلينا حديث مقتطع الذيل واحتملنا أن يكون هذا المقتطع قرينة صارفة للظهور فكيف يمكننا التمسّك به؟

ولذلك قلنا : إنّ هذا الاحتمال يوجب على الأقلّ الإجمال في الدليل وعدم القطع بظهوره ، ومع عدم القطع بالظهور فكيف يقال بحجيّته ويتمسك بها ؛ إذ الحجيّة فرع التسليم أوّلا بظهور الكلام في المعنى وهذا غير متحقّق في الفرض المذكور؟

٣٣٠

وحينئذ نقول : إنّه في هذه الحالة مثلا كيف يمكننا إثبات أنّ سيرة المتشرّعة كانت منعقدة فعلا على الأخذ والعمل بالظهور رغم وجود هذا الاحتمال؟

والجواب : هو أنّ سيرة المتشرّعة لو كانت هي المدرك الوحيد لحجيّة الظهور بمعزل عن السيرة العقلائيّة فلا يمكننا إثبات حجيّة الظهور في كل الحالات ، وخاصّة في هذه الحالة ، لما ذكرنا من أنّها تثبت حجيّة الظهور بنحو القضيّة المهملة ، التي هي بقوّة الجزئيّة ، والتي يقتصر فيها على القدر المتيقن وهو العمل والأخذ بحجيّة ظواهر الكتاب والسنّة الواضحة والجلية دون سائر موارد الظهور الأخرى ، فإنّه لا يمكن الجزم والتأكد بانعقاد سيرتهم على العمل والأخذ بحجيّة الظهور فيها.

نعم ، لو كان مدرك حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة فيمكن تعميم البناء العقلائي لكل الموارد الأخرى استنادا إلى وجود الإيحاء والارتكاز عند العقلاء في الأخذ بالظهور ولو في بعض الموارد ، فإنّ هذا الارتكاز يوحي لهم ولو خطأ بأنّ العمل بالظهور في كل الموارد الأخرى حجّة أيضا ، وإلا لردع الشارع عنه ، فما دام لم يردع وسكت فيعمم العمل. والأخذ بالظهور من خصوص ظواهر الكتاب والسنّة الثابتين بالسيرة المتشرعية إلى كل ظهور سواء كان لفظيّا أم حاليّا وسواء كان واضحا جليا أم خفيا استنادا إلى الارتكاز والبناء العقلائي.

ولذلك يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ سيرة المتشرّعة وإن كانت قائمة على العمل والأخذ بالظواهر اللفظيّة الواضحة إلا أنّه بعد ضم البناء العقلائي على العمل بالظهور ولو في موارد خاصّة يعمّم هذا العمل كل الظهورات الأخرى.

وبالجملة : نستطيع أن نعمّم الحجيّة إلى سائر الموارد الأخرى ، فتكون سيرة المتشرّعة محتاجة إلى سيرة العقلاء من أجل تعميم الحجيّة فقط ، ورغم ذلك لا نحتاج إلى إثبات الإمضاء وعدم الردع ؛ لأنّ سيرة المتشرّعة منعقدة فعلا على العمل بالظهور بالجملة ومن خلال عملهم هذا ثبت أيضا أنّ العقلاء يبنون على العمل بالظهور في الجملة أيضا بوصفهم من جملة العقلاء أيضا ، إذ لو كان عملهم هذا بوصفهم المتشرعي البحت ولم يكن موجودا عند العقلاء ؛ لكان سلوكا غير مألوف ولكان يجب التأكيد عليه من الشارع وشيء من هذا لم يحصل.

وقد يلاحظ على الوجه الثاني ، وهو الاستدلال بالسيرة العقلائيّة أمران :

٣٣١

أحدهما : أنّه قاصر عن الشمول لموارد وجود أمارة معتبرة عقلائيّا على خلاف الظهور ولو لم تكن معتبرة شرعا ، كالقياس مثلا ـ لو قيل بأنّ العقلاء يعتمدون عليه في رفع اليد عن الظهور ـ فلا يمكن إثبات حجيّة الظهور المبتلى بهذه الأمارة على الخلاف بالسيرة العقلائيّة ، إذ لا سيرة من العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور فعلا.

وقد يشكل على الاستدلال بالسيرة العقلائيّة بإشكالين :

الإشكال الأوّل : أنّ سيرة العقلاء وإن سلّم أنّها منعقدة على العمل بالظهور ، وأنّ هذه السيرة لم يردع الشارع عنها إلا أنّه لا يسلّم انعقادها على العمل بكل ظهور حتّى الظهور الذي يبتلى بقرينة على خلافه ، وإن لم تكن هذه القرينة والأمارة حجّة شرعا.

والوجه في ذلك : أنّ مثل هذه القرينة الظنية تكشف عن الواقع وسيرة العقلاء إنّما يعمل بها لكونها كاشفة عن الواقع ، فعند ما تعتبر سيرة العقلاء قائمة على العمل بالظهور فهذا يعني أنّ الظهور يعتبر كاشفا عن الواقع والمراد الجدّي للمتكلّم ، إذ من غير المعقول أن يبني العقلاء على العمل بالظهور من باب التعبّد المحض ، إذ لا وجود للتعبدات المحضة في بناء العقلاء ، وهذا يعني أنّ هذه الأمارة العقلائيّة الظنيّة الكاشفة عن الواقع والمراد تكون معارضة ومخالفة للظهور فكيف يكون كاشفا حينئذ؟ إذ على الأقلّ تشكّل هذه الأمارة مانعا من كاشفيّة الظهور بمعنى أنّ الكاشفتين بحكم تساقطهما ، وحينئذ يكون العمل بالظهور رغم سقوط كاشفيّته تعبديّا محضا ، وهو غير متصوّر أصلا.

فمثلا لو كان القياس قائما على خلاف ما ظهر من الكلام والقياس يفرض كونه من القرائن والأمارات العقلائيّة التي تكشف كشفا ظنيا عن الواقع والمراد ـ وإن لم يكن حجّة شرعا فإنّ هذا مطلب آخر ـ ففي هذه الحالة تكون السيرة القائمة على العمل بالظهور مبتلية بما يدلّ ويكشف على خلاف الظهور فكيف يمكن الاعتماد والتعويل على السيرة في خصوص هذه الحالة بالذات؟!

اللهم إلا إذا استفيد من دليل اسقاطها عن الحجيّة تنزيلها منزلة العدم بلحاظ تمام الآثار.

٣٣٢

نعم ، هذا الإشكال مبنيّ على أن تكون هذه الأمارة العقلائيّة غير منهي عنها شرعا ، فإنّه إذا كان منهيا عنها شرعا واستفيد من دليل إسقاطها عن الحجيّة أنّ وجودها كعدمها لم يكن لقيامها على خلاف الظهور أىّ أثر ، بمعنى أنّ الظهور يبقى على حجيّته حتّى مع وجودها على خلافه ؛ لأنّ الشارع قد اعتبرها وكأنّها غير موجودة ، فكان وجودها وعدمها سيّان ، وبالتالي تكون السيرة تامّة ولا معارض لها أصلا.

والحاصل : أنّ هذا الاشكال مبنيّ على ألا تكون هذه الأمارة مردوعا عنها شرعا ، هذا أوّلا.

وثانيا : مبنيّ على ألا يستظهر من دليل النهي عنها ـ على فرض وجوده ـ أنّها نزّلت منزلة العدم ، وإلا لم يكن لها تأثير على منع كاشفيّة الظهور حتّى مع قيامها على خلافه كما هو الصحيح.

ولكنّ الصحيح أنّ هذا الكلام إنّما يتّجه لو قيل بأنّ الإمضاء يتحدّد بحدود العمل الصامت للعقلاء ، غير أنّك عرفت في الحلقة السابقة أنّ الإمضاء يتّجه إلى النكتة المرتكزة التي هي أساس العمل ، وهي في المقام الحجيّة الاقتضائية للظهور مطلقا ، وكل حجيّة كذلك لا يرفع اليد عنها إلا بحجّة ، والمفروض عدم حجيّة الأمارة على الخلاف شرعا ، فيتعيّن العمل بالظهور.

جواب الإشكال :

والصحيح أنّ هذا الإشكال إنّما يرد لو قيل بأنّ الإمضاء بالنسبة للسيرة العقلائيّة يتحدّد بحدود العمل الصامت الذي انعقدت عليه فعلا سيرة العقلاء ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ سيرة العقلاء لم تنعقد على العمل بالظهور فيما إذا كان هناك أمارة ظنيّة عقلائيّة على خلافه حتّى وان لم تكن معتبرة شرعا.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّه ينصبّ على المرتكز والإيحاء والبناء العقلائي الذي يوجبه انعقاد سيرتهم على أمر ما بحيث إنّهم على أساس هذا البناء يوسّعون دائرة الإمضاء إلى سائر الأغراض الأخرى التي لم تنعقد سيرتهم على العمل به فعلا.

وقد تقدّم عند الحديث عن السيرة أنّها وإن انعقدت على أغراضهم التشريعيّة أو

٣٣٣

التكوينيّة فقط إلا أنّ هذه السيرة توحي إليهم ولو خطأ بأنّ الشارع يرضى بسيرتهم حتّى بلحاظ أغراضه التشريعيّة ؛ ، ولذلك كان يجب على الشارع النهي والردع عن سيرتهم هذه لو لم يكن موافقا لهم ، فإذا سكت ولم يردع كان ذلك إمضاء لهذه السيرة المتضمنة لهذا الإيحاء والارتكاز. ففي الحقيقة الإمضاء متوجه لهذه التوسعة الناشئة من الإيحاء والبناء والارتكاز.

وفي مقامنا يعلم بانعقاد سيرة العقلاء على الأخذ بالظهور في أغراضهم التكوينيّة والتشريعيّة ، فسكوت الشارع عند ذلك يعتبر إمضاء لبنائهم بالعمل بالظهور حتّى بلحاظ أغراض الشارع أي أنّه يحكم بحجيّة الظهور في كلام الشارع أيضا ، وحينئذ يكون الشارع قد جعل الظهور حجّة بمعنى أنّه يقتضي الحجيّة ، فحجيته اقتضائية فيؤخذ بها ما لم يوجد هناك حجّة أخرى أقوى تمنع من الأخذ بهذا الظهور ، وهذه الحجيّة الأقوى لا بدّ أن تكون معتبرة شرعا ، لأنّ الكلام في ظهور كلام الشارع ، فإذا كان لظهور الكلام في العموم أو الإطلاق حجّة أخرى أقوى منه كالتخصيص والتقييد وكانت معتبرة شرعا فإنّه يرفع اليد عن هذا الظهور وبالتالي لا يكون حجّة فعلا ، وإن كان يقتضي الحجيّة بذاته لو لا هذا المانع.

وأمّا إذا قامت قرينة وأمارة على خلاف الظهور ولم تكن معتبرة شرعا فهذا يعني أنّه لا يمكن أن يرفع اليد بها عن حجيّة الظهور المعتبرة شرعا ، لأنّ الحجّة لا يرفع اليد عنها إلا إذا قامت حجّة أقوى منها على خلافها ، وهنا لم تقم الحجّة الأقوى بل لم تقم الحجّة أصلا ، لأنّ مثل هذه الأمارة غير معتبرة شرعا ، فهي ليست حجّة تعبّدا ليعوّل عليها في تفسير المراد الجدّي من كلام الشارع ، فهي وإن كانت عقلائيّة ولكنها ظنيّة فتحتاج إلى التعبد الخاص من الشارع والمفروض أنّ خلافه هو الموجود.

ولذلك يتعيّن العمل بالظهور ولا تضرّ مثل هذه القرينة والأمارة.

والأمر الآخر الذي يلاحظ على الوجه الثاني أنّ السيرة العقلائيّة إنّما انعقدت على العمل بالظهور واتخاذه أساسا لاكتشاف المراد في المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة عادة ، والشارع ليس من هذا القبيل ، فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالة متعارفة ولا توجد حالات مشابهة في العرف لحالة الشارع ليلاحظ موقف العقلاء منها.

٣٣٤

الإشكال الثاني : على السيرة العقلائيّة هو : أنّ السيرة العقلائيّة وإن كانت منعقدة فعلا على العمل بالظهور لاكتشاف المراد الجدّي للمتكلّم بحيث يكون ظاهر كلامه هو مراده الجدّي وإلا لبيّن ما يدلّ عليه ، إلا أنّ هذا لا ينفعنا في إثبات حجيّة الظهور بالنسبة لكلام الشارع ؛ وذلك لوجود فارق كبير ومهم جدا بين معقد السيرة وبين ظهورات الشارع ، حيث إنّ السيرة معقدها الإنسان العرفي الذي عادة وغالبا ما لا يعتمد على القرائن المنفصلة ، بل يذكر كل ما له دخالة في مراده الجدّي في شخص كلامه ، ويكون غريبا ونادرا عند العقلاء الاعتماد على القرائن المنفصلة في توضيح المراد وبيانه ، ولذلك كان ما يظهر من كلام هذا الإنسان العرفي الاعتيادي حجّة له وعليه.

وأمّا بالنسبة لكلام الشارع فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة في بيان مراده الجدّي كثير جدا ، حتّى اشتهر القول بأنّه ما من عام إلا وقد خصّ ، وهذا يعني أنّه من المحتمل قويا ألا يكون مراده الجدّي هو ما ظهر من كلامه الآن ؛ لاحتمال أن يأتي بقرينة منفصلة تكشف عن المراد الجدّي المخالف لهذا الظهور.

وحينئذ كيف يمكننا أن نستدل على حجيّة ظهور كلام الشارع مع احتمال وجود القرينة المنفصلة أو مع احتمال صدورها فيما بعد؟ باعتبار أنّ طريقة الشارع في محاوراته تختلف عن طريقة العقلاء في محاوراتهم فلا يمكن لسيرة العقلاء أن تكون حجّة كاشفة عن أنّ الشارع يقبل حجيّة الظهور ولو في خصوص هذه الحالة للعلم باختلافهما.

وعلى هذا فيكون كلام الشارع مجملا إذا احتمل ورود القرينة المنفصلة على الخلاف وهو بقوّة القضيّة المهملة فيؤخذ منه بالقدر المتيقن فقط لا أكثر.

وهذا الاعتراض إنّما قد يتّجه إذا كان دليل الإمضاء متطابقا في الموضوع مع السيرة العقلائيّة ، فكما أنّ السيرة العقلائيّة موضوعها المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة كذلك دليل الإمضاء ، ولكنّ دليل الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّ السيرة العقلائيّة وإن كانت مختصّة بالمتكلم الاعتيادي إلا أنّها تقتضي الجري على طبقها في كلمات الشارع أيضا ، إما للعادة أو لعدم الاطلاع إلى فترة من الزمن على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن

٣٣٥

الحالة الاعتياديّة وهذا يشكّل خطرا على الأغراض الشرعيّة يحتّم الردع لو لم يكن الشارع موافقا على الأخذ بظواهر كلامه.

ومن هنا يكشف عدم الردع عن إقرار الشارع لحجيّة الظهور في الكلام الصادر منه.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّه مبنيّ على أن يكون الإمضاء المستكشف من عدم الردع عن السيرة متحددا ومطابقا لما انعقدت عليه السيرة من عمل ، فحيث إنّ السيرة قد انعقدت على الأخذ بظهور كلام المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة غالبا وعادة فكذلك يكون دليل الإمضاء مقيّدا بهذا المقدار أي يستكشف بالسيرة حجيّة ظهور كلام الشارع فيما إذا لم يعتمد على القرائن المنفصلة ، وبما أنّنا نعلم أنّ الشارع مخالف لطريقة العقلاء في محاوراته وأنّه قد اعتمد فعلا على القرائن المنفصلة بحيث صار ذلك طريقا عاما وسلوكا شائعا عند الشارع فلا يمكننا بهذه السيرة الممضاة شرعا أن نثبت حجيّة ظهور كلام الشارع لاختلاف الدليل والمدّعى في الموضوع اختلافا يمنع من تماميّة الاستدلال لأنّ موضوع الدليل هو المتكلّم الذي لا يعتمد على القرائن المنفصلة ، بينما موضوع المدّعى هو الشارع وظهور كلامه الذي ثبت يقينا اعتماده على القرائن المنفصلة.

إلا أنّ الصحيح مع ذلك هو أنّ دليل الإمضاء المستكشف من عدم الردع أوسع وأشمل من موضوع السيرة العقلائيّة ، بل إنّه في الحقيقة لا يتوجه إلى السيرة بما هي عمل صامت أصلا ، بل الإمضاء يتوجه إلى النكتة التي ارتكزت عند العقلاء كما تقدّم سابقا فإنّ سيرة العقلاء إذا انعقدت على الأخذ بالظهور ولو في حدود كلام المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة إلا أنّها في الحقيقة سوف تشكّل إيحاء وارتكازا وعادة عند العقلاء بأنّ الشارع أيضا يعتمد على الأخذ بظهور كلامه ، فإذا أمضى الشارع هذه السيرة بسكوته عنها وعدم ردعها كان هذا السكوت امضاء لهذا البناء والارتكاز العقلائي الذي يقتضي تعميم الأخذ بالظهور حتّى في كلام الشارع.

ومجرّد العلم بأنّ الشارع قد اعتمد على القرائن المنفصلة لا يمنع من حجيّة هذه السيرة أو على الأقلّ لا يردع عنها ؛ إذ هناك موارد سوف يعتمد العقلاء فيها على

٣٣٦

حجيّة ظهور كلام الشارع وذلك قبل اطلاعهم على طريقة الشارع ومسلكه بالنسبة لاكتشاف مراده الجدّي أي بلحاظ بداية التشريع ، فإنّه في تلك الفترة لا يعلم باعتماد الشارع على القرائن المنفصلة فيبني العقلاء حينئذ على حجيّة ظهور كلامه لاعتيادهم على ذلك في حياتهم الشخصيّة والتشريعيّة.

وهذا معناه أنّ هناك أحكاما للشارع سوف تتعرّض للخطر والضياع فيما لو سكت الشارع عن السيرة ولم يردع عنها إذا كان مخالفا لها ، إذ لا مبرّر لسكوته وعدم ردعه في تلك الفترة الزمنية ما دامت السيرة سوف تشكّل خطرا على أغراضه وأحكامه ، وهذا يحتّم عليه الردع وعدم السكوت ، وبما أنّه سكت ولم يردع ، كان ذلك معناه أنّ الأخذ بظهور الكلام حجّة حتّى بالنسبة للمتكلّم الذي يعتمد على القرائن المنفصلة إذا لم يعلم صدورها ، ومجرّد احتمالها كالقطع بعدمها.

ومن هنا كان سكوت الشارع وعدم ردعه عن السيرة ولو في بداية التشريع كاشفا عن حجيّتها في كون العمل بالظهور حجّة مطلقا.

وعلى هذا الأساس يكون احتمال القرينة المنفصلة غير مضرّ بانعقاد كلام المتكلّم وظهوره في مراده الجدّي. نعم ، عند ما تأتي هذه القرينة المنفصلة تكون معارضة لظهور كلامه المنعقد فعلا ، وحينئذ إذا أمكن الجمع بينهما فهو وإلا وقع التعارض ، فإذا كانت القرينة أقوى قدّمت عليه ، وكذا العكس وإلا فيحكم بالتساقط.

* * *

٣٣٧
٣٣٨

تشخيص موضوع الحجيّة

٣٣٩
٣٤٠