شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

الارتكاز بدور الوسيط بين إجماع الفقهاء من عصر الغيبة وبين الدليل الشرعي.

وبتعبير آخر : أنّ الإجماع معلول للارتكاز والجوّ العام الذي أوحت به السّنة بمجموعها والارتكاز بدوره معلول لوجود الدليل الشرعي الصادر من المعصوم والذي ليس رواية لفظية بل الأعم من قوله وفعله وتقريره.

فالكاشف المباشر والحقيقي عن الدليل الشرعي إنّما هو الارتكاز المذكور لأنّه معلول له فيكون كاشفا عنه من طريق كشف المعلول عن علته ، وبما أنّ الإجماع معلول لهذا الارتكاز فيكون كاشفا عن الدليل الشرعي أيضا لأنّه معلول له أيضا.

ولهذا فإنّ أي بديل للإجماع المذكور في إثبات هذا الوسيط والكشف عنه يؤدّي نفس دور الإجماع ، فإذا أمكن أن نستكشف بقرائن مختلفة أنّ سيرة المتشرّعة المعاصرين للأئمّة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم كانت منعقدة على الالتزام بحكم معين ، كفى ذلك في إثبات هذا الحكم.

وعلى هذا الأساس اتّضح أنّ الاجماع يكشف عن الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي. وعليه ، فلو قام شيء آخر يكشف عن هذا الوسيط لكان كاشفا عن الدليل الشرعي أيضا كالإجماع ، فلا خصوصيّة للإجماع حينئذ ، بل دوره دور الكاشف عن الوسيط فقط.

فإذا كانت السيرة المتشرعية الآن المنعقدة على حكم ما كاشفة عن هذا الوسيط كانت كاشفة أيضا عن الدليل الشرعي.

وأمّا كيف تكون السيرة المتشرعية المنعقدة الآن كاشفة عن الوسيط؟ فهذا يحتاج إلى إثبات كونها معاصرة للمعصومين عليهم‌السلام أو للمخالطين وللمعاصرين منهم ، أو كونها كاشفة عن اقتناعات ومرتكزات الأئمّة عليهم‌السلام أو أصحابهم ، فإذا أمكن ذلك كانت هذه السيرة كاشفة عن الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي أيضا.

وبهذا نعرف أنّ حجيّة الإجماع ليست ذاتية ، ولا مجعولة من الشارع ، وإنّما الإجماع يقوم بدور الكاشف عمّا هو حجّة شرعا ، وهو الارتكاز والسيرة العمليّة الكاشف عن وجود الدليل الشرعي.

وقد سبق عند الكلام عن طرق إثبات السيرة في الحلقة السابقة ما ينفع في

١٨١

مجال تشخيص بعض هذه القرائن.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة الحديث عن بعض الطرق التي يمكننا من خلالها إثبات معاصرة السيرة سواء المتشرعية أو العقلائيّة للأئمّة عليهم‌السلام أو لمن خالطهم وعاشرهم من أصحابهم ، وهي :

١ ـ عدم التغير والتحوّل.

٢ ـ النقل التاريخي.

٣ ـ أن يكون لعدم هذه السيرة لازم منتف بالوجدان.

٤ ـ أن يكون لعدم هذه السيرة بديل غريب.

٥ ـ التحليل والاستقراء للمرتكزات الوجدانيّة.

الشروط المساعدة على كشف الإجماع :

وعلى أساس ما عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعي بالإجماع وتسلسلها يمكن أن نذكر الأمور التالية كشروط أساسية لكشف الإجماع عن الدليل الشرعي بالطريقة المتقدّمة الذكر أو مساعدة على ذلك ، وهي :

بعد أن عرفنا كيفيّة كشف الإجماع عن الدليل الشرعي وأنّه بتوسط الارتكاز ، فيمكننا هنا أن نذكر بعض العوامل والشروط التي إما أن تكون شروطا أساسيّة لا بدّ من توفرها وتحققها لكشف الإجماع أو أنّها شروط تساعد على كاشفيّته عن الدليل الشرعي.

وهذه الشروط من شأنها أن تساهم مساهمة كبيرة في ازدياد القيم الاحتماليّة للصدق والإصابة أكثر وأرسخ ، وهي :

الأوّل : أن يكون الإجماع من قبل المتقدمين من فقهاء عصر الغيبة الذين يتصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين المعاصرين للمعصومين ، لأنّ هؤلاء هم الذين يمكن أن يكشفوا عن ارتكاز عام لدى طبقة الرواة ومن إليهم دون الفقهاء المتأخرين.

الأوّل : أن يكون الإجماع متحققا عند الفقهاء القدماء القريبين من عصر الغيبة جدا بحيث يكون عصرهم وعهدهم متصلا بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين الذين عاصروا الأئمّة عليهم‌السلام ، لأنّ الإجماع يراد به اكتشاف الوسيط أي الارتكاز ،

١٨٢

وهذا الارتكاز لا يمكن الكشف عنه إلا من قبل القدماء المتصلين بأصحاب الأئمّة ورواة الحديث والمتشرّعة المعاصرين ، لأنّ أي إجماع آخر من غير هؤلاء لا يكون كاشفا عن الوسيط المذكور إلا إذا ثبت كون هذا الإجماع قد انعقد في زمان العلماء القدماء أيضا ؛ إذ لو كان القدماء مخالفين لإجماع المتأخرين لم يكن إجماع المتأخرين حجّة ، لأنّه لا يكون كاشفا عن الارتكاز ، إذ كيف يثبت الارتكاز والحال أنّ قسما من المتشرّعة وعلى رأسهم العلماء المتقدمين لم يعملوا به ، ولم يعتقدوا وجوده؟!

فالعلماء المتقدمون المتصلون بعصر النص أو بالأصحاب أو بالمتشرعة من رواة الأحاديث وغيرهم الذين عاصروا الأئمّة عليهم‌السلام هم الذين يمكن أن يكشفوا عن هذا الارتكاز دون غيرهم من الفقهاء المتأخرين إلا إذا ثبت موافقة القدماء لهم ، وبالتالي يرجع الأمر إلى القدماء.

الثاني : ألا يكون المجمعون أو جملة معتدّ بها منهم قد صرحوا بمدرك محدد لهم ، بل ألا يكون هناك مدرك معين من المحتمل استناد المجمعين إليه ، وإلا كان المهم تقييم ذلك المدرك. نعم ، في هذه الحالة قد يشكّل استناد المجمعين إلى المدرك المعين قوّة فيه ويكمل ما يبدو من نقصه.

الثاني : ألا يكون هناك مدرك للإجماع ولو احتمالا ، فهنا مطلبان :

١ ـ ألا يكون هناك مدرك للإجماع إذ لو كان للإجماع مدرك استندوا إليه وصرحوا بوجوده سواء كان آية أو رواية أو دليلا عقليا فحينئذ لا يكون الإجماع حجّة ، إذ لا يكون كاشفا عن هذا الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي ، حيث تقدّم إنّ الإجماع إنّما يكون حجّة فيما إذا كان كاشفا عن الوسيط أي الارتكاز ، فإذا لم يكن كاشفا عنه لم يكن حجّة ، لأنّه ليس حجّة بذاته لا وجدانا ولا تعبدا. وعليه ، فيجب الرجوع إلى هذا المدرك ليرى أنّه تام سندا ودلالة وجهة أو لا.

فإذا كان تامّا أخذ به وإلا فلا. وهذا ما يسمّى بالإجماع المدركي.

٢ ـ الا يكون هناك احتمال لوجود مدرك قد استندوا إليه في إجماعهم ، فإنّه إذا كنّا نحتمل وجود المدرك احتمالا معتدا به ، فحينئذ لا نقطع بأنّ الإجماع كاشف عن الوسيط والارتكاز ، وبالتالي لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي. نعم ، يبقى هناك ظن بذلك إلا أنّ الظن ما لم يقم الدليل الشرعي للتعبد به لا يمكن التعويل عليه ، كما

١٨٣

هو الحال هنا ، فإنّ الإجماع ليس دليلا تعبديّا فلا يؤخذ به إلا إذا كان كاشفا عن الارتكاز ، فإنّ لم يكن كاشفا عنه ولو احتمالا فلا يؤخذ به.

نعم ، قد يشكّل استناد المجمعين إلى هذا المدرك الذي صرحوا به أو المحتمل قوّة في سند أو دلالة الدليل بحيث يكون تعويلهم عليه جابرا لضعف سنده إن كان فيه ضعف ولو احتمالا ، ويكون فهمهم عاضدا للدلالة وإن لم يكن مستظهرا منها بالنسبة إلينا ، لأنّ هذا الفهم الخاص يكشف عن أنّه توجد قرائن وشواهد غابت علينا ؛ لكنّهم فهموا من لحن أو من بعض الأجواء الخاصّة ، أو أنّهم استوحوها من خلال قربهم من عصر النص والرواة.

ومن هنا يقال إن عمل الأصحاب برواية جابر لضعفها سندا ودلالة.

ومثال ذلك : أن يثبت فهم معنى معين للرواية من قبل كل الفقهاء المتقدمين القريبين من عصر تلك الرواية ، والمتاخمين لها ، فإنّ ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر في ظهورها في ذلك المعنى نظرا لقرب أولئك من عصر النص وإحاطتهم بكثير من الظروف المحجوبة عنا.

مثال ذلك : أنّ الفقهاء القدماء المعاصرين لرواة الحديث والقريبين من عصر النص جدا إذا فهموا من الرواية معنى معين لم يكن ظاهرا منها ، أو كان هناك معنى آخر أظهر من المعنى الذي فهموها كان فهمهم هذا مرجحا على فهم الفقهاء المتأخرين في حالة التعارض بينهما ، ويكون هذا الفهم قاضيا على كل التشكيكات التي تأتي فيما بعد في صحّة هذا المعنى الذي استظهروه من الرواية ، وذلك لأنّ قربهم من عصر النص واتصالهم بحملة الحديث ومتاخمتهم من عصر صدور الرواية يعتبر مرجحا لفهمهم ؛ إذ قد يكونوا قد عولوا على قرائن وشواهد خفيت علينا نتيجة ابتعادنا عن عصر النص بحيث كانت هذه القرائن غير لفظية وإلا لنقلت إلينا كما هو مقتضى الأمانة والوثاقة للراوي ، فإذا لم ينقل إلينا شيء ومع ذلك فهم المتقدمون من الرواية شيئا مغايرا لما فهمناه منها كان معنى ذلك أنّه توجد قرائن حالية أو مقامية أو ظروف معينة قد اطلع عليها القدماء ، ولكنّها حجبت عنا نتيجة بعض الملابسات والظروف.

الثالث : ألا توجد قرائن عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والمتشرّعة المعاصرين للأئمّة عليهم‌السلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية الواضحة اللذان

١٨٤

يراد اكتشافهما عن طريق إجماع الفقهاء المتقدمين ، والوجه في هذا الشرط واضح بعد أن عرفنا كيفيّة تسلسل الاكتشاف ودور الوسيط المشار إليه فيه.

الثالث : ألا تكون هناك قرائن عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والأصحاب والمتشرّعة الذين عاصروا الأئمّة عليهم‌السلام لم يكن هذا الارتكاز والوضوح والجو العام المراد اكتشافه بالإجماع موجودا ؛ لأنّه إذا كان هناك مثل هذه القرائن فلا يكون الإجماع حينئذ كاشفا عن وجود الارتكاز والوضوح والجو العام ، إذ المفروض وجود ارتكاز معاكس له فلا يكون حجّة ؛ لأنّ حجيّة الإجماع كانت مرتبطة بمدى كشفه عن ذاك الوسيط على أساس حساب الاحتمالات.

فإذا كان الارتكاز المراد اكتشافه يعلم بعدم وجوده أو كان هناك ارتكاز آخر معارض له ، كان معنى ذلك أنّ الإجماع لم يكشف عن الارتكاز الموجود في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، بل كشف عن ارتكاز آخر لم يكن موجودا في عصرهم فلا يكون دالا على الدليل الشرعي حينئذ لعدم كشفه عن الارتكاز في عصر الأئمّة عليهم‌السلام.

ومثال ذلك : نجاسة الكتابي وطهارته ، فإنّ مجموع الأسئلة التي طرحت على الأئمّة عليهم‌السلام كانت مقيّدة بقيود كثيرة كشربه للخمر أو أكله للحم الخنزير ونحو ذلك ، وهذا معناه أنّ نجاسة الكتابي لم تكن مرتكزة وواضحة عندهم وإلا لما سألوا بهذا النحو من الأسئلة فإذا انعقد إجماع على نجاسة الكتابي لم يكن هذا الإجماع كاشفا عن الوسيط والارتكاز ، أو على الأقلّ يشك في كاشفيّته عنه ولذلك لا يكون حجّة ، لأنّه توجد قرائن معاكسة لهذا الارتكاز الذي يراد اكتشافه بالإجماع.

الرابع : أن تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقي حكمها عادة إلا من قبل الشارع ، وأمّا إذا كان بالإمكان تلقيه من قاعدة عقلية مثلا ، أو كانت مسألة تفريعية قد يستفاد حكمها من عموم دليل أو إطلاق فلا يتمّ الاكتشاف المذكور.

الرابع : أن تكون المسألة التي انعقد الإجماع عليها من المسائل التي لا مجال لصدور الحكم فيها إلا من قبل الشارع ، فيكون حينئذ الإجماع كاشفا عن الارتكاز ، وهو بدوره يكشف عن الدليل الشرعي على هذا الحكم المجمع عليه.

١٨٥

وأمّا إذا كانت هذه المسألة من الممكن أن تستفاد وتستنتج من قاعدة عقليّة بأن كانت من مسائل الحسن والقبح أي المستقلاّت العقلية ، أو كانت من الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، أو حرمة شيء وبطلانه ، أو الأمر بشيء وحرمة ضده ونحوها من الملازمات العقلية ، فحينئذ لا يكون الإجماع على هذه المسألة كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّه يحتمل أن يكون دليلها هو حكم العقل ، ومع الاحتمال لا يقطع بالكاشفية ومع عدم الكاشفيّة لا يكون الإجماع حجّة ، لأنّه ليس حجّة بنفسه.

وكذلك الحال إذا كانت هذه المسألة من الممكن استفادتها من عموم أو إطلاق بأن كانت من جملة التفريعات والمصاديق لهذا الإطلاق والعموم ، فإنّ إجماعهم على المسألة لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّه من الممكن أن يكون مستندها ودليلها هو هذا الإطلاق والعموم ، وحينئذ تبطل كاشفيّة الإجماع فلا يكون حجّة ، ويجب حينئذ الرجوع إلى هذا الإطلاق والعموم وتقييمه ليرى أنّ هذه المسألة هل تصلح أن تكون من تفريعاته ومصاديقه أم لا؟ (١).

مقدار دلالة الإجماع :

لمّا كان كشف الإجماع قائما على أساس تجمّع أنظار أهل الفتوى على قضيّة واحدة اختص بالمقدار المتّفق عليه ، ففيما إذا اختلفت الفتاوى بالعموم والخصوص لا يتمّ الإجماع إلا بالنسبة لمورد الخاص.

يثبت بالإجماع المقدار المتيقن المتّفق عليه من الجميع ، وذلك لأنّه دليل لبيّ والأدلّة اللبّية يقتصر فيها على القدر المتيقن ، ولا يتعدى إلى الزائد عن ذلك إلا لدليل خاص ، وحيث إنّ الإجماع قائم على أساس حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاحتماليّة لصدق القضيّة في محور واحد كان ذلك مرتبط بالمحور الذي تم الاتفاق عليه دون الزائد عنه ، لأنّ هذه القيم الاحتماليّة إنّما حصلت وتراكمت

__________________

(١) وهذا الشرط يمكن إرجاعه إلى الشرط الثاني ، حيث يحتمل وجود المدرك للإجماع غاية الأمر أنّ المدرك هنا عقلي أو عموم وإطلاق دليل بينما هناك كان المدرك لفظيّا.

ويدخل في هذا الشرط أيضا كل مدرك ومستند يحتمل تعويل المجمعين عليه ، أو يحتمل رجوع المسألة المجمع عليها إليه كالعرف أو السيرة العقلائيّة أو الظهور ونحو ذلك.

١٨٦

نتيجة الاتفاق على قضيّة خاصّة دون سائر الموارد والقضايا وان كانت مرتبطة أو متفرّعة عنه.

فمثلا إذا كانت بعض فتاوى المجمعين عامّة ومطلقة وبعضها خاص ومقيّد ، كان المقدار الثابت بالإجماع هو الخاص والمقيّد فقط دون العموم والإطلاق ، لأنّ القيم الاحتماليّة المتراكمة على المحور الأضيق هي القدر المتيقن الذي لا شكّ فيه ، دون سائر التفصيلات الأخرى ، فإنها تحتاج إلى قرائن احتمالية أكثر ، وبالتالي إلى فتاوى أكثر.

ويعتبر كشف الإجماع عن أصل الحكم بنحو القضيّة المهملة أقوى دائما من كشفه عن الاطلاقات التفصيلية للحكم ؛ وذلك لأنّا عرفنا سابقا أنّ كشف الإجماع يعتمد على ما يشير إليه من الارتكاز في طبقة الرواة ومن إليهم ، وحينما نلاحظ الارتكاز المكتشف بالإجماع نجد أنّ احتمال وقوع الخطأ في تشخيص حدوده وامتداداته من قبل المجمعين أقوى نسبيّا من احتمال خطأهم في أصل إدراك ذلك الارتكاز ، فإنّ الارتكاز بحكم كونه قضيّة معنوية غير منصبة في ألفاظ محددة قد يكتنف الغموض بعض امتداداته وإطلاقاته.

ثمّ إنّ كشف الإجماع عن القضيّة بنحو الإهمال من دون إطلاق أو تقييد أقوى من كشفه عن كونها مطلقة مثلا.

فإذا أجمع العلماء على قضيّة ما كان إجماعهم كاشفا عن أصل تحقّق القضيّة بقطع النظر عن كونها مطلقة أو مقيّدة أقوى فإنّه القدر المتيقن من كشف الإجماع ، وأمّا كونها مطلقة أو مقيّدة فهذه تفصيلات زائدة تحتاج إلى مفردات وقيم احتمالية أكبر.

والسّر في ذلك : أنّنا عرفنا أنّ الإجماع قائم على أساس كشفه عن الوسيط والذي بدوره يكشف عن الدليل الشرعي ، فإذا تحقّق الإجماع على مسألة كشف ذلك عن وجود ارتكاز لدى الطبقات السابقة ووضوح في الرؤية على أصل تحقّق هذه المسألة في الشرع ، وأنّها قضيّة قد صدر الدليل الشرعي بشأنها ، وهذا يثبت لنا أنّ أصل هذه القضيّة صحيح ، وأمّا كونها مطلقة أو عامّة وأنّها تشمل كل التفريعات والتفصيلات فهذا لا يمكننا أن نثبته بمجرّد الإجماع على القضيّة من دون أن يكون هناك تصريح بذلك ، لأنّ احتمال الخطأ في أصل وجود الارتكاز بعيد جدا بحساب الاحتمالات

١٨٧

أكثر من احتمال الخطأ في كون هذا الارتكاز عاما ومطلقا ، لأنّ الإجماع يكشف لنا لبّا وحدسا واستنتاجا عن وجود الدليل الشرعي ، إلا أنّ هذا الدليل الشرعي غير موجود بأيدينا لنرى أنّه مطلق أو عام أو شامل لكل التفصيلات والتفريعات ، فإنّ الإجماع دليل لبّي يثبت به الدليل الشرعي غير اللفظي أي الارتكاز الكاشف عن وجود دليل شرعي إلا أنّ هذا الدليل الشرعي غير محدد بألفاظ معينة ، بل يحتمل قويا جدا أنّه عمل أو تقرير أو سيرة من المتشرّعة ، وهذا معناه عدم إمكانيّة اكتشاف الإطلاق والعموم من الإجماع على القضيّة ما لم يكن هناك إجماع أيضا على إطلاقها أو عمومها ، وأمّا إذا كان الإجماع منعقدا على القضيّة من دون ذكر للتفصيلات أو مع الاختلاف بذكرها أو عدم ذكر البعض لها فهذا كلّه يمنع عن انعقاد الإطلاق ؛ إذ لا يوجد دليل لفظي مكتشف بالإجماع ليكون مطلقا ، وإنّما هناك دليل لبّي معنوي وقضيّة حدسية فلا يمكن استكشاف الإطلاق والتفصيلات لأنّها تبقى غامضة ، بخلاف أصل ثبوت القضيّة فإنّه محرز ومسلّم حينئذ.

الإجماع البسيط والمركّب :

يقسم الإجماع إلى بسيط ومركب :

فالبسيط : هو الاتفاق على رأي معين في المسألة ، والمركّب : هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه أو أكثر ، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتا بالإجماع المركّب.

وما تقدّم من الكلام كان الملحوظ فيه الإجماع البسيط.

الإجماع البسيط : هو اتفاق آراء العلماء على وجه واحد من الوجوه المحتملة في القضيّة ، كأن يفتي الجميع بالوجوب مثلا ، وهذا هو الذي كنّا نتكلم عنه إلى الآن.

وهذا الإجماع حجّة إذا كان كاشفا عن الارتكاز استنادا إلى حساب الاحتمالات كما تقدّم.

الإجماع المركّب : هو انقسام آراء العلماء إلى رأيين أو أكثر من مجموع الوجوه المحتملة في المسألة ، كأن يفتي البعض بالوجوب والبعض الآخر بالاستحباب أو بالحرمة ، فهنا وإن لم يكن هناك إجماع على أصل المسألة ، حيث إنّهم اختلفوا في حكمها ، إلا أنّه يوجد إجماع آخر مركب من هذين الرأيين وهو الإجماع على نفي القول الثالث ، فإنهم

١٨٨

إذا أفتوا بالوجوب والاستحباب فهذا يدلّ على أنّ الحكم ليس هو الحرمة مثلا ، أو إذا أفتوا بالوجوب والحرمة فهذا يدلّ على أنّ الحكم ليس هو الترخيص.

فالمقصود من الإجماع المركّب هو نفي الثالث الذي لم يقل به أحد منهم ، فعلى أساس التلفيق والتركيب من هذين القولين استنتجنا وجود إجماع على نفي الثالث ، فهل هذا النحو من الإجماع حجّة أم لا؟ والجواب :

وأمّا المركّب من الإجماع ، فإن افترضنا أنّ كل فقيه من المجمعين يبني على نفي الوجه الثالث بصورة مستقلّة عن تبنيه لرأيه فهذا يرجع في الحقيقة إلى الإجماع البسيط على نفي الثالث.

الجواب : إنّ الإجماع المركّب على نحوين من جهة نفي الثالث :

الأوّل : أن يكون كل فقيه من المجمعين المنقسمين إلى رأيين ينفي الثالث بمدلول كلامه المطابقي أو الالتزامي أو الضمني مستقلا عن الرأي الذي ذهب إليه ، بمعنى أنّ كل فقيه يبني ويلتزم بعدم وجود هذا الثالث إما تصريحا وإما تلويحا فهو في عرض المدلول المطابقي لرأيه ، فإذا كان هناك إجماع منقسم بين الوجوب والحرمة فإنّ كل واحد منهم حينما يفتي بالوجوب أو الحرمة يبني في مرحلة سابقة عن ذلك على أنّ الحكم ليس هو الترخيص في هذه المسألة ، بل الأمر دائر بين هذين الأمرين فقط ولا يحتمل وجود حكم آخر غيرهما ، فإنّ هذا البناء يعتبر إجماعا من كل الفقهاء على نفي الثالث ، ويكون نفيه حينئذ قائما على أساس الإجماع البسيط لا المركّب ، فهو في الحقيقة مصداق للإجماع البسيط أيضا ؛ لأنّهم جميعا ينفون الثالث أوّلا ، ثمّ اختلفوا على هذين الرأيين ثانيا ، بحيث يكون كل واحد قد ذهب إلى الوجوب أو الحرمة بعد أن اعتقد بعدم الترخيص أولا ، فيكون الإجماع المركّب على نفي الثالث حجّة أيضا كالبسيط بل هو من البسيط في الحقيقة.

وإن افترضنا أنّ نفي الوجه الثالث عند كل فقيه كان مرتبطا بإثبات ما تبناه من رأي ، فهذا هو الإجماع المركّب على نفي الثالث ولا حجيّة فيه ؛ لأنّ حجيّته إنّما هي باعتبار كشفه الناشئ من تجمع القيم الاحتماليّة لعدم الخطأ ، وفي المقام نعلم بالخطإ عند أحد الفريقين المتنازعين ، فلا يمكن أن تدخل القيم الاحتماليّة كلّها في تكوين الكشف للإجماع المركّب ؛ لأنّها متعارضة في نفسها كما هو واضح.

١٨٩

الثاني : أن يكون كل واحد من الفقهاء المنقسمين إلى الرأيين يبني على نفي الثالث من خلال الرأي الذي ذهب إليه بحيث يكون نفي الثالث مرتبطا بهذا الرأي وغير مستقل عنه ، وحينئذ يكون نفي الثالث مدلولا التزاميّا لما ذهب إليه من رأي غير منفصل عنه أي أنّه في طول المدلول المطابقي لا في عرضه لانه لم ينف الثالث ابتداء بل كان نفيه له لازما للرأي الذي اختاره.

وعلى هذا فلا يكون الإجماع المركّب لنفي الثالث حجّة ، إذ لا يكشف لنا عن الارتكاز والوضوح في الرؤيا ؛ ببيان أنّ الإجماع إنّما كان حجّة باعتبار كشفه عن الوسيط الكاشف عن الدليل ، وهذا الكشف يقوم على أساس حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاحتماليّة للصدق وتضاؤل القيم الاحتماليّة للكذب والخطأ ، بحيث نصل إلى احتمال ضئيل للغاية للخطإ حتّى يزول احتمال الخطأ عمليّا وواقعيّا.

وفي مقامنا نحن نعلم بالخطإ لدى أحد الفريقين إذ لا يمكن أن يكون الحكم الشرعي هو الوجوب والحرمة معا ، بل هو أحدهما وهذا معناه أنّ القيم الاحتماليّة للوجوب متعارضة مع القيم الاحتماليّة للحرمة ، ولا مرجّح لإحداهما على الأخرى ، فيتعارضان ويتساقطان ، فإذا سقط الوجوب والحرمة عن الحجيّة سقط معهما أيضا المدلول الالتزامي المرتبط بهما وهو نفي الثالث ؛ لأنّه كان ناشئا ومبتنيا عليهما ، فمع سقوطهما يسقط هو أيضا لما تقدّم سابقا من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقية في الحجيّة لأنّ نسبة الكشف فيهما على حد سواء ، وبهذا لا يكون هناك دليل على نفي الثالث ليستند عليه.

* * *

١٩٠

الشهرة

١٩١
١٩٢

الشهرة

كلمة الشهرة بمعنى الذيوع والوضوح لغة ، وتضاف في علم الأصول إلى الحديث تارة وإلى الفتوى أخرى ، ويراد بالشهرة في الحديث تعدد رواة الحديث بدرجة دون التواتر ، ويراد بالشهرة في الفتوى انتشار الفتوى المعينة بين الفقهاء وشيوعها بدرجة دون الإجماع.

الشهرة في اللغة : هي الذيوع والوضوح فيقال : هذا الشيء مشتهر أو مشهور ، أي أنّه ذائع ومنتشر وواضح.

واصطلاحا تستعمل في مقامين :

الأول : أن تضاف إلى الحديث ، فيقال : حديث مشهور أو مشتهر ، ويعبّر عن ذلك بالشهرة الروائيّة ، والمقصود من اشتهار الحديث كونه مرويّا بطرق متعدّدة لا تبلغ حد التواتر أي أنّ عدد الرواة لهذا الحديث لا يبلغ مقدار التواتر.

الثاني : أن تضاف إلى الفتوى ، فيقال : فتوى مشهورة ، ويعبّر عن ذلك بالشهرة الفتوائية ، والمقصود من اشتهار الفتوى كونها منتشرة بين العلماء والفقهاء ، ولكن بدرجة دون الإجماع ، بمعنى أنّه يوجد هناك من يخالف في هذه الفتوى لكنّه قليل.

فالحديث عن الشهرة وحجيّتها تارة على أساس أنّها كالتواتر أم لا ، وأخرى أنّها كالإجماع أم لا ، فنقول :

ونحن إذا حددنا التواتر تحديدا كيفيّا بالتعدد الواصل إلى درجة موجبة للعلم ـ ولو بمعنى يشمل الاطمئنان ـ فسوف لا تتجاوز الشهرة في الحديث ـ التي فرض فيها أن تكون دون التواتر ـ درجة الظن ، والخبر الظني ليس من وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، بل يحتاج ثبوت حجيّته إلى التعبد الشرعي كما يأتي.

أمّا الشهرة الروائيّة : فإذا حددنا التواتر تحديدا كيفيّا كما هي مقالة المشهور : ( من

١٩٣

أنّه اجتماع عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب ) بحيث يكون هذا العدد من الرواة مفيدا للعلم الشامل للاطمئنان أيضا ، فإذا تحقّق هذا العدد كان هناك تواتر وعلم وإلا فلا ، فهذا معناه أنّ الشهرة الروائية التي هي دون التواتر سوف تكون موجبة للظن أي أنّ الرواة لا يفيد عددهم العلم والاطمئنان ، بل غاية ما يفيده الظن فقط.

وحينئذ تخرج الشهرة الروائيّة بهذا المعنى عن موضوع بحثنا ، لأنّنا نبحث عن وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، وهذه الوسائل المطلوب منها إفادة العلم ولو بنحو يشمل الاطمئنان الذي هو علم عرفا. وأمّا الظن فهو بنفسه ليس حجّة ، بل يحتاج إلى ثبوت التعبد الشرعي للعمل به ، وهذه معناه دخول الشهرة بهذا المعنى في وسائل الإحراز التعبّدي للدليل الشرعي ، فيبحث حول وجود دليل شرعي يفيد التعبد بالظن الناشئ من الشهرة أو عدم ذلك.

وأمّا إذا حدّدنا التواتر تحديدا استقرائيا على أساس حساب الاحتمالات كما هو الصحيح ، فلا بدّ من تقييم القرائن الاحتماليّة وتجميع قيمها ليرى أنّها تفيد العلم وتزيل احتمال الخلاف مع ضمّ المضعف الكيفي إلى ذلك أم لا؟

وهذا معناه أنّ الشهرة قد تفيد العلم وقد لا تفيده ، فترتبط حجيّتها بمقدار القيم الاحتماليّة المتراكمة عندنا ، وحيث إنّ هذه القيم الاحتماليّة متعارضة فيما بينها لوجود قيم احتمالية على الخلاف أيضا في الطرف المقابل للمشهور فسوف لا تكون الشهرة مفيدة للعلم أو الاطمئنان وبالتالي لا تكون حجّة.

وإذا حددنا الإجماع تحديدا كيفيّا بتعدّد المفتين إلى درجة موجبة للعلم ـ ولو بمعنى يشمل الاطمئنان ـ فسوف لا تتجاوز الشهرة في الفتوى ـ التي فرض أن تكون دون الإجماع ـ درجة الظن بالدليل الشرعي ، وهو ليس كافيا ما لم يقم دليل على التعبد بحجيّته.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة : فإذا حددنا الإجماع تحديدا كيفيّا من أنّه إجماع الفقهاء على الفتوى بحيث يكون هذا الإجماع مفيدا للعلم أو الاطمئنان سواء كان من جميع الفقهاء أو من أغلبهم ، فهذا معناه أنّ الشهرة في الفتوى والتي هي دون الإجماع سوف تكون مفيدة للظن فقط ؛ لأنّ الاجماع إذا كان مفيدا للعلم أو الاطمئنان فما يكون دونه درجة يكون مفيدا للظن.

١٩٤

وحينئذ يخرج البحث عن الشهرة بهذا المعنى عن وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ويدخل في وسائل الإحراز التعبّدي ، وأنّ هذا الظن هل قام الدليل على حجيّته ولزوم التعبد به أم لا؟ فإذا لم يثبت دليل على حجيّته فلا يكون حجّة لأنّ الظن بنفسه ليس حجّة.

وإذا حددنا الإجماع تحديدا عدديّا باتفاق مجموعة الفقهاء ، كان معنى الشهرة في الفتوى تطابق الجزء الأكبر من هذه المجموعة ، إمّا مع عدم وجود فكرة عن آراء الآخرين أو مع الظن بموافقتهم أيضا ، أو مع العلم بخلافهم.

وأمّا إذا حددنا الإجماع تحديدا عدديّا من حيث الكم فقط ، فقلنا : إنّ الإجماع عبارة عن اتفاق كل الفقهاء على الفتوى ، فسوف تكون الشهرة في الفتوى والتي هي دون الإجماع درجة تطابق أكثر أو أغلب آراء الفقهاء على الفتوى ، بحيث تكون الأغلبية أو الأكثرية من مجموعة الفقهاء قد ذهبت للوجوب مثلا.

وأمّا باقي الفقهاء ، فإما أن يكونوا موافقين لهم أيضا أو مخالفين ، وإمّا أن يكون رأيهم مجهولا لنا ، فهذه احتمالات ثلاثة يمكن تصوّرها بالنسبة لآراء العدد المقابل للمشهور.

والشهرة بهذا المعنى قد تدخل في الإجماع بالتحديد الكيفي المتقدّم ، وتوجب إحراز الدليل الشرعي بحساب الاحتمال ، وهو أمر يختلف من مورد لآخر.

وحينئذ سوف تكون الشهرة بالغة عددا كبيرا من آراء الفقهاء ، وهذا معناه أنّ هذا العدد من المفتين قد يدخل في التحديد السابق للإجماع من أنّه عدد من المفتين يوجب العلم أو الاطمئنان ؛ إذ قد يستفاد من خلال هذه العدد المشهور اليقين أو الاطمئنان على أساس حساب الاحتمالات من خلال تجميع القيم الاحتماليّة للصدق ، وتضاؤل القيم الاحتماليّة للخلاف.

فالمضعف الكمي الذي يبتني عليه المنهج الاستقرائي وحساب الاحتمالات موجود ، يبقى وجود المضعف الكيفي ، وهذا يرتبط بنوعية المفتين وعلمهم وطبقتهم ونحو ذلك من عوامل موضوعية ، ويرتبط أيضا بالطرف المقابل للمشهور المخالف له في الفتوى ونوعيتهم وعلمهم إلى آخره.

ولذلك فقد تفيد هذه الشهرة العلم إذا كان المضعف الكيفي موجودا بدرجة

١٩٥

كبيرة وقد لا تفيد العلم إذا لم يكن المضعف الكيفي موجودا ، كما إذا كان المخالف للمشهور معتدا به علميّا ، أو يكون موجودا بصورة ضئيلة وضعيفة ، بأن لم يكن رأيه معتدا به أو كان رأيه مجهولا.

كما أنّ إحراز مخالفة البعض يعيق عن الكشف القطعي للشهرة بدرجة تختلف تبعا لنوعية البعض وموقعه ولخصوصيات أخرى.

ثمّ إنّ ذاك البعض المقابل للمشهور إن كان رأيه موافقا فلا إشكال في إمكانيّة استفادة اليقين من هذه الشهرة ، بل هي في الحقيقة إجماع ، وبالتالي يكون كاشفا عن الدليل الشرعي على أساس حساب الاحتمالات كما تقدّم.

وإن كان هذا البعض رأيه مجهولا فقد تفيد الشهرة للعلم أيضا إذا كان هناك المضعف الكيفي بدرجة كبيرة.

وأمّا إذا كان الطرف المقابل للمشهور مخالفا وعلم بذلك ، فهذا قد يمنع من استفادة العلم من الشهرة خصوصا إذا كان هذا المخالف معتدّا به علميّا وثقافيّا واطلاعا ونحو ذلك من خصوصيات موجودة فيه تمنع من أن يكون مثله قد غفل عن ذاك الارتكاز المدلول عليه بالإجماع ؛ ولذلك لا تكون الشهرة حجّة حينئذ للتعارض بين القيم الاحتماليّة فيما بينها في كل من الطرفين.

ثمّ إنّ في الشهرة في الفتوى بحثا آخر في حجيّتها الشرعيّة تعبدا ، وهذا خارج عن محل الكلام وإنّما يدخل في قسم الدليل غير الشرعي.

وأمّا كون هذه الشهرة الفتوائية حجّة شرعا بمعنى أنّ الشارع هل جعلها دليلا يتعبدنا به للاستدلال على الحكم الشرعي ، أم لا؟

فهذا بحث خارج عن مقامنا لأنّنا نتكلم عن وسائل الإحراز الوجداني التي تفيد اليقين والتي تكون حجيّتها ناتجة عن إفادتها للقطع ، وليست موقوفة على التسامح وجعل الحجيّة التعبديّة.

ولذلك فإنّ الحديث عن كون الشهرة حجّة أو لا؟ حديث عن كون هذا الدليل غير الشرعي هل جعل الشارع له الحجيّة أم لا؟ لأنّ الشهرة ليست آية ولا رواية وإنّما هي فتوى كالاجماع والإجماع دليل غير شرعي يستكشف به الدليل الشرعي ، والشهرة كذلك.

١٩٦

القسم الثاني

وسائل الإثبات التعبّدي

١٩٧
١٩٨

القسم الثاني

وسائل الإثبات التعبّدي

وأهم ما يذكر في هذا المجال عادة خبر الواحد ، وهو كل خبر لا يفيد العلم ، ولا شكّ في أنّه ليس حجّة على الإطلاق وفي كل الحالات ، ولكن الكلام في حجيّة بعض أقسامه كخبر الثقة مثلا.

القسم الثاني : من وسائل إثبات صدور الدليل الشرعي هو الطريق التعبّدي ، والمقصود به ما لا يفيد العلم الحقيقي والوجداني ، ولكن الشارع اعتبره حجّة أو علما أو طريقا لإثبات الصدور ، فهو حجّة لذلك.

وهذا القسم يشتمل على بعض الطرق والحجج التي اعتبرها الشارع من الوسائل لإثبات الصدور ، ومن أهم هذه الطرق هو خبر الواحد.

وتعريفه : هو كل خبر لا يفيد العلم سواء كان واحدا في حقيقته أم أكثر من واحد.

ثمّ إنّه لا شكّ في أنّه ليس كل خبر حجّة مطلقا وفي كل الحالات ، وإنّما بعض أقسامه فقط.

فالمقصود إذا من البحث عن حجيّة خبر الواحد البحث عن حجيّته في الجملة لا مطلقا ، أي أنّه حجّة في بعض الموارد والأقسام ، في مقابل من أنكر حجيّته مطلقا كالسيّد المرتضى وغيره ، فخبر الثقة هو المقصود من البحث لا غيره.

وكذلك ليس كل خبر ثقة حجّة أيضا مطلقا وفي كل الحالات ، فإنّ بعض أخبار الثقات ليس حجّة بالمصطلح الأصوليّ ، وإنّما الخبر الذي يكشف عن الحكم الشرعي دون الأخبار عن الامور التكوينيّة أو الشخصيّة فإنّها خارجة عن محل الكلام.

١٩٩

والكلام يقع على مرحلتين :

المرحلة الأولى : في إثبات حجيّة خبر الواحد على نحو القضيّة المهملة.

المرحلة الثانية : في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها.

ثمّ إنّ الكلام عن حجيّة خبر الواحد يقع ضمن مرحلتين :

المرحلة الأولى : في إثبات حجّة خبر الواحد على نحو القضيّة المهملة ، أي أصل ثبوت الشيء وأنّه حجّة في الجملة ، أي في بعض أقسامه لا مطلقا ، وهذا البحث في مقابل المنكرين لحجيته مطلقا.

المرحلة الثانية : في تحديد دائرة حجيّة خبر الواحد وأنّه حجّة في كل الموارد والحالات مطلقا ، أو أنّه توجد شروط وقيود لهذه الحجيّة.

وهذا ما سنتحدّث عنه بالتفصيل.

* * *

٢٠٠