شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

قاعدة التسامح

في أدلة السّنن

٣٠١
٣٠٢

قاعدة التسامح في أدلة السّنن

ذكرنا أنّ موضوع الحجيّة ليس مطلق الخبر ، بل خبر الثقة ، على تفصيلات متقدّمة ، ولكن قد يقال في خصوص باب المستحبات أو الأحكام غير الإلزامية عموما : إنّ موضوع الحجيّة مطلق الخبر ولو كان ضعيفا استنادا إلى روايات دلّت على أنّ من بلغه عن النبيّ ثواب على عمل فعمله كان له مثل ذلك وإن كان النبيّ لم يقله ، كصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وان لم يكن على ما بلغه ».

بدعوى أنّ هذه الروايات تجعل الحجيّة لمطلق البلوغ في موارد المستحبات.

تقدّم أنّ موضوع حجيّة الخبر خصوص خبر الثقة لا مطلق الخبر ، وهذا معناه أنّ خبر غير الثقة ليس بحجّة شرعا ، ولا يجوز العمل به والتعويل على مفاده والأخذ بالحكم الذي يحكيه ؛ لأنّه يكون تشريعا باطلا ومذموما.

كما وأنّه تقدّمت بعض التفصيلات لهذه الحجيّة وكونها مختصّة بالخبر الذي يحكي حكما أو موضوعا لحكم ونحو ذلك ، إلا أنّه قد يقال بأنّه في خصوص باب المستحبات يجوز العمل بخبر غير الثقة ؛ بمعنى أن موضوع حجيّة الخبر في خصوص هذا المقام أعم من خبر الثقة وغير الثقة ، فحتى خبر الضعيف يعتبر حجّة إذا كان مفاده استحباب شيء.

ويدلّ على ذلك بعض الأخبار والروايات الدالة على أنّ من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله كان له أجره وإن لم يكن هذا الثواب صادرا من الشارع واقعا ، كما في صحيحة هشام بن سالم المذكورة في المتن ، فإنها تدلّ على أن بلوغ الثواب على عمل ما عن طريق خبر المخبر بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال ذلك فقام

٣٠٣

الشخص المنقول إليه هذا الخبر بفعل ذلك العمل فيكون مستحقا لهذا الثواب حتّى وان لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قاله.

بل قد يقال أكثر من ذلك : ويدعى أنّه لو كان هناك خبر ضعيف غير ثقة يحكي عن المكروه لكان ذلك حجّة أيضا ؛ لأنّ في ترك المكروه ثوابا أيضا ، فيكون المدعى أنّ مطلق الإخبار عن حكم غير إلزامي حجّة ولو كان المخبر غير ثقة استنادا إلى هذه الروايات التي تسمّى بأخبار ( من بلغ ).

ولهذا اشتهر بينهم ما يسمّى بـ ( قاعدة التسامح في أدلة السنن ) ، بمعنى أنّه لا يشترط في الخبر الذي يحكي عن الاستحباب أو الكراهة أن يكون رواية ثقة بل هو حجّة مطلقا.

والتحقيق أنّ هذه الروايات فيها ـ بدوا ـ أربعة احتمالات :

الأوّل : أن تكون في مقام جعل الحجيّة لمطلق البلوغ.

الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحباب واقعي نفسي على طبق البلوغ بوصفه عنوانا ثانويا.

الثالث : أن تكون إرشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب.

الرابع : أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد ، ولو كانت هذه المصلحة الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.

والتحقيق في هذه الروايات : أنّها وإن كانت تامّة السند ، فإنّ بعضها صحيح السند فلا نقاش لنا في صدورها ، إلا أنّ دلالتها على القاعدة المذكورة ليست تامّة.

ولتوضيح الحال نذكر الاحتمالات المتصورة في هذه الرواية من حيث مضمونها :

الاحتمال الأوّل : أن تكون هذه الرواية وغيرها في مقام جعل الحجيّة الظاهرية التعبديّة على عنوان البلوغ مطلقا ، بمعنى أنّه بمجرّد تحقّق هذا العنوان يثبت للخبر الحجيّة ، فيكون مفادها جعل الحجيّة لخصوص الأخبار التي تخبر عن الثواب فكلّ من يبلغه شيء من الثواب على عمل فهذا البلوغ حجّة ، سواء كان المخبر به ثقة أم غير ثقة ، فيكون لسانها جعل حكم ظاهري وهو الحجيّة على عنوان البلوغ من أجل التحفظ على الملاكات الواقعيّة للاستحباب الواقعي كما هو شأن الأحكام الظاهرية.

٣٠٤

الاحتمال الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحباب واقعي نفسي على طبق عنوان البلوغ ، أي أنّه بمجرّد أن يتحقّق هذا العنوان فإنّه يكون الفعل مستحبا واقعا وفي نفسه لا مجرّد استحباب ظاهري طريقي حفاظا على ملاكات الواقع ، بل استحباب نفسي حقيقي مجعول شرعا على عنوان البلوغ باعتباره عنوانا ثانويا ، فالعنوان الأولي للشيء الذي بلغنا عليه الثواب قد لا يكون هو الاستحباب ؛ لأنّ هذا الخبر ضعيف وغير ثقة فقد يكون كاذبا ، وبالتالي لا يكون ما أخبر به ثابتا في الواقع ، إلا أنّه لمّا تحقّق عنوان البلوغ صار لهذا الشيء حكم ثانوي آخر وهو الاستحباب مجعول على عنوان البلوغ.

الاحتمال الثالث : أن تكون هذه الروايات مفادها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط ، وأنّ المحتاط يستحق الثواب بحكم العقل ؛ وذلك لأنّه لا شكّ في أنّ الاحتياط حسن على كل حال ، إذ العقل يحكم بحسنه ، بل بوجوبه في كثير من الموارد تحفظا على أحكام الشارع ورعاية لحقه ولمولويته والتزاما بطاعته ، فالعقل يرى حسن الاحتياط ، وأنّ من يفعل شيئا احتياطا يكون مستحقا للثواب ؛ لأنّه كالمنقاد الذي يحترم حدود المولى ويحافظ على طاعته والالتزام بكل تكاليفه وتشريعاته ، فيما أنّ العقل يرى ذلك فتكون هذه الروايات إرشادا إلى هذا المطلب ، وأنّ ما حكم به العقل صحيح ومؤيد من الشارع أيضا ، وهذا ما ذهب إليه السيّد الخوئي.

الاحتمال الرابع : أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد ، بمعنى أنّ هناك وعدا من الشارع لمن بلغه الثواب على هذا العمل فعمله ، لكنّه لم يكن ثابتا في الواقع ، بأنّه إذا فعل ذلك فإنّ الشارع سوف يعطيه مثل هذا الثواب الذي وصله وبلغه ، ومن المعلوم أنّ الشارع إذا وعد بشيء وفى به.

وهذا الوعد كان من أجل مصلحة رآها الشارع ولعلها احترام النبيّ وتعظيم أقواله أو الاحتياط في الالتزام بكل ما يسمعه الشخص أو ينقل إليه عن النبيّ لأنّ الالتزام بأقواله كلّها يحافظ على الأقوال الصادرة منه واقعا ، فيكون لهذا الوعد فائدة كبرى من هذه الناحية ، وبالتالي يكون الموعود له مطيعا لله وللرسول ومستحقا للثواب على ذلك.

والفارق بين هذه الاحتمالات الأربعة من الناحية النظرية واضح ، فالاحتمال الثالث يختلف عن الباقي في عدم تضمنه إعمال المولوية بوجه ، والاحتمالان

٣٠٥

الأخيران يختلفان عن الأولين في عدم تضمنهما جعل الحكم ، ويختلف الأوّل عن الثاني ـ مع اشتراكهما في جعل الحكم ـ في أنّ الحكم المجعول على الأوّل ظاهري وعلى الثاني واقعي.

الفارق بين هذه الاحتمالات :

ويوجد بين هذه الاحتمالات فوارق نظرية وأخرى عملية ، أمّا الفوارق النظرية فهي إنّنا ذكرنا : أنّ الاحتمال الأوّل فيه حكم مجعول من الشارع وهو جعل الحجيّة التي هي حكم ظاهري طريقي.

بينما الاحتمال الثاني فيه حكم مجعول من الشارع أيضا ، ولكنّه جعل الاستحباب النفسي الواقعي الثانوي.

والاحتمال الثالث ليس إلا إرشادا لحكم العقل بحسن الاحتياط ، فليس فيه أي إعمال للمولوية من الشارع.

والاحتمال الرابع عبارة عن وعد من الشارع ، ولكنّه لا يوجد فيه حكم مجعول لا ظاهري ولا واقعي ، وإنّما مجرّد وعد على إعطاء الثواب للمحتاط.

وبهذا نخلص بنتيجة وهي : أنّ الاحتمالين الأوّل والثاني فيهما حكم مجعول ، بخلاف الاحتمالين الثالث والرابع.

وأنّ الاحتمال الأوّل الحكم المجعول فيه ظاهري طريقي بينما الاحتمال الثاني الحكم المجعول فيه واقعي ثانوي.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو إرشاد محض من دون إعمال للمولوية بينما الاحتمال الرابع فيه وعد مضافا إلى الإرشاد إلى حكم العقل.

وأمّا الأثر العملي لهذه الاحتمالات فهو واضح أيضا ؛ إذ لا يبرّر الاحتمالان الأخيران الإفتاء بالاستحباب بينما يبرّر الاحتمالان الاوّلان ذلك.

وأمّا الفوارق العمليّة بين هذه الاحتمالات فهي : أنّ الاحتمالين الأوّلين كما ذكرنا فيهما حكم مجعول من الشارع ، ولذلك يجوز إسناد هذا الحكم إلى الشارع والإفتاء بمضمونه باعتبار أنّه حكم شرعي ، ولذلك يجوز للمفتي أن يفتي بالاستحباب إما ظاهرا بناء على جعل الحجيّة لمطلق البلوغ ، وإما واقعا بناء على جعل حكم واقعي نفسي ثانوي على عنوان البلوغ.

٣٠٦

بينما على الاحتمالين الأخيرين لا يجوز للمفتي الإفتاء بالاستحباب ؛ وذلك لأنّ الاحتمال الثالث ليس إلا إرشادا لحكم العقل بحسن الاحتياط وليس فيه أيّ شيء من شئون المولوية ، والاحتمال الرابع وإن كان فيه وعد مولوي إلا أنّه ليس حكما أيضا ، فالإفتاء بالاستحباب على أساسها لا مبرّر له ، إذ لا يوجد دليل شرعي على ذلك لا ظاهري ولا واقعي فيكون إفتاء من دون علم وهو تشريع باطل.

يبقى الكلام في أنّه هل توجد ثمرات عمليّة بين القولين الأولين ، أو بين القولين الأخيرين أم لا يوجد فيهما أثر عمليّا؟

أمّا القولان الأخيران فلا ثمرة عمليّة بينهما ؛ لأنهما معا لا يسوّغان الافتاء بالاستحباب ، ولخلوهما عن الحكم المجعول رأسا.

وأمّا القولان الأولان فقد وقع الخلاف في تصوير الثمرة بينهما ولذلك قال :

ولكن قد يقال ـ كما عن السيّد الاستاذ ـ : إنّه لا ثمرة عمليّة يختلف بموجبها الاحتمالان الأولان ؛ لأنهما معا يسوّغان الفتوى بالاستحباب ، ولا فرق بينهما في الآثار.

ولكن التحقيق وجود ثمرات عمليّة يختلف بموجبها الاحتمال الأوّل عن الاحتمال الثاني خلافا لما أفاده رحمه‌الله ، ونذكر فيما يلي جملة من الثمرات :

الثمرة بين الاحتمالين الأولين :

ذكر السيّد الخوئي أنّه لا ثمرة عمليّة بين القولين الأوّل والثاني ؛ ، لأنّهما معا حكمان مجعولان من الشارع ، وكلاهما أيضا يجوّز للمجتهد الإفتاء بالاستحباب وإسناده إلى الشارع ، غاية الأمر أنّه تارة يكون ظاهريّا وأخرى واقعيا ، وهذا فارق نظري وأمّا عمليّا فلا فرق بين الاستحباب الظاهري والواقعي في ترتيب الآثار واللوازم كما تقدّم سابقا من أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي في ترتيب الآثار واللوازم.

إلا أنّ الصحيح وجود ثمرات عمليّة بين هذين القولين رغم اشتراكهما في كونهما يتضمنان الحكم الشرعي ويسوّغان الحكم والإفتاء والإسناد ، ولذلك نذكر بعض هذه الثمرات :

الثمرة الأولى : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب فعل ، وخبر ثقة على نفي استحبابه.

٣٠٧

فإذا بني على الاحتمال الأوّل وقع التعارض بين الخبرين لحجيّة كل منهما بحسب الفرض ، ونظرهما معا إلى حكم واقعي واحد إثباتا ونفيا.

وإذا بني على الاحتمال الثاني فلا تعارض ؛ لأنّ الخبر الضعيف الحاكي عن الاستحباب لا يثبت مؤدّاه ليعارض الخبر النافي له ، بل هو بنفسه يكون موضوعا لاستحباب واقعي مترتب على عنوان البلوغ ، والبلوغ محقّق ، وكونه معارضا لا ينافي صدق عنوان البلوغ فيثبت الاستحباب.

الثمرة الأولى : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب فعل ويدل خبر ثقة على نفي استحبابه.

فعلى الاحتمال الأوّل من أنّ مفاد الروايات جعل الحجيّة على عنوان البلوغ يقع التعارض بين هذين الخبرين ؛ وذلك لأنّ الخبر الضعيف مفاده أنّ الاستحباب المحكي به حجّة شرعا ، لأنّ موضوع الحجيّة تام فيه وهو بلوغ الثواب على هذا العمل ، بينما الخبر الصحيح مفاده أنّ الاستحباب ليس ثابتا شرعا لهذا الفعل ، وهذا معناه نفي بلوغ الثواب على هذا العمل ، فكلاهما ينظران إلى موضوع واحد ، وهو هذا العمل الخاص ، وأحدهما يثبت الاستحباب له والآخر ينفي الاستحباب عنه ، والمفروض أنّهما معا حجّة ظاهرا وتعبدا ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر فيحكم بتعارضهما وتساقطهما وبالتالي لا يثبت الاستحباب.

وقد تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهرية كالأحكام الواقعيّة يمكن تصوّر التعارض فيها ؛ وذلك بلحاظ التكاذب والتنافي فيها فيما تحكي عنه من النظر إلى الملاكات الواقعيّة في مقام التزاحم الحفظي وبيان الأهم من هذه الملاكات ، فالخبر الضعيف مفاده الالتزامي أنّ ملاكات الاستحباب هي الأهم ويجب الحفاظ عليها ، بينما الخبر الصحيح ينفي ذلك ، وحيث إنّهما معا حجّة فيتعارضان ويتساقطان.

وأمّا على الاحتمال الثاني من أنّ مفاد الروايات جعل استحباب واقعي نفسي ثانوي على طبق عنوان البلوغ فلا يقع التعارض بين هذين الخبرين ؛ وذلك لأنّ الخبر الضعيف لا يثبت مؤدّاها واقعا ولا يحكي عن ثبوت استحباب في الواقع بالعنوان الأولي ، بينما الخبر الصحيح يحكي عن عدم ثبوت الاستحباب الواقعي بلحاظ العنوان الأولي ، وحينئذ لا مانع من عدم ثبوت الاستحباب الواقعي بالعنوان الأولي

٣٠٨

كما هو مفاد الخبر الصحيح ، بينما يثبت لنا الاستحباب الواقعي الثانوي كما هو مفاد الخبر الضعيف ، لأنّ الأوّل إنّما ينفي وجود الاستحباب لهذا العمل بعنوانه الخاص الأوّلي ، بينما الثاني يثبت الاستحباب لهذا العمل لا بعنوانه الخاص الأوّلي بل بعنوان آخر ثانوي وهو عنوان البلوغ ؛ إذ عنوان البلوغ محقق في مقامنا سواء كان الاستحباب ثابتا واقعا أم لا ، كما هو صريح الروايات ( وإن لم يكن قاله ) ، وبهذا نتعبد بكلا الخبرين ، أي أنّه يمكن الجمع العرفي بينهما فيحكم بعدم ثبوت الاستحباب واقعا بعنوان العمل الأولي بينما يحكم بثبوت الاستحباب بعنوان آخر ثانوي ، ولا تنافي بينهما لاختلاف الجهة في الفرض المذكور.

الثمرة الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف على وجوب شيء.

فعلى الاحتمال الثاني لا شكّ في ثبوت الاستحباب لأنّه مصداق لبلوغ الثواب على عمل.

وأمّا على الاحتمال الأوّل فلا يثبت شيء لأنّ إثبات الوجوب بالخبر الضعيف متعذر لعدم حجيّته في إثبات الأحكام الالزاميّة ، وإثبات الاستحباب به متعذّر أيضا لأنّه لا يدلّ عليه فكيف يكون طريقا وحجّة لإثبات غير مدلوله؟!

وإثبات الجامع بين الوجوب والاستحباب به متعذّر أيضا ؛ لأنّه مدلول تحليلي للخبر فلا يكون حجّة لاثباته عند من يرى ـ كالسيّد الأستاذ ـ أنّ حجيّة الخبر في المدلول التحليلي متوقفة على حجيّته في المدلول المطابقي بكامله.

الثمرة الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف على الوجوب ، فهل يمكننا إثبات شيء من مداليل هذا الخبر سواء المدلول المطابقي أي الحكم بالوجوب أم المدلول الالتزامي أي الحكم بالاستحباب ، أم الحكم بالرجحان والطلب الذي هو مدلول تحليلي للوجوب ، أو أنّه لا يثبت شيء من ذلك؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف الوجهين الأوّل والثاني.

فإذا بنينا على الاحتمال الثاني أي أنّ الروايات تثبت الاستحباب النفسي على عنوان بلوغ الثواب ، فهنا لا إشكال في عدم ثبوت المدلول المطابقي أي الوجوب لأنّه يشترط في الخبر الدال على الإلزام أن يكون راوية ثقة كما هو المشهور ، وأمّا الاستحباب والرجحان فيمكن إثباتهما ؛ وذلك لأنّه يصدق مع وجود مثل هذا الخبر

٣٠٩

الدال على الوجوب أنّ الثواب قد بلغنا لأنّ الوجوب فيه ثواب ورجحان ، ولذلك يتحقّق العنوان الثانوي فيحكم بالاستحباب الواقعي الثانوي.

وأمّا إذا بنينا على الاحتمال الأوّل أي على جعل الحجيّة التعبديّة الظاهرية لعنوان بلوغ الثواب ، فهنا لا يثبت شيء من هذه المدلولات أصلا.

وتوضيح ذلك : أمّا أنّه لا يمكن إثبات الوجوب فواضح ؛ لأنّ الخبر الضعيف لا يدعي أحد أنّه يثبت الحكم الإلزامي ، فالخبر الضعيف لو قيل بحجيّته فلا يقال بها في إثبات الحكم الإلزامي كالوجوب والحرمة ، إذ لا دليل على ذلك أبدا ، وإنّما الخلاف في أنّه هل يكون حجّة في إثبات الاستحباب أو الكراهية أم لا؟

وأمّا أنّه لا يمكن إثبات الاستحباب به فلأنّ الدال على الاستحباب والثواب ليس المدلول المطابقي لهذا الخبر وإنّما يستفاد الاستحباب والثواب بالدلالة الالتزاميّة ، لأنّ الشيء إذا كان واجبا فهذا يعني وجود مصلحة في فعله وأنّه يوجد ثواب على ذلك وأنّه جائز فعله ، وهذا يفترض أنّ المدلول المطابقي للكلام لا بدّ أن يكون تامّا وحجّة لكي يكون المدلول الالتزامي حجّة أيضا ، والمفروض هنا أنّ المدلول المطابقي الذي هو الوجوب لم تثبت حجيّته بعد ، لأنّ الخبر ضعيف السند ، فكيف يمكن أن يكون المدلول الالتزامي حجّة مع أنّ المدلول الالتزامي ساقط عن الحجيّة من أوّل الأمر؟!

وبتعبير آخر : أنّ الوجوب لم يثبت أصلا ليقال بأنّ مدلوله الالتزامي حجّة ، فإذا لم يثبت الوجوب فكيف يمكننا استكشاف الاستحباب والثواب من هذا الخبر؟ وكيف يكون هذا الخبر طريقا ودالا على شيء ليس من مدلوله وليس داخلا في مفاده؟ لأنّ دلالته على الاستحباب فرع دلالته على الوجوب أوّلا ، والمفروض أنّه ليس دالا أو ليس حجّة في الوجوب فكيف يكون دالا وحجّة في الاستحباب والثواب؟!

وأمّا أنّه لا يمكن إثبات الجامع أي عنوان الرجحان والطلب ، فلأنّ هذا الجامع ليس مدلولا مطابقيا ولا تضمنيا لهذا الخبر وإنّما هو مدلول التزامي تحليلي بحسب ما يدركه العقل من الوجوب والاستحباب من كونهما راجحين ومطلوبين للشارع ، وهذا المدلول التحليلي الالتزامي ناشئ ومتفرّع من ثبوت المدلول المطابقي للدليل أي الوجوب والاستحباب ، والمفروض أنّ هذا الخبر لا يدلّ على الاستحباب ودلالته على الوجوب ساقطة ، لأنّه ليس حجّة في إثباته ، وحينئذ يحكم بسقوط هذا المدلول

٣١٠

والجامع خصوصا عند السيّد الخوئي القائل بسقوط المدلول الالتزامي دائما عند سقوط المدلول المطابقي لأنّه مساو له دائما بحسب رأيه ، ـ كما تقدّم سابقا ـ ، وهنا المدلول المطابقي ساقط عن الحجيّة فيتبعه المدلول الالتزامي أيضا.

وهذه ثمرة عمليّة مهمة بين هذين القولين كما هو واضح.

الثمرة الثالثة : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس مثلا ، على نحو لا يفهم منه أنّ الجلوس بعد ذلك مستحب أو لا.

فعلى الاحتمال الأوّل يجري استصحاب بقاء الاستحباب ، وعلى الثاني لا يجري لأنّه مجعول بعنوان ( ما بلغه ثواب عليه ) وهذا مقطوع الارتفاع لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.

الثمرة الثالثة : أن يرد خبر ضعيف السند يدلّ على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس ، ولا يفهم أو لا يعلم من نفس هذا الدليل أنّ الاستحباب المذكور هل هو ثابت بعد طلوع الشمس أيضا أم ينتهي عند طلوعها؟

والسؤال هنا هو : هل يجري استصحاب الحكم بالاستحباب إلى ما بعد الطلوع أيضا حيث إنّه مشكوك أم لا؟

والجواب على ذلك يختلف باختلاف الوجهين الأوّل والثاني.

وتوضيح ذلك : أنّا إذا قلنا بأنّ روايات من بلغه تفيد الحجيّة التعبديّة الظاهرية لعنوان البلوغ فيثبت بهذا الخبر استحباب ظاهري ؛ لأنّ عنوان بلوغ الثواب متحقّق فيتحقق بذلك موضوع الحجيّة ، فيحكم بحجيّة هذا الخبر.

وحيث إنّه يشك في بقاء حجيّة هذا الخبر بعد طلوع الشمس فيحكم باستصحاب حجيّته إلى ما بعد الطلوع أيضا ؛ لأنّ الاستحباب ظاهرا معلوم الحدوث سابقا ، ومشكوك البقاء لاحقا فيجري الاستصحاب ، والاستصحاب كما يجري في الأحكام الثابتة واقعا كذلك يجري في الأحكام الثابتة تعبدا.

وأمّا إذا بنينا على الاحتمال الثاني من أنّ مفاد الروايات جعل استحباب نفسي واقعي ثانوي على عنوان ( من بلغه ) فهنا لا يمكن إجراء استصحاب بقاء الاستحباب الثابت قبل طلوع الشمس ؛ وذلك لأنّه على هذا الاحتمال يحكم بثبوت الاستحباب الواقعي على طبق عنوان البلوغ.

٣١١

وحيث إنّ عنوان البلوغ قد ثبت مقيّدا بطلوع الشمس ، فيثبت لنا هذا المقدار ، وأمّا الاستحباب بعد الطلوع فهذا لا دليل عليه ؛ لأنّه لم يتحقّق فيه البلوغ المجوّز للحكم بالاستحباب الواقعي ، إذ لم يرد في هذا الخبر ثواب على الجلوس بعد طلوع الشمس ، والاستحباب إنّما ثبت قبل الطلوع بعنوان ثانوي وهو محدّد بمقداره ـ أي قبل الطلوع ـ ولا يمكن جريان استصحابه لأنّه يقطع بارتفاع الاستحباب الثابت قبل طلوع الشمس عند طلوعها ، وأمّا بعد طلوعها فيشك في أصل ثبوته لا في بقائه ؛ لأنّه لو كان الاستحباب ثابتا بعد الطلوع فهو استحباب آخر غير الاستحباب الثابت قبل الطلوع ، فالشك فيه شكّ في أصل ثبوته لا في بقائه. ولذلك لا يجري الاستصحاب لاختلال أحد أركانه ، إذ لا شكّ في البقاء للموضوع ، وإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم الثابت له ، فإذا شكّ في الحكم مجدّدا فيشك فيه من جهة أنّه هل تحقّق موضوع آخر لهذا الحكم أم لا؟ وهنا لا نحرز بل نقطع بعدم البلوغ بعد الطلوع إذ لا دليل عليه بهذا الخبر.

ومهما يكن فلا شكّ في أنّ الاحتمال الأوّل مخالف لظاهر الدليل ، كما تقدّم في الحلقة السابقة ، فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجيّة الخبر في باب المستحبات.

بعد أن عرفنا هذه الاحتمالات والفوارق النظرية والعمليّة بينها نعود الآن لنرى أنّ هذه القاعدة أي التسامح في أدلة السنن المبنية على هذه الروايات هل هي تامّة أم لا؟

لا إشكال في أنّ الاحتمالين الرابع والثالث لا يمكن الاستناد إليهما كمستند لهذه القاعدة ، لأنّهما لا يتضمنان أىّ نوع من أنواع الحكم لا الظاهري ولا الواقعي ، وإنّما مجرّد إخبار عن حسن الاحتياط عقلا ، وأنّ هناك ثوابا على العمل الذي بلغ عليه الثواب ، مضافا إلى أنّه لا يمكن المصير إليهما لمخالفتهما لظاهر هذه الروايات فإنها بصدد التشريع وإعمال المولوية لا مجرّد الإخبار.

ولذلك يدور الأمر بين الاحتمالين الأوّل والثاني ، فإن قيل بالاحتمال الأوّل تمت القاعدة المذكورة لأنّ مفاده حجيّة الخبر الضعيف في باب المستحبات ، وهذا يتناسب مع القاعدة لأنّ مفادها أنّه في أدلة السنن يتسامح فيها والتسامح فيها يكون بلحاظ السند أي أنّه لا يشترط في أدلة السنن صحّة الخبر بنحو يكون واجدا لشرائط الحجيّة ،

٣١٢

بل يتسامح في ذلك ويتنازل عن شروط الحجيّة أو أنّه يتسامح في ذلك وتوسّع دائرة الحجيّة لتشمل كل خبر حتّى الخبر الضعيف سندا.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو لا يتناسب مع القاعدة ، ولا يصلح مستندا لها ؛ لأنّ مفاده جعل استحباب واقعي تحت عنوان ثانوي ، وهذا لا يتناسب مع التنازل أو التوسعة في شروط الحجيّة ، لأنّها تنظر إلى الحكم الظاهري بينما الاحتمال الثاني ينظر إلى الواقع.

فالصحيح هو أنّ الاحتمال الأوّل لا يمكن المصير إليه أيضا لكونه مخالفا لظاهر هذه الروايات ، فإنّ ظاهرها إنشاء استحباب مجعول على عنوان من بلغه سواء كان هذا الاستحباب ثابتا في الواقع أم لا ، وهذا يتناسب مع العنوان الثانوي الذي هو موضوع للحكم الواقعي لا الظاهري ، لأنّ الحكم الظاهري مجعول في مقام الشك في الواقع وهذه الروايات تصرح بأن هذا الحكم بالاستحباب ثابت حتّى مع عدم مطابقته للواقع ، بقوله : « وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله » ، وهذا لا يتناسب مع الحكم الظاهري بل مع الحكم الواقعي ، ولذلك يتعين القول بأنّها بصدد إنشاء حكم واقعي بالاستحباب على عنوان البلوغ الثانوي ، وعليه فلا تتم القاعدة المذكورة (١).

__________________

(١) ذكر السيّد الشهيد في بحوثه أنّه لا معيّن للاحتمال الثاني على الأوّل ، رغم مخالفته لظاهر الروايات ، ولذلك لم يرجّح أحدهما على الآخر ، إلا أنّ بعض مشايخنا ذكر في تقريراته للسيد الشهيد أنّه قد رجّح الثاني على الأوّل كما هو مذكور هنا.

٣١٣
٣١٤

البحث الثالث

في حجيّة الظهور

٣١٥
٣١٦

البحث الثالث

في حجيّة الظهور

أقسام الدلالة :

الدليل الشرعي قد يكون مدلوله مرددا بين أمرين أو أمور وكلّها متكافئة في نسبتها إليه ، وهذا هو المجمل ، وقد يكون مدلوله متعيّنا في أمر محدّد ولا يحتمل مدلولا آخر بدلا عنه ، وهذا هو النص ، وقد يكون قابلا لأحد مدلولين ولكنّ واحدا منهما هو الظاهر عرفا والمنسبق إلى ذهن الإنسان العرفي ، وهذا هو الدليل الظاهر.

بعد الحديث عن إثبات صدور الدليل والوسائل والطرق الوجدانية والتعبديّة لإحرازه ، وبعد الحديث عن مفاد ومدلول بعض الألفاظ وإثبات ظهورها في معانيها ، نأتي إلى البحث الثالث وهو أن هذا الظاهر من لسان الدليل بحكم دلالة اللفظ عليه هل هو حجّة أم لا؟

وقبل البحث عن حجيّة الظهور نتعرض بشكل عام للحديث حول أقسام دلالة الكلام والألفاظ على المعاني فنقول :

أقسام الدلالة :

الدليل عموما والدليل الشرعي بشكل خاص ، لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : أن يكون مجملا بمعنى أن يكون مدلوله ومفاده مردّدا بين أمرين أو أمور ، بحيث يكون كل واحد منها صالحا لانطباق الدليل عليه بحسب النظام اللغوي

٣١٧

للكلام بأن كان اللفظ الموجود في الدليل مشتركا بين عدة معان وكل هذه المعاني متساوية النسبة إليه ، ولا معين لأحدها على الآخر ؛ كقولك : رأيت عينا ، فإنّ العين تصلح لأنّ تكون العين النابعة أو الباصرة أو الشيء.

الثاني : أن يكون نصّا بمعنى أن يكون المدلول واحدا ولا يحتمل معه شيء آخر ، فتكون دلالة اللفظ على المعنى قطعية لا شكّ فيها أبدا بحسب النظام اللغوي ، بحيث لا يكون هناك معنى آخر بديلا عن هذا المعنى ؛ كقولك : رأيت رجلا.

الثالث : أن يكون ظاهرا ، بمعنى أنّه يوجد لمدلول الدليل عدة معان ، ولكن كان أحد هذه المعاني هو الأسبق تصوّرا في الذهن من البقية ، أي أنّ الذهن عند ما يتصور هذا اللفظ ينتقل فورا إلى أحد معانيه مع احتمال إرادة سائر المعاني الأخرى أيضا ، إلا أنّ ما تصوّره الذهن هو المعنى المتبادر والمنسبق من اللفظ بحسب النظام اللغوي ، أو بحسب المتفاهم عرفا ، كظهور اللفظ الخالي من القيود في الإطلاق ، أو ظهور بعض الجمل في المفهوم ونحو ذلك.

وهذا هو المقصود من البحث هنا ، وسيأتي الحديث عنه مفصّلا بعد الحديث عن المجمل والنص.

فتلخّص من ذلك أنّ : النص هو أن يدلّ اللفظ على معناه من دون احتمال شيء آخر معه.

والمجمل هو أن يدلّ اللفظ على عدّة معان كلّها متساوية ومتكافئة ولا ترجيح لأحدها.

والظاهر هو أن يدلّ اللفظ على عدّة معان لكنّ أحدها أسبق تصوّرا من البقيّة عرفا ولغة.

أمّا المجمل فيكون حجّة في إثبات الجامع بين المحتملات ، إذا كان له على إجماله أثر قابل للتنجيز ، ما لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا التنجيز ، إما بتعيين المراد من المجمل مباشرة ، وإما بنفي أحد المحتملين فإنّه بضمه إلى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الآخر ، وإما بمجمل آخر مردّد بين محتملين ويعلم بأن المراد بالمجملين معا معنى واحد وليس هناك إلا معنى واحد قابل لهما معا فيحملان عليه ، وإما بقيام دليل على إثبات أحد محتملي المجمل فإنّه وإن كان لا يكفي لتعيين المراد من المجمل

٣١٨

في حالة عدم التنافي بين المحتملين ، ولكنّه يوجب سقوط حجيّة المجمل في إثبات الجامع وعدم تنجزه ؛ لأنّ تنجز الجامع بالمجمل إنّما هو لقاعدة منجزية العلم الإجمالي وهذه القاعدة لها أركان أربعة وفي مثل الفرض المذكور يختل ركنها الثالث كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة ، حيث إنّ أحد المحتملين إذا ثبت بدليل فلا يبقى محذور من نفي المحتمل الآخر بالأصل العملي المؤمّن.

الدليل المجمل : أمّا حجيّة المجمل مع بقائه على إجماله فهي إنّما تتصوّر فيما إذا كان هناك جامع بين المحتملين أو المحتملات ، وكان لهذا الجامع بما هو كذلك أثر شرعي تنجيزي ، فإنّه في هذه الحالة سوف يكون هناك علم إجمالي بجامع التكليف الإلزامي المنجز ويشك في الأفراد ، وفي مثل هذه الحالة يتنجز الجامع على المكلّف دون أن تتنجز نفس المحتملات ؛ لأنّها غير معلومة كما إذا ورد دليل يدلّ على مطلوبيّة صلاة الليل ، ولكن كان اللفظ الدال على ذلك مجملا ومردّدا بين الوجوب أو الاستحباب ، فهنا يعلم إجمالا بجامع الطلب والرجحان والإرادة ولكن لا يعلم بالخصوصيات والمصاديق ، ولذلك لا يسري العلم من الجامع إلى الأفراد ، فإذا فرض لهذا الجامع أثر تنجيزي فيكون الدليل المجمل حجّة في إثباته وإلا فلا.

وهذا الجامع يكون منجّزا على المكلّف ما لم تختل منجزيته كما لو اختلت إحدى أركان منجزية العلم الإجمالي ، كما في الصور التالية :

الأولى : أن يأتي سبب من الخارج يبطل منجزية العلم الإجمالي وبالتالي لا يتنجز الجامع بأن كان هناك دليل خاص يعيّن المراد من الدليل المجمل مباشرة ، بأن كان هذا الدليل الخاص ناظرا إلى تفسير المقصود والمراد منه ، فيصبح حينئذ الدليل نصّا ، وبالتالي يتنجز أحد المحتملات السابقة دون غيره.

وهذا النظر والتفسير للمراد إما أن يكون بقرينة عامّة كالتخصيص والتقييد والأظهرية ، وإما أن يكون بقرينة خاصّة كالحكومة ، فلو كان الدليل المجمل مردّدا بين وجوب صلاة الليل أو استحبابها ، ثمّ جاء دليل آخر مفاده تفسير المراد من هذا المجمل وعيّن المراد منه بأنه الاستحباب ؛ لكان هذا الدليل حاكما بالحكومة التفسيرية ـ كما سيأتي ـ وبالتالي تنحلّ منجزية العلم الإجمالي بالجامع إلى الفرد ، ويكون المقصود من الطلب والرجحان خصوص الاستحباب.

٣١٩

الثانية : أن يكون هناك دليل من الخارج ينفي أحد المحتملين ، فإنّه إذا ضمّ هذا الدليل إلى الدليل المجمل الدائر أمره بين هذين المحتملين فقط تعيّن أن يكون المراد من المجمل هو المحتمل الثاني.

وهذا أيضا كالسابق لسانه التفسير والقرينة والنظر إلى الدليل المجمل وحل إجماله ببيان المقصود منه ، غاية الأمر أنّه في الصورة الأولى كان المقصود مبيّنا في الدليل الآخر مباشرة بينما هنا بالملازمة فإنّ الدليل الآخر ينفي أحد المحتملين بخصوصه ولمّا كان المجمل يدور بينهما بنحو مانعة الجمع ، فإذا انتفى أحدها تعيّن الآخر ، ففي المثال المتقدّم لو جاء الدليل ونفى وجوب صلاة الليل فإنّه يتعيّن استحبابها لأنّ الدليل المجمل يدور أمره بينهما فقط ، وحيث انتفى الوجوب تعين الاستحباب بمقتضى الحصر المذكور.

الثالثة : أن يأتي دليل آخر ولكنّه مجمل كالدليل السابق ، ولكن يعلم بأنّ المراد من هذين المجملين شيء واحد بأن كانا معا ناظرين إلى موضوع واحد ، وكان كل منها يشتمل على طرف يصلح لتفسيرهما معا لو حملا عليه ، بخلاف ما لو حمل كل منهما على غيره ، فهنا يتعيّن حملهما على هذا المحتمل الذي له القابلية لحلّ الإجمال فيهما بقرينة كونهما معا ينظران إلى مقصود واحد ، ولذلك ينحل العلم الإجمالي وتبطل منجزية الجامع لسريان العلم إلى الفرد.

مثال ذلك : المثال الفقهي المعروف في مسألة تحديد الكرّ بالأرطال ، حيث ورد دليل مفاده أنّ الكرّ تقديره ألف ومائتا رطل ؛ ولكنّه مردّد بين الرطل العراقي أو الرطل المكي.

وورد دليل آخر مفاده أنّ الكرّ تقديره ستمائة رطل وهو مردّد أيضا بين العراقي والمكّي.

فهنا حيث إنّنا نعلم أنّ المقصود منهما شيء واحد لاتحاد موضوعهما ، وحيث نعلم أيضا من الخارج بأنّ الرطل العراقي يساوي نصف الرطل المكي فيمكننا تحديد المقصود منهما وحلّ الإجمال بحمل الدليل الأوّل على الرطل المكي والثاني على الرطل العراقي ، إذ لو لم نفعل ذلك لوقع التناقض والتكاذب بين الدليلين مع أنّنا نعلم بأنّهما ناظران إلى شيء واحد.

٣٢٠