شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

المرحلة الثانية

في تحديد دائرة حجيّة الأخبار

ونأتي الآن إلى المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها.

والتحقيق في ذلك : أنّ مدرك حجيّة الخبر إن كان مختصا بآية النبأ فهو لا يثبت سوى حجيّة خبر العادل خاصّة ، ولا يشمل خبر الثقة غير العادل ، وأمّا إذا لم يكن المدرك مختصا بذلك ، وفرض الاستدلال بالسيرة والروايات أيضا على ما تقدّم فلا شكّ في وفاء السيرة والروايات بإثبات الحجيّة لخبر الثقة ولو لم يكن عادلا.

المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجيّة ، فبعد أن ثبت في المرحلة الأولى أنّ خبر الواحد حجّة ، نأتي الآن لتحديد المراد والمقصود من خبر الواحد ، بمعنى أنّه هل يشمل كل خبر سواء كان فاسقا أم عادلا ، أو يختصّ بخبر العادل فقط؟

والتحقيق في ذلك أنّه لا بدّ من الرجوع إلى المدرك والدليل الذي نعتمد عليه في المرحلة الأولى لنرى مفاده وهل هو شامل لكل خبر أو لخصوص بعض أقسامه فقط؟

ولذلك نقول : إن كان المدرك والدليل على حجيّة خبر الواحد مختصا بآية النبأ فقط ولم يتمّ شيء من الآيات الأخر كآيتي الكتمان والنفر ولم يتمّ شيء من الروايات ولا السنّة أصلا ولا دليل العقل.

فحينئذ إذا لاحظنا الآية المذكورة نجد أنّ منطوقها كان نفي الحجيّة عن خبر الفاسق ، فيكون مفهومها حجيّة خبر العادل ، وهذا العنوان أخص من خبر الثقة وخبر الواحد ، بمعنى أنّه لا يثبت بهذا المفهوم إلا خبر الواحد العادل لا مجرّد الثقة فقط ، فإنّ النسبة بين عنواني الثقة والعادل عموم وخصوص مطلق ، فإنّ الثقة هو الذي لا

٢٨١

يكذب ولكنّه قد يكون فاسقا ، والعادل هو الذي يكون عادلا من جميع الجهات بما في ذلك الكذب وغيره ، ولذلك إذا أحرز وصف العدالة فوصف الثقة محرز فيه قطعا ، بينما إذا أحرز وصف الثقة فليس بالضرورة إحراز وصف العدالة فيه لأنّه أعم ، ولذلك لا يشمل خبر العادل خبر الثقة.

وأمّا إن كان المدرك والدليل على حجيّة خبر الواحد آية النبأ وغيرها من الآيات والروايات والسنّة المستكشفة بالسيرة سواء سيرة المتشرّعة أم سيرة العقلاء ، فهنا يكون مفاد هذا المدرك حجيّة خبر الثقة الأعم من الفاسق والعادل لا خصوص خبر العادل ، لأنّ عنوان الثقة كان مأخوذا في مفاد بعض ألسنة الروايات كما تقدّم في الطائفة العاشرة من الأخبار التي استدل بها على الحجيّة ، ولأنّ السيرة بقسميها قائمة على العمل بخبر الثقة لأنّه المناط والملاك في قبول خبره وردّه.

ولو كان المدرك لحجيّة خبر الواحد دليل العقل بأحد تقريبيه فهو يثبت حجيّة الظن إما ضمن دائرة أخبار الثقات كما هو مقتضى التقريب الأوّل ، وإما ضمن دائرة مطلق الشبهات الشاملة لمطلق الخبر كما هو مقتضى دليل الانسداد.

ومن هنا قد توقع المعارضة بالعموم من وجه بين ما دلّ على حجيّة خبر الثقة الشامل بإطلاقه للثقة الفاسق ، ومنطوق آية النبأ الدال بإطلاقه على عدم حجيّة خبر الفاسق ولو كان ثقة ، وقد يقال حينئذ بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة عدم حجيّة خبر الثقة الفاسق ، إذ لم يتمّ الدليل على حجيّته.

وعلى أساس اختلاف المدرك لحجيّة خبر الواحد ، حيث إنّ آية النبأ تثبت حجيّة خبر العادل ، بينما الآيات الأخر والسنّة تثبت حجيّة خبر الثقة ، قد يقال بوقوع التعارض بينهما في مادة الاجتماع ، لأنّ النسبة بين هذين المدركين هي العموم والخصوص من وجه ، فآية النبأ تثبت بمفهومها حجيّة خبر العادل ، وبمنطوقها تنفي الحجيّة عن خبر الفاسق ، وهذا المنطوق شامل للفاسق من جهة الكذب الخبري ومن سائر الجهات أيضا ، بمعنى أنّ المنطوق ينفي الحجيّة عن كل خبر فاسق حتّى وإن كان ثقة من حيث الإخبار.

بينما الأدلّة الأخرى تثبت حجيّة خبر الثقة سواء كان عادلا من سائر الجهات أم غير عادل.

٢٨٢

فيجتمعان في خبر الثقة الفاسق من سائر الجهات غير الكذب الإخباري ، فآية النبأ بمنطوقها تنفي الحجيّة عنه ، بينما الأدلّة الأخرى تثبت الحجيّة له ، وحينئذ يتعارضان ويحكم بتساقطهما ؛ إذ لا مرجّح لأحدهما على الآخر ، وبعد تساقطهما يرجع إلى الأصول الأوليّة في المقام حيث يشك في أنّ خبر الثقة الفاسق هل هو حجّة أم لا؟

وفي مثل هذا الأصل عدم الحجيّة ، كما تقدّم سابقا لأنّ القاعدة الأولية عند الشك في الحجيّة هو عدمها حتّى تثبت الحجيّة بدليل خاص معتبر ، وهذا الدليل الخاص لم يتمّ كما هو المفروض لوجود المعارض له.

وأمّا خبر الثقة العادل فآية النبأ تثبت حجّيته ، وكذلك سائر الأدلّة الأخرى ، فيؤخذ به بالخصوص.

ولكن الصحيح أنّه لا إطلاق في منطوق الآية الكريمة لخبر الثقة الفاسق ، لأنّ التعليل بالجهالة يوجب اختصاصه بموارد يكون العمل فيها بخبر الفاسق سفاهة ، وهذا يختص بخبر غير الثقة ، فلا تعارض إذن ، وبذلك يثبت حجيّة خبر الثقة دون غيره.

والصحيح أنّه لا تعارض بين منطوق آية النبأ وبين ما دلّ على حجيّة خبر الثقة ، وذلك لأنّ منطوق آية النبأ مختص بخبر الفاسق الذي يكون فسقه ناتجا عن الكذب ، فلا إطلاق فيها للفاسق الكاذب وغيره ، ولذلك تكون بمفهومها دالة على حجيّة خبر العادل بمعنى حجيّة خبر غير الفاسق ، والوجه في ذلك أحد أمرين :

الأوّل : مناسبات الحكم والموضوع التي يستفاد منها أنّ التوقف والتّبين إنّما كان بملاك الكذب في الخبر لا مطلقا ، خصوصا أنّ اصطلاح الفسق بما يشمل سائر الجهات لم يكن شائعا ومعروفا فيحمل على معناه اللغوي وهو الكذب.

الثاني : التعليل بالجهالة في ذيل الآية فإنّ العلّة تعمّم أو تخصّص الحكم ، وحيث إنّ التعليل في وجه رفض حجيّة خبر الفاسق ووجوب التّبين عنه كان بسبب الجهالة التي هي بمعنى الطيش والسفاهة وعدم الاتزان كان معنى ذلك أنّ التعليل يضيّق دائرة الحكم ويخصّصها في خبر الفاسق الذي يوجب هذه الأمور.

ومن الواضح أنّ خبر الفاسق إنّما يوجب ذلك فيما إذا كان كاذبا لا مطلقا ، فيكون

٢٨٣

المقصود خصوص الفسق في الإخبار الذي هو الكذب ؛ إذ لا سفاهة في العمل بخبر الثقة الفاسق من سائر الجهات ، وعليه فلا تعارض بين هذين المدركين ، بل هما متفقان على حجيّة خبر الثقة حتّى وإن كان فاسقا من سائر الجهات الأخرى ، فيؤخذ به بلا إشكال.

وهل يسقط خبر الثقة عن الحجيّة إذا وجدت أمارة ظنيّة نوعيّة على كذبه؟

وهل يرتفع خبر غير الثقة إلى مستوى الحجيّة إذا توفرت أمارة من هذا القبيل على صدقه؟

فيه بحث وكلام ، وقد تقدّم موجز عن تحقيق ذلك في الحلقة السابقة.

ثمّ إنّه يوجد هنا مطلبان :

المطلب الأوّل : لو فرض وجود خبر واجد لشروط الحجيّة بأن كان عادلا أو ثقة ، وقامت أمارة ظنيّة نوعيّة على خلافه ، وأنّ مضمونه كاذب كما لو قامت الشهرة الفتوائية على خلافه ، فهل يسقط مثل هذا الخبر عن الحجيّة أم لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف تفسير الوثاقة المأخوذة في شروط الحجيّة ، فهل الوثاقة المأخوذة فيه بنحو الطريقية أم أنّها بنحو الموضوعية؟

فإنّ قيل بأنّها مأخوذة على وجه الطريقية وبما هي سبب لحصول الوثوق بالصدق وبصحّة قوله وما يرويه ، فهنا تكون الأمارة الظنية على خلاف الخبر موجبة لضعفه وتسقطه عن الحجيّة ، من قبيل إعراض المشهور عن العمل بالخبر الصحيح ، فإنّ إعراضهم يعتبر قرينة ظنيّة نوعيّة على عدم صحّة ما يرويه وإن كان واجدا لشرائط الحجيّة ؛ وذلك لأنّ طريقيته تسقط ولا توجب الوثوق بالصدق.

وإن قيل : إنّها مأخوذة على نحو الموضوعية فهذا يعني أنّ المدار على كون الخبر واجدا لشرائط الحجيّة فقط بقطع النظر عن كونها تفيد الوثوق أو لا ، وعلى هذا فلا يكون إعراض المشهور أو قيام قرينة ظنيّة على خلافه موجبا لوهنه وسقوطه ، بل يبقى على حجيّته.

والصحيح هو الأوّل ، لأنّ بناء العقلاء الذي هو المدرك الأساسي في حجيّة الخبر قائم على أساس نكتة الكاشفيّة ، فمع وجود القرينة الظنية المعاكسة تسقط هذه الكاشفيّة أو يوجد لها معارض وهو كاف في منع كاشفيتها.

٢٨٤

المطلب الثاني : لو فرض وجود خبر غير واجد لشرائط الحجيّة ، بأن كان خبر غير ثقة ، ولكن قامت بعض القرائن الظنية النوعيّة على صدقه بأن عمل المشهور به ، فهل يوجب عملهم به ارتفاعه إلى مستوى الحجيّة أم لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف المبنى كما تقدّم ، فإنّ كانت الوثاقة المأخوذة شرطا في الحجيّة بنحو الموضوعية فلا ينفع موافقة هذا الخبر للأمارة المذكورة ، لأنّ الوثاقة غير محرزة ، وإن كانت بنحو الطريقية كانت هذه الأمارة موجبة لجبر ضعف الخبر كما هو المشهور.

والصحيح أنّه يبنى على الكاشفيّة ، وحيث إنّ الخبر المذكور لا كاشفيّة فيه فلا ينفعه وجود قرينة ظنيّة على صدقه. نعم ، إذا أوجبت هذه القرينة الاطمئنان الشخصي بمفاد الخبر فيعمل به من باب حجيّة مثل هذا الاطمئنان لكون الخبر صار حجّة شرعا.

ولا شكّ في أنّ أدلة حجيّة خبر الثقة والعادل لا تشمل الخبر الحدسي المبني على النظر والاستنباط ، وإنّما تختص بالخبر الحسي المستند إلى الإحساس بالمدلول كالإخبار عن نزول المطر ، أو الإحساس بآثاره ولوازمه العرفية كالإخبار عن العدالة.

وعلى هذا فقول المفتي ليس حجّة على المفتي الآخر بلحاظ أدلة حجيّة خبر الثقة لأنّ إخباره بالحكم الشرعي ليس حسيا بل حدسي واجتهادي. نعم ، هو حجّة على مقلديه بدليل حجيّة قول أهل الخبرة والذكر.

الإخبار الحدسي :

ثمّ إنّ أدلّة حجيّة خبر الثقة أو خبر العادل هل تختص فقط بالإخبار الحسي ولا تشمل الإخبار الحدسي أم لا؟

والجواب على ذلك أن يقال : إذا كان مستند الإخبار هو الحدس والاستنتاج والاستنباط والاعتماد على الفكر والنظر والبرهان والدليل لم يكن مثل هذا الإخبار داخلا في نطاق موضوع أدلة الحجيّة ؛ لأنّ الوثاقة المأخوذة مناطا في القول بحجيّة الخبر إنّما كانت من أجل كاشفيّة مثل هذا الخبر عن الواقع وعن صدقه وصحته بعد استبعاد الغفلة والخطأ والاشتباه ، والحال أنّ الغفلة والخطأ والاشتباه في الاستنتاج

٢٨٥

والاستنباط لا يمكن استبعادها لكثرة الوقوع في الخطأ في الحدسيّات ، ولذلك لم يكن مشمولا لأدلة الحجيّة.

بخلاف ما إذا كان مستند الإخبار هو الحس إمّا بنحو مباشر كالاخبار عن نزول المطر المستند إلى النظر واللمس ونحوه فهذا داخل يقينا في موضوع الحجيّة كالسماع أيضا ، لأنّ أصالة عدم الغفلة والاشتباه والخطأ تجري هنا بلا إشكال ، إذ يستبعد الخطأ في ذلك إلا نادرا ، فالكاشفية محفوظة هنا ، وكذلك الأخبار المستند إلى آثار ولوازم الحس كالعدالة المستندة إلى لوازم وقرائن حسية كالمواظبة على فعل الطاعات وترك المحرمات فإنّها أيضا وإن كانت مستنتجة وحدسية ولكن مدركها ومنشؤها هو الحس ، فالكاشفية محفوظة فيها أيضا.

وعلى هذا الأساس تتفرّع مسألة وهي : أنّ إخبار المجتهد أو المفتي أو القاضي ليس حجّة على مجتهد آخر ، لأنّ إخباره عن الحكم ليس حسيا بل هو حدسي واجتهادي مبني على نظره واستنتاجه واستنباطه ، فلا يكون مشمولا لأدلة الحجيّة المستفادة من الآيات والروايات والسيرة. نعم ، يمكن القول بحجيّة قول المجتهد على مجتهد آخر لأدلة الحكومة والولاية ، فإنّ حكم الحاكم نافذ حتّى على حاكم آخر ، بمقتضى الأدلّة الخاصّة في المقام ، وليس بمقتضى أدلة حجيّة خبر الثقة.

ويستثنى أيضا من عدم الحجيّة مقلّدوه ، فإنّ قول المجتهد حجّة على مقلّديه ، ولكن لا من باب حجيّة خبر الثقة ؛ لأنّه خبر حدسي ، وإنّما من باب الأدلّة الخاصّة الدالة على وجوب التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم كآية الذكر والسيرة العقلائيّة والمتشرعية وحكم العقل.

ومن أجل ذلك يقال بأنّ الشخص إذا اكتشف بحدسه واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معيّن من العلماء على الفتوى فأخبر بقول المعصوم استنادا إلى اتفاق ذلك العدد لم يكن إخباره حجّة في إثبات قول المعصوم ، لأنّه ليس إخبارا حسّيا عنه ، وإنّما يكون حجّة في إثبات اتفاق ذلك العدد من العلماء على الفتوى ـ إذا لم يعلم منه التسامح عادة في مثل ذلك ـ لأنّ إخباره عن اتفاق هذا العدد حسي ، فإنّ كان اتفاق هذا العدد يكشف في رأينا عن قول المعصوم استكشفناه وإلا فلا.

٢٨٦

ويترتّب على ما ذكرنا من أنّ أدلة حجيّة خبر الثقة تختص بالخبر الحسي لا الحدسي.

مسألة أخرى ، وهي : أنّه إذا اكتشف شخص من خلال استنتاجه ونظره واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معيّن من العلماء أقل من الإجماع على فتوى ما ، فأخبرنا بقول المعصوم بذلك مستندا في إخباره عن قول المعصوم إلى اتفاق هذا العدد المعيّن من العلماء ، فهل يكون إخباره هذا حجّة أم لا؟

الصحيح أنّ مثل هذا الإخبار لا يكون حجّة ولا تشمله أدلة حجيّة خبر الثقة ، لأنّ إخباره بقول المعصوم لم يكن مستندا إلى الحس أو إلى شيء من لوازم وآثار الحس ، وإنّما كان مستندا إلى الاجتهاد والنظر والحدس ولذلك لا يكون داخلا في موضوع أدلة حجيّة خبر الثقة ، فلا يقبل قوله هذا.

نعم يقبل قوله في وجود هذا الاتفاق ، فإنّ إخباره عن قول المعصوم كان مستندا إلى ما رآه من اتفاق هذا العدد المعيّن على الفتوى فيكون هناك إخباران في الحقيقة ، الأوّل لم يثبت وهو قول المعصوم ؛ لأنّه مستند إلى الحدس ، والآخر وجود اتفاق من عدد معيّن من العلماء على الفتوى بالحكم ، وهذا الإخبار مستند إلى الحس ، لأنّه تتبع ونظر أو سمع هذه الآراء ، فمستند الاتفاق المذكور حسي ، ولذلك يقبل قوله فيه ، بشرط ألا يكون متسامحا بدعوى الاتفاق كبعض العلماء الذين كانوا يدّعون الإجماعات على كثير من الفتاوى مع وجود المخالف لها ، أو مع وجود الإجماع المعارض في نفس الزمان.

وحينئذ يثبت وجود اتفاق من عدد معيّن من العلماء على هذه الفتوى ، وأمّا أنّ هذا الاتفاق هل هو حجّة وكاشف عن الحكم الشرعي بنظرنا أم ليس كذلك؟ فهذا بحث آخر ، ولذلك فإنّ كان هذا الاتفاق يفيدنا العلم أو الوثوق فيؤخذ به من باب حجيّة العلم والاطمئنان الشخصي ، وإن لم يفدنا ذلك لم يكن حجّة وكاشفا عن الحكم ، ولا قيمة له أصلا.

وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّه كان يقال عادة : إنّ نقل الإجماع حجّة في إثبات الحكم الشرعي ، لأنّه نقل بالمعنى لقول المعصوم وإخبار عنه.

٢٨٧

وقد اعترض على ذلك المحققون المتأخرون بأنّه ليس نقلا حسّيا لقول المعصوم ، بل هو نقل حدسي مبني على ما يراه الناقل من كشف اتفاق الفتاوى التي لاحظها عن قول المعصوم فلا يكون حجّة في إثبات قول المعصوم بل في إثبات تلك الفتاوى فقط.

الإجماع المنقول : وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّ الإجماع المنقول هو الإجماع الذي ينقله أحد العلماء كالشيخ وغيره ، بأنّه يوجد إجماع على هذا الحكم ، فهل يكون هذا الإجماع المنقول بخبر الثقة حجّة أم لا؟

المتقدّمون من العلماء يرون حجيّة مثل هذا الإجماع المنقول ، كالإجماع المحصّل بالتتبع والاستقراء ، غاية الأمر أنّ الإجماع المحصّل يقوم به الشخص بنفسه فيحصل على اكتشاف الحكم الشرعي من خلال اتفاق العلماء المجمعين على أساس أنّ لازم اتفاقهم على الحكم وجود المعصوم وموافقته لهم بحكم قاعدة اللطف وغيرها ، كما تقدّم سابقا.

بينما الإجماع المنقول يقوم به الغير وينقله إلينا ، والمفروض كونه ثقة لا يكذب في ذلك ، فيثبت مفاده إلينا أيضا ؛ وذلك لأنّ مفادهما واحد وهو الإخبار عن قول المعصوم بالمعنى لا باللفظ ، فإذا كان الإجماع المحصّل حجّة لقيام الشخص به مباشرة مع أنّه لا يثبت أكثر من دخول قول المعصوم ضمن المجمعين استنادا للأدلة المذكورة في محلّه كان الإجماع المنقول حجّة لقيام الثقة به وإخباره بذلك.

إلا أنّ المتأخّرين اعترضوا على ذلك ـ كما هو الصحيح ـ فإنّ أدلة حجيّة خبر الثقة تختص في الإخبارات المستندة إلى الحسّ ، ولا تشمل الإخبارات المستندة إلى الحدس ، ولذلك لا يكون الإجماع المنقول حجّة في الكشف عن الحكم الشرعي ، وعن قول المعصوم ، بخلاف الإجماع المحصّل وذلك للفرق بينهما ، فإنّ الإجماع المحصّل ثابت للشخص بالحس بينما الإجماع المنقول ثابت للشخص المنقول إليه بالحدس ، ولذلك لا يكون مشمولا لأدلة الحجيّة ؛ لأنّه يعتمد على نظر واستنتاج الشخص المتتبع لآراء العلماء وقد يخطأ بنظرنا في استنتاج الإجماع.

نعم ، يمكن إثبات هذا الاتفاق المذكور فإنّ إخباره عن إجماع العلماء على الحكم ثابت لديه بالحسّ بخلاف إخباره عن قول المعصوم ، ولذلك يفصل بينهما

٢٨٨

فيقبل إخباره عن وجود مثل هذا الاتفاق ، ولكن لا يقبل إخباره عن وجود قول المعصوم.

وحينئذ لا بدّ لنا من ملاحظة هذه الفتاوى وأنّها توجب لدينا الاطمئنان والوثوق الشخصي بدخول المعصوم ضمن المجمعين ، أو أنّها لا توجب ذلك؟ وهذا بحث صغروي يختلف من شخص لآخر.

* * *

٢٨٩
٢٩٠

حجيّة الخبر

مع الواسطة

٢٩١
٢٩٢

حجيّة الخبر مع الواسطة

ولا شكّ في أنّ حجيّة الخبر تتقوّم بركنين :

أحدهما بمثابة الموضوع لها وهو نفس الخبر.

والآخر بمثابة الشرط وهو وجود أثر شرعي لمدلول الخبر ، لوضوح أنّه اذا لم يكن لمدلوله أثر كذلك فلا معنى للتعبّد به وجعل الحجيّة له ، والحجيّة متأخّرة رتبة عن الخبر تأخّر الحكم عن موضوعه ، وعن افتراض أثر شرعي لمدلول الخبر تأخّر المشروط عن شرطه.

كان هذا البحث يذكر عادة في ذيل الكلام حول آية النبأ ، إلا أنّه لا ربط له بالآية بنحو يجعلنا نذكره هناك ، ولذلك أفرده السيّد الشهيد جانبا ، لأنّه بحث كلّي مرتبط بالدائرة والحدود ومعنى حجيّة خبر الثقة بعد الفراغ عن ثبوتها ، ولذلك جعلها في المرحلة الثانية أولى وأحسن من بحثه في المرحلة الأولى.

وعلى هذا فنقول : إنّ حجيّة خبر الثقة تتقوّم بركنين أساسيين هما :

الأوّل : أن يكون هناك خبر ثقة ، لأنّه بمثابة الموضوع ، والحجيّة حكم.

ومن الواضح : أنّ جعل الحجيّة على خبر الثقة يفترض أوّلا ثبوت وتصوّر خبر الثقة ثمّ بعد ذلك تثبت أو تنفى عنه الحجيّة ، وأمّا إذا لم نفترض وجود خبر الثقة فلا معنى للبحث عن حجيّته ثبوتا أو نفيا.

الثاني : أن يكون هناك أثر شرعي لمدلول الخبر يمكن التعبد به شرعا.

وهذا الركن بمثابة الشرط ؛ بمعنى أنّه يشترط في حجيّة خبر الثقة أن يكون لهذا الخبر أثر يمكن للشارع أن يتعبّدنا به ، إذ لا معنى لأنّ يجعل الشارع الحجيّة لخبر لا أثر له شرعا ، ولا يترتب على مفاده ومدلوله شيء من الآثار الشرعيّة ، لأنّ جعل الحجيّة ولزوم التعبد بمفاد الخبر إنّما يكون فيما إذا كان لجاعل الحجيّة آثار وأحكام يمكن أن

٢٩٣

تترتب على هذا الخبر ، وإلا لم يكن هناك فائدة في لزوم التعبد بمثل هذا الخبر ما دام يحكي عن آثار ولوازم ليس للجاعل حق التدخل فيها سلبا أو إيجابا.

ثمّ إنّ الحجيّة المجعولة شرعا متأخّرة رتبة عن الخبر وعن افتراض الأثر الشرعي أيضا.

أمّا تأخر الحجيّة عن الخبر فلأنّ المفروض أنّ الخبر بمثابة الموضوع للحجيّة ، والموضوع متقدم على حكمه ولو رتبة ، بمعنى أنّه يثبت الموضوع أوّلا ثمّ يثبت الحكم ثانيا ، فالحكم متأخر عن موضوعه دائما ، والحجيّة بما أنّها حكم موضوعه الخبر فيجب تأخرها عنه تأخر الحكم عن موضوعه ؛ إذ لا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع ، لأنّه يكون حكما على شيء مجهول أو غير موجود ، وكلاهما باطل.

وأمّا تأخر الحجيّة عن افتراض الأثر الشرعي ، فلأن المفروض أنّ الأثر شرط لهذه الحجيّة وهي مشروطة به.

ومن الواضح أنّ الشرط يثبت أوّلا ثمّ يثبت المشروط ، ولا يعقل أن يثبت المشروط ثمّ بعد ذلك يثبت شرطه ؛ إذ هو مخالف لطبيعة العلاقة التكوينيّة والسببية بين الشرط ومشروطه ، فما دامت الحجيّة مشروطة بوجود الأثر في الخبر المراد التعبد بحجيّته فلا بد من افتراض وجود هذا الأثر أوّلا ليكون الخبر حجّة. نعم ، تحقّق الأثر في الخارج يكون بعد الالتزام والعمل والتعبد بالخبر ، إلا أن الكلام في أصل جعل الحجيّة في عالم التصوّر والثبوت فلا بد حينئذ من تصوّر هذا الأثر لتجعل الحجيّة بعد ذلك.

وعلى هذا الأساس قد يستشكل في شمول دليل الحجيّة للخبر مع الواسطة ، وتوضيح ذلك :

إنا إذا سمعنا زرارة ينقل عن الإمام أنّ السورة واجبة ، أمكننا التمسّك بدليل الحجيّة بدون شكّ ، لأنّ كلا الركنين ثابت ، فإنّ خبر زرارة ثابت لدينا وجدانا بحسب الفرض ، ومدلوله ذو أثر شرعي لأنّه يتحدث عن وجوب السورة ، وأمّا إذا نقل شخص عن زرارة الكلام المذكور فقد يتبادر إلى الذهن أنّنا نتمسّك بدليل الحجيّة أيضا ، وذلك بتطبيقه على الشخص الناقل عن زرارة أوّلا ، فإنّ إخباره ثابت لنا وجدانا وعن طريق حجيّته ثبت لدينا خبر زرارة كما لو كنّا سمعنا منه ، وحينئذ نطبّق دليل الحجيّة على خبر زرارة لإثبات كلام الإمام.

٢٩٤

ثمّ إنّ هذين الركنين يثبتان فيما إذا كان الخبر مباشرا عن المعصوم ، فإذا أخبرنا زرارة بأنّ الإمام حكم بوجوب السورة فهنا نتمسّك بدليل حجيّة خبر الثقة ؛ لأنّ الركن الأوّل وهو ثبوت الخبر محرز وجدانا ، لأنّ المفروض أنّ زرارة يخبرنا مباشرة ، فخبره ثابت لنا بالسماع منه مباشرة. هذا طبعا إنّما يتمّ في صورة المعاصرة.

والركن الثاني أيضا ثابت لأنّ مدلول ومفاد خبر زرارة عبارة عن أثر شرعي وهو وجوب السورة في المثال ، وعلى هذا نطبق دليل الحجيّة لأنّ موضوعه وشرطه ثابتان ، وبالتالي يثبت لنا تعبدا هذا الحكم الشرعي استنادا إلى دليل الحجيّة.

وأمّا إذا وصل إلينا خبر زرارة عن طريق نقله في كتب الأحاديث والأخبار ، كما لو أخبر شخص بأنّ زرارة أخبر بوجوب السورة ، وأنّ الإمام حكم بوجوبها ، فهنا هل يمكننا تطبيق دليل الحجيّة على هذا الخبر مع الواسطة أم لا؟

قد يتبادر إلى الذهن أنّنا نطبّق دليل الحجيّة في هذا الفرض أيضا ؛ وذلك لأنّنا إذا طبقنا دليل الحجيّة على الواسطة باعتباره ثابتا لنا بالوجدان ، فإنّ إخبار هذا الشخص ثابت في الفرض المذكور وهو خبر ثقة ، فنطبق عليه دليل حجيّة خبر الثقة ، وبذلك نحرز تعبدا مفاده ومدلوله ؛ وحيث إنّ مفاده هو أنّ زرارة يحكي أنّ الإمام قد أوجب السورة فيكون خبر زرارة ثابتا لدينا أيضا ، والمفروض وجود أثر شرعي لخبره فيتم كلا الركنين.

غاية الأمر أنّه يوجد فرق بين الفرضين ، وهو أنّه في الفرض الأوّل كان خبر زرارة ثابتا لنا وجدانا وله مدلول شرعي بينما في الفرض الثاني كان خبر زرارة ثابتا لدينا بالتعبد والمفروض أنّه ذو أثر شرعي أيضا.

ومجرّد كون ثبوت خبر زرارة وجدانيا في الأوّل وتعبديّا في الثاني لا يعتبر فرقا بين الصورتين ليكون مانعا من تطبيق دليل الحجيّة على الفرض الثاني دون الأوّل ، لأنّه في كلتا الحالتين يثبت لنا أنّ زرارة قد أخبر بوجوب السورة عن الإمام ، إما وجدانا وإما تعبدا ، والثبوت التعبّدي كالوجداني بناء على مسلك القوم في تفسير الحجيّة المجعولة شرعا.

ولا يخفى أنّ هذا التبادر صحيح لقيام السيرة على الأخذ بالخبر مع الواسطة سواء من المتشرّعة أو من العقلاء على مرأى ومسمع من المعصوم ، والحال أنّه سكت عن ذلك ولم يردع فيدل على حجيّة مثل هذا الخبر.

٢٩٥

إلا أنّ هذا التبادر يواجه مشكلة لا بدّ من حلّها وإلا فيكون مانعا من الأخذ به ، وتوضيح ذلك :

ولكن قد استشكل في ذلك وقيل بأنّ تطبيق دليل الحجيّة على هذا الترتيب مستحيل ، وبيان الاستحالة بتقريبين :

الأوّل : أنّه يلزم منه إثبات الحكم لموضوعه ، مع أنّ الحكم متأخّر رتبة عن موضوعه ؛ وذلك لأنّ خبر زرارة لم يثبت إلا بلحاظ دليل الحجيّة مع أنّه موضوع للحجيّة المستفادة من ذلك الدليل ، وهذا معنى إثبات الحكم لموضوعه.

التقريب الأوّل : أنّ القول بحجيّة الخبر مع الواسطة محال ؛ لأنّه يلزم منه محذوران لا يمكن الالتزام بهما. وفي الحقيقة أنّ كلا الركنين المفروضين في دليل الحجيّة من ثبوت الموضوع أوّلا ووجود الشرط ثانيا لا يتحققان في مقامنا.

وبيان ذلك : لو قيل بتطبيق دليل الحجيّة على الخبر مع الواسطة للزم منه :

أوّلا : محذور اتحاد الحكم مع موضوعه ، أو كون الحكم موجدا ومثبتا لموضوعه وهو محال ؛ لأنّ الموضوع متقدم على الحكم والحكم متأخر عنه ، ولذلك يستحيل اتحادهما معا أو كون أحدهما مثبتا للآخر.

وتوضيح ذلك بأن يقال : إنّ خبر زرارة المنقول بالواسطة إنّما يثبت لنا بعد تطبيق دليل الحجيّة على الواسطة ، وحيث إنّ زرارة خبره ثقة ، فلكي يثبت مفاده لا بدّ من تطبيق دليل الحجيّة عليه أيضا ، وهذا معناه أنّ خبر زرارة قد ثبت ووجد بدليل الحجيّة وهو مع ذلك موضوع لدليل الحجيّة ، وهذا الأمر لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ كونه موجودا بدليل الحجيّة لازمه أن دليل الحجيّة متقدّم عليه وهو متأخر عنه ، بينما كونه موضوعا لدليل الحجيّة لازمه أنّه متقدم عليه ، ودليل الحجيّة متأخّر عنه ، وهذا خلف ودور.

ومن جهة أخرى : أنّ تطبيق دليل الحجيّة متوقف على ثبوت الخبر أوّلا ، لأنّه موضوعه والحكم متأخر عن موضوعه ، فإذا كان خبر زرارة ثابتا بدليل الحجيّة كان معناه أنّ دليل الحجيّة أثبت موضوعه وهو محال ، لأنّ الحكم متأخر عن موضوعه فكيف يثبته؟!

ومن جهة ثالثة : أنّ دليل الحجيّة الذي نريد تطبيقه على خبر زرارة متوقف على

٢٩٦

تطبيق دليل الحجيّة أوّلا على خبر الواسطة ، وهذا معناه أنّ دليل الحجيّة متوقف على نفسه أو متحد مع موضوعه ؛ لأنّ خبر زرارة لا يثبت إلا بدليل الحجيّة ، والمفروض أنّ دليل الحجيّة نريد تطبيقه على خبر زرارة أيضا ، فكان دليل الحجيّة ثابتا قبل خبر زرارة وبعده أيضا ، فكان متقدما على موضوعه ومتأخرا عنه كذلك.

وبتعبير آخر : أنّ دليل الحجيّة يراد تطبيقه على الخبر الناقل لقول المعصوم ، وهو خبر زرارة ، والحال أنّ خبر زرارة لا يثبت إلا بتطبيق دليل الحجيّة أوّلا ، فكان لازم ذلك أنّ دليل الحجيّة يثبت ويوجد خبر زرارة الذي هو موضوع لتطبيق دليل الحجيّة ، فكان الحكم متحدا وموجدا لموضوعه ، أو كان متأخرا ومتقدما أيضا.

وبهذا يظهر أنّ الركن الأوّل غير تام ؛ لأنّ الموضوع قد اتحد مع الحكم ، ومع اتحاده كذلك يكون جعل الحجيّة للموضوع لغوا ، لأنّه ما دام الموضوع والحجيّة شيئا واحدا فيلغو جعل الحجيّة للخبر مجدّدا ، لأنّ المفروض ثبوتها بثبوت الموضوع أولا.

الثاني : أنّه يلزم منه اتحاد الحكم مع شرطه على الرغم من تأخر الحكم رتبة عن شرطه ، وذلك لأنّ حجيّة خبر الناقل عن زرارة مشروطة بوجود أثر شرعي لما ينقله هذا الناقل ، وهو إنّما ينقل خبر زرارة ، ولا أثر شرعا لخبر زرارة إلا الحجيّة ، فقد صارت الحجيّة محقّقة لشرط نفسها.

التقريب الثاني : راجع إلى الركن الثاني الذي يفترض وجود أثر شرعي للخبر ، من أجل تطبيق دليل الحجيّة عليه.

وهذا المحذور يبرز لنا اتحاد الشرط مع المشروط ، مع أنّ الشرط يجب أن يكون مغايرا للمشروط ، ويثبت لنا أنّ المشروط يوجد الشرط مع أنّ المشروط متوقف على الشرط فكيف يوجده؟!

وبيان ذلك : أنّنا لو قلنا بحجيّة الخبر مع الواسطة لزم من ذلك اتحاد الشرط مع الحكم ، أي مع المشروط وهو الحجيّة ؛ وذلك لأنّنا قلنا في الركن الثاني : إنّ شرط تطبيق الحجيّة على خبر الثقة هو وجود أثر شرعي لهذا الخبر لكي يتعبّدنا الشارع به ، فإذا طبقنا دليل الحجيّة على خبر الناقل لزم أن يكون لخبره أثر شرعي وإلا فلا يصحّ التعبد به ، وبما أنّ مفاد خبر الناقل هو أنّ زرارة أخبر بقول المعصوم فيثبت لنا إخبار زرارة ، وحينئذ لا بدّ أن يكون لخبر زرارة أثر شرعي ليتم دليل الحجيّة في خبر الناقل

٢٩٧

المشروط بوجود هذا الأثر ، والحال أنّ الأثر الشرعي لخبر زرارة ليس إلا التعبّد لحجيته فقط ؛ إذ لا أثر شرعا للخبر إلا كونه حجّة ، وأمّا الحكم الشرعي فهو أثر شرعي لحجيّة خبر زرارة لا لنفس خبر زرارة.

وحينئذ نقول : إنّ دليل الحجيّة كان أثره هنا الحجيّة التعبديّة لخبر زرارة ، وهذا معناه أنّ الحكم والمشروط الذي هو دليل الحجيّة كان أثره وشرطه هو التعبد بدليل الحجيّة فلزم اتحاد الشرط مع المشروط ، والحكم مع الأثر وهو محال ؛ لأنّ المفروض هو التغاير بين الحكم والأثر والشرط والمشروط.

ويلزم أيضا أن يكون الحكم موجدا ومثبتا لأثره ؛ لأنّ دليل الحجيّة الذي هو المشروط والحكم بعد تطبيقه على خبر الناقل يثبت به خبر زرارة الذي أثره تطبيق دليل الحجيّة ، فكان دليل الحجيّة مثبتا وموجدا لدليل الحجيّة أيضا.

وجواب كلا التقريبين : إنّ حجيّة الخبر مجعولة على نهج القضيّة الحقيقيّة على موضوعها وشرطها المقدّر الوجود ، وفعلية الحجيّة المجعولة بفعلية الموضوع والشرط المقدّر ، وتعدد الحجيّة الفعليّة بتعدّدهما ، كما هو الشأن في سائر الأحكام المجعولة على هذا النحو.

والجواب عن هذين الإشكالين : إنّ الحجيّة المجعولة لخبر الثقة كغيرها من الأحكام مجعولة على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يفرض فيها الموضوع ويقدر فيكون مفادها أنّه إذا وجد خبر الثقة فهو حجّة ، فالحجيّة متوقفة على فرض وجود خبر الثقة ؛ بمعنى أنّه في الخارج كلما وجد خبر ثقة يكون حجّة ، وهذا معناه أنّ فعلية هذه الحجيّة المجعولة في الخارج إنّما تكون بفعلية موضوعها أو شرطها ، أي بوجود خبر ثقة في الخارج ، ولذلك فإنّ هذه الحجيّة تتعدد وتتكثر في الخارج تبعا لتعدد وتكثر الموضوع وتحقّق الشرط.

فإذا كان هناك مائة ثقة في الخارج كان هناك مائة حجيّة لكل خبر حجيّة مستقلّة عن حجيّة الآخر.

وبذلك يندفع كلا المحذورين ، لأنّ الحجيّة التي هي حكم ومشروط إنّما تكون متأخّرة عن الموضوع والشرط المقدر الوجود أي أنّها على تقدير ثبوت وتحقّق الموضوع والشرط تثبت الحجيّة فهي متأخّرة رتبة عنهما.

٢٩٨

وأمّا الوجود الفعلي الخارجي للحجيّة فهو مرتبط بوجود الخبر في الخارج ، ولذلك يحصل التقدم والتأخر في ثبوت الحجيّة والخبر في الخارج ، ولا يلزم من ذلك أي محذور ، لأنّ الحجيّة الثابتة في الخارج غير الحجيّة التي لم تثبت بعد وليست نفسها ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وعليه فنقول : إنّه توجد في المقام حجيتان : الأولى حجيّة خبر الناقل عن زرارة ، والثانية حجيّة خبر زرارة.

وما هو الموضوع للحجيّة الثانية وهو خبر زرارة لم يثبت بالحجيّة الثانية بل بالحجيّة الأولى ، فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الأوّل ، كما أنّ الشرط المصحح للحجيّة الأولى وهو الأثر الشرعي يتمثل في الحجيّة الثانية لا في الحجيّة الأولى فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الثاني.

بيان رفع المحذورين : أنّ الخبر مع الواسطة معناه وجود خبرين : أحدهما خبر الناقل والآخر خبر زرارة ، ولكل من هذين الخبرين حجيّة مستقلّة عن حجيّة الآخر ، لما ذكرناه من أنّ الحجيّة تتعدّد في الخارج بتعدّد موضوعها أو شرطها. فللناقل حجيّة ولخبر زرارة حجيّة أيضا.

وحينئذ نقول : إنّ حجيّة خبر الناقل موضوعها خبر الناقل نفسه ، وحجيّة خبر زرارة موضوعها خبر زرارة لا حجيّة خبر الناقل ، وخبر زرارة الذي هو موضوع لحجيّة مستقلّة ثبت لدينا بحجيّة خبر الناقل لا بالحجيّة المجعولة له على تقدير ثبوته ؛ ولذلك لم يكن الحكم متحدا أو موجدا لموضوعه ، بل هما مختلفان ومتغايران ، فإنّ الحكم هو الحجيّة الأولى وما يوجد بها هو خبر زرارة وحكمه هو الحجيّة الثانية لا نفس الحجيّة الأولى.

وكذلك لم يكن الحكم متحدا مع شرطه وأثره لأنّ أثر الحجيّة الأولى هو التعبد بثبوت خبر زرارة الذي أثره الشرعي ثبوت الحجيّة له إلا أنّ هذا الأثر الشرعي هو الحجيّة الثانية المترتبة على خبر زرارة لا الحجيّة الأولى الثابتة لخبر الناقل ، فاختلف الأثران.

وبتعبير آخر : أنّ الحجيّة التي هي حكم إنّما هي حجيّة خبر الناقل ، والحجيّة التي هي أثر شرعي إنّما هي الحجيّة الثانية ، والموضوع الذي هو موضوع للحجيّة الأولى هو خبر الناقل ، بينما الموضوع للحجيّة الثانية هو خبر زرارة.

٢٩٩

والأثر للحجيّة الأولى هو التعبّد بثبوت خبر زرارة وكونه حجّة ، بينما الأثر للحجيّة الثانية هو التعبد بثبوت قول المعصوم وكون الحكم الذي يحكيه حجّة ، ولذلك لم يتحد ولم يتداخل أحدهما بالآخر لا موضوعا ولا أثرا ولا حكما.

والوجه في ذلك : هو أنّ فعلية حجيّة خبر زرارة متوقفة على الحجيّة الفعليّة لخبر الناقل ، وهذا يعني أنّ ثبوت الحجيّة الخارجيّة لخبر الناقل هو الذي تتوقّف عليه فعلية الحجيّة لخبر زرارة ، وأمّا نفس حجيّة خبر زرارة الثانية فهي ثابتة بالفرض والتقدير ، لأنّها مصداق للحجيّة المجعولة لخبر الثقة مطلقا بنحو القضيّة الحقيقيّة المقدّرة الموضوع.

وفرق بين الحجيّة الخارجيّة الفعليّة وبين الحجيّة الثانية ، فإنّ الأولى متوقفة على تحقّق قيودها وشروطها في الخارج ، بينما الثانية لا تتوقّف إلا على فرض وتقدير وجود هذه القيود والشروط وتصوّرها ذهنا ، ولذلك لا يحصل الاتحاد أصلا (١).

__________________

(١) مضافا إلى وقوع نظير ذلك في كثير من الموارد الفقهية كالشهادة على الشهادة والإقرار على الإقرار ونحو ذلك.

على أنّه بالإمكان القول : أنّ كل واحد من الخبرين موضوع مستقل للحجيّة ، بمعنى أنّه يلاحظ كل خبر وحده كما لو كان مستقلا ، فخبر الناقل لو لوحظ بنفسه فهو خبر ثقة فهو حجّة يجب تصديقه والعمل بمضمونه ، ومضمونه هو إخبار زرارة ، وهو ثقة يجب تصديقه والعمل بمضمونه ، ومضمونه هو ثبوت قول المعصوم والحكم الشرعي ، فيتم المطلوب.

كما إنّه بالإمكان دفع الإشكال بالقول : أنّ الحكم الشرعي الذي يحكي عنه الخبر مع الواسطة إنّما يثبت لنا فيما إذا لم يكذب زرارة ولم يكذب الناقل ، وهذا معناه أنّه توجد قضيّة شرطية مفادها أنّه إذا لم يكذب المخبر فالحكم ثابت ، فإذا أمكن إثبات تحقّق الشرط فيثبت الجزاء ، وهنا إذا طبقنا دليل حجيّة خبر الثقة على كلا المخبرين باعتبار وثاقتهما ثبت لدينا الشرط وهو أنّ المخبرين لم يكذبا ، فيثبت الجزاء وهو ثبوت الحكم وهو المطلوب.

٣٠٠