شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

وبهذا ظهر أنّ الاستدلال بآية النفر تام لو تمّت هذه الأمور الثلاثة ، إلا أنّه يمكن النقاش في كل واحد من هذه الأمور كما يلي :

وقد يناقش في الأمر الأوّل بوجوهه الثلاثة ، وذلك بالاعتراض على أوّل تلك الوجوه بأن الأداة مفادها وقوع مدخولها موقع الترقّب لا الترجي ، ولذا قد يكون مدخولها مرغوبا عنه ، كما في قوله : « لعلك عن بابك طردتني ».

المناقشة في الأمر الأوّل : يرد على الأمر الأوّل أي إثبات وجوب التحذر أنّنا نمنع الوجوه الثلاثة التي ذكرت لإفادة الوجوب.

أمّا الوجه الأوّل : فيعترض عليه بأنّه يتمّ فيما لو كانت الأداة تفيد المطلوبية والمحبوبية لمدخولها ، إلا أنّها ليست كذلك ، لأنّ مدخول الأداة يقع موضع التّرقب أيضا ، كما في قولك : ( لعلك تزورنا ) أي إنّنا نترقب زيارتك ، ويقع أيضا في غير مقام المحبوبية أصلا ، بأن يكون مكروها ومبغوضا كقوله عليه‌السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي : « لعلك عن بابك طردتني » فهو يخشى ذلك ولا يحبّه.

والحاصل : أنّ كلمة ( لعل ) لا تدلّ فقط على الترجي بل هي أعم من طلب وقوع المحبوب ومن طلب عدم وقوع المبغوض ، فتكون موضوعة للترقّب الذي يتلاءم مع كلا المعنيين ، فإنّه إن كان المدخول مطلوبا ومحبوبا كانت تفيد التّرقب لوقوعه ، وإن كان مبغوضا ومرغوبا عنه كانت تفيد التّرقب لعدم وقوعه (١).

وبالاعتراض على ثاني تلك الوجوه بأنّ غاية الواجب ليست دائما واجبة ، وإن كانت محبوبا حتما ، ولكن ليس من الضروري أن يتصدى المولى لإيجابها بل قد يقتصر في مقام الطلب على تقريب المكلّف نحو الغاية وسدّ باب من أبواب عدمها ، وذلك عند وجود محذور مانع من التكليف بها وسدّ كل أبواب عدمها كمحذور المشقّة وغيره.

وأمّا الوجه الثاني : فيعترض عليه أنّه ليس دائما كلما كان شيء واجبا كانت

__________________

(١) في الآية الشريفة يحتمل كلا النحوين من الترقب ، فنحتاج إلى دليل لترجيح أحدهما على الآخر ، وهو وإن كان يمكن استفادته من الآية كما هو الظاهر إلا أنّه يحتمل أن يكون التحذّر مطلوبا لإفادة الإنذار والإخبار للعلم لا مطلقا ، أي أنّ التحذر يكون واجبا لأنّه يترقّب أن يكون الإنذار مفيدا للعلم لا مطلقا. وهذا ما ذكره الأصفهاني.

٢٢١

غايته واجبة أيضا ، بل قد تكون غايته واجبة وقد لا تكون واجبة فيما إذا كان في إيجابها حرج أو مشقة أو عسر على المكلّف.

فنحن نسلّم بأنّ الغاية محبوبة ومطلوبة وراجحة ولكنّنا لا نسلّم أنّها تكون واجبة دائما ، فيمكن للمولى أن يتصدى لإيجابها بأن كانت مقدورة للمكلّف ولا مشقّة عليه بامتثالها ، ويمكن للمولى عدم إيجابها إذا لم تكن مقدورة للمكلف أو كان في إيجابها مشقة حرجية ؛ ولهذا نمنع الكبرى الكليّة.

والوجه في ذلك : أنّ الغاية إذا كان في إيجابها عسر ومشقة وحرج على المكلّف فالمولى حينئذ يقتصر على إيجاب ذي الغاية فقط ، والذي من شأنه أن يقرّب المكلّف نحو الغاية فيما إذا كان للغاية أسباب وأبواب متعدّدة فإنّه إذا أوجب ما يقرّب إليها يكون قد سدّ بابا من أبواب عدمها لا جميع أبواب عدمها ؛ إذ المفروض أنّ سدّ جميع أبواب عدمها يساوق إيجاب الغاية نفسها ، والمفروض أنّ المولى لا يريد إيجابها لما فيها من العسر والحرج والمشقّة على المكلّف.

والحاصل : أنّه إذا كان إيجاب الغاية نفسها أو سد جميع أبواب عدمها حرجيا على المكلّف فالمولى يقتصر في مقام تقريب المكلّف نحو الغاية في إيجاب أحد أسبابها وسدّ أحد أبواب عدمها فقط ، ولذلك تكون غير واجبة ولكنّها في نفس الوقت مطلوبة ومحبوبة للمولى لكنّه لم يوجبها لمحذور ومانع.

وبهذا يتّضح أنّ الملازمة بين وجوب شيء ووجوب غايته على إطلاقها غير تامّة. نعم ، هي تامّة بنحو الموجبة الجزئيّة فقط وإثبات كونها واجبة في مقامنا يحتاج إلى دليل آخر غير ما ذكر (١).

وبالاعتراض على ثالث تلك الوجوه بأنّ الأمر بالنفر والإنذار ليس لغوا مع عدم الحجيّة التعبديّة ، لأنّه كثيرا ما يؤدّي إلى علم السامع فيكون منجزا ، ولمّا كان المنذر يحتمل دائما ترتب العلم على إنذاره أو مساهمة إنذاره في حصول العلم ولو لغير السامع المباشر فمن المعقول أمره بالإنذار مطلقا.

__________________

(١) مضافا إلى أنّ وجوب الإنذار ثابت على النافرين بينما وجوب التحذر ثابت على القوم المنذرين ، فمن عليه الوجوب ليس نفس من عليه التحذر ، فلا ملازمة بين الإيجابين لاختلاف موضوع كل منهما.

٢٢٢

وأمّا الوجه الثالث : فيعترض عليه بأنّه يمكن أن يكون هناك أمر وإيجاب للنفر والإنذار ومع ذلك لا يقال بالحجيّة التعبديّة لإخبارهم مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وذلك لأنّه غالبا أو كثيرا ما يؤدّي الإنذار والإخبار إلى علم السامع فيكون الإنذار منجزا عليه لمنجزية العلم لا لنفس الخبر.

وعليه ، فيمكن للشارع أن يكون قد جعل الإنذار واجبا ، لأنّه يؤدّي إلى العلم ولكنّه لم يقيّد في لسان الدليل بذلك حفاظا على بقاء الإنذار ، لأنّه لو قال : إنّ الإنذار إنّما يكون واجبا فيما لو أفاد العلم للسامع ، فعندئذ سوف يتوقّف المنذر في كثير من الأحيان عن الإنذار لعدم إفادة إنذاره العلم لدى السامع بنظر المنذر مع أنّه قد يفيده العلم أو قد يفيد غير السامع أو قد يساهم الإنذار في حصول العلم بعد ضمّ غيره من القرائن والشواهد إليه ، فلأجل أن يحافظ الشارع على وجوب التحذّر عند إفادة الإنذار العلم جعل وجوب الإنذار في خطابه مطلقا لحالتي إفادته العلم وعدمها من أجل أن يتحقّق الإنذار من كل النافرين سواء كان مفيدا للعلم بنظرهم أم لا ، لأنّ المهم هو أن يحصل العلم للسامع أو للمنقول إليه الإنذار.

والحاصل : أنّ الملاك الواقعي للمولى هو كون وجوب التحذر عند إفادة العلم لدى السامع من إنذار النافر ، ولكن إذا أبرز الشارع هذا القيد في ظاهر كلامه فسوف يتوقّف كثير من المنذرين النافرين حيث إنّهم في كثير من الأحيان يعتقدون أنّ إنذارهم لا يفيد السامع العلم ؛ لأنّه خبر واحد ظني وبالتالي سوف لن يتحقّق التحذر الواجب في كثير من موارده الواقعيّة.

وأمّا إذا أبرز وجوب الإنذار مطلقا سواء أفاد العلم أم لا سوف يتحفظ على ملاك وجوب التحذر الواقعي لأنّه سوف يتحذر دائما عنه لأنّ الوجوب صار مطلقا ظاهرا وإن كان واقعا مقيّدا بالعلم.

وهذه المناقشة إذا تمت جزئيا فلا تتم كليّا ، لأنّ دلالة كلمة ( لعل ) على المطلوبية غير قابلة للإنكار ، وكون مفادها الترقب وإن كان صحيحا

ولكن كونه ترقب المحبوب أو ترقب المخوف يتعيّن بالسياق ، ولا شكّ في تعيين السياق في المقام للأوّل.

الجواب عن هذه المناقشة : أنّها تتمّ في الوجهين الثاني والثالث ، ولكنّها غير تامّة

٢٢٣

في الوجه الأوّل ، فهي تامّة جزئيا لا كليّا ، وذلك : لأنّ دلالة كلمة ( لعل ) على المحبوبية والمطلوبية غير قابلة للإنكار ، فإنها تدلّ على مطلوبيّة ومحبوبية المدخول في كثير من الموارد كما في قولك : ( لعلّني أدخل الجنة ).

وأمّا ما ذكره المحقّق الأصفهاني من كون الأداة موضوعة للترقب الأعم من المحبوب والمبغوض فهو صحيح أيضا ، لكن تعيين أنّ المترقب هو المحبوب أو المخوف والمبغوض راجع للسياق ، وسياق الآية هنا يعيّن كون الترقب للمحبوب لأنّ التحذر في نفسه شيء حسن وجيّد لئلاّ يقع الإنسان في الخطأ.

فالوجه الأوّل لإثبات أنّ التحذّر واجب تام وبه يثبت الأمر الأوّل وهو وجوب التحذّر.

وقد يناقش في الأمر الثاني ـ بعد تسليم الأوّل ـ بأنّ الآية الكريمة لا تدلّ على إطلاق وجوب التحذر لحالة عدم علم السامع بصدق المنذر ، وذلك لوجهين :

المناقشة في الأمر الثاني : وقد يرد على الأمر الثاني وهو إثبات وجوب التحذر مطلقا بأنّه لا إطلاق في الآية الكريمة لحالة عدم علم السامع بصدق المخبر بالإنذار ، وإنّما هي مقيّدة بحالة علمه فقط ، ويمكن إثبات التقييد وبطلان الإطلاق بأحد وجهين ، ذكرهما الشيخ الأنصاري :

أحدهما : أنّ الآية لم تسق من حيث الأساس لإفادة وجوب التحذر ؛ لنتمسك بإطلاقها لإثبات وجوبه على كل حال ، وإنّما هي مسوقة لإفادة وجوب الإنذار ، فيثبت بإطلاقها إنّ وجوب الإنذار ثابت على كل حال ، وقد لا يوجب المولى التحذر إلا على من حصل له العلم لكنّه يوجب الإنذار على كل حال ، وذلك احتياطا منه في مقام التشريع لعدم تمكنه من إعطاء الضابطة للتمييز بين حالات استتباع الانذار للعلم أو مساهمته فيه وغيرها.

الوجه الأوّل : منع الإطلاق في الآية ، وذلك لأنّ الآية بصدد بيان أصل وجوب الإنذار على النافرين بهدف تحذير الناس وليست في مقام إثبات وجوب التحذر ، وإنّما قلنا بوجوب التحذر للملازمة بين الإنذار والتحذر لئلا تلزم اللغوية.

وعليه ، فما ثبت إطلاقه من الآية هو أنّ الإنذار واجب على النافرين على كل حال

٢٢٤

سواء أفاد إنذارهم العلم أم لا ، وأمّا أنّ وجوب التحذر مطلق أيضا فهذا لا دليل عليه ؛ إذ الآية لم تتعرض لوجوبه أساسا فضلا عن كونه مطلقا.

وحينئذ لا مانع من التفكيك بين الوجوبين ، بأن يكون وجوب الإنذار مطلقا لحالتي العلم وعدمه ، بينما يكون وجوب التحذر مختصا فيما إذا استفاد السامع العلم من إخبار المنذر ، ولا ملازمة بين إطلاق الإنذار وإطلاق التحذر أصلا.

والغرض من إيجاب الإنذار مطلقا مع أنّ إيجاب التحذّر ليس كذلك هو الاحتياط والتحفّظ على الأحكام الواقعيّة التي يخبر عنها المنذر ضمن مجموع إخباراته التي لا يفيد بعضها العلم ، فإنّ السامع قد يستفيد العلم من بعض هذه الإنذارات فتكون حجّة عليه ويجب عليه التحذر عنها وهو المطلوب والمراد للشارع من إنذار النافرين.

وبتعبير آخر : أنّ الشارع يريد أن يتحذر الناس عن الإنذارات التي تفيدهم العلم ولكن لمّا لم يكن بالإمكان إعطاء الضابطة الكليّة والعامّة لهذا الأمر أوجب الإنذار على النافرين على كل حال سواء كان إنذارهم مفيدا للعلم أم لا ، وذلك حفاظا على أن يتحقّق الإنذار المفيد للعلم لدى السامع من مجموع هذه الإنذارات فيتحذر عنها بالخصوص ، أو أن يكون لهذا الإنذار مساهمة في إفادة العلم لدى السامع بعد ضمّ بعض الشواهد والقرائن الأخرى إليه.

وهذه فائدة معقولة جدا حفاظا على الملاكات الواقعيّة للأحكام عند الاختلاط أو عند عدم تمييزها عن غيرها بأن يجعل الشارع حكما ظاهريّا عاما بقصد الحفاظ على الملاكات الواقعيّة ضمن مجموع دائرة الإنذارات.

بل لو أنّ الشارع قد جعل وجوب الإنذار مختصا بما إذا كان مفيدا لعلم السامع لتعطلت كثير من الإنذارات فيما إذا اعتقد المنذر بأنّها لا تفيد السامع العلم ، وبالتالي سوف لن ينذر حتّى بالأحكام الواقعيّة التي تفيد العلم واقعا بتخيل واعتقاد عدم إفادتها للعلم ، وهذا يفوّت الملاكات الواقعيّة للأحكام الإلزاميّة في فرض كونها أهم من ملاكات الترخيص والإباحة.

وهذا الأمر يتناسب مع حقيقة وروح جعل الحكم الظاهري كما تقدّم ، ولذلك لا دليل على أنّ وجوب التحذر مطلق.

٢٢٥

والوجه الآخر : ما يدّعى من وجود قرينة في الآية [ تدلّ ] على عدم الإطلاق ، لظهورها في تعلّق الإنذار بما تفقّه فيه المنذر في هجرته ، و[ في ] كون الحذر المطلوب مترقبا عقيب هذا النحو من الإنذار ، فمع شكّ السامع في ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية لإثبات مطلوبيّة الحذر.

الوجه الثاني : أنّه يوجد ما يدلّ على التقييد وهو : أنّ التحذّر يجب فيما يجب فيه الإنذار ، أي أنّ موضوعهما واحد ، وهو الأحكام الواقعيّة بقرينة التفقه في الدين ، أي معرفة الأحكام الإلهية الواقعيّة ، وحينئذ يجب التحذر عن هذه الأحكام الواقعيّة إذا كان الإنذار بها وأمّا إذا لم يكن الإنذار بالأحكام الواقعيّة فلا يجب التحذر عنها قطعا.

فالتحذّر المترقّب وقوعه من الناس هو التحذر عند الإنذار بالأحكام الواقعيّة لا غير.

وعليه ، فإذا شكّ المنذر بأنّ هذا الإنذار من الأحكام الواقعيّة أو ليس منها فلا يحرز موضوع وجوب التحذر فلا يجب ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من إحراز الموضوع وهو معنى كون التحذّر واجبا عند إفادة الإنذار لعلم السامع لا مطلقا (١).

ويمكن النقاش في الأمر الثالث : بأنّ وجوب التحذر مترتّب على عنوان الإنذار لا مجرّد الإخبار ، والإنذار يستبطن وجود خطر سابق ، وهذا يعني أنّ الإنذار ليس هو المنجز والمستتبع لاحتمال الخطر بجعل الشارع الحجيّة له ، وإنّما هو مسبوق بتنجز الأحكام في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي أو الشك قبل الفحص.

المناقشة في الأمر الثالث : ويرد على الأمر الثالث وهو استفادة حجيّة خبر الواحد من خلال كون الإنذار والتحذر مطلقين أمران :

الأوّل : أنّ وجوب التحذر مطلقا سواء أفاد العلم للسامع أم لا مترتب على عنوان الإنذار ؛ لأنّ التحذر وقع عقيب الأمر بالإنذار فيكون التحذر واجبا مطلقا عند تحقّق عنوان الإنذار.

__________________

(١) إلا أنّ هذا الوجه يمكن الجواب عنه بأنّه يكفي كون الإنذار منجزا للواقع ولو ظاهرا ، بمعنى أنّ التحذر يجب فيما إذا كان الإنذار فيه مقتضي المنجزية وهو الإخبار بالأحكام الإلزامية التي يعتقد المنذر كونها واقعيّة ، وإلا لزم التشكيك في كثير من الإنذارات وهو خلاف ما ورد عنهم من أنّه لا ينبغي التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا.

٢٢٦

إلا أنّ هذا لا يعني حجيّة خبر الواحد مطلقا ، بل حجيّة الخبر المستتبع والمتضمن للإنذار ، لأنّ عنوان الإنذار أخص من عنوان الإخبار فإنّ الإخبار يشمل ما إذا كان في الخبر إنذار أم لا ، والإنذار هو الخبر الذي فيه تخويف وتهديد بالعقاب على فعل أو ترك كانا منجزين على المكلّف في مرتبة سابقة.

وحينئذ تكون الآية ناظرة إلى حجيّة خصوص الخبر الذي فيه وعيد وتخويف وتهديد وتحذير من العقاب على فعل أو ترك كان المكلّف يعلم إجمالا بتنجزهما عليه.

وهذا يعني أنّ الحجيّة المجعولة شرعا ليس موضوعها عنوان الإنذار بالدقة ، وإنّما المنجّز القبلي الذي يستبطنه ويتضمنه هذا الإنذار ، وليس موضوعها مجرّد الإخبار لأنّه خلاف ظاهر الآية.

ثمّ إنّ هذا المنجز السابق الذي بوجوده يتحقّق الانذار والتخويف إما أن يكون هو العلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية منجّزة ضمن دائرة الاخبار التي يحكي عنها الرواة ، حيث إنّ كل مكلّف يعلم إجمالا بتنجز كثير من هذه الأحكام ضمن الإخبارات والإنذارات فتكون الحجيّة لهذا العلم الإجمالي المنجز.

وإمّا أن يكون هو الشك قبل الفحص ، ولو لم يكن هناك علم إجمالي ، فإنّ البراءة سواء العقلية أم الشرعيّة لا تجري إلا في الشبهات بعد الفحص ، وأمّا قبل الفحص فيجب الاحتياط أو التوقف فيكون المنجز هو الاحتياط العقلي قبل الفحص.

وعلى كل حال لا يثبت بالآية حجيّة مطلق خبر الواحد ، وإنّما خصوص الخبر الذي يتضمن الإنذار والوعيد والتهديد المستتبع والمستلزم لوجود منجز قبلي في مرتبة سابقة على هذا الانذار.

هذا مضافا إلى أنّ تنجّز الأحكام الإلزاميّة بالإخبار غير القطعي لا يتوقّف على جعل الحجيّة للخبر شرعا بناء على مسلك حق الطاعة كما هو واضح.

الثاني : أنّنا لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب التحذر مطلقا عند الإنذار وسلّمنا أنّ الإنذار يراد به الإخبار هنا إلا أنّ هذا لا يلزم منه كون الخبر حجّة شرعا ، بناء على مسلك حق الطاعة ، وذلك لأنّه بناء على هذا المسلك فالقاعدة الأولية بحكم العقل هي الاحتياط والاشتغال لأنّ كل احتمال منجز عقلا. وعليه ، فهذا الخبر إنّما يكون

٢٢٧

مستتبعا للمنجزية ولوجوب التحذّر لكونه يشكّل ولو احتمالا على وجود حكم إلزامي ، فالمنجزيّة والحجيّة لهذا الاحتمال لا للخبر بعنوانه الخاص.

والنتيجة : أنّنا لو سلّمنا كون التحذر واجبا مطلقا سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أم لا فلا نسلّم بكون ذلك لأجل حجيّة الخبر ، بل ذلك لأجل منجزية الاحتمال الناشئ من هذا الخبر لأنّ كل احتمال وانكشاف للتكليف منجز عقلا.

* * *

٢٢٨

السنّة

٢٢٩
٢٣٠

٢ ـ السنّة

وأمّا السنّة فهناك طريقان لإثباتها :

أحدهما : الأخبار الدالة على الحجيّة ، ولكي يصحّ الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لا بدّ أن تكون قطعية الصدور.

وتذكر في هذا المجال طوائف عديدة من الروايات ، والظاهر أنّ كثيرا منها لا يدلّ على الحجيّة. وفيما يلي نستعرض بإيجاز جلّ هذه الطوائف ليتضح الحال.

القسم الثاني : هو الاستدلال بالسّنة الشريفة على حجيّة خبر الواحد.

والاستدلال بالسّنة يتوقّف على ثبوتها ، وهنا يوجد طريقان لإثبات هذه السنّة ، هما :

الطريق الأوّل : الأخبار الكثيرة الدالة على حجيّة خبر الواحد.

ولكن يشترط في صحّة الاستدلال بهذه الأخبار على حجيّة خبر الواحد كونها قطعيّة الصدور ، وإلا لزم الدور أو الخلف ، فيجب أن تكون متواترة ولو إجمالا ولا يصحّ أن تكون ظنيّة الصدور والسند ، وإلا كان مصادرة على المطلوب ، لأنّه من الاستدلال على الشيء بنفسه.

ثمّ إنّ هذه الأخبار على طوائف بعضها تام وله دلالة على الحجيّة ، وبعضها الآخر لا دلالة فيه ، ولذلك نستعرض أهم هذه الطوائف.

الطائفة الأولى : ما دلّ على التصديق الواقعي ببعض روايات الثقات ، من قبيل ما ورد عن العسكري عليه‌السلام عند ما عرض عليه كتاب ( يوم وليلة ) ليونس بن عبد الرحمن ، إذ قال : « هذا ديني ودين آبائي وهو الحق كلّه ».

وهذا مردّه إلى الإخبار عن المطابقة للواقع وهو غير الحجّية التعبّدية التي تجعل عند الشك في المطابقة.

٢٣١

الطائفة الأولى : الأخبار التي استدل بها على حجيّة خبر الواحد ، الواردة بلسان التصديق الواقعي ببعض أخبار الثقات ، أي الشهادة من المعصوم على أنّ هذه الأخبار التي رواها بعض الثقات واقعيّة وصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ، ومن أمثلة هذه الطائفة :

ما ورد عن العسكري عليه‌السلام حينما عرض عليه كتاب ( يوم وليلة ) ليونس بن عبد الرحمن فأثنى عليه بقوله : « هذا ديني... وهو الحق » وهذا الإطراء منه والشهادة بصدقه معناه أنّ يونس ثقة وصادق في إخباراته وهذا معناه أنّ كل ثقة يكون صادقا ويجب العمل بخبره.

إلا أنّ الصحيح عدم تماميّة الاستدلال بهذا النحو من الروايات لأنّها :

أوّلا : لا تدلّ على أكثر من كون يونس بن عبد الرحمن ثقة ، وأنّه لا يقول إلا الحق والصادر عنهم ، فهي واقعة وقضيّة تكوينية خارجية مشخصة لا إطلاق فيها لعموم الثقات أو لكل خبر واحد.

وثانيا : أنّها إخبار عن كون ما في هذا الكتاب صادرا واقعا وأن الراوي ثقة وعدل ، وهذا يعني أنّنا نعمل بما ذكره يونس لا من باب كونه ثقة وعدلا قد جعلت له الحجيّة ، وإنّما من باب شهادة الإمام بأنّها واقعيّة وهذا معناه أنّها أصبحت يقينية فيعمل بها من باب العلم بصدورها لا من باب كونها حجة تعبّدا وما نريده هو إثبات حجيّتها التعبديّة سواء علم بصدورها أم لا. وهو خلاف صريح هذا اللسان.

الطائفة الثانية : ما تضمّن الحثّ على تحمّل الحديث وحفظه ، من قبيل قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة ».

وهذا لا يدلّ على الحجيّة أيضا ، إذ لا شكّ في أنّ تحمّل الحديث وحفظه من أهم المستحبات ، بل من الواجبات الكفائية لتوقف حفظ الشريعة عليه ، ولا يلزم من ذلك وجوب القبول تعبدا مع الشك. ومثل ذلك ما دلّ على الثناء على المحدّثين أو الأمر بحفظ الكتب والترغيب في الكتابة.

الطائفة الثانية : من الأخبار ما ورد بلسان الحثّ على تحمّل الحديث وحفظه ونقله للآخرين ، كالنبوي المشهور : « من حفظ على أمتي... بعثه الله عالما فقيها... ».

٢٣٢

والاستدلال بهذا النحو من الأخبار على أساس الملازمة بين حفظ الحديث ونقله للناس وتحمله وبين قبول الناس لهذا الحديث وعدم رده ، إذ لو لم يجب القبول لما كان هناك معنى للحث المذكور ولكان لغوا ، فلكي تكون هناك فائدة لهذا الحث يلزم أن يكون إخبارهم ونقلهم لهذه الأخبار حجّة على المنقول إليهم ، وهذا يعني حجيّة خبر الواحد.

وفيه : أنّ هذا اللسان لا يفيد الحجيّة التعبديّة ؛ وذلك لأنّ مجرّد الحث على التحمّل والحفظ والنقل للحديث ولو كان واجبا كفائيا فضلا عمّا إذا كان مستحبا ومن أفضل الأعمال ، إلا أنّه لا يدلّ على الحجيّة التعبديّة لخبر الواحد ، إذ قد يكون المراد من الحث المذكور هو أن تكثر الحملة والحفّاظ وبالتالي يكثر الرواة للحديث فيحصل العلم لدى المنقول إليه.

ولا معنى للقول بأنّ حثّهم على ذلك يتلازم مع وجوب قبول أخبارهم مطلقا حتّى إذا لم يستفد السامع منها العلم ، بل قد تكون حجّة في حالة إفادتها للعلم فقط ، ويكون الحث عليها من أجل الحفاظ على الملاكات الواقعيّة عند الشك والحيرة كما تقدّم توضيحه مفصّلا في حقيقة الحكم الظاهري.

ونظير هذه الطائفة ما ورد عنهم بلسان الثناء والمدح للرواة والمحدثين كقوله : « اللهمّ ارحم خلفائي... الذين يبلّغون حديثي وسنّتي... » ، وما ورد من الأمر بحفظ الكتب والترغيب في الكتابة كقوله : « احفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها ».

فإنّ الاستدلال بهذه الأخبار مستند إلى الملازمة بين ذلك وبين قبول إخباراتهم وكتبهم ووجوب العمل على طبقها ، سواء أفادت العلم أم لا ، إلا أنّنا ذكرنا أنّ هذه الملازمة غير تامّة.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على الأمر بنقل بعض النكات والمضامين ، من قبيل قول أبي عبد الله عليه‌السلام : « يا أبان ، إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث ».

والصحيح أنّ الأمر بالنقل يكفي في وجاهته احتمال تماميّة الحجّة بذلك بحصول الوثوق لدى السامعين ، ولا يتوقّف على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الثالثة : من الأخبار ما ورد بلسان الأمر بنقل الحديث وبعض المضامين والنكات ، من قبيل ما ورد من أمر الإمام الصادق عليه‌السلام لأبان بن تغلب بأنّه

٢٣٣

إذا قدم الكوفة فليرو هذا الحديث وهو : « من قال لا إله إلا الله مخلصا وجبت له الجنّة ».

فإنّ الأمر بنقله لهذا الحديث سواء باللفظ أو بالمعنى أو بكليهما معناه أنّه يجب على الناس المستمعين والمنقول إليهم هذا الحديث أن يقبلوه ويعملوا به ويصدّقوه في إخباره ونقله ؛ إذ لو كان القبول غير واجب عليهم لكان أمره بالنقل لغوا ، فلكي يكون كلام الإمام وأمره وجيها لزم القول بحجيّة قول أبان مطلقا ، أي سواء أفاد العلم أم لا ، وهذا هو معنى الحجيّة التعبديّة.

وفيه : أنّه يكفي لدفع محذور اللغوية وتوجيه كلام الإمام أن يكون إخبار أبان يوجب العلم أو الاطمئنان أو الوثوق بصدقه وأنّ ما ينقله صادر عنهم أو كان يساهم في حصول العلم ، فلا يكون التصديق والعمل والاتباع واجبا على المستمعين مطلقا ، وإنّما إذا أفادهم العلم ونحوه فقط ، ويكون أمره بالنقل مطلقا من أجل الحفاظ على هذا الأمر الواقعي.

فلا دلالة في هذا اللسان على الحجيّة التعبديّة إلا على القول بالملازمة التي لا نسلّم بها.

الطائفة الرابعة : ما دلّ على أن انتفاع السامع بالرواية

قد يكون أكثر من انتفاع الراوي ، من قبيل قولهم : « فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

ونلاحظ أنّ هذه الطائفة ليست في مقام بيان أنّ النقل يثبت المنقول للسامع تعبدا ، وإلا لكان الناقل دائما من هذه الناحية أفضل حالا من السامع ؛ لأنّ الثبوت لديه وجداني ، بل هي بعد افتراض ثبوت المنقول تريد أن توضح أنّ المهم ليس حفظ الألفاظ بل إدراك المعاني واستيعابها ، وفي ذلك قد يتفوّق السامع على الناقل.

الطائفة الرابعة : من الأخبار ما ورد بلسان أنّ السامع للحديث قد يكون انتفاعه به أكثر من الراوي الناقل له ، من قبيل النبوي المشهور : « ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

والاستدلال بها على أساس أنّ الراوي والناقل إذا لم يكن خبره حجّة على السامع المنقول إليه مطلقا فكيف يصير أفقه منه.

٢٣٤

وبتعبير آخر : أنّ خبر الناقل إذا لم يكن حجّة على الآخرين وإنّما حجّة على نفسه فقط فهو يكون أفقه من المنقول إليه قطعا ، لأنّ المنقول إليه لن ينتفع من خبره إلا في حالات قليلة جدا ، وذلك إذا حصل له العلم من نقله فقط ، فكيف يكون أفقه منه؟! فهذا التعبير يساوق الحجيّة التعبديّة للخبر.

وفيه : أنّ هذا اللسان من الروايات ليس مفاده التعرض لإثبات الحجيّة للخبر أصلا ، أو أنّه متى يمكننا إثبات صدور الخبر عن المعصومين؟ وإلا لكان الراوي والناقل للخبر أفضل حالا دائما من السامع والمنقول إليه ، وذلك لأنّ الفقه الذي يحمله الناقل ثابت لديه وجدانا ، لأنّه سمعه من المعصوم بينما المنقول إليه هذا الفقه على القول بالحجيّة يكون ثابتا لديه تعبدا والحال أنّ الثبوت الوجداني أفضل دائما من الثبوت التعبّدي ، فيلزم أن يكون الناقل أفضل حالا من المنقول إليه دائما ، فكيف يقول الحديث : إنّ المنقول إليه قد يكون أفقه من الناقل؟!

والصحيح أنّ الحديث بصدد بيان مطلب آخر وهو أنّه بعد فرض ثبوت الصدور وأنّ هذا الفقه المنقول ثابت واقعا ، فحينئذ قد يكون المنقول إليه أفقه من الناقل في فهمه وإدراك معانيه وتوضيح مطالبه ومضامينه وأقدر على استيعابه منه ، لأنّ أفهام الناس تختلف بهذه الأمور كما هو واضح.

الطائفة الخامسة : ما دلّ على ذمّ الكذب عليهم والتحذير من الكذّابين عليهم ، فإنّه لو لم يكن خبر الواحد مقبولا لما كان هناك أثر للكذب ليستحق التحذير.

والصحيح أنّ الكذب كثيرا ما يوجب اقتناع السامع خطأ ، وإذا افترض في مجال العقائد وأصول الدين كفى في خطره مجرّد إيجاد الاحتمال والظن ، فاهتمام الأئمّة بالتحذير من الكاذب لا يتوقّف على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الخامسة من الأخبار : ما ورد بلسان ذمّ الكذب والكذّابين والوضّاعين الذين يختلقون الأحاديث من عندهم ، من قبيل قوله عليه‌السلام : « من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار ».

وتقريب الاستدلال بها : أنّ خبر الواحد إذا لم يكن حجّة للسامع ويوجب تصديقه والعمل به لما كان هناك وجه للتحذير من الكذب فيه وذمّه ، وهذا معناه أنّ

٢٣٥

خبر الواحد حجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وهو معنى الحجيّة التعبديّة ، وجاء التحذير لئلا يقع الناس في الخطأ ومخالفة الواقع.

وفيه : أنّه لا دلالة أصلا في هذه الطائفة على المقصود ؛ لأنّها بصدد بيان أنّ الكذب في نفسه محرم وأنّ الاختلاق والوضع يوجب الخلود في النار ، وليست بصدد التعرض لكون قوله حجّة مطلقا أم لا.

مضافا إلى أنّ خبر الكاذب قد يوجب اقتناع السامع وتصديقه ووثوقه ، أو اطمئنانه بصدور هذا الخبر فيعمل به فيقع في مخالفة الواقع والمفسدة ، أو يكون خبر الكاذب في مجال العقائد وأصول الدين وهذا يؤدّي إلى تشويش اعتقاد السامع فيما لو احتمل أو ظنّ صدقه وهذا خطر كبير من الكذب فجاء التحذير منه.

والحاصل أنّه لا ملازمة بين تحذير الأئمّة عليهم‌السلام من الكذب عليهم وبين كون الخبر حجّة مطلقا تعبدا ، بل قد يكون التحذير من الكذب لأجل أنّه يشكّل خطرا على معتقدات السامع فيما لو احتمل أو ظن أو وثق به.

الطائفة السادسة : ما ورد في الإرجاع إلى آحاد من أصحاب الأئمّة بدون إعطاء ضابطة كلية للإرجاع ، من قبيل إرجاع الإمام إلى زرارة بقوله : « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » أو قول الإمام الهادي عليه‌السلام : « فاسأل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، وأقرأه مني السلام ».

وروايات الإرجاع التي هي من هذا القبيل لمّا كانت غير متضمّنة للضابطة الكليّة فلا يمكن إثبات حجيّة خبر الثقة بها مطلقا حتّى في حالة احتمال تعمّد الكذب ؛ إذ من الممكن أن يكون إرجاع الإمام بنفسه معبّرا عن ثقته ويقينه بعدم تعمّد الكذب ما دام إرجاعا شخصيا غير معلّل.

الطائفة السادسة من الأخبار : ما ورد بلسان الإرجاع إلى بعض الرواة أو الثقات أو الأصحاب ، من قبيل الإرجاع إلى زرارة أو إلى عبد العظيم الحسني. فإنّ هذا الإرجاع معناه أنّ ما يحدّث به هؤلاء حجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وهو معنى الحجيّة التعبديّة.

وفيه : أنّ هذا الإرجاع لمّا لم يكن معلّلا ببيان الضابطة الكليّة العامّة التي من خلالها أرجع الإمام إلى هؤلاء فلا يمكن الاستدلال بها على الحجيّة التعبديّة.

٢٣٦

نعم ، لو كان هذا الإرجاع معلّلا ببيان الملاك والضابط الذي على أساسه كان هذا الإرجاع بأن قال : لأنهم ثقات أو عدول أو نحو ذلك لكانت لها دلالة على الحجيّة المطلوبة ، إلا أنّها ليست كذلك.

وحينئذ فكما يحتمل أن يكون الإرجاع لمجرّد كونهم ثقات فكذلك يحتمل أن يكون الإرجاع من أجل كونهم لا يكذبون أصلا ولا يحدّثون إلا بما هو صادر من المعصوم ، أو لأنّ إخبارهم كان يفيد العلم للسامع في أكثر الأحيان نتيجة علم الإمام بوثاقتهم وتدينهم ويقينه بصدقهم دائما ، وأنّ هذا الصدق يلازم حصول اليقين للسامع ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بها على الحجيّة التعبديّة حتّى إذا لم يفد قولهم العلم للسامع ، بل يمكن أن يكون مختصّا بما إذا استفاد السامع العلم منهم ، ولهذا أرجع الإمام إليهم.

الطائفة السابعة : ما دل على ذم من يطرح ما يسمعه من حديث

بمجرّد عدم قبول طبعه له ، من قبيل قوله عليه‌السلام : « وأسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي يسمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأزّ منه وجحده وكفّر من دان به ، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ». إذ يقال : لو لا حجيّة الخبر لما استحق الطارح لهذا الذم.

والجواب : إنّه استحقه على الاعتماد على الذوق والرأي في طرح الرواية بدون تتبع وإعمال للموازين وعلى التسرّع بالنفي والإنكار مع أنّ مجرّد عدم الحجيّة لا يسوّغ الإنكار والتكفير.

الطائفة السابعة من الأخبار : ما ورد بلسان الذمّ والتقريع على من يسمع الحديث فيطرحه لمجرّد أنّه لم يوافق ذوقه ورأيه ولم يستحسنه ؛ إذ لعلّه يكون صادرا من عندهم فيكون بذلك قد طرح ما هو صحيح وثابت ، وبالتالي يكون قد استخفّ بما يروى عنهم لمجرّد إعمال رأيه وذوقه.

وهذا اللسان يدلّ على الحجيّة التعبديّة للخبر بتقريب أنّ الخبر إذا لم يكن حجّة شرعا لما كان يستحق هذا الشخص مثل هذا الذم والتقريع ، لأنّه مع عدم حجيّته يجب طرحه عرض الحائط ، كما ورد في بعض الأخبار فاستحقاقه للذمّ لمجرّد طرحه يلازم كون الخبر حجّة في نفسه ولذلك لمّا طرحه استحق هذا الذم واللوم

٢٣٧

والتقريع لأنّه طرح ما هو حجّة شرعا وما يجب العمل والالتزام به وتصديقه.

وفيه : أنّ هذه الطائفة من الروايات أجنبية عن مقامنا لأنّها بصدد بيان أنّ من يطرح الأخبار لمجرّد إعمال الرأي والاستحسان ، ولمجرّد عدم موافقتها لذوقه وطبعه يكون بذلك قد عمل بهواه ورأيه وترك السنّة والجادة القويمة فيكون من قبيل الاجتهاد مقابل النّص ؛ إذ بطرحه للأخبار لمجرّد عدم استحسانه لها يكون قد طرح ما هو ثابت واقعا وصادر عنهم وبالتالي يكون قد استخفّ بهم فيخرج من ولايتهم كما ورد في ذيل ذلك الخبر.

وهذا أمر آخر غير الحجيّة التعبديّة للخبر ، إذ حتّى لو كانت الحجيّة غير ثابتة للخبر شرعا فلا ينبغي لمن ينقل إليه الخبر أن يطرحه ابتداء وتشفيا لمجرّد عدم موافقته لطبعه ، بل يجب عليه التريّث والفحص والتثبت فإنّ حصل ما يوجب كذبه طرحه وإن حصل ما يطمأن معه بصدوره أخذ به ، وإن بقي شاكا ومتحيرا يقف ولا يحكم بصدقه ولا كذبه ، ويرجئه حتّى يعلم فيما بعد ، فطرحه للخبر بالنحو المذكور يستحق الذم واللوم لأنّه قد خالف ما يجب فعله عليه.

مضافا إلى أنّ تكفير من دان بالعمل بهذا الخبر مستهجن وغريب ؛ إذ قد يكون الذي عمل به قد حصل له العلم بذلك فكيف يدان ويكفّر لمجرّد أن هذا السامع لم يوافق طبعه وذوقه ، فإنّ هذا الأمر لا ينبغي صدوره من الإنسان الملتزم والذي يطبّق أعماله وأحكامه طبق الموازين الشرعيّة ، فإنّ التكفير لا يجوز بحال خصوصا في مثل هذه الموارد ؛ لأنّه على الأقلّ يحتمل أن يكون الآخر معذورا في أخذه بالخبر والالتزام به حتّى وإن قطع السامع بأنّه غير صادر منهم فإنّ ذلك حجّة عليه فقط دون غيره من الناس.

الطائفة الثامنة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، فلو لا أنّ خبر الواحد حجّة لما كان هناك معنى لفرض التعارض بين الخبرين وإعمال المرجحات بينهما.

ونلاحظ أنّ دليل الترجيح هذا يناسب الحديثين القطعيين صدورا إذا تعارضا ، فلا يتوقّف تعقّله على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الثامنة : من الأخبار ما ورد في مقام علاج التعارض بين الخبرين بتقديم

٢٣٨

الموافق للكتاب على المخالف له وبتقديم المخالف للعامة على الموافق لهم ، كما في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة حيث ورد فيهما : « ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنة وخالف العامّة فيؤخذ به ».

وتقريب الاستدلال بها أن يقال : إنّ الخبر الذي لا يكون حجّة في نفسه لا معنى لمعالجة معارضته فإذا لم يكن خبر الواحد حجّة فلا معنى لعلاج تعارضه مع غيره ، لأنّه إذا كان لا يعمل به لو جاء وحده فكذلك لو كان له معارض.

وعليه ، فروايات العلاج تدلّ بالالتزام على أنّ الخبر في نفسه حجّة ويجب العمل به ولأجل ذلك فإذا كان هناك خبر آخر معارضا للخبر السابق فإنّ المكلّف سوف يقع في الحيرة في مقام الأخذ والعمل لأنهما متعارضان ، فجاءت هذه الروايات لحل التعارض كما هو منطوقها ومدلولها المطابقي ، ولتدل بالالتزام على أنهما حجّة في أنفسهما لو لا المعارضة.

وفيه : أنّ روايات الترجيح المذكورة تتناسب أيضا مع علاج الخبرين الذين ثبت قطعا صدورهما من الشارع دون غيرهما ، وهذا معناه أنّه إذا قطع بخبر فيجب العمل به فإذا كان له خبر آخر معارض له قطعي الصدور أيضا فحيث إنّه يجب العمل بمثل هذين الخبرين جاءت الروايات لتعالج هذا التعارض ، ولا دلالة فيها على أنّ كل خبرين يقع بينهما التعارض يعالجان بهذا النحو ؛ إذ من الواضح أنّه لو كان أحدهما حجّة دون الآخر فإنّه يطرح الآخر ويعمل بما هو حجّة.

وليست هذه الروايات بصدد بيان أصل الحجيّة وإنّما هي تبيّن علاج المعارضة بين الخبرين الذين ثبتت حجيتهما ، وأمّا كيف كانا حجّة فهذا لا تتعرض له هذه الأخبار ، وعليه فيحتمل كونهما حجّة لأجل القطع بصدورهما فكيف يمكن الاستدلال بها على حجيّة كل خبر مع وجود هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّ علاج التعارض لا يتوقّف على فرض حجيّة الخبر مطلقا ، سواء علم به أم لا ، وسواء قطع بصدوره أم لا بل يمكن فرضها على تقدير القطع بصدور الخبرين.

الطائفة التاسعة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بالأوثقية ونحوها من الصفات الدخيلة في زيادة قيمة الخبر وقوّة الظن بصدوره. وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الطائفة السابقة.

٢٣٩

ولا يمكن هنا حمل هذا الدليل على الحديثين القطعيين ، لأنّ الأوثقية لا أثر لها فيهما ما دام كل منهما مقطوع الصدور.

الطائفة التاسعة من الأخبار : ما ورد في علاج الخبرين المتعارضين بترجيح الخبر الذي يحتوي على بعض الصفات التي ترجّح صدوره وتوجب قوّة الظن بأنّه صادر عن المعصومين عليهم‌السلام ، كما ورد في المقبولة والمرفوعة أيضا من قوله : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » وقوله : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما... ».

فإنّ الأوثقية والأعدلية والأصدقية والأورعية من الصفات التي ترجع إلى نفس الراوي وهذا يعني أنّ الإمام والسائل قد افترضا وجود خبرين لا يقين بصدورهما ولا قطع بسندهما ومع ذلك عالج الإمام التعارض بينهما بترجيح الواجد لبعض هذه الصفات ، وهذا يعني أنّ الخبر حجّة مطلقا سواء علم به أم لا ، وسواء كان قطعي الصدور والسند أم لا ، وهذا هو معنى الحجيّة التعبديّة ، وإلا لما كان هناك معنى لهذا الترجيح ؛ إذ فرض عدم حجيّة الخبر الظني لا يتناسب مع علاج المعارضة ، لأنّه إذا لم يكن حجّة في نفسه فهو ليس حجّة حتّى مع وجود المعارض له بطريق أولى وأوضح.

ويلاحظ هنا : أنّ هذا النحو من الأخبار لا يمكن حمله على الخبرين القطعيين من جهة السند والصدور ؛ لأنّ الأوثقية ونحوهما معناها أنّ السند فيها ظني إذ لو كان السند قطعيّا لما كان هناك أثر وفائدة من الأوثقية ونحوها في الترجيح بل كان اللازم الترجيح بالصفات التي ترجع إلى المضمون لا السند كما هو واضح.

فالاستدلال بهذه الأخبار تام فيما إذا كانت هذه الصفات راجعة إلى الراويين ، وأمّا إذا كانت راجعة للحاكمين كما هو موردها فلا يمكن الاستدلال بها على المطلوب ، لأنّها تكون مختصّة في مقام رفع المخاصمة والقضاء بين الناس كما هو الظاهر.

الطائفة العاشرة : ما دلّ بشكل وآخر على الإرجاع إلى كلّي الثقة ، إما ابتداء وإما تعليلا للإرجاع إلى أشخاص معيّنين على نحو يفهم منه الضابط الكلّي. وهذه الطائفة هي أحسن ما في الباب.

الطائفة العاشرة من الأخبار : ما دلّ على إرجاع الناس إلى كلّي الثقة بهذا

٢٤٠