عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

وثانيا : بأنّ لازم الاختصاص هو أن يكون القرآن لغزا أو معمّى مع أنّه ليس كذلك لأنّ القرآن نزل ليخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور وكانت الأعراب يفهمونه بمجرّد قراءة القرآن وتلاوته وأثّر في نفوسهم أشدّ التأثير.

والشّاهد على حجّيّة ظواهر الآيات هو إرجاع النّاس إلى الكتاب في غير واحد من الأخبار إذ لا يمكن ذلك بدون حجّيّة الظّهورات القرآنيّة.

ومنها الأخبار الدالّة على أنّ القرآن الكريم يحتوي على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية لا تكاد تصل إليها أيدي أفكار اولي الأنظار غير الرّاسخين العالمين بتأويله.

ومن تلك الأخبار ما رواه المعلّى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه ليس شيء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن وفي ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء الله وإنّما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه وأن يعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه والنّاطقين عن أمره وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم. (١)

ويمكن الجواب بأنّ اشتمال القرآن على المضامين العالية الغامضة واختصاص علمها بالرّاسخين في العلم ولزوم الرجوع اليهم في التفسير والتأويل لا ينافي وجود ظواهر فيه بالنّسبة إلى الأحكام وغيرها وحجّيّتها لغيرهم.

هذا مضافا إلى أنّ جعل تمام القرآن غامضا لا يساعد مع تصريح القرآن بكونه عربيّا مبينا بل دعوى إبهام تمام القرآن ينافي قول أبي جعفر عليه‌السلام فمن زعم أنّ الكتاب مبهم فقد هلك وأهلك. (٢)

وهكذا ينافي قول مولى الموحّدين في ضمن احتجاجه على زنديق : ثمّ إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسما يعرفه العالم والجاهل وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه

__________________

(١) الوسائل الباب : ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٣٨.

(٢) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٣٩.

٨١

وصحّ تمييزه ممّن شرح الله صدره للإسلام وقسما لا يعلمه إلّا الله وملائكته والرّاسخون في العلم. (١)

ومنها : أنّ القرآن يشتمل على المتشابهات والمتشابه يشمل الظّواهر ولا أقلّ من احتمال ذلك لتشابه معنى المتشابه.

والجواب عنه واضح لمنع كون الظّاهر من مصاديق المتشابه بل هو خصوص المجمل الذي ليس له ظهور في معنى من المعاني هذا مضافا إلى أنّ التمسّك بما يمنع عن الأخذ بالمتشابه في مورد يحتمل أن يكون متشابها يرجع إلى التمسّك بالدّليل في الشّبهات الموضوعيّة وهو كما ترى.

ومنها دعوى العلم الإجمالي بطروّ تخصيصات وتقييدات وتجوّزات في ظواهر الكتاب وعليه فلا يجوز العمل بالأصول اللّفظية في أطراف المعلوم بالإجمال لتعارضها وسقوطها.

وفيه أنّ العلم الإجمالي يمنع عن العمل بالظّواهر فيما إذا لم ينحل بالظفر بمقدار المعلوم بالإجمال وإلّا فلا يبقى علم إجمالي بالنّسبة إلى غير الموارد التي ظفرنا فيه بمقدار المعلوم بالإجمال.

ومنها : الرّوايات النّاهية عن التفسير وهذه الأخبار على طوائف :

الطّائفة الاولى :

هي التي تدلّ على اختصاص التفسير بالأئمّة عليهم‌السلام كقوله عليه‌السلام إنّ من علم ما اوتينا تفسير القرآن وأحكامه. (٢)

وكقوله عليه‌السلام تفسير القرآن على سبعة أوجه منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد تعرفه الأئمّة عليهم‌السلام. (٣)

الطّائفة الثّانية :

هي التي نهت عن تفسير القرآن بالرأي كموثّقة الريّان عن الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٤٤.

(٢) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ١٣.

(٣) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٥٠.

٨٢

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله جلّ جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي. (١)

الطّائفة الثّالثة :

هي الّتي تدلّ على المنع عن ضرب القرآن بعضه ببعض في التفسير كقول أبي عبد الله عليه‌السلام قال أبي : ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر. (٢)

والجواب عنه :

أوّلا : بأنّ الأخبار المذكورة دلّت على ممنوعيّة خصوص التفسير ولا نظر لها بالنّسبة إلى الأخذ والعمل بظواهر الكتاب إذ ذلك لا يكون تفسيرا لاختصاص موضوع التّفسير بما له إجمال وخفاء بحيث يحتاج إلى كشف القناع الذي هو حقيقة التفسير والظّواهر لا تحتاج إلى التفسير وكشف القناع كما لا يخفى.

ويشهد لما ذكر تطبيق التفسير المنهي في الرّوايات على تفسير البطون وذكر المصاديق الخفيّة التي لم تسبق إلى الأذهان.

وثانيا : بأنّا لو سلّمنا أنّ العمل بالظواهر من التفسير فالمنع عنه محمول على التّفسير بالرأي وهو حمل اللفظ على خلاف ظاهره بمجرّد رجحانه بنظره أو حمل المجمل على بعض المحتملات بمجرّد رجحانه بنظره من دون إقامة دليل أو فحص لازم.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغويّة والعرفيّة بعد الفحص اللّازم عن القرائن المتّصلة والمنفصلة والعقليّة والنقليّة من دون إعمال رأي.

وثالثا : بأنّه لو سلّمنا دلالة الأخبار المذكورة على المنع عن الأخذ بظهورات القرآنيّة فلا بدّ من حملها على ما ذكر لتعارضها مع الأخبار الدالّة على جواز التمسّك بظواهر القرآن الكريم مثل خبر الثقلين والرّوايات الدالّة على الإرجاع إلى ظواهر الكتاب والتدبّر فيها وجعلها معيار الصّحة الأخبار وعدمها وغير ذلك.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٢٢.

(٢) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٢٢.

٨٣

ومقتضى الجمع بين الأخبار هو حمل الأخبار النّاهية على النهي عن التفسير بالرأي أو التفسير من دون الفحص اللازم لأنّ جواز التمسّك بظواهر القرآن وعرض الأخبار المتعارضة على تلك الظّواهر وردّ الشروط المخالفة لظاهر القرآن والإرجاعات إلى ظواهر الكتاب وغير ذلك من المسلّمات.

ودعوى أنّ الرجوع إلى الكتاب عند تعارض الأخبار أو تعيين الشروط الصّحيحة عن غيرها ليس من باب حجّيّة ظواهر الكتاب بل لعلّه من جهة المرجّحيّة.

مندفعة بأنّه لا يساعد مع التعبيرات الواردة في الأخبار من أنّ القرآن شاهد صدق ونور وهداية وفصل الخطاب وغيره ممّا يكون من خصائص الحجّيّة كما لا يخفى.

التنبيهات

التّنبيه الأوّل :

أنّه ربّما يتوهّم أنّ البحث عن اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى إذ ما من آية من الآيات إلّا ورد فيها خبر أو أخبار فلو لم يكن ظواهر الآيات حجّة كفى الأخذ بالأخبار الواردة حول الآيات.

وأجيب عنه :

أوّلا : بأنّ الآيات الواردة في العبادات وإن كانت أغلبها كذلك ولكن غيرها من إطلاقات المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع غير المنصوصة أو المنصوصة بالنّصوص المتكافئة كثيرة مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) و (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) و (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) و (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) وغير ذلك.

هذا مضافا إلى أنّ الأخبار الواردة حول الآيات في العبادات ربّما تكون متعارضة أو ضعافا ففي هذه الموارد يؤخذ بظهور الآيات.

نعم يمكن أن يقال حيث لا يحرز كون المتكلم في مقام البيان لا أصل التشريع في الآيات

٨٤

الواردة في العبادات فلا يجوز أن يؤخذ بظهور إطلاقها بخلاف الآيات الواردة في الإمضائيات أو التأسيسيّات التي كان موضوعها من الموضوعات العرفيّة أو اللغويّة كالمعاملات والجهاد والدفاع ونحوهما لمعلوميّة الموضوع العرفيّة أو اللغويّة كالمعاملات والجهاد والدفاع ونحوهما لمعلوميّة الموضوع عند العرف واللغة ولا حاجة إلى بيان الشّارع اللهمّ إلّا أن يقال : بكفاية الإطلاق المقامي في العباديّات بعد حلول وقت العمل إذا اكتفاء الشّارع بما ذكره من الآيات بعد حلول وقت العمل يكشف عن إرادة إطلاقها وذلك لأنّه لو لم يرد الإطلاق لاتّخذ سبيلا آخر لبيان مراده.

التّنبيه الثّاني :

أنّ اللازم بعد حجّيّة ظهورات الكتاب هو إحراز كون الظّاهر من الكتاب وعليه فإذا اشتبه في ظاهر أنّه من الكتاب أم لا فليس الظّاهر المذكور حجّة ويتفرّع عليه أنّه لو اختلفت قراءة القرآن بحيث يوجب الاختلاف في الظّهور والأحكام مثل يطهرن بالتشديد والتخفيف فإنّ الأوّل ظاهر في لزوم الاغتسال في جواز المعاشرة والثّاني ظاهر في كفاية انتقاء عن الحيض في ذلك ففي مثل هذا لا يجوز التمسّك بأحدهما لإثبات خصوص ما يكون ظاهرا فيه لعدم إحراز كونه من ظاهر الكتاب فاللازم في الحجّيّة إحراز كون الظّاهر من الكتاب.

ودعوى تواتر جميع القراءات ممّا لا أصل له وإنّما الثّابت جواز القراءة ولا ملازمة بينها وبين تواترها كما لا ملازمة بين جواز القراءة تعبّدا وجواز الاستدلال بها.

ودعوى قيام الإجماع على تواتر القراءات كما ترى لعدم تحقّقه باتفاق مذهب واحد عند مخالفة الآخرين.

والقول بأنّ اهتمام الصحابة والتابعين بالقرآن يقضى؟؟؟ بتواتر قراءاته غير سديد لأنّه لا يثبت به إلّا تواتر القرآن لا كيفية قراءاته ولو كفى ذلك في إثبات تواتر القراءات فلا وجه لتخصيصه بالقراءات السبعة أو العشرة بل لازمه هو الالتزام بتواتر جميع القراءات وهو

٨٥

واضح الفساد وقد اعترف جمع كثير من العلماء بعدم الملازمة بين تواتر القرآن وتواتر القراءات.

قال الزّركشي في البرهان القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان إلى أن قال والقراءات السبع متواترة عند الجمهور إلى أن قال والتحقيق أنّها متواترة عن الأئمّة السبعة أمّا تواترها عن النبي ففيه نظر فإنّ اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات وممّا نقل الواحد عن الواحد.

٨٦

مسألة نزول القرآن على الأحرف

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره قد يتخيّل أنّ الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هي القراءات السّبع فيتمسّك لإثبات كونها من القرآن بالرّوايات الدالّة على أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف.

أجاب عنه السيّد المحقّق الخوئى قدس‌سره بأنّ الرّوايات الواردة في هذا المعنى كلّها من طرق أهل السّنّة وهي معارضة مع ما صحّ عندنا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة وكذّب الإمام الصادق ما روى من نزول القرآن على سبعة أحرف وقال : ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد.

وقد تقدّم أنّ المرجع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمور الدّين إنّما هو كتاب الله وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا.

وعليه فلا قيمة للرّوايات إذا كانت مخالفة لما يصحّ عنهم.

هذا مضافا إلى التخالف الموجود بين الرّوايات المذكورة ومن المعلوم أنّه من الموهنات لتلك الرّوايات.

فتحصّل أنّ بعد عدم تواتر القراءات لا يجوز الاستدلال بكل قراءة لخصوص ما تكون ظاهرة فيه لعدم إحراز كونه من ظاهر القرآن ومع التخالف يكون من موارد اشتباه الحجّة إن قلنا بوجود قراءة النبي في أحد الطرفين إجمالا ومقتضى القاعدة هو التساقط والرّجوع إلى العموم أو الأصل الموافق لأحدهما.

ولو سلّمنا تواتر القراءات فاللّازم هو الجمع بينها بحمل الظّاهر على الأظهر عند التخالف ومع عدم إمكان ذلك يحكم بالتوقّف والرجوع إلى الأدلة اللفظية أو الأصول العملية والتحقيق هو القطع بتقرير الأئمّة عليهم‌السلام القراءة بآية واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم كما ورد عنهم اقرأ كما يقرأ النّاس وعليه فيجوز الاكتفاء بكل واحدة منها ولا حاجة إلى الاحتياط بالتكرار.

٨٧

وينقدح ممّا ذكرناه أنّ بعد تقرير المعروفة لا وجه لتخصيص جواز القراءة بالقراءات السّبعة أو العشرة نعم يعتبر في الجواز أن تكون القراءة شاذّة إذ مع الشذوذ لا علم بكونها في المرأى ومنظر الأئمة عليهم‌السلام حتّى يؤخذ بتقريرهم إيّاها بل اللازم هو شيوع القراءة ويكفي شيوعها في عهد كلّ إمام وعدم ردعه عنه كما لا يخفى.

لا يقال يكفى في الرّدع ما ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ ثمّ قال أمّا نحن فنقرؤه على قراءة ابي. (١) لدلالته على تخطئة غير قراءتهم.

لأنّا نقول وجود قراءة صحيحة عندهم لا ينافي تقريرهم القراءات المعروفة لبعض المصالح وجرت السّيرة عليها وقراءة الأئمّة لم تذكر للنّاس وإلّا لكانت شائعة.

ودعوى عدم جواز القراءة بغير القراءة التي يكون القرآن عليها لأنّها هي الّتي تواترت نسلا بعد نسل وقامت الضرورة القطعيّة عليها.

مندفعة ، بأنّ الأئمة عليهم‌السلام جوّزوا قراءة القرآن بالقراءات الشائعة في أعصارهم ومع تجويزهم وتقريرهم لا مجال للإشكال في الجواز.

وإذا عرفت جواز القراءة لكلّ واحدة من القراءات الشائعة فلا حاجة إلى الاحتياط بتكرار الصّلاة مع كلّ قراءة أو بالجمع بين القراءات في صلاة واحدة بنيّة القراءة في واحدة منها ونيّة الثّناء في غيرها حتّى لا يلزم الزيادة لكفاية القراءة الشّائعة.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ جواز القراءة لكلّ واحدة من القراءات لا يلزم جواز الاستدلال بها ولو سلّمنا جواز الاستدلال أيضا ففي موارد تعارض القراءات لزم حمل الظّاهر على الأظهر ومع التكافؤ حكم بسقوطهما عن الحجّيّة في مورد التعارض ورجع إلى غيرهما من الأدلة أو الاصول بحسب اختلاف المقامات ولا مجال للأخذ بالمرجّحات المذكورة في الأخبار العلاجيّة لاختصاصها بالأخبار المتعارضة نعم يؤخذ بمفادهما في غير مورد التعارض.

التّنبيه الثّالث :

__________________

(١) الوسائل : الباب ٧٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

٨٨

أنّه قد يتوهّم وقوع التحريف في الكتاب العزيز حسب ما ورد في بعض الأخبار ومعه يحتمل وجود القرينة على إرادة خلاف الظّاهر فيما سقط منه بالتحريف وهو يوجب عروض الإجمال المانع من التمسّك به لأنّه يكون من باب احتمال قرينيّة الموجود لا من باب احتمال وجود القرينة ليدفع بأصالة عدم وجود القرينة وأجيب عنه أوّلا : بأنّ هذا التوهّم لا وقع له إذ احتمال التحريف لا مجال له بعد كون القرآن في رتبة من الأهمّيّة عند المسلمين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حفظته الصّدور زائدة على الكتابة بحيث لا يمكن تحريفه حتّى عن الصّدور الحافظة له هذا مضافا إلى أنّ شعار الإسلام وسمة المسلم كان هو التجمّل والتكمّل بحفظ القرآن واستمرّ المسلمون على ذلك حتّى صاروا في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يعدّون بالالوف وعشراتها ومئاتها وكلّهم من حملة القرآن وحفّاظها وإن تفاوتوا في ذلك بحسب السابقة والفضيلة فاستمرّ القرآن الكريم على هذا الاحتفاء العظيم بين المسلمين جيل بعد جيل ترى له في كلّ آن ألوفا مؤلّفة من المصاحف وألوفا مؤلّفة من المصاحف وألوفا من الحفّاظ ولا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض والمسلمون يقرأ بعضهم على بعض ويسمع بعضهم من بعض تكون ألوف المصاحف رقيبة على الحفّاظ والوف الحفّاظ رقباء على المصاحف وتكون الالوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدّد منهما لقول الالوف ولكنّها مئات الالوف والوف الالوف فلم يتّفق لأمر تاريخي من التّواتر مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد الله جلّ جلاله بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

وقد بلغ حرص المسلمين على توفّى الدقّة في ضبط القرآن إلى أنّهم إذا عثروا في المصاحف القديمة للمصدر الأوّل على كلمة مكتوبة على خلاف القواعد المعروفة للإملاء يبقونها ولا يتجرءون على تغييرها ومواردها متعدّدة ليس هنا محلّ تفصيلها.

وثانيا : بأنّ الأخبار التي يستشمّ منها وقوع التحريف لا اعتبار بها بعد إعراض الأصحاب عنها هذا مضافا إلى ضعفها سندا ودلالة وتناقض مضمونها مع رجوع قسم وافر منها إلى وصفهم علماء الرجال بضعف الحديث وفساد المذهب والكذب.

٨٩

أضف إلى ذلك أنّ مضامين كثير منها ليست هي التحريف بل هي تفسير للآيات أو تأويل لها أو أظهر الأفراد وأكملها أو ما كان مرادا بخصوصه وبالنصّ عليه في ضمن العموم عند التّنزيل أو ما كان هو المورد للنزول أو ما كان هو المراد من اللّفظ المبهم وعلى أحد الوجوه الثّلاثة الأخيرة يحمل ما ورد بعنوان التنزيل أو نزل به جبرئيل.

كما أنّه ربّما يكون المراد من التحريف هو التحريف المعنوي وعليه يحمل ما ورد في المراد من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده.

قال السيّد المحقّق البروجردي قدس‌سره : وأنّ الأخبار الواردة في التحريف فهي وإن كانت كثيرة من قبل الفريقين ولكنّه يظهر للمتتبع أنّ أكثرها بحيث يقرب ثلثيها مروية عن كتاب أحمد بن محمّد السّياري من كتاب آل طاهر وضعف مذهبه وفساد عقيدته معلوم عند من كان مطّلعا على أحوال الرجال.

وكثير منها يقرب الرّبع مروي عن تفسير فرات بن إبراهيم وهو أيضا مثل السّياري في فساد العقيدة.

هذا مع أنّ أكثرها محذوف الواسطة أو مبهما وكثير منها معلوم الكذب مثل ما ورد من كون اسم على عليه‌السلام مصرّحا به في آية التبليغ وغيرها إذ لو كان مصرّحا به لكان يحتجّ به على عليه‌السلام في احتجاجاته مع غيره في باب الإمامة إلى أن قال وبالجملة فوقوع التحريف ممّا لا يمكن الالتزام به.

وثالثا : بأنّ الآيات والرّوايات الدالة على مصونية القرآن عن التحريف والتغيير والتبديل وعروض الباطل تعارض الأخبار الدالّة على التحريف :

منها قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) بتقريب أنّ الآية الكريمة تدلّ مع التأكيدات المتعدّدة على أنّ الأيادي الجائرة لن تتمكّن من تحريف الذكر وهو القرآن كما يدلّ عليه الآية السّابقة : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ومن المعلوم أنّ المراد من الذكر في الآية السابقة هو القرآن وبهذه القرينة يكون المراد من الذّكر في آية الحفظ أيضا هو القرآن كما لا يخفى.

٩٠

وعليه فكلّ خبر يدلّ على التحريف مخالف لهذه الآية ومردود بها.

ومنها قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

بتقريب : أنّ الآية الكريمة تنفي طبيعة عروض الباطل بالنّسبة إلى القرآن ومن المعلوم أنّ التحريف من أوضح أفراد الباطل.

ومنها أخبار الثّقلين الدالّة على أنّهما باقيان بين الأمّة غير مفترقان وأنّ التمسّك بهما يوجب الهداية ونفي الضّلالة ومقتضى عموميّة ذلك لجميع الأزمان والأعصار هو لزوم صيانتهما عن التحريف وعروض الخطأ والاشتباه إذ مع عروض الخطأ والتحريف لا يبقى الكتاب متروكا بينهم هذا مضافا إلى عدم صلاحيّته حينئذ لتضمين الهداية ونفي الضلالة.

ودعوى كفاية وجود القرآن واقعا عند المعصوم مندفعة ، بأنّه لا يكون حينئذ متروكا بين الأمّة والمفروض أنّ مفاد حديث الثّقلين هو بقاء القرآن في مجتمع المسلمين هذا مضافا إلى التمسّك بالقرآن المأمور به لا يمكن إلّا بوصول القرآن إليهم.

ثمّ إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي لا يساعد مع تضييع بعض القرآن في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ المتروك حينئذ هو بعض الكتاب لا جميعه مع أنّ الظّاهر من حديث الثّقلين هو ترك الكتاب بجميعه بين الأمة في زمان حياته ومماته بل هذا الخبر المتواتر يدل بالصراحة على أنّ تدوين القرآن وجمعه كان في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرّقات إلّا على نحو المجاز بالأول والمشارفة ولا يحمل اللفظ على المجاز دون قرينة وعليه فحديث الثّقلين يدلّ على كون تدوين القرآن وجمعه في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتركه بين الأمة للتالي لأن يتمسّك النّاس به.

وممّا ذكر يظهر أنّ إسناد جمع القرآن إلى بعض الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنة والاعتبار وأمّا ما قالوا من أنّ القرآن جمع في عصر عثمان فليس المقصود منه هو جمع القرآن في عصر عثمان في مصحف بل المقصود هو جمع المسلمين على قراءة واحدة وقد صرّح به كثير من أعلام أهل السّنة.

٩١

وهذا ينقدح ممّا ذكر أنّ المراد وممّا ورد من أنّ عليا عليه‌السلام كان له مصحف مشتمل على التأويل والتنزيل ليس هو اشتمال مصحفه لآيات زائدة بل المراد أنّ مصحفه مشتمل على زيادات تفسيرية وتأويلية ولا دلالة في شيء من هذه الرّوايات على أنّ تلك الزيادات من القرآن كما لا يخفى ورابعا بأنّ التحريف على فرض التسليم لا يمنع من التمسّك بظواهر الكتاب لعدم العلم الإجمالي باختلال الظّواهر بذلك مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشّبهة الغير المحصورة وحينئذ يكون المعلوم بالاجمال بنفسه غير حجّة لخروجه عن محل الابتلاء فلا مجال لرفع اليد عن ظواهر الكتاب بما ليس بمعلوم الحجيّة فيعامل مع هذا العلم الإجمالي معاملة الشكّ البدوي وعليه فالعلم الاجمالي في الظّواهر التي تكون مورد الابتلاء والاحتمال هنا يبنى على العدم إلّا أنّ ذلك محرز في القيد المنفصل وأمّا فيما إذا كان المعلوم بالإجمال هو القيد المتّصل فإحراز البناء فيه غير ثابت وسيأتي تفصيل ذلك في التّنبيه التّالي إن شاء الله تعالى.

نعم يمكن أن يقال بقيام الدّليل التعبّدي على الحجيّة وهي الرّوايات الدالّة على وجوب عرض الأخبار على كتاب الله أو على ردّ الشروط المخالفة للكتاب والسّنة فيعلم من هذه الرّوايات حجيّة الكتاب حتّى على تقدير التحريف تعبّدا فلا تغفل.

وقد وقع التمسّك بظواهر الكتاب من أهل بيت العصمة عليهم‌السلام في مقامات كثيرة وأرجعوا عليهم‌السلام الأصحاب إلى ظواهر القرآن وعلّموهم طريق الاستدلال بالآيات وهذا دليل على حجيّة ظواهر الكتاب كما لا يخفى.

قال سيّدنا الاستاذ المحقق الداماد وبالجملة قد وقع التعبّد بظاهر الكتاب وهذا يكفي في جواز الأخذ ولو احتمل وقوع التحريف واقعا نظير التعبّد بسائر الحجج الشّرعية في الظّاهر مع احتمال كون الواقع على خلافها ولعلّ المصلحة فيه غلبة مصادفة هذه الظّواهر مع الواقع فتأمّل جيّدا.

التّنبيه الرّابع :

أنّ مع العلم بالظّهورات وإرادتها فلا إشكال في حجيّتها من دون فرق بين مواردها.

٩٢

وأمّا إذا لم يحصل العلم بالظّهورات وإرادتها فإن كان ذلك لأجل احتمال وجود القرينة متّصلا بها بحيث لو كان الكلام مقترنا مع القرينة المحتملة فلا يحصل له الظّهور فيرجع فيه إلى أصالة عدم وجود القرينة ومع جريان أصالة عدم وجود القرينة ومع جريان أصالة عدم وجود الاقتران المذكور يحصل الظهور ويؤخذ به.

ودعوى أنّ المرجّح في مثله هو أصالة الظهور لا أصالة عدم وجود القرينة قائلا بأنّ العقلاء لا يعتنون باحتمال وجود القرينة ويأخذون بأصالة الظّهور مندفعة ، بأنّ تحقّق الظّهور منوط بجريان أصالة عدم وجود القرينة على الفرض وإلّا فلا ظهور حتّى يجري فيه أصالة الظّهور.

وممّا ذكر ينقدح ما في الكفاية من أنّ الظّاهر أنّه معه يبني على المعنى الذي لولاها كان اللّفظ ظاهرا فيه ابتداء لا أنّه يبني عليه بعد البناء على عدمها.

وذلك لأنّ مع عدم جريان أصالة عدم وجود القرينة لا ينعقد الظّهور حتّى يؤخذ به بمقتضى اصالة الظّهور كما لا مجال للأخذ بهذه الأصالة مع احتمال غفلة المتكلّم عن مراده بل اللازم هو الرجوع إلى أصالة عدم الغفلة قبل الأخذ بأصالة الظّهور هذا كله فيما إذا كان علّة عدم العلم بالظّهورات احتمال وجود القرينة متصلا بالكلام.

وإن كان عدم العلم بالظّهورات وإرادتها من جهة احتمال وجود القرينة منفصلا عن الكلام فالحقّ هو أن يقال بانعقاد الظهور إذ المانع المنفصل لا يمنع عن تحقق الظّهور بل لا يمنع عن كشفه عن المراد بعد كون المانع هو الوجود الواصل منه لا الوجود الواقعي منه والمفروض أنّه لم يصل ففي هذه الصورة يتحقق الظّهور ويؤخذ بأصالة الظّهور ولا حاجة إلى أصالة عدم وجود المانع لعدم دخالته بوجوده الواقعي منه والمفروض أنّه لم يصل ففي هذه الصورة يتحقق الظّهور ويؤخذ بأصالة الظّهور ولا حاجة إلى أصالة عدم وجود المانع لعدم دخالته بوجوده الواقعي ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشكّ في وجود القرينة المنفصلة أو الشكّ في قرينيّة المنفصل إذ في كلتا الصّورتين ينعقد الظّهور ولا حاجة إلى أصالة عدم وجود المانع لما ذكر.

٩٣

وإن كان عدم العلم بالظّهورات من جهة احتمال قرينيّة الموجود في الكلام فلا أصل حتّى يؤخذ به إذ مع احتمال قرينيّة الموجود في الكلام لا ينعقد الظّهور فلا ظهور حتّى يؤخذ بأصالة الظّهور كما لا مجال للأخذ بأصالة عدم قرينيّة الموجود لعدم الحالة السابقة له حتّى يرجع إليها لتحقق الظّهور كالصورة الاولى فحينئذ يعامل مع هذا اللفظ عند العقلاء معاملة المجمل.

وإن كان عدم العمل بالظهور ناشئا عن الشكّ في الموضوع له لغة أو الشكّ في المفهوم من اللفظ عرفا فلا دليل على تعيين شيء بمجرّد الظنّ والأصل عدم حجيّة الظنّ خرج منه الظّنون المتيقّنة استفادتها من الالفاظ وأمّا الظّنون غير المتيقّنة استفادتها فلا دليل على اعتبارها ولذا قال الشيخ الأعظم قدس‌سره والأوفق بالقواعد عدم حجيّة الظنّ هنا لأنّ الثابت المتيقّن هي حجيّة الظّواهر وأما حجيّة الظنّ في أنّ هذا ظاهر فلا دليل عليه ففي الصورة الأولى يؤخذ بأصالة عدم وجود القرينة المتّصلة ومع جريانها يتحقّق الظّهور ويؤخذ به وفي الصورة الثانية يؤخذ بأصالة الظّهور ولا حاجة إلى عدم وجود القرينة المنفصلة لأنّ عدم وصولها يكفي في عدم المانعية من غير توقّف على جريان أصالة عدمها.

وفي الصّورة الثّالثة لا أصل حتّى يدفع به احتمال قرينيّة الموجود في الكلام ومع عدم هذا الأصل لا ينعقد ظهور في الكلام فحينئذ يعامل مع الكلام المذكور معاملة المجمل.

وفي الصّورة الرّابعة فلا حجيّة للظهور لعدم العلم به والظنّ بالظهور لا حجيّة له والتمسّك بأدلّة اعتبار الظّهور فيه مع عدم العلم بالظهور تمسّك بالعامّ في الشّبهات الموضوعيّة وهو كما ترى.

فالظهور في الأولى والثّانية متحقّقة وحجّة يؤخذ به بخلاف الثّالثة والرّابعة فإنّ الظهور ليس فيهما متحقّقه حتى يؤخذ به.

٩٤

حجيّة قول اللغويين

نسب إلى المشهور حجيّة قول اللغوييّن بالخصوص في تعيين الأوضاع وتشخيص الحقائق عن المجازات وتعيين الظهورات مع أنّ آرائهم تفيد الظنّ بالأوضاع أو الظهورات واستدل له باتفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ولم ينكر ذلك أحد على أحد.

وأورد عليه بأنّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك لا مطلقا.

ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها. (١)

ويمكن أن يقال : الانصاف أنّ رجوع العقلاء إليهم من دون اعتبار التعدد والإخبار عن حسّ يدل على أنّ الرجوع إليهم من باب أنّهم مهرة الفنّ والخبرة لا من باب الشهادة ودعوى اعتبار العدالة في بعض موارد الرجوع إلى الخبرة كمسألة التقويم أو مسألة التقليد لا تدلّ على أنّ الرجوع إليهم من باب الشهادة بل هو شرط شرعى في بعض الموارد ويقتصر بمورده.

هذا مضافا إلى ما في الوقاية من أنّ اعتبار التعدد والعدالة في مسألة التقويم فلعلّه من جهة كون اعتمادهم فيها من باب الشهادة وهي أمر ربّما يتصرف فيها الشارع بتصرفات مختلفة ولا ارتباط بالمقام فإنّه لم يتصرف فيه الشارع إلّا بالإمضاء. (٢)

وعليه فلا يعتبر في الرجوع إلى أهل اللغة في موارد الاستعمال التعدد أو العدالة ، بل لو ثبت أنّ اللغويّين خبرة تشخيص موارد الحقيقة عن المجاز أو موارد الظهورات فلا إشكال أيضا في الرجوع إليهم لحجيّة قول أهل الخبرة في جميع العلوم والصنائع وغيرهما لأنّه أمر جرى عليه العقلاء كافة في جميع البلدان والأزمان كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الاصول : / ٤٦ ، كفاية الاصول : ٢ / ٧.

(٢) الوقاية : ٥١٠.

٩٥

ودعوى أنّ موارد التمسّك ببناء العقلاء إنّما هو فيما إذا أحرز كون بناء العقلاء بمرأى ومسمع من المعصومين عليهم‌السلام ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن الأئمة عليهم‌السلام بحيث كان الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطبيب. (١)

مندفعة أوّلا : بمنع لزوم إحراز كون جميع الموارد والمصاديق من البناء بمرأى ومسمع من المعصومين عليهم‌السلام بعد إحراز البناء الكلي من العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم في الامور من دون فرق بينها فإنّ عدم الردع عن هذا الكلي المستفاد من بنائهم في الموارد المختلفة يكفي في جواز رجوع الجاهل إلى العالم مطلقا وإلّا فلا يجوز الاعتماد إلى الخبراء في كثير من الصنائع الحديثة وهو كما ترى. ودعوى أنّ القدر المتيقّن صورة حصول الوثوق الشخصي أو كون الامور من الامور الحسّية كما في تحريرات في الاصول (٢) ممنوعة اذ البناء ثابت على رجوع الجاهل إلى العالم ولو لم يوجب قوله وثوقا شخصيا أو لم يكن رأيه مبنيا على الامور الحسّيّة.

وثانيا : بمنع عدم ثبوت رجوع الناس إلى مهرة اللغة في صدر الإسلام بل قبله مع شيوع الاستعمالات اللغويّة وتبادل الأدبيات بين الجوامع ووجود الحاجة في فهم اللغات والتراكيب المختلفة وإن لم تكن كتب اللغة مدوّنة إلّا في زمن الإمام الصادق عليه‌السلام ككتاب خليل بن احمد الفراهي الذى عدّه الشيخ من اصحاب الامام الصادق عليه‌السلام والإمام الجواد عليه‌السلام وكتاب جمهرة الذي ألفه ابن دريد وهو كان من أصحاب الإمام الجواد عليه‌السلام هذا.

وثالثا : بأن الرجوع إلى الكتب المؤلفة في اللغة في زمان بعض الأئمة عليهم‌السلام يكفي في إحراز رجوع الناس إلى صناعة اللغة.

فتحصل أنّ الرجوع إلى اللغوييّن من باب الرجوع إلى الخبراء وعليه فيمكن الاعتماد على قولهم في تعيين موارد الاستعمال بل لا يبعد القول بجواز الاعتماد عليهم في بيان المعاني

__________________

(١) تهذيب الاصول : ٢ / ٩٧.

(٢) تحريرات في الاصول : ٦ / ٣٤٧.

٩٦

الظاهرة بل ذهب بعض الأعلام إلى أنّهم مهرة لتشخيص الحقائق عن المجازات ايضا.

قال في الوقاية : لا طريق اطلاع اللغويين على المعنى الموضوع له واضح لا أرى سببا لخفائه على هؤلاء الأعلام إلّا شدة وضوحه لأنّه بعينه الطريق الذى تعلّموا وتعلّم جميع الناس من أهل جميع اللغات معاني الألفاظ الأصلية في زمن الطفولية.

إذ الطفل لا يزال يسمع الألفاظ مستعملة في معاني يعرفها بالقرائن وربما احتمل المجاز في استعمالين أو ثلاثة فيحتاج إلى ما رسمه الأستاذ من أعمال العلائم ولكن بتكرر الاستعمال يزول ذلك الاحتمال ويقطع بالوضع كما يحتمل الخطأ والغلط في استعمال واستعمالين ثم يزول ذلك بالتكرار فيكون في غنى عن العلائم إلى أن قال وما حال أئمة اللغة مع فصحاء العرب إلّا كهذا الحال فهم (لله درّهم) ... عاشروا زمنا طويلا وتكرر على مسامعهم الألفاظ حتى حصل لهم القطع بمعانيها وأصبحوا في غنى كلّفهم هذا الأستاذ من أعمال العلائم استغناء الأطفال بتكرر سماعهم الألفاظ من آبائهم إلى أن قال وما ذكرناه من حال عالم اللغة كالتجربة بل هو ضرب منها وعلى التجربة يدور رحى كثير من الحرف والعلوم.

وأمّا علامة الفرق بين المعاني الحقيقيّة وبين المجازية فإنّ عالم الفن في غنى عنه بماله من التدرب في الصناعة والخبرة بمجاري الكلام فكثيرا ما ينظر إلى كلمة في كتب أئمة اللغة كتهذيب الأزهري وغيره ويظهر له أصلها وتحوّلها عن معنى إلى كلمة في كتب أئمة اللغة كتهذيب الأزهري وغيره ويظهر له أصلها وتحوّلها عن معنى إلى معنى آخر وتطوّراتها الطارئة عليها مدى الأجيال الى ان قال وأمّا غيره فيكفيه التصريح في مثل أساس اللغة فإنّ دأبه أن يقول بعد الفراغ عن ذكر المعاني الحقيقيّة إنّ من المجاز كذا أو التلويح بعبارات يعرف منها ذلك ، راجع مفردات القرآن وغيره ...

ثم على تسليم الأمرين معا فإنّ معرفة الظواهر لا تتوقف على معرفة الحقائق من المجازات إذ من الواضح لدى أهل الفن أنّ همّ الأئمة المصنّفين في علم اللغة بيان الظاهر من كل كلمة في التراكيب المختلفة وضبط المعاني الظاهرة منها باختلاف النسب والحروف و

٩٧

غيرهما فتراهم يذكرون شام البرق وشام السيف ورفّ الطائر ورفّ الظليم ورفّ لونه ورفّ زيدا أو رفّ هندا ويفسرون ذلك بقولهم أبصره وأغمده وبسط جناحه وأسرع في عدوه وبرق وجهه وأكرمه وقبّلها ومثل ذلك الفرق بين عقلته وعقلت عنه وشكرته وشكرت له وبين المسهب في الكلام بفتح الهاء وكسرها فلكل كلمة وقعت في كلام ظهور غير ظهوره في غيره ومعرفة ذلك هي التي يحتاجها أهل العلم.

ومن العبث تطلب المعنى الأوّلي الّذي وضع له اللفظ ومن فضول البحث الاهتمام في معرفة ما بين هذه الألفاظ من نسبة المجاز أو الاشتراك إلى أن قال إنّ الظهور الذى عرفت حجّيته هو الّذي يفهمه أهل تلك اللغة من اللفظ أو من زاولها خبرا حتى عاد كأحدهم بل كاد أن يعدّ منهم فلا بدّ لمن يروم استنباط الأحكام من الكتاب والسنة من ممارسة هذه اللغة الشريفة ومعرفة عوائد أهلها ودرس أخلاقها وطبائعها والاطلاع على أيامها ومذاهبها في جاهليتها وإسلامها. (١)

والتحقيق أنّ همّ أكثر اللغويّين بيان الظواهر من كل كلمة في التراكيب المختلفة مثل كلمة رغب فيه ورغب عنه وقلّ من كان بصدد بيان الحقيقة والمجاز والّذي يحتاج إليه الفقيه والمفسر والمحدث ونحوهم في غالب الأوقات هو تعيين الظهورات لا تعيين الحقائق عن المجازات واللغوى يكون خبيرا بذلك لكثرة مزاولته للاستعمالات من أهل اللسان فإذا أخبر أنّ معنى رغب عنه مثلا هو الإعراض عنه ومعنى رغب فيه هو التمايل فيه جاز الاعتماد عليه لأنّه خبر الخبرة ...

وهذا الاعتماد اعتماد على الخبرة كسائر موارد الاعتماد على الخبراء ولا حاجة إلى التعدد ولا إلى العدالة بل اللازم فيه هو الوثوق والاعتماد النوعى وعليه فيثبت بقول اللغوي ظهور اللفظ ويترتب عليه الحجيّة بعد ثبوت الظهور.

فإسقاط قول اللغوى عن الحجيّة فيما إذا أفاد المعانى الظاهرة من دون حاجة إلى قرينة

__________________

(١) الوقاية : ٥١٥ ـ ٥١٢.

٩٨

خاصّة لا يساعده التحقيق. ولعلّ الوجه في إنكار حجيّة قول اللغوي مطلقا هو ملاحظه المفردات وأنّ معانيها مختلفة وحيث إنّ اللغوي لم يعيّن الحقيقة عن المجاز لا يحصل العلم بظهور اللفظ في أيّ معنى من معانيه ولكن مقتضى الإمعان أنّ اللغوي ذكر في أكثر الموارد القرائن العامّة للمعاني مثل كلمة عنه وفيه بعد كلمة رغب ومع ملاحظة القرائن العامّة صار اللفظ المفرد في التركيب ظاهر المعنى ولا حاجة إلى معرفة الحقيقة والمجاز وأنّ ايّهما سابق أو لاحق بل اللازم هو إحراز الظهور للكلمة عند الصدور وهو حاصل بإخبار اللغوى الماهر.

ولذا ذكر أهل اللغة تفاوت المعاني باختلاف أبواب الأفعال واللزوم والتعدي والمجرد والمزيد فيه مثلا قالوا في كلمة «عرف» بضم الراء أي أكثر الطيب و«عرف» بكسر الراء أي ترك الطيب و«عرفه» بفتح الراء والتعدّي أي علمه بحاسّة من الحواس الخمس فهو عارف و«عرّفه الأمر» بفتح الراء وتشديده أي أعلمه إيّاه و«أعرف فلان فلانا» من باب الافعال أي وقّفه على ذنبه ثم عفا عنه وغير ذلك من الموارد ومن المعلوم أنّ المعاني في هذه الموارد ونظائرها ظاهرة ولا إجمال فيها. نعم إنّا لا ننكر الإجمال في بعض الموارد ولكن ذلك لا يوجب إسقاط قول اللغوي عن الحجيّة في الموارد الظاهرة والعجب أنّ المنكرين أخذوا بأقوال اللغويين في المعاني الظاهرة بارتكازهم ومع ذلك أنكروا حجيّة قول اللغوى ودعوى حصول القطع بكون اللفظ ظاهرا في المعنى عند المراجعة وعليه فهم اعتمدوا على قطعهم لا على قول اللغويين كما ترى ويخالفه الوجدان.

فتحصّل أنّ ما ذهب إليه صاحب الوقاية من حجّية قول اللغوى في تعيين المعاني الظاهرة مما لا مجال لإنكاره وإن كان ذهابه إلى أنّ اللغوى خبرة لتشخيص موارد الحقيقة عن المجاز محل تأمل لعدم وضوح ذلك في اكثر كتب اللغة. نعم من اطمأن بذلك بالنسبة إلى كتاب لغة من اللغات فلا مانع من الاعتماد عليه أيضا من باب أنّه خبرة ذلك فلا تغفل.

قال سيدنا الأستاذ المحقق الداماد في محكي كلامه أقول التحقيق الذى يساعده النظر الدقيق حجيّة قول اللغوى وبيانه يستدعى رسم مقدمتين الأولى استقرار بناء العقلاء على

٩٩

الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة مطلقا ولو لم يحصل من قوله الاطمئنان بإصابة رأيه للواقع نعم لا بدّ من حصول الاطمئنان بأنّ ما يخبر به مطابق لرأيه والدليل على ذلك ما يرى من استشهادهم في مقام الاحتجاج والمخاصمة واللجاج بقوله إلى أن قال الثانية إنّ اللغوى خبير بالاوضاع وليس خبرويته مخصوصة بمجرد موارد الاستعمالات وذلك لأنّه إذا راجع كلمات العرف وأهل المحاورة ربّما يحصل له العلم.

بأنّ اللفظ الكذائى يتبادر منه عند أهل العرف المعنى الكذائى بلا قرينة وإلى أن قال فإذا قال إنّ اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني أو أخبر بهذا التبادر فقال المتبادر عند أهل اللسان من هذا اللفظ هذا المعنى كان ذلك بمنزلة ما لو علمت بنفسك لتبادر وبالجملة اللغوي المتتبع في موارد الاستعمالات كثيرا ما يحصل له العلم بأنّ هذا اللفظ يتبادر منه هذا المعنى بلا قرينة وبذلك يستكشف وضعه له وكونه حقيقة فيه ويصير خبيرا بذلك إذا جدّ جهده وبالغ سعيه واستفرغ وسعه فكيف القول بأنّه ليس خبيرا بالأوضاع وإذا ثبت كونه خبيرا كان قوله حجة من باب حجيّة قول أهل الخبرة إلى أن قال ويمكن إثبات حجية قوله بطريق آخر إلى أن قال أى الاخذ بإخباره بإدخال قوله في خبر الواحد الموثوق به بضميمة أصالة عدم الغفلة (١)

وربّما يشكل الرجوع إلى أهل اللغة من باب الخبروية من جهة أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما هو في الامور الحدسية التي تحتاج إلى إعمال النظر والرأي لا في الامور الحسّية التي لا دخل للنظر والرأي فيها وتعيين معاني الألفاظ من قبيل الامور الحسيّة لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده في الاستعمالات والمحاورات وليس له إعمال النظر والرأي فيها فيكون إخبار اللغوي عن معاني الألفاظ داخلا في الشهادة المعتبرة فيها العدالة بل التعدد في مورد القضاء وأمّا في غيره ففي اعتباره خلاف مذكور في محله. (٢)

__________________

(١) المحاضرات ٢ / ١٠٧ ـ ١٠٩.

(٢) مصباح الاصول : ٢ / ١٣١.

١٠٠