عمدة الأصول - ج ٤

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

١
٢

٣
٤

المقصد الرابع

في العامّ والخاصّ

٥
٦

يقع الكلام في فصول :

الفصل الأوّل في تعريف العامّ وهنا أمور :

الأمر الأوّل : أنّ العامّ عرّفه الأعلام بتعاريف مختلفة والظاهر أنّهم في مقام شرح لفظ العامّ لا الماهيّة والحقيقة ولكن مع ذلك كان اللازم عليهم أن يشرحوا شرحا تامّا ليكون موضوع الأحكام الآتية مبيّنا إذ الشرح الناقص أو الإجماليّ لا يكفي في مقام تبيين الموضوع ولذا أورد عليهم بأنّ التعاريف المذكورة لا تكون جامعة ولا مانعة وهو في محلّه.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث أورد على الموردين بأنّ النقض والإبرام لا يليق بالمقام فإنّ التعاريف تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤال عنه بالماء الشارحة لا واقعة في جواب السؤال عنه بالماء الحقيقيّة (١).

وذلك لما عرفت من أنّ إيرادهم في محلّه لأنّهم في مقام الشرح الكامل لا الناقص فاللازم عليهم هو أن يكون التعريف جامعا ومانعا ولقد أفاد وأجاد المحقّق الإيرواني حيث قال : إنّ الشارح للّفظ إن كان في مقام شرح تمام ما هو مدلول اللفظ من غير زيادة ونقيصة لم يكن له محيص من أن يأتي في مقام الشرح بلفظ يرادف لفظ المشروح تامّ المرادفة فلو شرح بغير ذلك اشكل عليه البتة وهذا هو مقصود

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٣٣١.

٧

الشارحين للألفاظ الواقعة في عناوين الأبحاث فإنّهم في مقام ضبط المدلول بحيث لا يفوتهم شيء فالإشكال عليهم بعدم الاطّراد والانعكاس في محلّه (١).

وكيف كان فقد عرّفه شيخنا الأستاذ الأراكي قدس‌سره بأنّ العامّ هو ما يكون مسوّرا بسور محيط بأفراد حقيقة واحدة كما في كلّ عالم والعلماء وجميع العلماء فخرج مثل لفظ كلّ والجميع فإنّها أداة العموم وليس بعامّ وكذلك لفظ عالم وعلماء وأمثالهما فإنّها مطلق لا عام وإنما يصير عاما إذا كانت مصدّرة ومسوّرة بإحدى أدوات العموم (٢).

وعليه فالعامّ هو مدخول أداة العموم وهو يشمل جميع أفراده ويكون محيط عليها والعامّ المسوّر هو اللفظ بلحاظ معناه لا المفهوم.

والتعريف المذكور أحسن ممّا في الكفاية حيث قال في تعريفه في ضمن كلامه بأنّه شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه (٣).

إذ يرد عليه كما في نهاية الاصول أنّ العموم والخصوص ليسا من صفات المفهوم والمعنى بل من صفات اللفظ ولكن باعتبار المعنى ولحاظه (٤).

وذلك واضح لأنّ كلّ عالم أو العلماء أو جميع العلماء من باب الألفاظ ومدخول كلّ واللام والجميع يدلّ على العموم بضميمة أداة العموم.

وبالجملة كما أفاد الشهيد الصدر قدس‌سره ودلالة الكلام على الاستيعاب تفترض عادة دالّين أحدهما يدلّ على نفس الاستيعاب ويسمّى بأداة العموم والآخر يدلّ على المفهوم المستوعب لأفراده ويسمّى بمدخول الأداة.

ففي قولنا أكرم كلّ فقير الدالّ على الاستيعاب كلمة كلّ والدالّ على المفهوم

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ٢٧٤.

(٢) أصول الفقه : ١ / ٢٧٥.

(٣) الكفاية : ١ / ٣٣٢.

(٤) نهاية الاصول : ١ / ٣١٨.

٨

المستوعب لأفراده كلمة فقير (١).

وممّا ذكرنا يظهر ما في مناهج الوصول حيث ذهب إلى أنّ العامّ هو نفس الأداة لا مدخولها قال في تعريف العامّ هو ما دلّ على تمام مصاديق مدخوله ممّا يصحّ أن ينطبق عليه وأورد على صاحب الكفاية بأنّ تعريفه العامّ بشمول مفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه لا يخلو من مسامحة ضرورة أنّ الكلّ لا يدلّ على شمول الانسان لجميع أفراده (٢).

مع أنّ أداة العموم لا تفيد إلّا الاستيعاب ولا حكاية لها عن المصاديق وإنّما الحكاية لمدخولها.

والظاهر من مناهج الوصول أنّ السبب في تعريفه العامّ بذلك هو ما ذهب إليه في مواضع متعدّدة من إنكار حكاية الطبيعة عن المصاديق بدعوى أنّ نفس الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة وكاشفة عن الأفراد ضرورة أنّها تخالف الوجود والتشخّص وسائر عوارضها خارجا أو ذهنا ولا يمكن كاشفيّة الشيء عمّا يخالفه فالماهيّة لا تكون مرآة للوجود الخارجي والعوارض الحافّة به.

فالعموم والشمول إنّما يستفاد من دوالّ أخر مثل الكلّ والجميع والجمع المحلّى ممّا وضعت للكثرات فاذا اضيفت هذه المذكورات إلى الطبائع تستفاد كثرتها بتعدّد الدالّ والمدلول فقوله كلّ إنسان حيوان يدلّ على أنّ كلّ مصداق من الانسان حيوان لكنّ الإنسان لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعة من غير أن يكون لفظه حاكيا عن الأفراد أو الطبيعة المحكيّة به مرآة لها وكلمة كلّ تدلّ على الكثرة وإضافتها إلى الإنسان تدلّ على أنّ الكثرة كثرة الإنسان وهي الأفراد بالحمل الشائع فما اشتهر في الألسن من أنّ

__________________

(١) الحلقة الثالثة : ١ / ١٥١.

(٢) مناهج الوصول : ٢ / ٢٣٠.

٩

الطبيعة في العامّ تكون حاكية عن الأفراد ليس على ما ينبغي لأنّ العموم مستفاد من كلمة كلّ وجميع وغيرهما فهي ألفاظ العموم وبإضافتها إلى مدخولاتها يستفاد عموم أفرادها بالكيفيّة التي ذكرناها (١).

ولا يخفى عليك أنّ الطبيعة حاكية عن حصصها فيما إذا لم يكن النظر إليها من حيث هي هي أو من حيث كلّيّتها كقولنا النار محرقة فالنار في هذه الجملة حاكية عن مصاديقها وبهذه الملاحظة يصحّ إسناد الإحراق إليها وإلّا فنفس الطبيعة المتصوّرة في الذهن لا يحمل عليها الإحراق وتقدير المصاديق خلاف الظاهر والأصل.

بل الحكاية عن الحصص هي مقتضى كون الطبيعة صورة حاصلة ومنتزعة عن الجهة المشتركة بين المصاديق الخارجيّة كما أنّ الماهيّة الجزئيّة تحكي عن الخارج من جهة كونها صورة حاصلة وعلما والعلم نور ومنير لغيره فكذلك الطبيعة وأسماء الأجناس كما لا يخفى.

ودعوى أنّ الطبيعة تخالف الوجود والتشخّص وسائر عوارضها خارجا أو ذهنا مندفعة بأنّ المباحث العقليّة وإن تدلّ على أصالة الوجود وعدم أصالة للماهيّات ولكن موضوعات الأحكام الشرعيّة هي التي يراها العرف موجودة والعرف يرى الطبائع موجودة في الخارج نعم كلّ طبيعة حاكية عن حصصها لا عن عوارضها لعدم ارتباط بين الطبيعة وغير حصصها.

ولا مانع من ذلك لأنّ العموم والشمول حاصل بنفس حكاية الطبيعة عن حصصها.

وممّا ذكرناه يظهر ما في المحاضرات أيضا حيث قال إنّ العامّ معناه الشمول لغة وعرفا وأمّا اصطلاحا فالظاهر أنّه مستعمل في معناه اللغويّ والعرفيّ ومن هنا فسّروه

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

١٠

بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله (١).

وذلك لأنّ الشمول والاستيعاب مفاد أداة العموم والعامّ هو مدخول الأداة وهو المسوّر بسور ويكون محيطا على أفراده ولا دخالة للحكم في شمول العامّ وإحاطته بالنسبة إلى أفراده فلا وجه لقوله فسّروه بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله إذ مع قطع النظر عن الحكم يكون المسوّر شاملا لأفراده ومحيطا عليها.

ثمّ إنّ التعريف الذي أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره لا يخلو عن إشكال وهو أنّه ليس بجامع اذ لا يشمل العامّ الذي ليس بمسوّر كاسم الجمع مثل قوم وناس بناء على كونهما من ألفاظ العموم وعليه فاعتبار تعدّد الدالّ والمدلول يكون بحسب الغالب والعامّ في الحقيقة هو لفظ يحيط على أفراده سواء كانت إحاطته من جهة تعدّد الدالّ والمدلول أو من جهة وضع اللفظ للإحاطة فالاحاطة الفعليّة مقوّمة للعامّ الاصولي وبها يفترق العامّ الاصولي عن العامّ المنطقي فإنّه الكليّ الطبيعيّ الذي ينظر في نفسه ولا يمتنع صدقه على الكثيرين ومن المعلوم أنّ عدم الامتناع والصلاحيّة للصدق لا يجعله محيطا بالنسبة إلى أفراده بالفعل كما لا يخفى.

الأمر الثاني في أقسام العمومات

ينقسم العامّ إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي فإنّ اللفظ إن دلّ على تمام أفراد الطبيعة عرضا من دون اعتبار الاجتماع ووحدة تلك التطبيقات فهو عامّ استغراقي مثل قولهم كلّ عالم أو جميع الانسان فاذا وقع العامّ الاستغراقي تحت خطاب الأمر فلكلّ واحد من الأفراد امتثال خاصّ فإذا أتى ببعض امتثل بالنسبة إليه وعصى بالنسبة إلى الباقي.

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ١٥١.

١١

وإن دلّ اللفظ على تمام أفراد الطبيعة عرضا مع اعتبار وحدة الأفراد والاجتماع بحيث صارت الأفراد بمنزلة الأجزاء كان العامّ مجموعيّا والظاهر أنّ لفظ المجموع في مثل مجموع الانسان يدلّ على تمام الأفراد مع اعتبار الوحدة والاجتماع وعليه فيكون المجموع موضوعا واحدا للخطاب ولذلك لا يتحقّق الامتثال إلّا بإتيان الجميع فلو اقتصر على إتيان البعض لم يمتثل أصلا.

وإن دلّ على الأفراد لا في عرض واحد بل على البدل فالعامّ يكون عامّا بدليّا وعليه فإن وقع تحت خطاب الأمر يكون الموضوع للخطاب هو الفرد الواحد فقط ففي مثل أعتق أيّة رقبة شئت يحصل الامتثال بإتيان واحد من الرقبة من دون دخالة لخصوصيّة من الخصوصيّات.

فمعنى العموم في هذا القسم هو عموم البدليّة بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد الطبيعة.

الأمر الثالث في منشأ هذا التقسيم

ولا يخفى عليك أنّ دلالة أدوات العموم على الأقسام المذكورة تكون بالوضع من دون حاجة إلى تعلّق حكم أو ملاحظة المتكلّم والدليل لذلك هو تبادر الاستغراق من لفظة «كلّ» وتبادر المجموع بما هو مجموع من لفظ المجموع وتبادر الفرد الواحد من لفظة أيّ سواء كانت استفهاميّة أو موصولة من دون حاجة إلى تعلّق حكم أو ملاحظة المتكلّم.

قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره أمكن القول بأنّ لفظة كلّ وضعت للعامّ الاستغراقي ولفظة المجموع وضعت للعامّ المجموعي ولفظة أيّ وضعت للعامّ البدلي انتهى.

نعم لو دخلت لفظة كلّ على ما لا يمكن الاستيعاب للأفراد فيه كقولهم اقرأ كلّ

١٢

الكتاب لكونه كتابا مشخّصا دلّ على استيعاب الأجزاء لا الأفراد ولكنّه من جهة القرينة وهو كون المدخول معرّفا باللام وشخصيّا.

وقد انقدح ممّا ذكر من أنّ دلالة الأدوات المذكورة بالوضع أنّ هذا التقسيم مقتضى الوضع فلا تحتاج في الدلالة إلى القرينة أو إلى تعلّق الأحكام بالموضوعات ودعوى أنّ التقسيم لو كان بلحاظ اختلاف الموضوع له لكانت العمومات المشتركة معنى بين الشمولي والبدلي أو بين الاستغراقي والمجموعي خارجة عن الأقسام فإنّه لا ريب في صحّة استعمال الجمع المحلّى في الاستغراقي والمجموعي بلا اختلاف في مدلوله المستعمل فيه في المقامين كما أنّ لفظة أيّ قد تستعمل في العموم البدلي كأن يقال أكرم أيّ عالم شئت وقد تستعمل في العموم الشموليّ الاستغراقي كأن يقال أكرم أيّ عالم رأيت وواضح أنّ المستعمل فيه فيهما واحد وأنّه إذا اريد من العامّ الاستغراق أو المجموعيّة أو البدليّة فسواء كان مختصّا بما اريد منه أو مشتركا بينه وبين غيره فهو عندهم عامّ استغراقي أو مجموعيّ أو بدليّ طبقا لما اريد منه مع أنّه لو كان التقسيم بلحاظ الموضوع له لكان اللازم خروج المشترك من الأقسام كما لا يخفى على المتدبّر (١) ممنوعة من جهة أنّ استعمال لفظة في غير المعنى الموضوع له بقرينة وعناية لا يوجب الاشتراك بين المعنيين هذا مضافا إلى أنّ اللام موضوعة للجنس وتستعمل في الاستغراق والمجموع بالقرينة ولا تكون اللام مشتركة بينها وسيأتي بقيّة الكلام إن شاء الله تعالى وأيضا حكم العرف بعد ارادة الاستغراق أو المجموع أو البدل بالقرينة بالعامّ الاستغراقي أو المجموعي أو البدلي طبقا لما اريد منه لا ينافي وضع الألفاظ لمعانيها المختصّة بها كما لا يخفى.

وعليه فما في الكفاية من أنّ العموم بمعنى الشمول وليس هو في نفسه منقسما إلى

__________________

(١) تسديد الاصول : ١ / ٥٠٠.

١٣

الأقسام المذكورة بل ينقسم اليها باعتبار تعلّق الحكم بالعامّ واختلاف كيفيّة تعلّقه به لأنّ الحكم إن كان بنحو يكون كلّ فرد فرد موضوعا بنحو التكثّر فهو استغراقي وإن كان بنحو يكون المجموع موضوعا واحدا فهو مجموعي وإن كان بنحو يكتفى في امتثاله بأيّ فرد من الأفراد فهو بدليّ محلّ اشكال ونظر لما عرفت من أنّ الدلالات الوضعيّة لا تحتاج إلى القرينة ولا إلى تعلّق الأحكام فهذا الكلام بظاهره مخدوش وإن أراد به أنّ الفاظ العموم موضوعة لنفس العموم لا للأقسام وإنّما تدلّ على الأقسام المذكورة باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام بها.

ففيه أوّلا أنّه مخالف لما عرفت من تبادرها في الأقسام وثانيا أنّ الموضوع في الكلام ملحوظ قبل أن يلحقه الحكم إذ لا يتعلّق الحكم بشيء قبل أن يتشخّص موضوعه لأنّ الإهمال الثبوتي غير معقول وعليه فوحدة الحكم وتعدّده تكون منوطة بكيفيّة ملاحظة العامّ لا أنّ ملاحظة العامّ تكون منوطة بكيفيّة تعلّق الحكم به.

ومن المعلوم أنّ ملاحظة العامّ على الأنحاء المذكورة من دون نظر إلى الأحكام وكيفيّة تعلّقها به ممكنة بل يجب ذلك لأنّ رتبة الموضوع متقدّمة على رتبة الحكم فيجب ملاحظته بالخصوصيّات الدخيلة في الغرض من الاستغراق أو المجموعيّة أو البدليّة قبل تعلّق الحكم به.

وقد وجّه المحقّق الأصفهاني كلام صاحب الكفاية بأنّ مراده أنّ العامّ باعتبار موضوعيّته للحكم يلاحظ على نحوين لا أنّ النحوين يتحقّقان بتعلّق الحكم به لاستحالة اختلاف المتقدّم بالطبع من ناحية المتأخّر بالطبع.

بيانه أنّ مصاديق العامّ لها مفاهيم متقوّمة بالكثرة بالذات فلها وحدة مفهوميّة وكثرة ذاتيّة.

وهذا المعنى الكذائي محفوظ وإن ورد عليه اعتبارات مختلفة. فقد يرتّب الحكم عليه بلحاظ تلك الكثرة الذاتيّة كما في الكلّ الأفرادي فجهة الوحدة وإن كانت

١٤

محفوظة فهي ملغاة بحسب الاعتبار في مقام الموضوعيّة للحكم.

وقد يرتّب الحكم عليه بلحاظ تلك الوحدة كما في الكلّ المجموعي فالكثرة وإن كانت محفوظة كيف والمفهوم متقوّم بها لكنّها ملغاة في مرحلة موضوعيّة المعنى لحكم واحد حقيقي كيف ويستحيل تعلّق حكم وحداني بالحقيقة بموضوعات متعدّدة.

وفي الشقّ الأوّل وإن كان الانشاء واحدا إلّا أنّه حيث كان بداعي جعل الداعي بالإضافة إلى كلّ فرد من أفراد العامّ فهو مع وحدته مصداق للبعث الجدّيّ بالإضافة إلى كلّ فرد فرد.

وأمّا مع قطع النظر عن الموضوعيّة للحكم فلا معنى للأصالة والتبعيّة فإنّ نسبة الوحدة من جهة والكثرة من جهة إلى المعنى على حدّ سواء ليس إحداهما أصلا بالإضافة إلى الاخرى.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الاستيعاب والبدليّة فإنّ وحدة المفهوم والكثرة بالذات المقوّمتين للعامّ محفوظتان غاية الأمر أنّ الكثرة ملحوظة بنحو الشمول والاستيعاب بحيث يكون الكثير بتمامه إمّا موضوعا للحكم أو جزء موضوع الحكم أو بنحو يكون كلّ واحد من الكثرات على البدل موضوعا للحكم وإلّا فالعامّ المتقوّم بوحدة مفهوميّة وكثرة ذاتيّة أمر جامع بين أنحاء العموم (١).

يمكن أن يقال إنّ لحاظ معنى العامّ بوحدته وكثرته ممّا لا بدّ منه في جميع الأقسام ولا إلغاء بالنسبة اليهما عند جعل العامّ موضوعا للأحكام وإلّا لخرج العامّ عن كونه موضوعا.

فالموضوع في الاستغراق مثل قولهم أكرم كلّ انسان ملحوظ فيه الوحدة في الكثرة ولا تفكيك بينهما فالوحدة ملحوظة كما أنّ الكثرة ملحوظة وإلّا لزم أن يكون

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ١٨٣.

١٥

عنوان العامّ عنوانا مشيرا وأن يصير متعلّق الحكم هو نفس الأفراد وهو لا يساعد مع كون القضيّة قضيّة حقيقيّة لا خارجيّة ولا مع كون عنوان العامّ بما هو عامّ موضوعا للقضيّة.

وأيضا الموضوع في العامّ المجموعي مثل قولهم أكرم مجموع العلماء ملحوظ فيه الكثرة في الوحدة من دون تفكيك إذ لحاظ جهة الكثرة في جميع الأقسام ممّا لا بدّ منه ولا يلزم من ملاحظتهما تكثّر الحكم لأنّ الآحاد مفروضة كالأجزاء والحكم في الوحدة والتعدّد تابع للموضوع الملحوظ.

فلا حاجة إلى إلغاء جهة الكثرة فإنّها ليست بمنافية.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الاستيعاب والبدليّة فإنّ الوحدة ملحوظة في الكثرة على البدل ولا ينفكان عند جعل العامّ البدلي موضوعا للأحكام وعليه فهذا التوجيه ليس بمفيد.

وممّا ذكر يظهر ما في المحاضرات حيث قال تارة يلاحظ الطبيعة فانية في أفرادها على نحو الوحدة في الكثرة يعني يلاحظ الأفراد الكثيرة واقعا وحقيقة في ضمن مفهوم واحد وطبيعة فاردة ويجعل الحكم على الأفراد فيكون كلّ واحد منها موضوعا مستقلا.

واخرى يلاحظ فانية في الأفراد لا على نحو الوحدة في الكثرة بل على نحو الوحدة في الجمع يعني يلاحظ الأفراد المتكثّرة على نحو الجمع واقعا وحقيقة في إطار مفهوم واحد ويجعل الحكم عليها كذلك فيكون المجموع موضوعا واحدا على نحو يكون كلّ فرد جزء الموضوع لا تمامه.

وثالثة يلاحظ فانية في صرف وجودها في الخارج ويجعل الحكم عليه.

فعلى الأوّل العموم استغراقي فيكون كلّ فرد موضوعا للحكم وجهة الوحدة بين الأفراد ملغاة في مرتبة الموضوعيّة كيف حيث لا يعقل ثبوت أحكام متعدّدة

١٦

لموضوع واحد وعلى الثاني العموم مجموعيّ فالتكثّرات فيه وإن كانت محفوظة إلّا أنّها ملغاة في مرتبة الموضوعيّة وعلى الثالث العموم بدليّ فيكون الموضوع واحدا من الأفراد لا بعينه فجهة الكثرة وجهة الجمع كلتاهما ملغاة فيه في مرتبة الموضوعيّة يعني لم يؤخذ شيء منهما في الموضوع (١).

وذلك لأنّ أدوات العموم بعد كونها موضوعة لمعانيها تدلّ على فناءات مذكورة بنفسها ولا حاجة في دلالتها عليها إلى الملاحظات المذكورة كما لا حاجة في الدلالة المذكورة إلى تعلّق الأحكام بها وتلك العمومات بمالها من المعنى مأخوذة في الموضوعات من دون إلغاء شيء منها من الوحدة أو الكثرة ولا يلزم من ذلك عدم ثبوت حكم متعدّد في العامّ الاستغراقي فإنّ الوحدة الملحوظة فيه هي مرآة إلى أفراد كثيرة ومع المرآتية كيف لا يعقل ثبوت أحكام متعدّدة لموضوع واحد إذ الإنشاء وإن كان واحدا إلّا أنّه حيث كان بداعي جعل الداعي بالاضافة إلى كلّ فرد من أفراد العامّ فهو مع وحدته مصداق للبعث الجدّيّ بالاضافة إلى كلّ فرد فرد بعد كون وحدة العامّ وحدة مرآتيّة إلى الأفراد فلا تكون الوحدة في العامّ الاستغراقي ملغاة كما لا تكون الكثرة في العامّ المجموعي ملغاة وإلّا لم تكن عامّا مجموعيّا وهكذا لا تكون الوحدة والكثرة مورد الإلغاء في العامّ البدلي لأنّ كون الموضوع واحدا من الأفراد لا بعينه عين الوحدة والكثرة كما لا يخفى.

الأمر الرابع : في خروج أسماء الأعداد عن العمومات

قال صاحب الكفاية بعد تعريفه العموم بشمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه وقد انقدح أنّ مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس

__________________

(١) المحاضرات : ٥ / ١٥٢.

١٧

من العموم لعدم صلاحيّتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها فافهم (١).

والتعريف الذي أفاده شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره أيضا لا يشمل أسماء الأعداد كالعشرة لأنّ الآحاد ليست أفرادا للعشرة مثلا بل هي مقوّمة لهذا العدد كسائر الأعداد فلا يشملها تعريف العامّ بما هو يكون مسوّرا بسور محيط بأفراد حقيقة واحدة فإنّ مورد هذا التعريف هو ما يكون له أفراد وآحاد الأعداد ليست أفرادا بل من مقوّمات الأعداد كما أنّ المضاف إليه أو تمييز الأعداد لا استيعاب له بالنسبة إلى آحاده وإن كان له أفراد وآحاد.

اورد عليه بأنّ كلّ مرتبة من مراتب الأعداد مؤلّفة من الآحاد والواحد ينطبق على كلّ واحد فالعشرة توجب استغراق الواحد إلى هذا الحدّ وعدم انطباق العشرة بما هي على الواحد غير ضائر لأنّ مفهوم كلّ عالم لا ينطبق على كلّ عالم بل مدخول الأداة بلحاظ السعة المستفادة منها فاللازم انطباق ذات ما له الاستغراق والشمول لا بما هو مستغرق وإلّا فليس له إلّا مطابق واحد.

اجيب عنه بأنّ الفرق أنّ مراتب الأعداد وإن تألّفت من الآحاد إلّا أنّ الواحد ليس مادّة لفظ العشرة كي يكون له الشمول بل العشرة له مفهوم يباين سائر المفاهيم من مراتب الأعداد حتّى مفهوم الواحد بخلاف الرجل الواقع بعد كلّ فإنّه صالح للانطباق على كلّ رجل في حدّ ذاته وبواسطة الأداة صار ذا شمول واستغراق بحيث لا يشذّ عنه فرد (٢).

وممّا ذكر يظهر ما في كلام المحقّق الايرواني قدس‌سره حيث قال إنّ خصوصيّة اعتبار الاجتماع وإن اخذت في المجموعي دون الأفرادي لكنّ ذلك مستفاد من دالّ آخر

__________________

(١) الكفاية : ١ / ٢٣٢.

(٢) نهاية الدراية : ٢ / ١٨٣.

١٨

خارج عمّا استعمل فيه لفظ العامّ وإنّما المستعمل لفظ العامّ في كلا المقامين في معنى واحد لا اختلاف فيه حتّى من حيث اللحاظ وكيفيّة الاعتبار بل لو كان قيد الاجتماع مأخوذا في المستعمل فيه خرج عن العموم وكان شموله لأفراده نظير شمول العشرة لآحادها (١).

وذلك لما عرفت من الفرق بين العشرة ونحوها وبين العامّ المجموعي والاستغراقي حيث إنّ الواحد وهو الكلّيّ مادّة للعامّ المجموعي والاستغراقي بخلاف العشرة ولذا لا شمول ولا عموم للعشرة لأنّ الدلالة فيها ليست بتوسّط عنوان كلّيّ بل نفس العشرة تدلّ على الآحاد المندرجة تحتها كعنوان الكلّ بالنسبة إلى أجزائه اللهمّ إلّا أن يقال إنّ التمييز في العدد أيضا صالح للانطباق في حدّ ذاته.

ولكنّ الانصاف أنّ التمييز وإن كان مضافا إليه ليس بمنزلة المدخول للعشرة ونحوها بل مميّز لمحتوى العدد والمفروض أنّ العدد كعنوان الكلّ لا الكلّيّ الشامل لأفراده هذا بخلاف المدخول في العامّ الاستغراقيّ أو المجموعيّ فإنّه الكلّيّ الشامل لأفراده فالفرق بينهما ظاهر.

قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره إنّ المعتبر في العامّ شيئان أحدهما ما يكون جامعا للأفراد وصالحا للانطباق على كلّ منها والثاني ما يكون محيطا بها.

وهذان منفيان في العشرة إذ ليس مفهوم العشرة جامعا لما تحته من الأجزاء كما هو واضح بل حاله حال الكلّ وأمّا ما يضاف إليه هذا اللفظ أو مفهوم العدد (٢) وإن كان جامعا لها إلّا أنّ العشرة غير محيط بتمام آحاد هذين المفهومين بخلاف قولنا كلّ عالم فإنّ العالم جامع للأفراد ولفظة كلّ محيط بها (٣).

__________________

(١) نهاية النهاية : ١ / ٢٧٦.

(٢) أي المعدود.

(٣) اصول الفقه : ١ / ٢٧٦.

١٩

قال في المحاضرات أيضا :

إنّ صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلّقها إلى أن قال :

ومن ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين ما دلّ على العموم من الصيغ وبين لفظ عشرة ونظائرها فإنّ هذه اللفظة بالإضافة إلى أفرادها حيث إنّها كانت من الأسماء الأجناس فلا محالة تكون موضوعة للدلالة على الطبيعة المهملة الصادقة على هذه العشرة وتلك وهكذا فلا تكون من ألفاظ العموم في شيء.

وأمّا بالإضافة إلى مدخولها كقولنا أكرم عشرة رجال فلا تدلّ على سريان الحكم إلى كلّ من ينطبق عليه مدخولها وهو الرجل.

نعم بمقتضى الإطلاق وإن دلّت على أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق عشرة رجال على أيّ صنف منهم اراد وشاء سواء كان ذلك الصنف من صنف العلماء أو السادة أو الفقراء أو ما شاكلها إلّا أنّ ذلك بالاطلاق ومقدّمات الحكمة لا بالوضع.

وأمّا بالاضافة إلى الآحاد التي يتركّب العشرة منها فهي وإن دلّت على سراية الحكم المتعلّق بها إلى تلك الآحاد سراية ضمنيّة كما هو الحال في كلّ مركّب يتعلّق الحكم به فانّه لا محاله يسري إلى أجزائه كذلك إلّا أنّ هذه الدلالة أجنبيّة عن دلالة العامّ على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله حيث إنّ هذه الدلالة أجنبيّة عن دلالة العامّ على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله حيث إنّ تلك الدلالة دلالة على سراية الأحكام المتعدّدة المستقلّة إلى الأفراد والموضوعات كذلك وهذا بخلاف هذه الدلالة فإنّها دلالة على سراية حكم واحد متعلّق بموضوع واحد إلى أجزائه ضمنا يعني أنّ كلّ جزء من أجزائه متعلّق للحكم الضمني دون الاستقلالي كما هو الحال في

٢٠