عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

ومنها : تصديق الدلالات بأنواعها من المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة والمفهوميّة والمنطوقيّة.

ومنها : تعيين نوع الجمع بين الأدلة من التخصيص أو التقييد او الحكومة أو الورود.

ومنها : الحكم بوجود الاعتباريات كاعتبار النصف والربع ونحوهما من الكسور التسعة من دون تعيين في الجسم الخارجي مع أنّه متشخّص ومتعيّن بجميع أجزائه.

ومنها : تعيين موضوع الحكم بإدراج شيء ، كالملاقاة في مثل «النجس ينجس الشيء» والمماسة في مثل «السكّين يقطع اليد» والإشراق في مثل «الشمس تنضج الاثمار».

ومنها : إلغاء الخصوصيّة في مثل رجل شك في كذا وكذا ؛ فإنّ العرف يحكم بعدم مدخلية الرجوليّة.

ومنها : تعيين موارد انطباق العناوين الثانويّة وبيان تقديمها.

ومنها : تعيين نوع القضية من أنّها خارجيّة أو حقيقيّة ، فربّما يفهم العرف بالقرائن الموجودة في نفس الكلام أنّ الحكم سلطاني لا يدوم كالنهي عن ذبح الحمار ونحوه للأكل ، وإن كان مقتضى الأصل في القضايا هي كونها حقيقيّة.

ومنها : البناءات العمليّة العقلائيّة ، كرجوع الجاهل إلى العالم ، والاعتماد على قول الثقات ، وغير ذلك من الموارد.

المقام الثالث :

أنّ العرف العامّ مرجع في الموارد المذكورة ونحوها فيما إذا حكم العرف بالعلم واليقين دون الظن والتخمين فضلا عن كونه ناشئا عن المسامحة ، بل يختص حكم العرف غالبا بالمرتكزات الثابتة عندهم كما لا يخفى.

المقام الرّابع :

أنّه يجوز تخطئة الشارع للعرف فيما يحكم به أو فيما يبني عليه ، وكم له من نظير ، كالنهي عن المعاملات الربويّة ، واللعب بالملاهي ، وشرب المسكر وغيرها من الامور.

١٦١

ولا إشكال فيه ؛ لأنّ النهي الشرعي يكشف عن خطأ العرف في تشخيصه في الموارد المنهية. هذا مضافا إلى أنّ بناءات العرف لا حجيّة لها إلّا بامضاء الشارع أو تقريره ومع النهي لا إمضاء ولا تقرير نعم لزم أن تكون التخطئة صريحة بحيث لا يبقي عذر للعرف كعدم الالتفات.

المقام الخامس :

أنّه هل يجوز للعرف أن يلاحظ الملاكات والمناطات الظنية لكشف الأحكام الشرعيّة حسبما تقتضيه تلك الملاكات أو لا يجوز؟ والظاهر من عبارات أهل السنّة الذين ذهبوا إلى جواز القياس والأخذ بالاستحسان هو الأوّل.

قال ابن عابدين : واعلم أنّ اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا ... إلى أن قال : وفي شرح الاشباه للبيري قال فى المشرع الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي وفي المبسوط الثابت بالعرف كالثابت بالنّص ، (١) انتهى.

وكيف كان فقد استدلّوا لذلك بوجوه :

منها : قوله عزوجل : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٢)

وفيه : أنّ الآية الكريمة ليست في مقام بيان حجيّة العرف في آرائه وأحكامه حتى تكون دليلا على حجيّة العرف ، بل المراد من العرف هو المعروف ، والله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأمر بالمعروف ، وهو مطالبة الناس للإتيان بالمعروف الذي يعرفه عموم العقلاء والشارع من الأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة ، كسائر الآيات الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، كما يشهد لذلك سياق الآية الكريمة ؛ فإنّه تعالى أمر في صدرها بالعفو عما فعله الجاهلون وأمر في ذيلها بالإعراض عن الجاهلين ، فالمناسب بهم هو الأمر بالمعروف لا بيان حجيّة العرف في تشخيص الأحكام وغيرها ، قال في الكشاف : والعرف المعروف والجميل من الأفعال.

__________________

(١) مجموعة رسائل ابن عابدين : ١٣٢.

(٢) الاعراف / ١٩٩.

١٦٢

وقال في زبدة البيان : الآية تدلّ على رجحان حسن الخلق من العفو مما يستحقه الإنسان في ذمّة الغير من الحقوق وغيره واستعمال اللين والملاءمة في المعاملات والأمر بالمعروف والإعراض عن الجهّال وعدم مؤاخذتهم بما فعلوا بالنسبة إلى الإنسان ، ويؤيّده (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(١)

لا يقال : إنّ شمول المعروف لما عرفه العرف والأمر به يكفي في حجيّة العرف.

لأنا نقول : إنّ الآية ليست في مقام بيان موارد حجيّة العرف حتى يؤخذ باطلاقها ، بل تكون في مقام بيان وجوب الأمر بالمعروف الثابت من العقل والشرع ، والمعروف كالارتكازيات والمستقلات العقلية وإن كان ثابتا ، ولكن ذلك لا يستلزم كون ما عرفه العرف ولو من القياسات معروفا ، فتدبر جيّدا.

ومنها : ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. (٢)

وفيه : ـ مضافا إلى ضعف السند ـ أنّه أجنبي عن المقام ؛ فإنّ البحث في مرجعيّة العرف بما هو عرف من دون اختصاص بالمسلمين ، وإلّا فهو سيرة المسلمين ، وهي كاشفة عن تقرير المعصوم ، ولا تكون للنصوص ، كما لا يخفى.

ومنها : ما حكي عن «بدران» من أنّ الشارع قرّر كثيرا من العادات العربية وسكت عنها ولم يردعها ، وبنى مسائل الديات والقسامة على العرف وأقرّها ، وليست هذه العادات إلّا العرف ، فيعلم من إقرارها أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّهم على العرف وجعله مرجعا ودليلا كسائر الأدلّة. (٣)

وفيه : ما لا يخفى ؛ فإنّه خلط بين إقرارهم على العرف بما هو عرف ، وبين إقرار حكم من أحكام العرف لموافقته مع الأحكام الإسلامية المبنيّة على المصالح والمفاسد. فما أقرّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الثاني دون الأوّل ، وبينهما بون بعيد. وبعبارة أخرى : تصديق العرف بنحو

__________________

(١) زيدة البيان : ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

(٢) مجموعة رسائل ابن عابدين : ١١٣.

(٣) اجوبة المسائل المبنائية : ١٦٧.

١٦٣

الموجبة الجزئية لا يستلزم تصديقه بنحو الموجبة الكلية ، والكلام فى حجيّة العرف بنحو الموجبة الكلّية. نعم لو قلنا بنحو السالبة الكلّية : أنّ العرف لا يصح حكمه في مورد كان إقرار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مورد من الموارد منافيا لذلك.

وبالجملة فالتحقيق أنّ العرف لا يقدر على تعيين الأحكام الشرعية بملاحظة المناطات والملاكات الظنيّة ؛ لعدم احاطته بذلك بل النصوص الكثيرة تمنع وتحذر حذرا شديدا ان يقرب الانسان نحو القياس والأخذ بالملاكات الظنيّة ، وهي على طوائف :

منها موثقة الريّان بن الصلت عن علي بن موسى الرضا عن ابيه عن آبائه عن امير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله جلّ جلاله ... وما على ديني من استعمل القياس في ديني. (١)

ومنها موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : جعلت فداك أنّ اناسا من أصحابك قد لقوا آباءك (٢) وجدّك ، وقد سمعوا منهما الحديث ، وقد يرد عليهما الشيء ليس عندهم فيه شيء وعندهم ما يشبهه فيقيسوا على أحسنه قال فقال ما لكم والقياس ، إنّما هلك من هلك بالقياس. قال : قلت أصلحك الله ولم ذاك؟ قال : لأنّه ليس من شيء إلّا وقد جرى به كتاب وسنّة ، وإنّما ذاك شيء إليكم إذا ورد عليكم أن تقولوا. قال : فقال : إنّه ليس من شيء إلّا وقد جرى به كتاب وسنة ، ثم قال : إنّ الله قد جعل لكل شيء حدا ، ولمن تعدّى الحدّ حدّا (٣)

ومنها موثقة محمّد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : جعلت فداك فقّهنا في الدين وأغنانا الله بكم عن الناس حتى أنّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحب (إلّا وـ خ) تحضره المسألة ويحضرها جوابها فيما منّ الله علينا بكم ، فربّما ورد علينا الشيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك (عنه ـ خ) شيء فنظرنا إلى أحسن ما

__________________

(١) جامع الاحاديث ١ : الباب ٧ من ابواب المقدمات ، ح ٥.

(٢) ولعله : اباك.

(٣) جامع الاحاديث ١ : الباب ٧ ، من ابواب المقدمات ، ح ١٦.

١٦٤

يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به؟ فقال : هيهات هيهات في ذلك ، والله هلك من هلك يا ابن حكيم. قال : ثم قال : لعن الله أبا حنيفة كان يقول : قال علي وقلت. قال : محمّد بن حكيم لهشام بن الحكم : والله ما أردت إلّا أن يرخّص لي في القياس. (١)

ومنها موثقة زرارة بن أعين قال : قال لي أبو جعفر محمّد بن علي عليه‌السلام : يا زرارة إياك وأصحاب القياس في الدين ، فانهم تركوا علم ما وكّلوا به وتكلّفوا ما قد كفوه ، يتأولون الأخبار ويكذبون على الله عزوجل ، وكأني بالرجل منهم ينادى من بين يديه قد تاهوا وتحيروا في الأرض والدين. (٢)

ومنها خبر الثمالي قال : قال علي بن الحسين عليهم‌السلام : إنّ دين الله عزوجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ، ولا يصاب إلّا بالتسليم ، فمن سلّم لنا سلم ومن اقتدى بنا هدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه شيئا مما نقوله أو نقضي به حرجا كفر بالذي أنزل السبع المثانى ، والقرآن العظيم وهو لا يعلم. (٣)

ومنها صحيحة أبان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ السنة لا تقاس ، ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان إنّ السنة إذا قيست محق الدين. (٤)

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

فتحصّل : أنّه لا دليل على مرجعيّة العرف في الأحكام الشرعيّة من جهة كشفها عن الملاكات والمناطات الظنيّة ، بل المستفاد من النصوص كما عرفت هو ممنوعيّة إعمال نظرهم في هذا المضمار معلّلا بأنّهم قاصرون عن فهم المصالح والمفاسد الواقعية الباعثة نحو الأحكام الشرعية ؛ ولذا صرح الشارع في غير مورد بأنّ الأحكام كلها مبيّنة في الكتاب والسنة وتبقى إلى يوم القيامة بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

__________________

(١) جامع الاحاديث ١ : ٢٧٤ الباب ٧ ، من ابواب المقدمات ، ح ٢٠.

(٢) جامع الاحاديث ١ : / ٢٧٦ ، الباب ٧ ، من ابواب المقدمات ، ح ٢٨.

(٣) جامع الاحاديث ١ : ٢٧٦ ، الباب ٧ من ابواب المقدمات ، ح ٢٩.

(٤) جامع الاحاديث ١ : الباب ٧ من ابواب المقدمات ، ح ٤.

١٦٥

وعليه فدعوى أنّ الأحكام تتغيّر بحسب تغيّر الأعصار والأزمنة والمرجع في ذلك هو العرف العامّ ، دعوى سخيفة جدّا ومخالفة لضرورة المذهب لو أريد بذلك استقلال العرف في كشف الأحكام من الملاكات والمناطات الظنيّة.

والأسخف من ذلك هو دعوى أنّ الأحكام في بقائها تحتاج إلى مقبوليّة العرف العام ولو من جهة كونها غير موافقة لتمايلاتهم وأهوائهم ، وتحرز المقبولية بآراء الوكلاء في المجالس أو آراء الموكلين ، مع أنّ بقاء الأحكام لا يشترط بالمقبولية العرفية أصلا وأبدا. نعم تحتاج الأحكام في الإجراء إلى مساعدة العرف العامّ ويجب عليهم المساعدة ، والإهمال في ذلك يوجب العقاب والعذب الأليم.

ولا ينافي ما ذكر سقوط بعض الأحكام عن الفعلية بعروض العناوين الثانويّة ؛ فإنّ الاحكام الثانويّة شرعيّة أيضا ، ولا دخالة للعرف فيها إلّا من ناحية صدق العناوين الثانوية.

وهكذا لا ينافيه حصول التغييرات في ناحية بعض مصاديق الموضوعات ؛ فإنّ المتغيّر في أمثال ذلك هو نفس بعض المصاديق والحكم ثابت على موضوعه ، مثلا إذا تحققت العادة بالمراهنة في اللعب بشيء كان اللعب بالشيء المذكور مصداقا للقمار ، ويترتب عليه حكم القمار ، فإذا انتفت عادة المراهنة عن اللعب المذكور خرج اللعب المذكور عن مصداق القمار ، فالمتغيّر هو اللعب المذكور ، وأمّا القمار وحكمه فهما ثابتان ولا يعرضهما تغيير أصلا.

وهكذا لا يرتبط بمرجعيّة العرف ولاية الأئمة المعصومين عليهم‌السلام والمنصوبين من قبلهم على تغيير الأحكام موقتا كرفع الوجوب أو ايجاب ما لم يجب إذا اقتضت المصلحة ذلك كما في الأحكام السلطانية كرفع وجوب الخمس أو ايجاب أداء شيء زائد على موارد الزكاة وغير ذلك ؛ فإنّ ذلك يختص شرعا بالإمام المعصوم عليه‌السلام ومن نصبه بالنصب الخاصّ أو العامّ فلا تغفل.

١٦٦

الخلاصة

٤ ـ العرف

والكلام فيه يقع في مقامات :

المقام الأوّل :

في أنّ العرف على قسمين العرف العامّ والعرف الخاصّ والأوّل هو الذي لا يختصّ بقوم وجمع خاصّ بل يعمّ جميع الأقوام والملل.

والثّاني : هو عرف جمع خاصّ كعرف الأطبّاء أو عرف الأصوليين ونحوهم والشّارع جعل موضوعات أحكامه على طبق ما يفهمه العرف العامّ ولا يكون العرف الخاصّ مخاطبا له بالخصوص في أحكامه.

ولذا يشكل الاكتفاء بصدق الموضوعات عند عرف خاصّ مع عدم ثبوت صدقه عند عرف العامّ نعم لو كان صدقه عند عرف خاصّ موجبا لإمكان اطلاع عموم النّاس عليه وصدقه عندهم كفى ذلك في رفع الإشكال.

المقام الثاني :

أنّه لا إشكال في ثبوت مرجعيّة العرف في ناحية الموضوعات والدلالات والاستظهارات والبناءات والاعتبارات وهي كثيرة.

منها تشخيص حدود المفاهيم والمعاني.

ومنها تطبيق المفاهيم على المصاديق.

ومنها تعيين بقاء الموضوعات بعد تغيير أحوالها وعدمه.

ومنها تصديق الدّلالات بأنواعها من المطابقيّة والتضمّنيّة والالتزاميّة والمفهوميّة والمنطوقيّة.

ومنها تعيين نوع الجمع بين الأدلّة من التّخصيص أو التّقييد أو الحكومة أو الورود.

ومنها الحكم بوجود الاعتبارات كاعتبار النّصف والرّبع ونحوهما من الكسور التسعة من دون تشخّص خارجي لها مع أنّ الجسم الخارجي متشخّص ومتعيّن بجميع أجزائه.

١٦٧

ومنها تعيين موضوع الحكم بإدراج شيء كالملاقاة في مثل «النجس ينجّس الشيء» وكالمماسّة في مثل «السكّين يقطع اليد».

ومنها إلغاء الخصوصيّة في مثل رجل شكّ في كذا وكذا فإنّ العرف يحكم في مثله بعدم مدخليّة الرجوليّة.

ومنها تعيين موارد انطباق العناوين الثّانويّة.

ومنها تعيين نوع القضيّة من الخارجيّة أو الحقيقيّة.

ومنها البناءات العمليّة العقلائيّة كرجوع الجاهل إلى العالم وغير ذلك من الموارد.

المقام الثّالث :

أنّ العرف مرجع في الموارد المذكورة ونحوها فيما إذا حكم بالعلم واليقين دون الظنّ والتخمين والمسامحة.

المقام الرّابع :

أنّه يجوز للشارع تخطئة العرف فيما حكم أو بنى عليه وكم له من نظير كالنهي عن المعاملات الربويّة ومالية المسكرات وغير ذلك ولا إشكال فيه لأنّ النهي الشرعي يكشف عن خطأ العرف في تشخيصه نعم يلزم أن يكون التخطئة صريحة حتّى يتوجّه إليها العرف عند كون ما عليه العرف ارتكازيا.

المقام الخامس :

أنّه هل يجوز للعرف أن يلاحظ الملاكات والمناطات الظنّيّة لكشف الأحكام الشرعيّة حسبما تقتضيه تلك الملاكات أو لا يجوز والظاهر من أهل التسنن هو الأوّل واستدلّوا له لوجوه :

منها : قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(١) بدعوى أنّ الأمر باتّباع العرف يفيد حجيّته.

وفيه أنّ الآية الكريمة ليست في مقام بيان حجّيّة العرف في آرائه وأحكامه حتّى تكون دليلا على حجّيّة العرف بل سياق الآية باعتبار قبلها وبعدها يشهد بأنّ المراد من العرف هو

__________________

(١) الأعراف / ١٩٩.

١٦٨

المعروف من الأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة وعليه فتكون هذه الآية كسائر الآيات الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمر بالمعروف وقد أمر سبحانه وتعالى في صدر الآية بالعفو عمّا فعله الجاهلون وأمر في ذيلها بالإعراض عن الجاهلين.

ولذلك قال في زبدة البيان الآية تدلّ على رجحان حسن الخلق ممّا يستحقّه الإنسان في ذمّة الغير من الحقوق وغيره واستعمال اللين والملاءمة في المعاملات والأمر بالمعروف والإعراض عن الجهّال. (١)

ومنها النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. (٢)

وفيه مضافا إلى ضعف السّند أنّه أجنبي عن المقام فإنّ البحث في مرجعيّة العرف لا حجّيّة سيرة المسلمين.

ومنها أنّ الشّارع قرّر كثيرا من العادات العربيّة وسكت عنها ولم يردعها وبنى مسائل الدّيات والقسامة على العرف وأقرّها وليست هذه العادات إلّا العرف فيعلم من إقرارها في تلك الموارد أنّه أقرّهم على العرف وجعله مرجعا ودليلا كسائر الأدلّة. (٣)

وفيه ما لا يخفى فإنّه خلط بين إقرارهم على العرف بما هو عرف وبين إقرار حكم من أحكام العرف لموافقته مع الأحكام الإسلاميّة المبنيّة على المصالح والمفاسد الواقعيّة فالثّابت هو الثّاني لا الأوّل وبينهما بون بعيد.

وبعبارة اخرى تصديق العرف بنحو الموجبة الجزئية لا يستلزم تصديقه بنحو الموجبة الكلّية والكلام في حجّيّة العرف بنحو الموجبة الكليّة والأدلّة المذكورة لا تفي بذلك وبالجملة فالتحقيق أنّ العرف لا يقدر على تعيين الأحكام الشرعيّة بملاحظة المناطات والملاكات الظنيّة لعدم إحاطته بذلك.

هذا مضافا إلى منع النّصوص القطعيّة الكثيرة عن ذلك والأمر بالتحذّر عنه منها موثقة

__________________

(١) زبدة البيان : ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

(٢) مجموعة رسائل ابن عابدين : ١١٣.

(٣) أجوبة المسائل المبنائية : ١٦٧.

١٦٩

الريّان بن الصلت عن علي بن موسى الرّضا عليهما‌السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله جل جلاله وما على ديني من استعمل القياس في ديني. (١)

ومنها موثّقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما لكم والقياس إنّما هلك من هلك بالقياس ... الحديث. (٢)

ومنها صحيحة أبان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ السّنة لا تقاس ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان إنّ السّنة إذا قيست محق الدّين. (٣) وغير ذلك من صحاح الأخبار.

فتحصّل أنّه لا دليل على مرجعيّة العرف في الأحكام الشرعية من جهة كشفها عن الملاكات والمناطات الظنيّة بل المستفاد من النصوص الصحيحة هي ممنوعيّة إعمال النظر حول هذا لقصورهم عن الاطّلاع اللّازم.

ودعوى تغيير الأحكام حسب تغيير الأزمان والأعصار والمرجع في كلّ زمان وعصر هو العرف العام سخيفة جدّا ومخالفة لضرورة المذهب لو أريد بذلك استقلال العرف في كشف الأحكام من الملاكات والمناطات الظنيّة.

والأسخف من ذلك هو توهّم أنّ الأحكام في بقائها تحتاج إلى مقبوليّة العرف العامّ وتحرّز المقبوليّة بآراء وكلائهم في المجالس الملّيّة مع أنّ بقاء الأحكام لا يشترط بشيء وإنّما اللّازم في إجرائها هو مساعدة العرف العام ويجب عليهم لذلك المساعدة في هذه الجهة يوجب العقاب والعذاب الأليم وحلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة والأحكام ثابتة على موضوعاتها والمتغيّر هو بعض مصاديقها.

نعم يمكن تغيير الأحكام موقّتا بسبب عروض العناوين الثّانوية توسّط الأئمّة عليهم‌السلام والمنصوبين من قبلهم ولكنّه لا يرتبط بالعرف كما لا يخفى.

__________________

(١) جامع الاحاديث ١ : الباب ٧ من ابواب المقدّمات ح ٥.

(٢) جامع الاحاديث ١ : الباب ٧ من ابواب المقدّمات ح ١٦.

(٣) جامع الاحاديث ١ : الباب ٧ من ابواب المقدّمات ح ٤.

١٧٠

٥ ـ السيرة القطعيّة العقلائيّة

السيرة القطعيّة من العقلاء على عمل من دون اختصاص بزمان أو مكان أو ملّة أو نحلة كالعمل بالظواهر الكلاميّة أو الأمارات أو أصل الصحة أو أصالة اليد أو الاكتفاء بالامتثال الظني عند تعذر الامتثال التفصيلي والإجمالي أو رجوع الجاهل إلى العالم وغير ذلك حجّة عقلائيّة.

ولكن السيرة العقلائيّة بنفسها ليست بحجّة شرعيّة لأنّ العمل لا كشف له بالنسبة إلى الواقع ، والقطع بالسيرة كاشف عن وجود السيرة لا كاشفيتها عن الواقع كما لا يخفى. وعليه فحجّية السيرة شرعا تحتاج إلى دليل خارجي ، وهو إمضاء الشارع ولو بعدم الردع عنها ؛ فإنّه تقرير بالنسبة إلى سيرتهم ، والإمضاء الشرعي يوجب حجيّة السيرة العقلائيّة لإثبات الحكم الشرعي ؛ لاكتفاء الشارع بها.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون السبب في تحقق سيرة العقلاء هو الارتكاز كارتكاز رجوع الجاهل إلى العالم أو ندرة المخالفة كما في الأمارة أو تسهيل الأمر في مقام الامتثال أو غير ذلك ، فإذا علمنا بتحقق السيرة العقلائية وكونها في مرأى ومنظر الشارع وإمضائه إيّاها ولو بسكوته عن ردعها كانت السيرة المذكورة حجّة لإثبات الحكم الشرعي بلا كلام ، هذا بخلاف السيرة العقلائيّة الحادثة فإنّها ليست بكاشفة ولا تكون مورد الإمضاء الشرعي ، فلا حجّيّة لها لحدوثها وعدم كونها في مرأى ومنظر الشارع ، كما لا يخفى.

ثم إنّ السيرة القطعيّة العمليّة من العقلاء التي أمضاها الشارع حجّة بالنسبة إلى مورد عملهم ، ولا يتجاوز عنه إلى غيره ؛ لاختصاص عملهم بهذا المورد ، فلا وجه للتعدّي عنه إلى سائر الموارد.

نعم لو علم أن عملهم في مورد من باب المصداق والمثال فلا يختص عملهم بهذا المورد ، كما لعلّه لا يبعد دعوى عدم اختصاص ملكيّة الجهات والعناوين عند العقلاء بالجهات والعناوين التي كانت موردا للابتلاء في تلك الأزمنة كبيت المال والمساجد وعناوين الفقراء ،

١٧١

بل الجهات المتداولة في زماننا هذا تكون كذلك ؛ لأنّ الموارد التي كانت موردا للابتلاء في الأزمنة السابقة لا خصوصية لها ، بل الجهة بما هي جهة كانت منظورة للعقلاء والأمور المذكورة من باب المصداق. وعليه فملكية الشركات العامة أو الخاصة مما تداولت في زماننا هذا أيضا مورد الإمضاء والتقرير.

ثمّ إنّ السيرة العقلائية قابلة للرّد فيجوز للشارع أن يردعها لأنّها ليست كالقطع حتّى تابى عن الردع لما عرفت من أنّها ليست بكاشفة بل هي عمل

ولكن الردع عنها لزم أن يكون بنحو التصريح حتى يوجب التفات العقلاء بأنّ طريقتهم وسيرتهم مردودة ولذا قلنا بأنّ العموم لا يكفي في ردع السيرة لأنّهم لا يرون طريقتهم مشمولة للعموم فمثل قوله تعالى إنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئا بناء على تسليم دلالتها على عدم حجّية الظنون في المسائل الفرعيّة لا يكفي في ردع طريقة العقلاء على الاعتماد على خبر الثقات لأنّهم لا يرون أنفسهم ظانّين حتى يشملهم العموم المذكور فتدبر جيدا.

هذا كله بالنسبة إلى السيرة العقلائية التي كانت في مرأى ومنظر الشارع ، وأمّا السيرة والبناءات المستحدثة فالمشهور أنّه لا دليل على حجيتها ولكن ذهب بعض الأعلام إلى أن البناءات العقلائية المستحدثة إذا فحص في الأدلّة ولم يوجد شيء يصلح للردع عنها تكون حجّة أيضا لأنّ بناء الشارع على التقرير أو ردع البناءات لا يختص بزمان خاص كزمانه بل هو في مقام تصحيح أو ردّ البناءات في جميع الأزمنة وعليه فاللازم عليه أن يردع البناءات المستحدثة إذا لم تكن موردا لقبوله وحيث فحصنا ولم نر شيئا يصلح للردع كفى ذلك في تقريره إيّاها فتكون حجّة فليتأمّل.

ثم لا حاجة في حجّية السيرة العقلائية إلى الإمضاء بل يكفي فى الحجّية عدم الردع لأنّ العقلاء يكتفون بذلك في أحكام الموالى والعبيد وهذا أمر شايع ولم ينقل عن الشارع اعتبار الإمضاء وعدم الاكتفاء بعدم الردع وهو يشهد على أن الشارع يكتفي في الحجية بعدم الردع ، فتدبّر جيّدا.

١٧٢

الخلاصة

٥ ـ السيرة القطعيّة العقلائيّة

السّيرة القطعيّة العقلائيّة على عمل من دون اختصاص بزمان أو مكان أو ملّة أو نحلة كالعمل بالظّواهر الكلاميّة أو رجوع الجاهل إلى العالم حجّة عقلائية والقطع بالسّيرة كاشف عن وجودها ثمّ إنّ السّيرة ليست بنفسها حجّة شرعية ما لم ينضم إليها إمضاء الشّارع ولو بعدم الرّدع فإنّ إمضاء الشّارع يكشف عن تقرير الشّارع بالنّسبة إليها ومع تقرير الشّارع يثبت الحكم الشرعي وبدون التقرير المذكور لا يفيد حكما شرعيا لأنّها ليست بحجّة شرعيّة.

وعليه فاللازم في حجّيّة السّيرة القطعيّة العقلائيّة شرعا هو أن تكون السّيرة المذكورة في مرأى ومنظر الشّارع حتّى يتعلّق بها الإمضاء وعدم الردع.

هذا بخلاف السّيرة العقلائيّة الحادثة فإنّها لم تكن في زمان الشّارع حتّى يكشف عدم الرّدع عنها عن تقرير الشّارع إيّاها اللهمّ إلّا أن يقال : كما أفاد بعض الأعلام أن الشّارع كان في مقام تصحيح أو ردّ جميع البناءات في مطلق الأزمنة وحينئذ إذا فحصنا ولم نجد شيئا يصلح للرّدع جاز الاكتفاء به في تقريره إياها فتكون حجّة فتأمّل.

ثمّ إنّ السّيرة العقلائيّة قابلة لردع الشّارع لأنّها ليست كالقطع حتّى تأبى عن الردع.

نعم لزم في الرّدع أن يكون صريحا حتّى يتوجّه العقلاء إلى خطأ ما استقر عليه بنائهم.

١٧٣

٦ ـ السيرة المتشرعة

سيرة المتدينين بما هم متديّنون تكشف عن كون السبب في سيرتهم هو دينهم ، واحتمال أن يكون سيرتهم من عند أنفسهم لا من جهة أمر الشارع بعيد بل محال عادي ، وعليه فسيرة المتشرعة بنفسها كاشفة عن الدليل الشرعي كما لا يخفى.

والكشف المذكور عن أمر شرعي في السيرة المتشرعة هو الفارق بين السيرة المتشرعة والسيرة العقلائية ، لما عرفت من أن سيرة العقلاء لا تكشف عن الدليل الشرعي إلّا بإمضاء الشارع ولو بعدم الردع كما لا يخفى.

ثمّ إنّ سيرة المسلمين إذا كانت مستندة إلى قلّة المبالاة بأمر الدين ليست من سيرة المتدينين بما هم متدينون وخارجة عن محل البحث ، وإذا شككنا أن السيرة سيرة المتدينين بما هم متدينون أو سيرتهم بسبب قلة المبالاة في الدين ومسامحتهم لا تكشف عن الدليل الشرعي ، وليست بحجّة.

ثمّ إذا تعارضت السيرة المتشرعة مع السيرة العقلائية فالاولى مقدمة على الثانية وتكشف عن ردع الشارع عن السيرة العقلائية ؛ لأنّ السيرة العقلائية تكون حجّيّتها موقوفة على عدم ردع الشارع عنها ، والسيرة المتشرعة الكاشفة عن رأي المعصوم والدليل الشرعي تكفي في ردعها كما لا يخفى.

ثم إنّ كشف سيرة المتدينين بما هم متدينون عن الدليل الشرعي لا يختص باجتماع جميع الطوائف من المسلمين على عمل ، بل لعله يكشف عنه أيضا سيرة الفرقة المحقة بما هم متدينون. والفرق أن سيرة المسلمين تكشف عن رضا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الفرقة المحقّة تكشف عن رضا أهل البيت عليهم‌السلام ، وكلاهما حجّتان كما لا يخفى.

وكيف كان ، فاللازم في السيرة المتشرعة أن لا تكون السيرة مستندة إلى النصوص ، أو الفتاوى وإلّا فلا تكشف السيرة عن غيرهما لاحتمال استناد سيرتهم إليهما.

١٧٤

الخلاصة

٦ ـ السيرة المتشرعة

سيرة المتديّنين بما هم متديّنون تكشف عن كون السبب في سيرتهم هو دينهم واحتمال أن يكون سيرتهم من عند أنفسهم لا من جهة أمر الشّارع بعيد جدّا بل محال عادي وعليه فسيرة المتشرّعة بنفسها تكشف عن الدّليل الشرعي وهذا الكشف هو الفارق بين سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء لما عرفت من أن السّيرة العقلائيّة لا تكشف عن الدّليل الشّرعي ما لم ينظم إليها إمضاء الشّارع ولو بعدم الرّدع.

والسّيرة المتشرعيّة تكشف فيما إذا لم تكن مستندة إلى قلّة المبالاة بأمر الدّين ولو شككنا في ذلك فضلا عن العلم به فلا تكشف عن شيء كما لا يخفى.

قال سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد وسيرة المتشرّعة من أقوى أدلّة الباب ولا يتطرّق فيها احتمال الرّدع بالآيات والأخبار وبذلك تمتاز عن سيرة العقلاء فإنّها كما ترى يحتمل ردعها. (١)

ثمّ إنّه إذا تعارضت السّيرة المتشرعيّة مع السّيرة العقلائيّة فلا إشكال في تقديم السّيرة المتشرعيّة لأنّ حجّيّة السّيرة العقلائيّة موقوفة على عدم الرّدع عنها والسّيرة المتشرعيّة تكفي للردع عنها كما لا يخفى.

ثمّ إنّ سيرة المتشرعيّة الكاشفة لا تختصّ بصورة اجتماع جميع الطوائف من المسلمين على عمل بل تكشف إذا كانت من الفرقة المحقة والفرق بين صدق اجتماع الطوائف واجتماع الفرقة المحقّة أن في الاولى تكشف عن إمضاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الثّاني تكشف عن إمضاء الإمام المعصوم عليه‌السلام.

ثمّ إنّ السّيرة الكاشفة تكشف عن التقرير ما دام لم يستندوا إلى النّصوص أو الفتاوى وإلّا فلا تفيد إلّا نفس النّصوص أو الفتاوى.

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ : ٢ / ١٥٢.

١٧٥

٧ ـ الخبر الواحد

ولا يخفى عليك أن النزاع في هذا البحث ليس إلّا في حجيّة الخبر الواحد الذي يكون من الظنون ، والبحث عن ثبوت قول المعصوم أو فعله أو تقريره بذلك وعدمه من لوازم المسألة ، وليس بنفس المسألة. والمقصود أن الخبر الواحد هل يصلح للحجية أم لا يصلح؟ وهذا من أهم المسائل الاصولية ؛ لصدق موضوعها عليه ، إذ هو ما يصلح لأن يكون حجّة على الأحكام الفقهية الكليّة.

وعليه فلا حاجة إلى إرجاع البحث إلى ثبوت السنّة المحكيّة بالخبر وعدمه ، كما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره ؛ إذ البحث عن الحاكي أيضا هو بحث عما يصلح للحجيّة. ولعل الإرجاع المذكور ناش من جعل موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة ، فيبحث عن ثبوت السنة بالخبر وعدمه. وقد مرّ في البحث عن موضوع العلم أنّه لا ملزم لجعل موضع علم الاصول خصوص الأدلة الأربعة. هذا مضافا إلى أن لازمه هو جعل جملة المباحث الاصولية كالبحث عن القياس والشهرة وغيرهما خارجة عن موضوع علم الاصول بحيث يكون البحث عنها استطراديا ، وهو كما ترى.

وكيف ما كان يقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى :

أن المحكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن ادريس عدم حجيّة الخبر الواحد خلافا لغيرهم حيث ذهبوا إلى حجيّة الخبر الواحد.

أدلّة المانعين

واستدلّ المانعون بوجوه :

منها : الآيات الدالة على النهي عن اتّباع غير العلم أو القول بغير علم أو الدالة على أن

١٧٦

الظنّ لا يغني من الحق شيئا كقوله عزوجل : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وكقوله عزوجل : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) وكقوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). (٣)

وجه الاستدلال أن التبعية عن الظنّ الخبري اتّباع عن غير العلم ، واسناد مفاده إلى الله تعالى قول بغير علم ، وبالأخرة هو ظنّ ، والظنّ لا يغني من الحق شيئا.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ أدلّة اعتبار الخبر الواحد قطعيّة ، وعليه فاتباع الخبر الواحد وإن كان الخبر مفيدا للظن اتّباع للعلم ، واسناد مفاده إلى الله تعالى إسناد قطعي الاعتبار إليه تعالى ، والأدلّة القطعيّة مما تغني وتفيد. وعليه فمع أدلّة الاعتبار لا يبقى مورد للآيات الناهية ؛ لورود أدلّة الاعتبار بالنسبة إليها ، كما لا يخفى.

قال في نهاية الاصول : إنّ متابعة الخبر والعمل به مع قيام الدليل القطعي على حجيته لا تكون عملا بغير العلم بل هو متابعة للعلم ، فيكون دليل الحجية واردا على الآيات الناهية. (٤)

وقال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ نفس الطريق وإن كان ظنيّا إلّا أن ما يدل على حجيّته أمر قطعي ؛ لأنّ ما يدلّ من ظواهر الآيات على حجيّة الخبر الواحد حجّة قطعيّة عند الخصم كسائر الظواهر ، فينسلك اتّباع الخبر الواحد في عداد اتّباع العلم ، فيتم ميزان الورود ، فتدبّر. (٥)

والأولى أن يقال : إنّ الآيات الناهية تدلّ على النهي عن أخذ ما لا يكون حجّة ، فمع أدلّة

__________________

(١) الاسراء / ٢٦.

(٢) الاعراف / ٣٣.

(٣) يونس / ٣٦.

(٤) نهاية الاصول : ٤٨٨.

(٥) تهذيب الاصول ٢ : ١٠٦.

١٧٧

الاعتبار والحجيّة للخبر الواحد لا مورد للآيات ؛ فإنّ المراد من العلم هو الحجّة ، قال في نهاية الاصول : والشاهد عليه قوله مخاطبا للكفار (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (١) وقوله (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ)(٢) وغير ذلك من الآيات ؛ فإنّ المراد من العلم في الآيتين مدارك مأثورة واصلة إليهم من الأسلاف لا القطع ، فالمراد من العلم هو الحجّة العقلائية. (٣) ولقد أفاد وأجاد سيدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره في محكي كلامه حيث قال وعلى هذا يكون جميع ما ثبت جواز الركون إليه بهذه الأدلّة (اى أدلّة الاعتبار) واردا على مفاد (الآيات التى استدلّ بها المانعون)

لا حاكما ولا مخصّصا. (٤)

ومما ذكر يظهر ما في مصباح الاصول حيث ذهب إلى حكومة أدلّة حجيّة الخبر على الآيات المذكورة بدعوى أن مفادها جعل الخبر طريقا بتتميم الكشف ، فيكون خبر الثقة علما بالتعبّد الشرعي بناء على أن المجعول في باب الطرق والأمارات هي الطريقية كما هو الصحيح. (٥)

وذلك لما عرفت من أن مع أدلة الاعتبار يكون الخبر حجة ، فلا مورد لما يدل على النهي عن اتباع غير الحجة ؛ وإن أبيت عن الورود أو الحكومة ، فعليك بجواب شيخنا الأعظم قدس‌سره حيث قال : والجواب أمّا عن الآيات فبأنّها بعد تسليم دلالتها عمومات مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة. (٦)

__________________

(١) الاحقاف / ٤.

(٢) الانعام / ١٤٨.

(٣) نهاية الاصول : ٤٨٨.

(٤) المحاضرات سيدنا الأستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٢١

(٥) مصباح الاصول ٢ : ١٥٢.

(٦) فرائد الاصول : ٦٩.

١٧٨

وتبعه في الكفاية أيضا حيث قال : والجواب أمّا عن الآيات فبأنّ الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقاتها هو اتباع غير العلم في الاصول الاعتقادية لا ما يعم الفروع الشرعية ، ولو سلم عمومها لها في مخصّصة بالأدلّة الآتية على اعتبار الأخبار. (١)

لا يقال : إنّ الآيات الدالة على النهي عن الاتباع عن الظن أو الدالة على (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) آبية عن التخصيص ، فكيف يخصص مثل قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)؟!

لانا نقول : إنّ الظنون مختلفة في غالبية الإصابة وعدمها ، فإذا كان إصابة بعضها عند الشارع أكثر من بعض آخر ، فلم لا يجوز التخصيص بالمصيب منها ، ولا إباء لمثل قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ) عن مثل هذا التخصيص فضلا عن سائر الآيات الناهية عن الاتباع عن الظن ، فتدبّر جيّدا ، نعم الإباء المذكور صحيح بالنسبة الى ما ورد في الاصول الاعتقادية لا الفروع.

ومنها : الأخبار الكثيرة ، وهي على طوائف :

الطائفة الأولى :

الروايات الواردة في لزوم الموافقة مع الكتاب والسنة في حجيّة الاخبار وجواز العمل بها :

كقول أبي عبد الله عليه‌السلام : فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه. (٢)

وكقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله. (٣)

وكقول ابي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة هشام بن الحكم : لا تقبلوا علينا حديثا إلّا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد (لعنه الله)

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٨٠.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٥.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١٥.

١٧٩

دسّ في كتاب اصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزوجل ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحديث. (١)

وعليه فمقتضى اعتبار الموافقة في حجّية الأخبار أن خبر الواحد ليس بنفسه حجّة.

ويمكن الجواب عنها بأنّ هذه الطائفة وإن دلّت على لزوم العمل بالموافق ، ولكن لا يستفاد منها انحصار الأمارة الدالة على الصدق في الموافقة مع الكتاب ، ولذا أضاف في صحيح هشام بن الحكم الموافقة مع السنة أو الموافقة مع أحاديث الائمة عليهم‌السلام ، فالموافقة مع الكتاب أو السنة أو الاحاديث الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام مذكورة من باب المثال لأمارة الصدق. ومن الجائز أن يكون من مصاديقها أيضا ما روته الثقات ، فالحصر في صحيحة هشام حصر إضافي بالنسبة إلى ما كان مخالفا للقرآن أو السنة والحديث في مقام ردّ الأخبار المخالفة للكتاب والسنة ، لا انحصار أمارة الصدق في الموافقة المذكورة في تلك الأخبار ، فتدبّر جيّدا.

الطائفة الثانية :

الروايات الدالة على المنع عن العمل بالخبر الذي لا يوافق الكتاب :

كقول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة أيوب بن الحرّ : كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. (٢)

وكقول أبي عبد الله عليه‌السلام في موثقة أيوب بن راشد : ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف. (٣)

ويمكن الجواب عنها بأنّ المتفاهم عرفا من عنوان ما لم يوافق أو لا يوافق هو المخالف.

فتندرج في :

__________________

(١) رجال الكشي رقم ١٠٣ المغيرة بن سعيد ص ١٩٤.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١٤.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١١.

١٨٠