عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

قال في نهاية الأفكار يمكن دفعه بأنه يتجه ذلك إذا كان الصدر إنشاء للحلية في الأمثلة المزبورة بعنوان كونها مشكوك الحرمة وإلّا فبناء على كونه حاكيا عن إنشاءات الحلية في الموارد المزبورة بعنوانات مختلفة من نحو اليد والسوق والاستصحاب ونحوها من العناوين التي منها عنوان مشكوك الحل والحرمة فلا يرد إشكال إذ المقصود حينئذ بيان عدم الاعتناء بالشك في الحرمة في هذه الموارد لمكان جعل الحلية الظاهرية فيها بعنوانات مختلفة غير انه جمع الكل ببيان واحد لا أنّ المقصود هو إنشاء الحلية في الموارد المزبورة بعنوان قاعدة الحلية (١)

ولا يخفى ما فيه لظهور قوله عليه‌السلام كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه في الإنشاء وحمله على الإخبار عن القواعد المختلفة خلاف الظاهر هذا مضافا إلى ما أفاد الشهيد الصدر قدس‌سره من أنه خلاف الظاهر لا فقط باعتبار ظهور الجملة في الإنشاء لا الإخبار بل من أجل قوة ظهورها في أنّها في مقام إعطاء قاعدة كلية بنكتة واحدة للتطبيق على الموارد المختلفة بحيث يستفيد السامع تطبيقها بالفعل وهذا لا يناسب مع كون القضية إخبارية تجمع حيثيات وقواعد متعددة لا يمكن أن يرجع إليها المكلف في مجال التطبيق. (٢)

وحكي أيضا عن تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد في دفع الإشكال أن ذكر الموارد المذكورة من باب التنظير (اي تنظير قاعدة أصالة الإباحة بسائر القواعد كقاعدة اليد والسوق والاستصحاب) لتقريب أصالة الإباحة إلى الأذهان وأنّها ليست بعادمة في الشريعة وإنّها حكمت بالحل في الموارد المذكورة مع عدم القطع بالحلية انتهى.

يمكن أن يقال إنّ هذا الحمل لا يساعد مع قوله عليه‌السلام «وذلك مثل الثوب» فإنّه كما أفاد في تسديد الاصول ظاهر جدا في أنه ذكر مثال لقوله كل شيء هو لك حلال ولو أراد ما أفاده المحقق الخراساني لقال وذلك مثل حلية الثوب (٣)

وقال الشهيد الصدر قدس‌سره : في نهاية الأمر والذي يقوى في النفس أنّ المقصود من

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ٦٦١.

(٣) تسديد الاصول ٢ : ١٤٨.

٤٨١

الرواية النظر إلى مرحلة البقاء وإنّ ما أخذه المكلف وكان حلالا له على أساس قاعدة شرعية يبقى حلالا ولا ينبغي أن يوسوس فيه وفي مناشئ حصوله حتى يستبين خلافه أو تقوم به البيّنة وبهذا تكون أجنبيّة عن البراءة إذ ليست في مقام جعل البراءة كما أن في الأمثلة المذكورة لا يوجد ما يكون موردا لها. (١)

وفيه أنه ليس بجواب بل هو تصديق للإشكال ببيان آخر هذا مع أنّ حمل الرواية على ما ذكر خلاف الظاهر جدا فإنّ ظاهر الرواية إنّ الشك في أصل الحليّة والحرمة لا في بقائهما ومما ذكر يظهر أنه لا محيص عن هذا الإشكال لأن الأمثلة لا تساعد مع القاعدة المذكورة في صدرها اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المشكل هو تطبيق الكبرى على الأمثلة لا أصل الكبرى فيمكن الأخذ بها.

وأما عن الثالث فبأنّ قيام البيّنة وإن اختص بالشبهة الموضوعية إلّا أنه يمكن أن يقال إنّ الاستبانة المذكورة في الذيل تعم الاستبانة العلمية القطعية وغيرها الحاصلة بمثل خبر الواحد أو الظواهر وعليه فذكر قيام البيّنة بعد الاستبانة من قبيل ذكر الخاص بعد العام ولا شاهد فيه على الاختصاص فتحصّل أنّ الرواية لا تخلو عن الإشكال ولو من ناحية الإشكال الثاني كما عرفت ولكن مع ذلك يمكن الأخذ بالكبرى المذكورة فيها مع قطع النظر عن الأمثلة التي فيها هذا لو لا الإشكال في سندها من الضعف والظاهر أنّ السند ضعيف فإنّ مسعدة بن صدقة عامي ولم يوثق ولكن المحكي من السيّد المحقق البروجردي قدس‌سره هو اتحاده مع مسعدة بن زياد الربعي الثقة واستشهد لذلك باتحاد مضمون رواياتهما التي تقرب عشر روايات وأيّده بأنّ المروي في بعض طرق الكافي هكذا عن مسعدة بن صدقة عن زياد والظاهر عندي أنّ الصحيح هو مسعدة بن صدقة بن زياد وعليه يكون زياد اسم جد مسعدة وكثيرا ما كانوا يحذفون اسم الأب وينسبون إلى الجد وعليه كلمة «عن زياد» تصحيف ابن زياد انتهى.

__________________

(١) مباحث الحجج ٢ : ٦٧.

٤٨٢

هذا مضافا إلى ما حكي عن الوحيد البهبهاني من أن جدي قال الذي يظهر من أخباره في الكتب أنه ثقة لأن جميع ما يرويه في غاية المتانة وموافق لما يرويه الثقات ولهذا عملت الطائفة بما رواه بل لو تتبعت وجدت أخباره أسد وأمتن من أخبار مثل جميل بن دراج وحريز بن عبد الله انتهى.

وقال النجاشي في رجاله وله كتب منها كتاب خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام روى هارون بن مسلم عنه انتهى وهارون بن مسلم ثقة وجه. وقال بعض الأعلام أنّه ثقة لنقل بعض الأجلاء عنه هذا ولكن لقائل أن يقول اتحاد مضمون بعض روايات مسعدة بن زياد مع مسعدة بن صدقة لا يوجب إلّا الظن بالاتحاد هذا مضافا إلى بعد ذلك لأنّ الشيخ في الفهرست والرجال والنجاشي في رجاله ذكر كليهما من دون احتمال الاتحاد وأمّا عمل الطائفة فالمذكور في كلام الشيخ الطوسي ليس هو مسعدة بن صدقة بل السكوني وحفض وغيرهما ولعل المقصود عمل جمع من الأصحاب من دون استناد ذلك إلى مثل الشيخ كما لعله هو الظاهر وأمّا نقل بعض الاجلاء فلم ار إلّا هارون بن مسلم اللهمّ إلّا أن يكون المقصود هو نقل من روى عن هارون بن مسلم مثل أحمد بن محمّد بن يحيى وعبد الله بن جعفر الحميري وابن شاذان فإنّهم من الأجلاء وكانوا يروون كتاب خطب امير المؤمنين عليه‌السلام عن مسعدة بن صدقة بواسطة هارون بن مسلم كما في رجال النجاشي وغيره ومن البعيد جدا نقل هؤلاء هذا الكتاب مع كون راويه غير ثقة فتدبر جيدا.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان التي رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم :

روى الصدوق في الفقيه عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (١) وسند الصدوق إلى الحسن بن محبوب صحيح وهو على ما في المشيخة محمّد

__________________

(١) الفقيه الباب ٣٩ باب الصيد والذباحة ح ٨٣.

٤٨٣

بن موسى بن المتوكل رحمهم‌الله عن عبد الله بن جعفر الحميري وسعد بن عبد الله عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان وروى الشيخ الطوسي قدس‌سره في التهذيب عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (١) وطريقه إلى الحسن بن محبوب صحيح أيضا كما في المشيخة والفهرست.

ورواها أيضا (٢) بهذا السند عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كل شيء يكون منه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

وروى الكليني قدس‌سره عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأحمد بن محمّد جميعا عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. (٣)

وروى الكليني قدس‌سره أيضا عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقال لي لقد سألتني عن طعام يعجبني ثم أعطى الغلام درهما فقال يا غلام ابتع لنا جبنا ودعا بالغداء فتغدينا معه وأتى بالجبن فأكل وأكلنا معه فلما فرغنا من الغداء قلت له ما تقول في الجبن فقال لي أو لم ترني أكلته قلت بلى ولكني أحب أن أسمعه منك فقال ساخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه. (٤) وحيث إنّ عبد الله بن سليمان ممن روى عنه الصفوان تكون الرواية معتبرة.

هذا مضافا إلى ما رواه أحمد بن أبي عبد الله البرقي في المحاسن عن اليقطيني عن صفوان

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧٩ الباب ٢ باب الذبائح والأطعمة ح ٧٢.

(٢) في التهذيب ٧ : ٢٢٦ الباب ٢١ باب من الزيادات ح ٨.

(٣) الكافي ٥ : ٣١٣ باب النوادر ح ٣٩.

(٤) الكافي ٦ : ٣٣٩ باب الجبن ح ١.

٤٨٤

عن معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه‌السلام إنه طعام يعجبني فسأخبرك عن الجبن وغيره كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه. (١)

هذه الروايات متوافقة المضمون ولعل يرجع بعضها إلى بعض.

وكيف ما كان فالمحكي عن الشهيد إنّه استدل للبراءة بقوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

وتقريب الاستدلال كما عن شرح الوافية انّ معنى الحديث انّ كل فعل من الأفعال التي تتصف بالحل والحرمة وكذا كل عين مما يتعلق به فعل التكليف ويتصف بالحل والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاص به من الحل والحرمة فهو حلال.

فخرج ما لا يتصف بهما جميعا من الأفعال الاضطرارية والأعيان التي لا يتعلق بها فعل المكلف وما علم أنه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه.

وليس الغرض من ذكر الوصف مجرد الاحتراز بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.

فصار الحاصل إنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال سواء علم حكم كلي فوقه أو تحته بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحققه في ضمنه لعلم حكمه أو لا.

وبعبارة أخرى انّ كل شيء فيه الحلال والحرام عندك بمعنى إنّك تقسّمه إلى هذين وتحكم عليه باحدهما لا على التعيين ولا تدري المعين منهما فهو لك حلال فيقال حينئذ الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق المحتمل كونه من المذكى أو الميتة وعلى شرب التتن وعلى لحم الحمير إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه لأنه يصدق على كل منها : إنّه شيء فيه حلال وحرام عندنا بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين فنقول إمّا حلال و

__________________

(١) الوسائل الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٧ ، المحاسن : ٤٩٦ ، ح ٦٠١.

٤٨٥

إمّا حرام وإنّه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها وأصنافها حلالا وبعضها حراما واشتركت في أن الحكم الشرعي المتعلق بها غير معلوم انتهى.

ذكر نحوه في الدرر حيث قال إنّ قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام حمل على صلاحيتهما واحتمالهما فيصير الحاصل ان كل شيء يصلح لأن يكون حراما ولأن يكون حلالا ويصح ان يقال فيه إما حرام وإما حلال فهو لك حلال سواء كانت الشبهة في الحلية والحرمة من جهة الشك في اندراجه تحت كلي علم حكمه أم لا. (١)

أورد عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره في فرائد الاصول بأنّ المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مثّله بهما إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في «منه» إليهما لكن لفظة «منه» ليس في بعض النسخ وأيضا الظاهر أنّ المراد بقوله فيه حلال وحرام كونه منقسما إليهما ووجود القسمين فيه بالفعل لا مرددا بينهما إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا لا ذهنا ولا خارجا إلى أن قال فالمعنى والله العالم أنّ كل كلي فيه قسم حلال وقسم حرام كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكى والميتة فهذا الكلي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معينا في الخارج فتدعه.

وعلى الاستخدام يكون المراد انّ كل جزئي خارجي في نوعه القسمان المذكوران فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلي في الخارج فتدعه وعلى أي تقدير فالرواية مختصة بالشبهة في الموضوع وأما ما ذكره المستدل من أنّ المراد من وجود الحلال والحرام فيه احتماله وصلاحيته لهما فهو مخالف لظاهر القضية ولضمير منه ولو على الاستخدام انتهى موضع الحاجة. (٢)

حاصله أنّ قوله عليه‌السلام كل شيء يكون فيه حلال وحرام ظاهر في الانقسام الفعلي وهو لا يتصور في الشبهات الحكمية فإنّ القسمة فيها ليست فعلية بل هي فرضية حيث انه ليس

__________________

(١) الدرر : ٤٤٩.

(٢) فرائد الاصول : ٢٠١.

٤٨٦

فيها إلّا احتمال الحل والحرمة كما في شرب التتن المشكوك حليته وحرمته وعليه فيختص قوله عليه‌السلام بالشبهات الموضوعية التي يكون الشك فيها في الحل والحرمة من جهة الشك في انطباق ما هو الحرام على المشتبه بعد إحراز وجود الحلال والحرام فيه بالفعل.

ويؤيد ذلك أيضا بظهور كلمة «منه» و«بعينه» وتعريف الحرام باللام في قوله عليه‌السلام حتى تعرف الحرام منه بعينه فإنّه إشارة وإرجاع إلى الحرام المذكور في قوله كل شيء يكون فيه حلال وحرام والإشارة والإرجاع إليهما متفرعتان على إحراز وجودهما كما لا يخفى.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره الشيخ يتمّ فيما إذا كان المراد من الشيء في قوله عليه‌السلام كل شيء هو النوع والمراد من الحلال والحرام هو حكم أصناف هذا النوع فإنّ الانقسام الفعلي لا يتصور حينئذ إلّا في الشبهة الموضوعية وأمّا إذا كان المراد من الشيء هو الأعمّ من الجنس ومن الحلال والحرام أمكن أن يقال بشمول الرواية للشبهات الحكمية أيضا نظرا إلى إمكان فرض الانقسام الفعلي فيها كما في كلي اللحم فإن فيه قسمان معلومان حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الأرنب وقسم ثالث مشتبه وهو لحم الحمير مثلا لا يدرى انه محكوم بالحلية أو الحرمة ومنشأ الاشتباه فيه وجود القسمين المعلومين فيقال بمقتضى عموم الرواية انّه حلال حتى تعلم حرمته ويخرج بذلك عن دائرة المشتبهات المحكوم فيها بالحلية وبعد شمول العموم المزبور لمثل هذا المشتبه الذي يوجد في نوعه القسمان المعلومان يتعدى إلى غيره بعدم القول بالفصل. (١)

ويمكن الجواب عنه بما في كلام الشيخ من أنّ الظاهر إن ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه كما في رواية أخرى كل شيء لك حلال حتى تعرف إنه حرام بيان منشأ الاشتباه الذي يعلم من قوله عليه‌السلام حتى تعرف إلى أن قال إنّ وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار ولا دخل له في هذا الحكم أصلا ولا في تحقق الموضوع وتقييد الموضوع بقيد أجنبي لا دخل له في الحكم ولا في تحقق الموضوع مع خروج بعض الأفراد منه مثل شرب

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٤٨٧

التتن حتى أحتاج إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه مما يوجد في نوعه قسمان معلومان بالإجماع المركب ومستهجن. (١)

وأوضح هذا الجواب في مصباح الاصول بأن الظاهر من قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام إنّ منشأ الشك في الحلية والحرمة هو نفس انقسام الشيء إلى الحلال والحرام وهذا لا ينطبق على الشبهة الحكمية فإنّ الشك في حلية بعض أنواع الحيوان ليس ناشئا من الانقسام إلى الحلال والحرام بل هذا النوع مشكوك فيه من حيث الحلية والحرمة ولو على تقدير حرمة جميع بقية الأنواع أو حليتها (بل منشأ الشك في الحلية والحرمة فيه هو عدم النص أو اجمال النص كما لا يخفى) وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية فإنّ الشك في حلية مائع موجود في الخارج ناشئ من انقسام المائع إلى الحلال والحرام إذ لو كان المائع بجميع أقسامه حلالا أو بجميع أقسامه حراما لما شككنا في هذا المائع الموجود في الخارج من حيث الحلية والحرمة فحيث كان المائع منقسما إلى قسمين قسم منه حلال كالخل وقسم منه حرام كالخمر فشككنا في حلية هذا المائع الموجود في الخارج لاحتمال أن يكون خلا فيكون من القسم الحلال وان يكون خمرا فيكون من القسم الحرام. (٢)

هذا مضافا إلى ما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره أيضا من أن الظاهر من قوله عليه‌السلام حتى تعرف الحرام منه معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ومعلوم أن معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلية لحم الحمار. (٣)

وهذا الذي أشار الشيخ إليه يلزم فيما إذا قلنا بشمول الرواية للشبهة الحكمية إذ يحكم بحلية لحم الحمار حتى تعرف لحم الخنزير وحرمته مع أنه كما ترى هذا بخلاف ما إذا قلنا باختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية فإنّ مورد الشبهة محكوم بالحلية حتى تعرف إنّه مصداق الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ولا إشكال كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠١.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٣) فرائد الاصول : ٢٠١.

٤٨٨

فتحصل أنّ مفاد هذه الرواية لا ينطبق على الشبهة الحكمية بشهادة أمرين :

أحدهما دلالته على أن نفس الانقسام المذكور منشأ للشك والاشتباه وثانيهما جعل الحرام المعلوم منهما غاية للحلية فإنه لا يصح ذلك إلّا في الشبهات الموضوعية وأما في الحكمية فلا يصح جعل الحرام المعلوم المذكور غاية لحلية لحم الحمير مثلا كما لا يخفى.

إذ لا معنى لجعل العلم بكون لحم الخنزير حراما غاية لحلية لحم الحمير أمّا الأمر الأول فلا مكان أن يقال نفي السببية لوجود القسمين بالنسبة إلى الشك في حكم لحم الحمير في غير محله والشاهد له أنّه لو علم ان مطلق اللحم حراما أو حلالا لم يبق له شك في حكم لحم الحمير فإنّ المشكوك لا يبقى على الشك مع العلم بحرمة مطلق اللحم أو العلم بحلية مطلق اللحم كما لا يخفى.

فالشك ناش من وجود القسمين من الحلال والحرام في الأنواع وعليه فلا وجه لإنكار سببية وجود القسمين في الشبهات الحكمية والعجب من مصباح الاصول حيث قال هذا النوع مشكوك فيه من حيث الحلية والحرمة ولو على تقدير حرمة جميع بقية الأنواع أو حليتها الخ مع أن اللازم هو إن قال ولو على تقدير حرمة مطلق اللحم أو حليته كما قاله كذلك في الشبهة الموضوعية ومن المعلوم أنه لو قال بمثل ما قال في الشبهة الموضوعية لم يبق شك في هذا النوع أيضا وعليه فوجود القسمين موجب للشك في الشبهة الحكمية كالشبهة الموضوعيّة ولذلك قال في الدرر يكفي في عدم لغوية القيد (وهو قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام) انه لو علم كون مطلق اللحم حراما أو حلالا لم يبق شك في لحم الحمير فوجود القسمين في اللحم صار منشأ للشك في لحم الحمير (١)

قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره : في توضيح مراد استاذه قدس‌سره والحق هو اندفاع الإشكالين أما الأول فلأن التقييد المذكور لا يكون لغوا لكونه دخيلا في الموضوع وذلك لأن الشبهة في لحم الحمار مثلا وإن كانت كما ذكر ناشئة عن عدم النص لكن لا ينافي هذا أن

__________________

(١) الدرر : ٤٥٠.

٤٨٩

يكون منشأها وجود القسمين الحلال والحرام فإنه لو كان النص على حلية كل لحم موجودا لم يكن شك في حلية لحم الحمار ولو كان النص على حرمة كل لحم موجودا لم يكن شك في حرمة لحم (الحمار).

ولكن لما لم يكن شيء من هذا النصين وانما صار بعض اللحوم حراما وبعضها حلالا فهذا أوجب الشك في حكم لحم الحمار.

فهذا نظير ما يقال في العرف لو كان كل أفراد الإنسان أمينا لما شككت في أمانة هذا الشخص ولو كان كل أفراده خائنا ما شككت في خيانة هذا الشخص ولكن لما كان أفراده مختلفة فبعضها أمين وبعضها خائن فلا جرم شككت في أمانة هذا الشخص وخيانته وهذا مطلب صحيح عرفي. (١)

هذا كله بالنسبة إلى الأمر الأول وهو لزوم كون الانقسام سببا ومنشأ للشك وهو متحقق في الشبهة الموضوعية دون الحكمية وأمّا الأمر الثاني وهو متحقق في الشبهة الموضوعية دون الحكمية فقد أجاب عنه في الدرر أيضا بأنّ معرفة الحرام غاية للحكم على المطلق أو على ذلك الشيء الذي عرف حرمته. ولو لا ذلك للزم الإشكال على تقدير الاختصاص بالشبهة الموضوعية أيضا إذ بعد معرفة فرد من أفراد الغير المذكى يصدق انّه عرف الحرام فيلزم ارتفاع الحكم عن الشبهات أيضا فتدبر جيدا. (٢)

قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره : في توضيح ذلك وبالجملة إن كان المراد بعرفان الحرمة الذي جعل في الحديث غاية للحل حقيقة عرفان جنس الحرام حتى يكون صادقا على فرد واحد كان الإشكال مشترك الورود على كلتا الشبهتين وإن كان المراد ان عرفان الحرمة في كل شيء ليس إلّا غاية للحل بالنسبة إلى هذا الشىء دون غيره كان الإشكال غير وارد في كلتا الشبهتين ولكن حيث إنّ الظاهر هو إرادة عرفان جنس الحرام الصادق

__________________

(١) أصول الفقه لشيخنا الاستاذ ٢ : ٧٧.

(٢) الدرر : ٤٥٠.

٤٩٠

على فرد واحد كان الإشكال واردا على كلتيهما فلا بدّ في دفعه عن كلتيهما فنقول إنّ عرفان الحرام غاية للقضية الاستغراقية بوصف كونها استغراقية فمعنى الحديث أنّ الجنس الذي هو اللحم المنقسم في الذهن إلى القسم المذكى والقسم الميتة يكون بجميع أفراده حلالا فكل فرد منه سواء كان ميتة واقعا أم مذكى واقعا فهو حلال وكذلك جنس اللحم الذي له قسمان احدهما لحم الغنم والآخر لحم الخنزير وله قسم ثالث وهو لحم الحمار فهو بجميع أقسامه يكون حلالا سواء كان من القسم الحلال واقعا أم من القسم الحرام حتى يعرف الحرمة في فرد واحد على الأول أو في قسم واحد على الثاني فحينئذ يكون هذا الحكم العام الاستغراقي الاستيعابي وهو حلية كل فرد أو كل قسم مرتفعا وهذا لا إشكال فيه إذ لا إشكال في أنه بعد معرفة الحرمة في الفرد الواحد أو القسم الواحد لم يبق هذا الحكم العام بعمومه.

واذن فبناء على حمل الرواية على التقسيم الذهني فدلالتها على البراءة في الشبهة الحكمية تامة غاية الأمر يكون موردها خصوص الشبهة الحكمية التي كان له قسم حلال وقسم حرام ولم يكن القسم الحرام بعد معروفا فيتم في غير هذا وهو ما لم يكن له قسم حلال وقسم حرام وما كان له ذلك بعد عرفان الحرام بعدم القول بالفصل.

ولكن الشأن في إثبات ظهور الرواية في التقسيم الذهني دون الخارجي وهو غير معلوم بل الظاهر منها لا يبعد أن يكون هو التقسيم الخارجي بقرينة ذكر لفظة «بعينه» (١)

ولا يخفى عليك أيضا أن الظاهر من الحديث كما أشار إليه الاستاذ قدس‌سره بقرينة لام العهد في قوله حتى تعرف الحرام ولفظة بعينه إن المراد من الغاية في قوله حتى تعرف الحرام منه بعينه هي معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده بالفعل في الشيء وذلك لا يساعد إلّا مع إرادة الشبهة الموضوعية إذ مع الشبهة الحكمية لا معنى لجعل معرفة حرمة لحم الخنزير غاية لحلية لحم الحمير لعدم الارتباط بينهما فلا وجه لأن يقال. إنّ لحم الحمير مثلا الذي شك في حليته وحرمته عند ما رأينا وجود القسمين في اللحم حلال حتى تعرف حرمة لحم الخنزير وعلم

__________________

(١) أصول الفقه شيخنا الاستاذ ٢ : ٧٦ ـ ٧٧.

٤٩١

بوجوده في الشيء بل الذي يكون مناسبا مع الشبهة الحكمية هو ان يقال إنّ لحم الحمير المشكوك حلال حتى تعرف إنه حرام آخر وهو لا يساعد مع ذكر لام العهد ورجوع الضمير في «بعينه» إلى الحرام الموجود في الشيء كما لا يخفى.

ولعل إليه يؤول ما أشار إليه شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره في الدورة الأخيرة بقوله ولكن يمكن الإيراد على الكلام المزبور أعني التسرية إلى الشبهة الحكمية بأن يقال إنّ الظاهر أن يكون الدوران بين نفس الحلال والحرام المذكورين في الصدر وهو منحصر في الشبهة الموضوعية إذ لا دوران في الشبهة الحكمية من لحم الحمير بين اللحوم المعلوم الحرمة واللحوم المقطوع الحلية وبعبارة أخرى الظاهر انّ مورد الحكم بالحلية شيء قابل لأن يعرف فيه ذلك الحرام المعلوم.

إلّا أن يقال : يكفي صحة انطباق عنوان الحرام بما هو هو فالمراد إنّ كل كلّي كان فيه الحلال والحرام ولو لم يعرف عنوانهما بغير هذين العنوانين فهو حلال في أفراده المشتبهة حتى يعرف الحرام منه ولكنه مع ذلك لا يخلو عن التكلف فالظاهر اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية. (١)

قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ قوله «بعينه» و«منه» و«فيه» ومادة «العرفان» المستعملة في الأمور الجزئية قرينة على الاختصاص فإنّ كل واحد من هذه الأمور وإن كان في حد نفسه قابلا للمناقشة إلّا أنّ ملاحظة المجموع ربما تصير قرينة على الاختصاص أو سلب الاعتماد بمثل هذا الإطلاق. (٢)

ويؤيده عدم اشتراط البراءة في هذه الأخبار بالفحص إذ لو كان لمراد أعمّ من الشبهة الحكمية لزم تقيدها بكونها بعد الفحص فتأمّل.

يمكن أن يقال : بأنّ الاستبانة المذكورة في الذيل تعمّ الاستبانة العلمية القطعية و

__________________

(١) أصول الفقه لشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره : ٦٢٤

(٢) تهذيب الاصول ٢ : ١٨٨.

٤٩٢

غيرها الحاصلة بمثل خبر الواحد أو الظواهر وعليه فذكر قيام البيّنة بعد الاستبانة من قبيل ذكر الخاص بعد العام ولا شاهد فيه على الاختصاص.

نعم لا يخلو الرواية عن الضعف في السند فإنّ مسعدة بن صدقه عامّي ولم يوثق إلّا أنّ المحكي عن السيد المحقق البروجردى قدس‌سره أنّه متحد مع مسعدة بن زياد الربعي الثقة بقرينة اتحاد مضمون رواياته مع رواياته التي تقرب عشر روايات وأيّد ذلك بالمروى في بعض طرق الكافي هكذا عن مسعدة بن صدقة عن زياد لأنّ الظاهر عندي أنّ الصحيح هو مسعدة بن صدقة بن زياد وعليه يكون زياد اسم جدّ مسعدة وكثيرا ما يحذف اسم الأب وينسب الولد إلى الجدّ هذا مضافا إلى ما حكي عن الوحيد البهبهاني من أنّ جدّي قال الذي يظهر من أخباره في الكتب أنّه ثقة لأنّ جميع ما يرويه في غاية المتانة وموافق لما يرويه الثقات.

ولكن لقائل أن يقول اتحاد مضمون بعض روايات مسعدة بن زياد مع روايات مسعدة بن صدقة لا يوجب إلّا الظن باتّحادهما هذا مضافا إلى أنّه يبعده ذكر كليهما في الفهرست والرجال والنجاشي فتأمّل.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان التي رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم ومضمونها متوافقة وقد رواها الكليني قدس‌سره عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأحمد بن محمّد جميعا عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

وتقريب الاستدلال بها كما عن شرح الوافية وفي الدرر أنّ معنى الحديث أنّ كلّ فعل من الأفعال التي تتّصف بالحلّ والحرمة وكذا كلّ عين ممّا يتعلق به فعل التكليف ويتّصف بالحلّ والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاص به من الحلّ والحرمة فهو لك حلال.

فخرج ما لا يتّصف بهما جمعيا من الأفعال الاضطرارية والأعيان التى لا يتعلق بها فعل المكلف وما علم أنّه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه.

٤٩٣

فصار الحاصل أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو لك حلال سواء علم حكمه كلي فوقه أو تحته بحيث لو فرض العلم باندارجه تحته أو تحققه في ضمنه لعلم حكمه أو لم يعلم ذلك.

وعليه فالرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق المحتمل حليته لكونه من المذكى أو حرمته لكونه من الميتة وهكذا يصدق على شرب التتن أو لحم الأرنب مثلا لان الحلّية والحرمة كليهما محتملتان فيهما.

وبعبارة اخرى قوله فيه حلال وحرام يحمل على صلاحية الشيء أو الفعل لهما واحتمالهما فيه فيصير المعنى أنّ كل شيء يصلح لأن يكون حراما ولأن يكون حلالا ويصح فيه أن يقال : إنّه إما حرام أو حلال فهو لك حلال.

وقد أورد عليه بأنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام كونه منقسما إليهما ووجود القسمين فيه بالفعل لا مردّدا بينهما إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا لا ذهنا ولا خارجا ودعوى أنّ المراد من وجود الحلال والحرام فيه هو احتماله وصلاحيته لهما مندفعة بأنه مخالف لظاهر القضيّة.

وعليه فيختص قوله عليه‌السلام بالشبهات الموضوعية التى يكون الشكّ فيها في الحل والحرمة من جهة الشكّ في انطباق ما هو الحرام على المشتبه بعد إحراز وجود الحلال والحرام فيه بالفعل.

ويؤيّد ذلك ظهور كلمة «منه» و«بعينه» وتعريف الحرام باللام في قوله عليه‌السلام حتى تعرف الحرام منه بعينه فإنّه إشارة وإرجاع إلى الحرام المذكور في قوله عليه‌السلام كل شيء يكون فيه حلال وحرام ومن المعلوم أنّ الإشارة والإرجاع إليهما متفرّعتان على إحراز وجودهما قبل الإشارة والإرجاع والأجوبة المذكورة عن هذا الإيراد لا تخلو عن التكلف والتأمل والحاصل أنّ قوله «بعينه» و«منه» و«فيه» ومادة «العرفان» المستعملة في الأمور الجزئية قرينة على اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية ولا أقل من الشكّ في شمولها للشبهة الحكمية.

٤٩٤

التنبيه

واعلم أنّ مقتضى عموم قاعدة الحلّية هي حلّية المشكوك ولو كان الشيء المشكوك هو أجزاء الحيوان من الجلد أو اللحم أو الشحم المأخوذة من يد الكافر أو المستوردة من بلاد الكفر بشرط احتمال التذكية الشرعية في حيوانها فحينئذ يجوز التصرف فيها عدى ما اشترط العلم بالتذكية في الاستعمال كالأكل أو لبسه في الصلاة.

وذلك لجريان قاعدة الحلّية فيها كجريان قاعدة الطهارة ولا مجال لاستصحاب عدم التذكية فيها بناء على أنّ التذكية هي فري الأوداج الأربعة لا الأمر المعنوي الحاصل بالفري ومن المعلوم أنّ فري الأوداج الأربعة لا يتصور في أجزاء الحيوان فانما لم تجر أصالة عدم التذكية فمقتضى قاعدة الحلّية هو جواز التصرف مطلقا عدى ما خرج.

نعم لو كان المشكوك جسد الحيوان الكامل فلا مجال لقاعدة الحلّية لجريان أصالة عدم التذكية فيحرم جميع التصرفات.

٤٩٥

حديث احدى الجهالتين اهون

ومنها : أي من الأخبار التي استدل بها للبراءة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المروية في التهذيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له أبدا فقال لا أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك فقلت بأي الجهالتين أعذر بجهالته ان يعلم ان ذلك محرم عليه أم بجهالته انها في عدة؟

فقال إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه وذلك انه لا يقدر على الاحتياط معها فقلت فهو في الأخرى معذور قال نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها فقلت وان كان أحدهما متعمدا والآخر بجهالة فقال الذي تعمد لا يحل له ان يرجع إلى صاحبه أبدا. (١)

وتقريب الاستدلال انّ الرواية تدل على أنّ الجهل مطلقا عذر ومقتضى كون الجهل عذرا هو انّه لا عقوبة عليه وهو المطلوب.

ويشكل ذلك أوّلا : بأن الجهل في الرواية إمّا يكون بمعنى الشك فإن كان متعلقا بالحكم التكليفي فالمعذورية تتوقف على الفحص إذ الجاهل بالحكم قبل الفحص ليس بمعذور إجماعا ولو حملنا الرواية على ما بعد الفحص فيبعد بقاء الجهل مع وضوح الحكم المذكور بين المسلمين وان كان الشك متعلقا بالموضوع فيصح الحكم بالمعذورية قبل الفحص إذا لم يعلم بكونها في العدة سابقا وأما إذا علم بكونها في العدة ولم يدر انقضائها فمقتضى استصحاب بقاء العدة عدم معذوريته وبالجملة الحكم بمعذورية الجاهل مطلقا لا يطابق القواعد المسلّمة وإمّا يكون الجهل بمعنى الغفلة فيستقيم الحكم بالمعذورية ويشهد له قوله عليه‌السلام وذلك انه لا يقدر على الاحتياط معها ولكنه أجنبي عن المقام لأنّ بحث الأصولي يكون حول الشك لا الغفلة وثانيا : كما أفاده في الدرر بأن حكمه عليه‌السلام بكون الجهالة بأن الله

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٠٦ الباب ٢٦ باب من يحرم نكاحهن بالأسباب دون الأنساب ح ٣٢.

٤٩٦

تعالى حرم عليه ذلك أهون من الأخرى معللا بعدم قدرته على الاحتياط معها غير واضح لأنه لا فرق بين الجهالتين في هذه العلة لأن الجهالة إن كانت بمعنى الغفلة فلا إشكال في عدم قدرته على الاحتياط فيهما والتفكيك بين الجهالتين بأن يجعل الجهالة بالحكم بمعنى الغفلة والأخرى بمعنى الشك في غاية البعد.

ويمكن الجواب عن الإشكالات الواردة على الرواية بأجمعها بما في الدرر من حمل الجهالة على الغفلة في كلتي الصورتين وحمل قول السائل «بجهالة أن الله حرم عليه ذلك» على الجهالة في الحكم التكليفي وقوله «أم بجهالته انها في العدة» على جهالته بأن العدة موضوعة للأمر الوضعي أعني الحرمة الأبدية.

وحينئذ وجه قدرته على الاحتياط في الثاني انه بعد الالتفات يتمكن من رفع اليد عن الزوجة بخلاف الأول فإنه عمل بالفعل المحرم شرعا ولا يتمكن عن تداركه بعد الالتفات فافهم (١)

ولكن يرد عليه بأن تخصيص الرواية بمورد الغفلة يوجب كونها أجنبية عن محل البحث وهو صورة الشك والترديد مع أنّ بحث الاصولي في حكم الشك والترديد لا حكم الغفلة هذا مضافا إلى أن ما ذكره في وجه الفرق بين الجهالة بالحكم التكليفي وبين الجهالة بالموضوع في قدرته على الاحتياط في الثانية دون الأولى محل تامل ونظر ولعل قوله : فافهم اشارة إلى ذلك فالأولى هو الجواب عنه بما حكى شيخنا الاستاذ الأراكي رحمه‌الله عن الاستاد الأعظم الميرزا الشيرازي قدس‌سره من أن الجهالة ليست في الموضعين مستعملة في معنيين بل استعملت في كليهما في العام الشامل للشك والغفلة وهو عدم العلم ولكن هذا المعنى العام يكون الغالب تحققه في ضمن الغفلة بالنسبة إلى الحكم وفي ضمن الترديد بالنسبة إلى الموضوع فالاختلاف في المحقق لا في المعنى المستعمل فيه الكلمة وأما وجه الاختلاف بينهما فلأن الحكم لغاية وضوحه مثل وجوب صلاة الظهر بين المسلمين يكون عدم علمه بنحو الترديد فيه في غاية الندرة نعم عدم علمه بنحو الغفلة ليس نادرا.

__________________

(١) الدرر : ٤٤٨.

٤٩٧

وأما الموضوع فالإنسان المريد لتزويج امرأة لا محالة يكون بصدد التفتيش عن موانع التزويج في حق المرأة الشخصية ومع هذا لو لم يقع في ذهنه الالتفات إلى حيث كونها في عدة الغير أولا فهو في كمال البعد والندرة نعم يمكن بقائه على حالة الترديد. (١)

وتبعه في نهاية الأفكار حيث قال ويمكن دفع ذلك بأن المراد من الجهالة في الموضعين إنّما هو مطلق الجهل الشامل للغافل والشاك في قبال العالم الخ. (٢)

ولكن هذا الجواب يوجب تخصيص الرواية بالشبهات الموضوعية ولا تعرض لها بالنسبة إلى الشبهات الحكمية لأنّ المفروض ان الغالب تحقق المعنى العام في ضمن الغفلة بالنسبة إلى الحكم وفي ضمن الترديد بالنسبة إلى الموضوع اللهمّ إلّا أن يكتفى في الشبهة الحكمية بغير الغالب ويحمل الرواية على بيان حكم الفرد النادر وهو كما ترى لأنه حمل المطلق على الفرد النادر إلّا أن يقال لا يحمل الإطلاق على الفرد النادر بل يستفاد منه حكم النادر أيضا وهو غير حمل المطلق على النادر وعليه فتعم الرواية الشبهة الحكمية أيضا وعليه فالتعليل بأنه لا يقدر على الاحتياط غالبي فلا ينافي المورد النادر فلا تغفل.

وأما ما يقال من أنّ الرواية مختصة ببعض المحرمات ولا إطلاق لها بالنسبة إلى سائر المحرمات هذا مضافا إلى عدم شمولها للواجبات المجهولة.

ففيه أن مورد الرواية وإن كان مختصة ببعض المحرمات ولكن يمكن إلغاء الخصوصية هذا مضافا إلى أن لسان الجواب لسان بيان ما يصلح للتعميم مثل قوله عليه‌السلام وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك وقوله عليه‌السلام إحدى الجهالتين أهون من الأخرى مع أن السؤال عن الحرمة التكليفية أو الشبهة الموضوعية ومضافا إلى أنّ الإمام عليه‌السلام يكون في الذيل في مقام بيان الفرق بين العمد والعلم وبين مطلق الجهالة من الغفلة والشك والترديد من دون اختصاص ذلك بمورد من الموارد والأضعف من ذلك هو دعوى اختصاص الرواية

__________________

(١) أصول الفقه لشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره ٣ : ٦١٨ ـ ٦١٩.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٣٢.

٤٩٨

بالأحكام الوضعية فإن التعبير بالأهونيّة في جواب الإمام عليه‌السلام وبالأعذرية في كلام السائل لا يناسب تحصيصه بالأحكام الوضعية لأنها ليست ذات مراتب بخلاف التكليفية كما أفاد سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره. (١)

اللهمّ إلّا أن يقال : أعذر ليس بأفعل التفضيل بل هو فعل مجهول بضم الهمزة والضمير فيه راجع إلى الرجل فلا منافاة مع الاختصاص بالوضعية إلّا أنّ الإطلاق مانع من الاختصاص بها فتدبر.

وبما ذكرنا يظهر إمكان دفع الشبهات الواردة على هذه الرواية كما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره بعد ما أشكل في الرواية من جهة اختصاص موضوع السؤال بالجاهل المركب أو الغافل ومن جهة اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية ومن جهة أنه لو كان الشك في مقدار العدة فهو شبهة حكمية ولكنه حيث قصّر في السؤال عنها فهو ليس بمعذور اتفاقا لأصالة بقاء العدة وأحكامها وغير ذلك. بقوله في آخر عبارته فتدبر فيه وفي دفعه. (٢)

فتحصل أنّ الرواية بعد تخصيصها بحكم العقل بغير مورد الشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص وبغير مورد الشبهة المحصورة وبغير مورد الاستصحاب أو الأمارات تدل على أنّ الجهل وعدم العلم بالحكم أو الموضوع عذر ومعنى العذر انّه لا فعلية للحكم بالنسبة إليه ولا عقوبة ومعه لا مجال لوجوب الاحتياط مطلقا سواء كانت الشبهة تحريمية أو وجوبية فتدبر.

__________________

(١) تهذيب الأصول ٢ : ١٨٦.

(٢) فرائد الاصول : ٢٠٠.

٤٩٩

الخلاصة

حديث إحدى الجهالتين أهون

ومنها : أي من الأخبار التي استدل بها للبراءة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدّتها بجهالة أهي ممن لا تحلّ له أبدا فقال لا أمّا إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضى عدّتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك فقلت بأيّ الجهالتين أعذر بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرم عليه أم بجهالته أنّها في عدّة؟

فقال إحدى الجهالتين أهون من الاخرى الجهالة بأنّ الله حرّم ذلك عليه وذلك أنّه لا يقدر على الاحتياط معها فقلت فهو في الاخرى معذور قال نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوجها فقلت وإن كان أحدهما متعمّدا والآخر بجهالة فقال الذي تعمّد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبدا.

وتقريب الاستدلال بها إنّ الرواية تدلّ على أنّ الجهل مطلقا عذر ومقتضى ذلك أنّه لا عقوبة عليه وهو المطلوب.

ويشكل ذلك بأنّ الجهل في الرواية إمّا يكون ، بمعنى الشكّ فإن كان الشكّ متعلقا بالحكم التكليفي فالمعذورية تتوقف على الفحص إذ الجاهل بالحكم قبل الفحص ليس بمعذور إجماعا.

ولو حملنا الرواية على ما بعد الفحص ففيه أنّه يبعد بقاء الجهل بعد الفحص لوضوح الحكم المذكور بين المسلمين وإن كان الشكّ متعلقا بالموضوع فيصحّ الحكم بالمعذورية قبل الفحص إذا لم يعلم بكونها في العدة سابقا وإلّا فمع عدم العلم بانقضائها فمقتضى الاستصحاب بقاء العدّة وعدم المعذورية.

وعليه فالحكم بمعذورية الجاهل مطلقا لا يطابق القواعد المسلّمة هذا كله فيما إذا كان الجهل في الرواية بمعنى الشكّ.

٥٠٠