عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام أو إلى الطرق المنصوبة عنه عليه‌السلام كما هو ظاهر المقبولة (١) وفي المقام لا يمكن إزالة الشبهة لأن الشك بعد الفحص واليأس فلا يعم المقام ويشهد لعدم عموم الموضوع انّه لو كان عنوان الشبهة عاما لزم منه التخصيص في كبرى أن الوقوف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات مع أنها آبية عن التخصيص فكما لا عموم لها بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية فكذلك لا عموم لها بالنسبة إلى الشبهات الحكمية بعد الفحص ومع عدم العموم لا تنافي بين أدلة الوقوف في الشبهات وأدلة البراءة لتغاير موضوعهما كما لا يخفى.

وثالثا : بما ذكره شيخ مشايخنا في الدرر تبعا للشيخ الأعظم قدس‌سره من أنّه مع فرض ظهور هذه الأخبار أي الأخبار الدالة على التوقف عند الشبهات في العموم (وإن الأمر بالوقوف مولوي) فلا مناص من حمل الأمر بالتوقف فيها على إرادة مطلق الرجحان وحمل الهلكة فيها على الأعم من العقاب وغيره من المفاسد وذلك لأن من الموارد التي أديت بهذه العبارة في الأخبار على سبيل التعليل النكاح في الشبهة وقد فسّره الصادق عليه‌السلام بقوله إذا بلغك انك رضعت من لبنها أو انّها لك محرمة وما أشبه ذلك ولا إشكال في أن مثل هذا النكاح لا يجب الاجتناب عنه ولا يوجب عقابا وإن صادف المحرم الواقعي فإنّ مثل هذه الشبهة من الشبهات الموضوعية التي يتمسك فيها بالأصل اتفاقا مضافا إلى قيام الإجماع أيضا فيها والحاصل انّ قولهم عليهما‌السلام فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة أجرى في موارد وجوب التوقف وفي موارد عدم وجوب التوقف فاللازم أن تحمله على إرادة مطلق الرجحان حتى يلائم كليهما. (٢)

وتوضيح ذلك كما أفاد شيخنا الاستاذ قدس‌سره إنّ من موارد تطبيق قولهم عليهما‌السلام الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة الخ نكاح المرأة التي يحتمل كونها رضيعة الإنسان ففي

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠٦.

(٢) الدرر : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٥٦١

موثقة مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه عليهما‌السلام انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك انّك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة. (١) مع أن المرأة المزبورة من الشبهة الموضوعية الغير اللازمة الاجتناب بالاتفاق مضافا إلى نص رواية مسعدة بن صدقة (على أنّ النكاح في المورد المذكور جائز).

حيث عد من موارد البراءة الشرعية المرأة التي اشتبهت كونها رضيعة الإنسان (٢) (وعليه) فيتعين التصرف بحمل الهلكة والخيرية على ما يناسب الرجحان الأعم من المانع للنقيض وغيره (٣) فيكون الأمر فيها محمولا على إرادة مطلق الرجحان فلا يدل على الوجوب كما أنّ المراد من الهلكة ليس هو خصوص العقوبة بل هي الأعم من المفاسد ولو كانت مثل العار والشين فتدبر.

ورابعا : بأن الأمر بالتوقف عند الشبهة أمر إرشادي يختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه ففي موارد يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو ورد فيها الترخيص الشرعي كالشبهة الموضوعية أو الشبهة الحكمية بعد الفحص يحسن الاحتياط وفي موارد العلم الإجمالي بالتكليف أو الشبهة الحكمية قبل الفحص يجب الاحتياط وعليه فلا يكون الأمر بالتوقف أمرا مولويا دالا على الوجوب وإنما هو إرشاد إلى ما يقضيه الموارد وهو يختلف بحسب اختلافها.

والأمر بالتوقف في هذه الطائفة من الأخبار لا يكون أمرا مولويا يستتبع العقاب إذ التعليل فيها بأن التوقف خير من الاقتحام في الهلكات لا يصح إلّا أن تكون الهلكة مفروضة التحقق في ارتكاب الشبهة مع قطع النظر عن هذه الأخبار الآمرة بالتوقف فلا يمكن أن تكون الهلكة المعلّلة مترتبة على الأمر بالتوقف لأن المفروض ترتب الأمر بالتوقف عليها و

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح ح ٢.

(٢) الوسائل الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٤.

(٣) اصول الفقه ٣ : ٥٨٤ ـ ٥٨٥.

٥٦٢

عليه فالأمر بالتوقف ناظر إلى أن لا يقع المخاطب في الهلكات الواقعية مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف وهو ليس إلّا إرشادا كما لا يخفى. ويؤيد ذلك بل يشهد له تطبيق التعليل على الشبهة الموضوعية مع أن الاحتياط فيها ليس بواجب شرعا.

ودعوى أن الأمر الإرشادي إنّما قوامه بأن لا يكون المولى في مقام إعمال حق مولويته وهو لا ينافي أن يدل بالدلالة الالتزامية أيضا على أمر آخر هو بناء المولى على عدم رفع اليد عن التكاليف المجهولة فإذا كان المفروض أن لفظ الشبهة أو الشبهات الواقع في الكبرى المذكورة له إطلاق أو عموم يعم كل شبهة حكمية وحمل عليها أن ارتكابها يوجب الوقوع في العقاب والهلاكة يعلم منه ولو بالدلالة الالتزامية انّه لم يغضّ العين عن التكاليف المجهولة وإلّا لما كان مجال لاستلزام ارتكاب مطلق الشبهة الوقوع في العقاب والهلكة فمجرد الارشادية لا ينفع شيئا إذا كان المفروض إطلاق أو عموم لفظ الشبهة.

مندفعة أوّلا : بأنه بناء على كون الأمر للإرشاد لم يثبت انّ المتكلّم بصدد بيان انّ ارتكاب مطلق الشبهة يوجب الوقوع في العقاب وثانيا : بأن المراد من الهلكة بناء على الإرشاد أعم من المفاسد فلا وجه لدعوى استلزام ارتكاب مطلق الشبهة للوقوع في العقوبة فلا تغفل.

قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ في تلك الروايات أمارات الإرشاد ولو كان فيها ما يتوهم فيه الدلالة على الوجوب يجب التصرف فيه بالشواهد التي في غيرها بل الظاهر عدم استعمال هذا التعليل في شيء من الموارد في الوجوب وإن ذهب الشيخ وتبعه غيره في استعماله في رواية جميل والمقبولة في الوجوب لكنه غير تام فإنّ الكبرى المذكورة في رواية جميل أعني قوله عليه‌السلام الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات لا تنطبق على ما ذكره بعده أعني قوله عليه‌السلام «وما خالف كتاب الله فدعوه» لأن مخالف الكتاب ليس مما يجب فيه الوقف أو يستحب فيه التوقف بل يجب طرحه وسلب إسناده إلى الأئمة عليهما‌السلام وحينئذ فلا بد أن تحمل الكبرى المذكورة على غير هذا المورد بل تحمل على الأخبار التي ليس

٥٦٣

مضامينها في القرآن لا على نحو العموم ولا على الخصوص ولو لم تحمل على هذا فلا بد أن يحمل إمّا على الموافق للقرآن أو مخالفه صريحا وكلاهما خارجان عنها أما الموافق فيجب الأخذ به وأما المخالف فيجب طرحه لا التوقف فيه.

فانحصر حمله على الروايات التي لا تخالف القرآن ولا توافقه.

وعلى هذا فلو حملنا الأمر بالوقوف على الاستحباب في مورد الشبهة ثبت المطلوب وإن حملناه على الوجوب فلا تجد له قائلا فإنّ الأخباري والاصولي سيان في العمل بالأخبار التي لا تخالف القرآن ولا توافقه ولم يقل أحد بوجوب الوقوف أصلا وإن كان التوقف والعمل على طبق الاحتياط أولى وأحسن. (١)

وخامسا بما أفاده الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال إنّ ظاهر هذه الطائفة التحذير من الدخول في الشبهة بلحاظ المحتمل لا الاحتمال فهي لا تدل على منجزية الاحتمال وجعل إيجاب الاحتياط شرعا الذي هو مدعى الأخباري بل تدل على أنه إذا كان في المحتمل خطر وهلكة فقف عندها ولا تلج الباب لكي لا تسقط فيها وهذا إنّما يكون في الموارد التي تكون الشبهة فيها في أمور مضرة وخطيرة في نفسها كما في العقائد والدعاوى الباطلة أو ما يكون فيها نتائج عملية صعبة ويؤيد ذلك ما ورد في قوله عليه‌السلام لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وذلك مثل أن يبلغك عن امرأة أنّها رضت معك أو أنها محرمة عليك وقفوا عن الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة فإن هذه الرواية من الواضح كون النظر فيها إلى خطر المحتمل لا الاحتمال فإن الشبهة موضوعية والاستصحاب أيضا يقتضي حلية النكاح فالمنظور فيها الخطر الذي ينشأ بعد ذلك من جانب المتحمل إذا ما انكشف انّ المرأة كانت محرمة عليه ولا أقل من احتمال هذا المعني في هذه الطائفة والذي يوجب سقوط الاستدلال بها. (٢)

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٩٩.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ٩٢ ـ ٩٣.

٥٦٤

ولا يخفى أن هذا الوجه في الحقيقة توجيه آخر لكون الأمر في هذه الطائفة للإرشاد كأنه قال قف عند الشبهات فإنه ربما يكون المحتمل فيها موجبا للخطر فتحصل أن الأمر بالتوقف إن كان مولويا والموضوع عاما كان الدليل الدال على التوقف محكوما لأدلة البراءة عقلية كانت أو نقلية إذ موضوع الأمر بالتوقف هو التوقف عن الاقتحام في الهلكة ولا هلكة بعد دلالة العقل والنقل على البراءة وأيضا إن كان الأمر بالتوقف مولويا ولكن الموضوع مختص بالفاعل الغير المعذور فلا منافاة بين دليل التوقف وأدلة البراءة لتغاير موضوعهما كما لا يخفى.

وهكذا لا منافاة بينهما إذا كان الأمر بالتوقف إرشاديا أو محمولا على مطلق الرجحان وبالجملة فلا دلالة لهذه الطائفة من الأخبار على منجزية الاحتمال ووجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة.

الطائفة الثانية : الاخبار الآمرة بالاحتياط وهي كثيرة

منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن عليه‌السلام الواردة في رجلين أصابا صيدا وهما محرمان فلم يدريا أن الجزاء بينهما أو أن على كل منهما جزاء مستقلا قال لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد قلت إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال عليه‌السلام إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا. (١)

وتقريب الاستدلال مبني على إرجاع قوله عليه‌السلام «إذا أصبتم مثل هذا» إلى نفس واقعة الصيد والشك في حكمها إذ من المعلوم أن الأمر بالاحتياط حينئذ يكون في الشبهة الحكمية وحيث إنّ الجواب المذكور أي وجوب الاحتياط مفروض في موضوع مثل هذا يعلم أن خصوصية صيد المحرم لا دخل لها في وجوب الاحتياط وأجاب عنه الشيخ الأعظم بأن ظاهر الرواية التمكن من استعلام حكم الواقعة بالسئوال والتعليم فيما بعد ولا مضايقة عن

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ١.

٥٦٥

القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصية حتى يتعلم المسألة لما تستقبل من الواقع. (١)

ولقد أفاد وأجاد ولكن لا وجه لجعل وجوب الاحتياط في خصوص هذه الواقعة مع أنّ الجواب مترتب على مثل هذا والحاصل أنّ مفاد الحديث حينئذ انّ الوظيفة في الشبهة الحكمية مع إمكان استعلام الحكم هو وجوب الاحتياط ولا كلام فيه ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل لأن المفروض في المقام بعد الفحص وعدم الظفر بشيء وعدم التمكن من الاستعلام من الإمام عليه‌السلام.

هذا مضافا إلى أن الشبهة هي الشبهة الوجوبية إذ الترديد في وجوب الجزاء على كل واحد مستقلا مع أن الكلام في الشبهة التحريمية والتمسك به في الشبهة التحريميّة يستلزم التمسك به في الشبهة الوجوبية أيضا مع أن الأخباري لا يقول به كما أفاد في الدرر. (٢)

نعم لو بنينا على أن قوله عليه‌السلام «إذا أصبتم مثل هذا» راجع إلى الفقرة الأخيرة في الرواية أعني قوله قلت إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه كانت الشبهة هي الشبهة التحريمية وأمره بالاحتياط يرجع إلى المنع عن المبادرة إلى الجواب مع التمكن من التعلم بل اللازم عليه هو الكف عن الإفتاء ولو بوجوب الاحتياط حتى يسأل عن حكمه ولكن موضوع هذا المنع أيضا هو التمكن من التعلم وما نحن فيه ليس كذلك لأن المفروض هو الفحص واليأس عن الدليل.

ومنها : موثقة عبد الله بن وضّاح قال كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنّا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون أفاصلى حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل فكتب إليّ أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك. (٣) والطريق المذكور في الوسائل موثّق.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١٠.

(٢) الدرر : ٤٣٤ ط جديد.

(٣) الوسائل الباب ١٦ من أبواب المواقيت ح ١٤.

٥٦٦

وتقريب الاستدلال بهذه الموثقة بأن الظاهر منها هو السؤال عن الشبهة الحكمية وعليه فقوله عليه‌السلام في الجواب وتأخذ بالحائطة لدينك بيان للزوم الاحتياط بذكر مناطه كما في قولك للمخاطب أرى لك أن توفي دينك وتخلص نفسك والحاصل أن الرواية تدل على لزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية مطلقا.

ولا يخفى عليك أنه إن كانت الشبهة المذكورة في الرواية حكمية من جهة أنّ السائل احتمل اشتراط ذهاب الحمرة المشرقية في تحقق الغروب الشرعي ففيه كما في فرائد الاصول إن إرادة الاحتياط في الشبهة الحكمية وإن كانت بعيدة عن منصب الإمام عليه‌السلام لأنه لا يقرر الجاهل بالحكم على جهله إلّا أنه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقية لإيهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه لا أنّ المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار كما أنّ قوله «ارى لك أن تنتظر» يستشم منه رائحة الاستحباب فلعل التعبير به مع وجوب التأخير من جهة التقية وحينئذ فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدل إلّا على رجحانه. (١)

فالاحتياط ليس جديا وإنما أمر به لأجل التقية ومع هذا البيان يسقط الاستدلال بالرواية على وجوب الاحتياط قال في الدرر ويمكن أن يكون قوله عليه‌السلام «وتأخذ بالحائطة لدينك» متمما للفقرة الأولى لا تعليلا لها فالمراد على هذا أنّه يجب عليك الانتظار على نحو الاحتياط من دون أن يلتفت إلى مذهبك أحد. (٢) وهو يرجع أيضا إلى أنّ الأمر بالاحتياط لأجل التقية لا من جهة لزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية.

هذا مضافا إلى ما في مباحث الحجج من إمكان حمل الرواية في هذا الفرض على الإرادة الجدية من ناحية الاحتياط بدعوى أن ذهاب الحمرة المشرقية ليس مأخوذا في الحكم الواقعي بنحو الموضوعية والشرطية بل بنحو المعرفية والطريقية إلى مرتبة من غياب

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١٠.

(٢) الدرر : ٤٣٤.

٥٦٧

الشمس في الأفق لا يمكن إعطاء ضابطها الموضوعي الدقيق فجعل ذهاب الحمرة المشرقية قرينة وكاشفا عنها باعتبار أنه كلّما تحقق ذهاب الحمرة تحققت تلك المرتبة من استتار الشمس وإن كان قد تحقق تلك المرتبة (ولو في بعض البلدان) قبل ذهاب الحمرة المشرقية كاملة فالكاشف أخص من المنكشف لامسا ومعه ومن هنا صحّ التعبير عنه بالاحتياط لأنه حكم ظاهري طريقي في واقعة إلّا أنه بناء على هذا أيضا لا تدل الرواية على وجوب الاحتياط بل على احتياط وطريقية لكاشف خاص في مورد مخصوص يكون الشك فيه في الامتثال فلا يمكن التعدي منه واقتناص قاعدة كلية (١)

وان كانت الشبهة المذكورة في الرواية موضوعية لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة على الجبل غير الحمرة المشرقية بل هي الحمرة التي تكون أمارة على وجود الشمس فلا ريب حينئذ كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره إنّ الانتظار مع الشك في الاستتار واجب لأنه مقتضى استصحاب عدم الليل والاشتغال بالصوم وقاعدة الاشتغال بالصلاة فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاك في براءة ذمته عن الصوم والصلاة ويتعدى منه إلى كل شاك في براءة ذمته عما يجب عليه يقينا لا مطلق الشاك لأن الشاك في الموضوع الخارجي مع عدم تيقن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتفاق من الأخباريين هذا كله على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب وكون الحمرة غير الحمرة المشرقية (٢) ولا ارتباط حينئذ للأمر بالاحتياط بالشبهة الحكمية التحريمية

ومنها : ما رواه الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسي في (أماليه) عن أبيه عن المفيد عن علي بن محمّد الكاتب عن زكريا بن يحيى التميمي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري عن الرضا عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت. (٣)

__________________

(١) مباحث الحجج ٢ : ١٠١.

(٢) فرائد الاصول : ٢١٠.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤١.

٥٦٨

ومع الغمض عما في سنده والاكتفاء بنقل الشيخ المفيد في وثاقة علي بن محمّد الكاتب كما ذهب إليه شيخنا الأعظم وعبر عنه بالصحيح أمكن الجواب عنه بما أفاده الشيخ الأعظم من أن المراد ان أي مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلها وليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين لأنه بمنزلة الأخ الذي هو لك وليس بمنزلة ساير الأمور لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط كالمال وما عدا الأخ من الرجال فهو بمنزلة قوله فاتقوا الله ما استطعتم (١) فهو أمر بأعلى مراتب الاحتياط في جميع الأمور ومن المعلوم أنه لا يدل على الوجوب بل يناسب الرجحان والاستحباب.

ومما ذكر يظهر الجواب عن الاستدلال بالمرسلات المحكيّة عن الشهيد سل العلماء ما جهلت وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا وخذ بالاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا واهرب من الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك عتبة للناس. (٢)

وقال الصادق عليه‌السلام لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك. (٣)

وذلك لأنها مضافا إلى ضعفها بالإرسال تدل على وظيفة أخلاقية لأنّ الاحتياط في جميع الأمور لا يناسب الوجوب كما أنّ النهي عن الفتيا والتحذير عنها لأنها مسئولية وتضمين لأعمال الناس يدل على لزوم المراقبة وهو أمر يلتزم به المجتهدون شكر الله مساعيهم الجميلة ثم قوله لك ان تنظر الخ لا يدل على الوجوب إذ جعل الاحتياط باختيار المكلف وكونه نافعا له لا يدل على أزيد من استحباب الاحتياط.

هذا مضافا إلى أنه لو سلم دلالة هذه الأخبار الآمرة بالاحتياط على وجوبه فحيث إنّ أدلة الإباحة أخصّ منها لاختصاصها بالشبهة الحكمية بعد الفحص ولا تعم الشبهة قبل الفحص بخلاف هذه الأخبار وهكذا لا تعمّ الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي بخلاف هذه

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١١.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من صفات القاضي ح ٥٤.

(٣) الوسائل الباب ١٢ ح ٥٨.

٥٦٩

الأخبار هذا مضافا إلى اختصاص بعض أخبار البراءة بالشبهة التحريمية.

أمكن أن يقال بتخصيص هذه الأخبار الآمرة بالاحتياط بأخبار الإباحة لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص ولو سلمنا أنّ النسبة بين أخبار الاحتياط وأخبار الإباحة هي العموم من وجه فمقتضى القاعدة هو التساقط والرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ المفروض بعد تعارض الأخبار وسقوطها لا بيان كما لا يخفى.

وهنا وجه آخر أشار إليه في الكفاية بقوله قدس‌سره إنّ أخبار البراءة أظهر. (١)

ولعل وجه ذلك ظاهر لأنّ مثل كلمة «حلال» و«مطلق» و«هم في سعة» في أخبار البراءة أظهر من دلالة الأمر بالاحتياط على الوجوب فيحمل الظاهر على الأظهر ويرفع اليد عن ظهور الأمر في وجوب الاحتياط ويحمل على الرجحان الجامع بين الوجوب والندب ولو اغمضنا عما ذكر جميعا أمكن ان يقال كما في مصباح الاصول انّ أخبار الاحتياط والتوقف لا تعارض أدلة الإباحة وذلك لأن استصحاب عدم جعل الحرمة يكون رافعا لموضوع هذه الأخبار إذ به يحرز عدم التكليف وعدم العقاب فيتقدم عليها لا محالة (٢) لأن مع جريان الأصل الموضوعي لا مجال للشك حتى يتمسك فيه بأخبار الاحتياط أو أخبار التوقف لتقدم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي كما لا يخفى.

الطائفة الثالثة :

هي أخبار التثليث منها مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق عليه‌السلام انّه قال في الخبرين المتعارضين ... ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيوخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه.

وإنّما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يرد علمه إلى

__________________

(١) الكفاية ٢ : ١٨٤.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣٠٢.

٥٧٠

الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم الحديث. (١)

وجه الاستدلال بهذه الرواية انّ الاستشهاد بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدل على أنّ الأمر بترك الشاذ يكون من جهة كونه شبهة ويجب الاحتياط فيها هذا مضافا إلى أنّ تفرّع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» على التثليث يدل على أنّ تخلّص النفس من المحرمات ولو كانت من الشبهات واجب قال الشيخ الأعظم في مقام تقريب الاستدلال بهذه الرواية أنّ الإمام عليه‌السلام أوجب طرح الشاذ معللا بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه والمراد أنّ الشاذ فيه الريب لا أن الشهرة تجعل الشاذ مما لا ريب في بطلانه وإلّا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية والأصدقية والأورعية ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ولا لتثليث الأمور ثم الاستشهاد بتثليث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والحاصل إنّ الناظر في الرواية يقطع بأنّ الشاذ مما فيه الريب فيجب طرحه وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام عليه‌السلام ردّه إلى الله ورسوله فيعلم من ذلك كله أنّ الاستشهاد بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التثليث لا يستقيم إلّا مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات مضافا إلى دلالة قوله نجى من المحرمات بناء على أنّ تخلص النفس من المحرمات واجب وقوله وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. (٢)

والجواب عنه أوّلا : بأنّ هذه الرواية أجنبية عن محل الكلام فإنّ السؤال فيه كما أفاد في الدرر إنّما يكون عن الخبرين المتعارضين وإنّه بأيهما يجب الأخذ على أنه طريق وحجة فيستفاد من الجواب بملاحظة عموم التعليل إنّ الأخذ بكل ما فيه الريب بعنوان أنّه حجة

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ح ١٠.

(٢) فرائد الاصول : ٢١١.

٥٧١

بينه وبين الله غير جائز ولا شك في ذلك ولا دخل له بما نحن بصدده من لزوم الاحتياط في مقام العمل وعدمه. (١)

وعليه فإيجاب الأخذ بالمشهور وطرح الشاذ النادر معللا بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه لا يدل على وجوب رفع اليد عن شرب التتن مثلا بدعوى أنّه مما فيه ريب وتركه مما لا ريب فيه لأن الكلام المذكور في الرواية راجع إلى الأخذ بالرواية بعنوان أنّه طريق وحجة وبعبارة أخرى الرواية ناظرة إلى الأخذ بالرواية المشتبهة حجيّتها لا العمل والإتيان بالمشتبه الحكم فما شك في دليليته مطروح ولا يعتمد عليه في مقام الإفتاء وبيان الحكم الشرعي وهذا أمر لا خلاف فيه والشاهد على ذلك كما في مباحث الحجج هو التعبير بالاتباع في التثليث الأول حيث قال وإنّما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع وأمر بين غيّه فيجتنب وامر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله.

فإنّ الاتباع يناسب باب الروايات والدلالات ولا يناسب اضافته إلى الحرمة والحلية كحكمين واقعيين بل لا معنى لإسناده إلى المشكل لأن الوارد فيها (وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله) إذ لو كان المقصود به الاحتياط دخل ذلك فيما يجتنب ولم يكن الرد قسما ثالثا فلا محالة يراد بالرد عدم الحجية. (٢)

وثانيا : كما في الدرر بأن التثليث المذكور في كلام الإمام عليه‌السلام وحكمه برد المشكل إلى الله وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون ظاهرا في النهي عن القول بغير علم ولا إشكال فيه ولا يدفع ما ندعيه من المطلب الاصولي من جواز الارتكاب في قبال وجوب الاجتناب. (٣)

وثالثا : كما في مصباح الاصول بأن ما ثبت فيه الترخيص ظاهرا من قبل الشارع داخل في ما هو بيّن رشده لا في المشتبه كما هو الحال في الشبهات الموضوعية وبالجملة المشكوك حرمته كالمشكوك نجاسته وكما أن الثاني غير مشمول لهذه الأخبار كذلك الأول والملاك في

__________________

(١) الدرر : ٤٣٥.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ٩٨.

(٣) راجع الدرر : ٤٣٥ ـ اصول الفقه لشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره ٣ : ٥٨٩.

٥٧٢

الجميع ثبوت الترخيص المانع من صدق المشتبه على المشكوك فيه حقيقة وإن صح إطلاقه عليه بالعناية باعتبار التردد في حكمه الواقعي. (١)

ورابعا : كما في منتقى الاصول إنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقتضي كون ترك المشتبه والاجتناب عنه واجبا بل يصح الاستشهاد المذكور حتى مع كون الترك راجحا بالمعنى الجامع بين الوجوب والاستحباب أي مطلق الرجحان وذلك لأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ارشاد إلى أن في ارتكاب الشبهات مظنّة الضرر والتحرز عن الضرر قد يكون واجبا إذا كان الضرر المحتمل هو العقاب منجزا على تقدير وجوده وقد لا يكون كذلك كما إذا لم يكن العقاب منجزا على تقدير وجوده كما في الشبهات الموضوعية مطلقا والوجوبية الحكمية باتفاق الاصوليين والأخباريين والشبهات التحريمية حسب رأي الاصوليين والاستشهاد بمثل هذا الكلام الدالّ على الجامع بين الوجوب والاستحباب لمورد يكون الاجتناب والترك فيه واجبا كترك الخبر الشاذ الذي هو مورد الرواية لا محذور فيه أصلا إلى أن قال فلا دلالة للرواية إذن على وجوب الاحتياط. (٢)

ومنها : مرسلة الصدوق قال إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب الناس فقال في كلام ذكره حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بيّن ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها. (٣)

والرواية مرسلة وأمّا ما قيل من اعتبار مرسلات الصدوق لأن إرساله حاك عن اطمينانه بالصدور ففيه أنّ حصول الاطمينان له لا يلزم ذلك لنا هذا مضافا إلى احتمال كون بعض المرسلات المذكورة في الفقيه مرسلات الكتب التي نقل الصدوق منها.

هذا مضافا إلى أن الموضوع في كلامه عليه‌السلام هو الاثم المشتبه وهو لا يكون إلّا في موارد العلم بالتكليف إجمالا أو في موارد يكون الحكم منجزا كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٠١.

(٢) منتقى الاصول ٤ : ٤٨٢.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢٢.

٥٧٣

فلا يعم الشبهة الحكمية بعد الفحص لأن الاثم لا مورد له فيها بعد حكم العقل والشرع بعدم العقاب.

ومنها : معتبرة جميل بن صالح محمّد بن علي بن الحسين بإسناده عن علي بن مهزيار عن الحسين بن سعيد عن الحارث بن محمّد بن النعمان الأحول عن جميل بن صالح عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهما‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلام طويل الأمور ثلاثة أمر تبيّن لك رشده فاتبعه وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله عزوجل. (١)

والحارث بن محمّد بن النعمان وإن لم يوثق ولكن له أصل وكتاب قال النجاشي كتابه يرويه عدة من أصحابنا منهم الحسن بن محبوب ومن المعلوم أن نقل الأجلاء والأكابر مثل الحسن بن محبوب عن أصله وكتابه مما يوجب الاطمئنان بوثاقته وعليه فالرواية معتبرة إلّا أنه لا تدل على المقام فإنّ الاتباع وردّه إلى الله كما عرفت سابقا يناسب باب الروايات والأخبار لا الارتكاب والاقتحام فلا تغفل.

ومنها : خبر النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول إنّ لكل ملك حمى وإنّ حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات. (٢)

ولا يخفى ان التنظير والتشبيه في هذا الحديث قرينة الإرشاد وعدم الوجوب وذلك لأن الاجتناب عن حالة الإشراف على الحرام راجح وليس بواجب هذا مضافا إلى ضعف الخبر لجهالة عدة من رواته.

ونحو هذا الخبر ما رواه سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام.

ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ألا وإنّ لكل ملك حمى ألا وإنّ حمى الله عزوجل محارمه فتوقّوا حمى الله ومحارمه الحديث. (٣)

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢٣.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤٠.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤٧.

٥٧٤

فإنّ هذا اللسان لسان الرجحان والإرشاد لعدم حرمة الإشراف كما عرفت هذا مضافا إلى ضعف الخبر.

ومنها : موثقة فضيل بن عياض عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له من الورع من الناس قال الذي يتورع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه الحديث. (١)

ومن المعلوم ان لسان قوله عليه‌السلام فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه لسان الارشاد لا الوجوب وايضا قوله عليه‌السلام يتورع ويجتنب الخ في مقام تعريف الورع الذي بلغ من الكمال إلى المراتب العالية لا يدل على اللزوم والوجوب كما لا يخفى.

وبالجملة كما قال الشيخ الأعظم قدس‌سره إنّ هذه الأخبار ظاهرة في الاستحباب لقرائن مذكورة فيها. (٢)

هذا مضافا إلى إمكان الجواب عن هذه الروايات ببعض ما مرّ في المقبولة من أنّ ما ثبت فيه الترخيص ظاهرا من قبل الشارع داخل في ما هو بيّن رشده لا في المشتبه ولا أقل من الشك في ذلك فلا يمكن التمسك بها مع الشك في تحقق موضوعها فتحصل من جميع ما ذكرناه عدم تمامية الأدلّة النقلية لإفادة وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية بعد الفحص وعليه فكما لا يجب الاجتناب عن الشبهات الوجوبية بعد الفحص فكذلك لا يجب الاجتناب عن الشبهات التحريمية بعد الفحص من دون فرق بينهما والله هو الهادي للصواب.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢٥.

(٢) فرائد الاصول : ٢١٢.

٥٧٥

الخلاصة

أدلّة القائلين بالاحتياط في الشكّ في التكليف

واستدل للقول بوجوب الاحتياط فيه بالأدلّة الثلاثة :

أمّا الكتاب فبالآيات المتعدّدة منها التى تنهى عن القول بغير العلم كقوله عزوجل (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

بدعوى أنّ الحكم بترخيص الشارع في المحتمل الحرمة قول بغير علم وأجيب عنه بأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتكالا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليس من القول بغير علم.

لا يقال : إنّ الحكم بالحلّيّة في الواقعة المشكوكة قول بغير علم.

لأنّا نقول الحكم بالحلية الواقعية في الواقعة المشكوكة قول بغير علم وأمّا الحكم بالحلّية الظاهرية لا يكون كذلك وجواز ارتكاب الشبهة منوط بالحلية الظاهرية ولا يحتاج إلى إثبات الحلية الواقعيّة حتى يقال أدلّة البراءة لا تدلّ عليها.

ومنها : التى تدل على النهي عن الإلقاء في التهلكة كقوله جل وعلا (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)

واجيب عنه بأنّ الهلاكة بمعنى العقاب معلوم العدم بأدلّة البراءة عقلية كانت أو شرعية فلا موضوع للآية الكريمة في المقام.

ومنها : التى تدلّ على الأمر بالتقوى مثل قوله عزوجل (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بتقريب أنّها تدلّ على وجوب الاحتياط بنحو الأتم.

واجيب عنه بأنّ ارتكاب الشبهة استنادا إلى ما يدلّ على الترخيص شرعا وعقلا ليس منافيا للتقوى.

وأمّا الأخبار فبطوائف

الطائفة الأولى :

هي التي تدلّ على التوقف عند الشبهة معلّلا بأنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.

٥٧٦

(أجيب عنه بأنّه لا هلكة في الشبهة الحكمية بعد الفحص لحكومة أدلّة البراءة من العقل والنقل على مثل هذه الطائفة كما لا هلكة في الشبهة الموضوعية هذا مضافا إلى تطبيق التعليل على الشبهة الموضوعية التى لا يلزم الاجتناب عنها بالاتفاق وعليه فاللازم هو أن يتصرف في الخيرية بحملها على ما يناسب الرجحان بأن يكون المراد من الأمر بالوقوف مطلق الرجحان كما أنّ المراد من الهلكة الأعم من المفاسد ولو كانت مثل العار والشين.

على أنّ هذه الأخبار تدل على أنّه إذا كان في المحتمل خطر وهلكة فقف عندها لكي لا تسقط فيها فالنظر فيها إلى المحتمل لا الاحتمال فلا تدلّ على منجزية الاحتمال وجعل إيجاب الاحتياط شرعا بل هو إرشاد لأنّ الهلكة مفروضة التحقق في ارتكاب الشبهة مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف.

الطائفة الثانية : هي الأخبار الآمرة بالاحتياط وهي كثيرة

منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن عليه‌السلام في رجلين أصابا صيدا وهما محرمان فلم يدريا أنّ الجزاء بينهما أولان على كل منهما جزاء مستقلا قال لا بل عليهما أن يجزى كل واحد منهما الصيد قلت إنّ بغض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال عليه‌السلام إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط تسألوا عنه فتعلموا.

وتقريب الاستدلال بها أنّ في الشبهة حكمية أمر الإمام عليه‌السلام بالاحتياط

وأجيب عنه بأنّ ظاهر الرواية هو صورة التمكن من استعلام حكم الواقعة بالسئوال ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الصورة والمقام ليس كذلك لأنّ المفروض عدم التمكن من الاستعلام عن الإمام عليه‌السلام.

ومنها : موثقة عبد الله بن وضاح «قال كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام» يتوارى القرص ويقبل الليل ثمّ يزيد الليل ارتفاعا وتستر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون أفاصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل فكتب إليّ أرى لك.

أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك بدعوى أنّ الظاهر منها هو

٥٧٧

السؤال عن الشبهة الحكمية وعليه فقوله عليه‌السلام وتأخذ بالحائطة لدينك بيان للزوم الاحتياط.

وفيه أنّ الاحتياط في الشبهة الحكمية بعيد عن مثل الإمام عليه‌السلام لأنّ عليه أن يرشد الجاهل بالحكم لا أن يقرره على جهله فتحمل الرواية على الشبهة الموضوعية بأن يكون مورد الموثقة عدم حصول العلم باستتار القرص لحيلولة الجبل فأمر بالانتظار حتى يحصل العلم فالأمر بالاحتياط يكون في الشبهة الموضوعية التى كان مقتضى الاستصحاب عدم استتار القرص فلا يتعدى عن هذا المورد إلّا إلى مثله من كل مكلّف يشك في براءة ذمته عما اشتغل ذمته به لا مطلق الشاك.

هذا مضافا إلى احتمال أن يكون الأمر بالاحتياط لأجل التقية فلا تستفاد منها لزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية فلا تغفل.

ومنها : خبر أبي هاشم الجعفرى عن الرضا عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت ونحوه سائر المرسلات الحكمية كقوله عليه‌السلام لك أن تنتظر الجزم وتأخذ الحائطة لدينك وفيه أنّه أمر بأعلى مراتب الاحتياط في جميع الامور ومن المعلوم أن هذا لا يدل على الوجوب بل يناسب الرجحان والاستحباب كما أنّ قوله لك أن تنتظر الخ حيث جعل الاحتياط فيه باختيار المكلف لا يدلّ على أزيد من استحباب الاحتياط.

هذا مضافا إلى أنّ النسبة بين أخبار البراءة وأخبار الاحتياط حيث كانت هي العموم والخصوص.

أمكن القول بتخصيص أخبار الاحتياط وذلك لأنّ أخبار البراءة اختصّت بالشبهة الحكمية بعد الفحص ولا تعم قبل الفحص كما لا تشمل المقرونة بالعلم الإجمالي بخلاف أخبار الاحتياط.

ولو سلّمنا أنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه فمقتضى القاعدة هو التساقط والرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ المفروض أنّ بعد التعارض والتساقط لا بيان.

هذا لو لم نقل بأظهرية الدلالة في أخبار البراءة كقوله حلال ومطلق وهم في سعة بخلاف

٥٧٨

الأمر بالاحتياط فإنّ غايته هو ظهوره في الوجوب وعليه فيحمل الظاهر على الأظهر ويرفع اليد عن ظاهر الأمر في وجوب الاحتياط ويحمل على الرجحان.

وإن أبيت عن جميع ذلك أمكن أن يقال : لا مجال لأخبار الاحتياط والتوقف وذلك لأنّ استصحاب عدم جعل الحرمة أصل موضوعي ومعه لا مجال للشك حتى يتمسك فيه بأخبار الاحتياط أو أخبار التوقف وذلك لتقدم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي كما لا يخفى.

الطائفة الثالثة : هي أخبار التثليث

منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال ... وإنّما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم الحديث بدعوى أنّ الاستشهاد بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدل على أنّ الأمر بترك الشاذ يكون من جهة كونه من الشبهات التي يجب الاحتياط فيها.

هذا مضافا إلى أنّ تفرع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» على التثليث المذكور يدلّ على أنّ تخلّص النفس من المحرمات ولو كانت من الشبهات واجب.

ويمكن الجواب عنه بأنّ هذه الرواية أجنبية عن محل الكلام فإنّ السؤال فيه عن الخبرين المتعارضين وأنّه بأيهما بحسب الأخذ بعنوان الطريق والحجّة ويشهد له التعبير بالاتباع فإنّه يناسب باب الروايات وأجاب الإمام عليه‌السلام بعدم جواز الأخذ بما فيه الريب بعنوان الحجة ولا شك فيه ولكن لا دخل له بما نحن بصدده من لزوم الاحتياط في مقام العمل وعدمه.

هذا مضافا إلى أن ما ثبت فيه الترخيص ظاهرا من قبل الشارع داخل في ما هو بيّن رشده لا في المشتبه كما هو الحال في الشبهات الموضوعية.

ومنها : مرسلة الصدوق قال إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب الناس فقال في كلام ذكره حلال

٥٧٩

بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له الترك والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها.

ويمكن الجواب عنه بأنّها مرسلة هذا مضافا إلى أنّ الموضوع في كلامه عليه‌السلام هو الإثم المشتبه وهو لا يكون إلّا في موارد العلم بالتكليف إجمالا أو في موارد يكون الحكم منجّزا كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص فلا يعم الشبهة الحكمية بعد الفحص لأنّ الإثم لا مورد له فيها بعد الحكم العقلي الشرعي بعدم العقاب.

ومنها : معتبرة جميل عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلام طويل ، الأمور ثلاثة أمر تبيّن لك رشده فاتبعه وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله عزوجل.

وفيه أنّها لا تناسب المقام لأنّ الاتباع والرّد إلى الله يناسب باب الروايات والأخبار لا باب الارتكاب والاقتحام فلا تغفل.

ومنها : خبر نعمان بن بشير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول إنّ لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات مات بين ذلك كما لو ان راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه ان تقع في وسطه فدعوا الشبهات.

وفيه أنّ التنظير والتشبيه المذكور قرينة الإرشاد وعدم الوجوب إذ الاجتناب عن حالة الإشراف على الحرام راجح هذا مضافا إلى ضعف الخبر.

ومنها : موثقة فضيل بن عياض عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له من الورع من الناس قال الذي يتورع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه.

ولا يخفى أنّ لسان الرواية لسان الإرشاد لا الوجوب هذا مضافا إلى أن قوله عليه‌السلام الذي يتورع الخ في مقام تعريف الورع الذي بلغ من الكمال إلى المراتب العالية وهو لا يدل على اللزوم والوجوب فتدبر جيدا.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه عدم تمامية الأدلّة النقلية التى تمسك بها القائلون بالاحتياط في الشبهات التحريميّة بعد الفحص.

٥٨٠