عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

فإنّ لسانها ليس لسان الحجية إذ لسان الحجية كما أفاد السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره هو إلغاء الخلاف والبناء على أنّ مؤدى الطريق هو الواقع كما في أدلة الطرق والأمارات لا فرض عدم ثبوت المؤدى في الواقع كما هو لسان هذه الأخبار فهو غير مناسب لبيان حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات ولا اقل من عدم دلالتها عليها بل مفاد هذه الأخبار مجرد الأخبار عن فضل الله تعالى وانه سبحانه بفضله ورحمته يعطي الثواب الذي بلغ العامل وإن كان غير مطابق للواقع فهي كما ترى غير ناظرة إلى العمل وإنّه يصير مستحبا لأجل طرو عنوان البلوغ ولا إلى إسقاط شرائط حجية الخبر في باب الاستحباب.

فتحصل أن قاعدة التسامح في أدلة السنن مما لا أساس لها. (١)

ثم لا يخفى عليك انه ذهب بعض الأعلام إلى أن اخبار من بلغ لا يشمل الخبر الضعيف لعدم صدق بلوغ الخبر عليه إلّا إذا تمّ مسند الخبر كما أنّ بلوغ العزل إلى الوكيل او بلوغ موت الزوج إلى زوجته لا يصدق على الخبر الضعيف وعليه فلا يشمل أخبار من بلغ ضعاف الأخبار ولكن لقائل أن يقول أوّلا : إن البلوغ أعم من البلوغ المعتبر وحمل البلوغ في العزل والموت على المعتبر من جهة القرينة وثانيا : إن بعض الأخبار يشتمل على من سمع وشموله لكل خبر ولو فان ضعيفا ظاهر فلا تغفل.

قال الشهيد الصدر قدس‌سره : وهذا الاحتمال وإن كان واردا في نفسه وقد يستشهد عليه بما ورد في لسان بعض الروايات (من بلغه ثواب على شيء من الخير) الظاهر في المفروغية عن خيرية ورجحان العمل الذي بلغ عليه الثواب في المرتبة السابقة إلّا أن حمل كل أخبار الباب حتى المطلق منها على ذلك لا موجب له. هذا مضافا إلى أن المراد من الخير الخير العنواني لا الواقعي. (٢) فالحاصل أن الأخبار المذكورة تدل على التفضل بإعطاء الثواب الذي بلغ العامل ولو بخبر ضعيف.

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ١٢٢.

٦٢١

الأمر الرابع :

أن الثواب في هذه الأخبار مترتب على ما إذا أتى بالعمل بداعي الثواب ورجائه كما يشهد له التفرع على بلوغ الثواب في قوله عليه‌السلام في صحيحة هشام بن سالم من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه أو فعمله كان له أجر ذلك هذا مضافا إلى التصريح بذلك في موثقة محمّد بن مروان حيث قال من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء فيه الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب ، الحديث وفي خبر آخر منه ففعل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه.

وعليه فلا يترتب الثواب على ما إذا أتى بالعمل لغرض آخر كما لا يخفى.

الأمر الخامس :

أنّ المحكي عن الشهيد الثاني قدس‌سره أنّه نسب إلى الأكثر التسامح في أدلة السنن والآداب والفضائل والمواعظ وأشباهها.

وذهب إليه الشيخ في محكي رسالة التسامح نظرا إلى أن العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء والعمل بالخبر الوارد في الفضائل نشرها والوارد في المصائب ذكرها للإبكاء مثلا قائلا بأن العقل يحكم بحسن العمل مع الأمن من مضرة الكذب وإنّ عموم النقل كما في النبوي ورواية الإقبال يقتضي استحبابه.

قال المحقق الأصفهاني قدس‌سره : ولا بد من تقديم مقدمة وهي أن الخبر عن الموضوع بما هو لا يراد منه إلّا العمل المتعلق به إلّا أن العمل تارة يكون من غير مقولة القول كما فيما إذا قام الخبر على أن هذا الموضع الخاص مدفن نبي من الأنبياء أو مسجد فإن الثابت به استحباب الحضور عنده وزيارته واستحباب الصلاة فيه وهذا لا محذور فيه.

وأخرى من مقولة القول المتصف بالصدق والكذب ولا بد حينئذ من تنقيح أن الكذب القبيح عقلا والمحرم شرعا ما ذا لا ينبغي الريب في أنّ الصدق الخبري والكذب الخبري لا حكم لهما عقلا ولا شرعا وإنما المناط في الحسن والقبح والجواز والحرمة بالصدق و

٦٢٢

الكذب المخبريّين ولا ريب في أن الصدق المخبري هو القول الموافق للواقع بحسب اعتقاد المخبر إلّا أن الكلام في الكذب المخبري المقابل للصدق المخبري هل بينهما التقابل بالتضاد بنحو العدم والملكة بمعنى أن الكذب المخبري هو القول الذي يعتقد انه خلاف الواقع أو القول الذي لا يعتقد أنه ليس كذلك في الواقع والتحقيق أن التقابل بينهما بنحو العدم والملكة وهو المعبّر عنه في لسان الشرع بالقول بغير العلم فما لا علم له ولا حجة عليه يندرج الحكاية عنه في الكذب القبيح عقلا والمحرم شرعا ولا يختص قبح الكذب بصورة الإضرار عقلا كما لا اختصاص له شرعا.

وعليه فنشر الفضيلة التي لا حجة عليها وذكر المصيبة التي لا حجة عليها قبيح عقلا ومحرم شرعا فكيف يعمّها أخبار من بلغ سواء كان مفادها الإرشاد إلى حسن الانقياد أو إثبات الاستحباب نعم إذا قلنا بأن الأخبار المزبورة تثبت حجية الخبر الضعيف فلازمه اندراج الفضيلة والمصيبة فيما قامت الحجة عليه شرعا فيخرج عن نحت الكذب المخبري القبيح عقلا والمحرم شرعا. وحينئذ إن كان إجماع فهو كاشف عن هذا المعنى لا أنه تخصيص في حكم العقل والشرع فتدبر جيدا. (١)

ويمكن الجواب عنه بما أفاد شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره من أن نشر الفضيلة أو ذكر المصيبة يخرج عن تحت الكذب أيضا بعد قيام الحجة وهو أخبار من بلغ على ترغيب إلى النشر أو الذكر فمن أخبر بالفضيلة أو المصيبة أخبر بحجة شرعية وهي أخبار من بلغ والأخبار بالحجة الشرعية لا يكون كذبا انتهى.

وعليه فالنشر أو الذكر ولو مع عدم العلم بصحتهما مستند إلى الحجة الشرعية وهى أخبار من بلغ وهو قول بالعلم وليس بكذب هذا مضافا إلى أن قبح الكذب وحرمته اقتضائي ولذا يجوز الكذب بعروض مصلحة من المصالح المهمة كالإصلاح بين المؤمنين وعليه فلا مانع من أن يرفع اليد من قبح الكذب بسبب مصلحة أقوى من ذلك فتخصيص

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٦٢٣

المنع عن قبح القول بغير العلم في مثل المقام وهو النشر أو الذكر المذكورين لا مانع منه كما يكون الأمر كذلك في الكذب المنجي على أن نشر الفضيلة أو ذكر المصيبة بعنوان احتمال الصدور أو الوقوع ليس بكذب فتدبر جيدا.

الأمر السادس :

أنه هل يثبت ترتب الثواب بفتوى فقيه باستحباب شيء أو لا قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : لا نضايق عن ترتب الثواب في كل مورد صدق فيه بلوغ الثواب سواء كان البلوغ بفتوى الفقيه أو بنقل الرواية وسواء كان البلوغ بالدلالة المطابقية أو بالالتزام انتهى. (١)

وفيه أن أحاديث من بلغ منصرفة عن الأخبار الحدسية فلا يشمل الفتاوى وعليه فلا يكون الفتاوى كالروايات الحسية في ترتب الثواب نعم كما في نهاية الدراية إذا علمنا من مسلك الفقيه أنه لا يفتي إلّا عن ورود الرواية في المسألة ففتواه بالالتزام يكشف عن ورود رواية بالاستحباب ولكنه مع ذلك يحتاج إلى التسامح في الأدلة إذ غاية ما يقتضيه مسلكه هو الاستناد إلى الرواية وأمّا استفادة الاستحباب فموكولة إلى نظره ولعلها إذا وصلت إلينا لم نستظهر منها الاستحباب. (٢) إلّا أنه لا يتم في المتون التي كانت عين الروايات كنهاية الشيخ الطوسي وهداية الصدوق وعليه فيمكن الاكتفاء بهذه المتون في شمول أخبار من بلغ لمن عمل بها في ترتب الثواب عليه ولو لم تكن صادرة في الواقع فلا تغفل.

الأمر السابع :

إنّ هذه الروايات الدالة على ترتب الثواب على العمل المأتي به برجاء المطلوبية هل تشمل عملا قامت الحجة على حرمته من عموم أو إطلاق أولا.

يمكن القول بانصرافها عن هذا العمل واختصاصها بما فيه محض الثواب هذا مضافا إلى معارضة الدلالة الالتزامية في إثبات الثواب مع الدلالة المذكورة في إثبات العقاب قال

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٢١.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٢٢٥.

٦٢٤

السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : أن أخبار المقام مختصة بما بلغ فيه الثواب فقط فلا تشمل ما ثبت العقاب عليه بدليل معتبر وبعبارة أخرى أخبار المقام لا تشمل عملا مقطوع الحرمة ولو بالقطع التعبدي فإن القطع بالحرمة يستلزم القطع باستحقاق العقاب فكيف يمكن الالتزام بترتب الثواب. (١) ومع المعارضة لا دليل على ترتب الثواب.

الأمر الثامن :

أن الكراهة هل تكون ملحقة بالاستحباب في جواز التسامح في أدلتها أو لا قال المحقق الأصفهاني قدس‌سره قيل المشهور على الإلحاق وذلك يتوقف على أحد أمور اما تنقيح المناط بدعوى أن الغرض أن الأحكام الغير الإلزامية ليست كالإلزامية المتوقفة على ورود رواية صحيحة (وعليه فلا فرق بين المستحبات والمكروهات) وإثباته مشكل واما دعوى أن ترك المكروه مستحب فقد بلغ استحباب الترك بالالتزام وهو خلاف ما هو التحقيق في محله من أنّ كل حكم تكليفي لا ينحل إلى حكمين فعلا وتركا واما دعوى أن ترك المكروه إطاعة للنهي التنزيهي مما يثاب عليه قطعا فقد بلغ الثواب على الترك على حد بلوغ الثواب على الفعل في المستحب الذي لا ريب في اناطة الثواب عليه باطاعة الأمر الاستحبابي وبلوغ الثواب على الترك لازم كراهة الفعل إلى أن قال وهذا الوجه وجيه لو لا ظهور الروايات في الأفعال والوجوديات لا التروك والعدميات.

نعم يمكن تنقيح المناط بوجه آخر وهو أن مورد الأخبار وإن اختصّ بالفعل إلّا أن ظاهر الأخبار أنها في مقام الترغيب في تحصيل الثواب البالغ من حيث انه ثواب بالغ لا لخصوصية فيما يثاب عليه حتى يقتصر على ثواب الفعل فالحق حينئذ مع المشهور في إلحاق الكراهة بالاستحباب. (٢)

ولكنه محل تأمل لعدم القطع بالمناط المذكور اللهمّ إلّا أن يكتفى فيه بقول المشهور وكيف كان فالتعدي إلى الموارد المذكورة لا يختص بما إذا استفيد من أخبار من بلغ استحباب نفس

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٢١.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٦٢٥

العمل بل يمكن ذلك حتى على ما عرفت من عدم دلالتها إلّا على ترتب الثواب على العمل الذي أتى به بداعي الأمر المحتمل والثواب من باب التفضل فلا تغفل.

الأمر التاسع :

انه قد يقال لا فرق بين القول بدلالة أخبار من بلغ على الحكم المولوي واستحباب ذات العمل وبين القول بعدمها لترتب الثواب على العمل الذي بلغ الثواب عليه في الصورتين فلا فائدة في البحث عن ثبوت الحكم المولوي وهو الاستحباب وعدمه وقد ذكروا فوائد للبحث المذكور.

منها : أنّه يجوز المسح ببلّة المسترسل من اللحية لو دل الدليل الضعيف على استحباب غسله في الوضوء بناء على ثبوت الاستحباب الشرعي بأخبار من بلغ وعدم جواز ذلك بناء على عدم ثبوت الاستحباب الشرعي لعدم إحراز كونه من أجزاء الوضوء حينئذ.

يرد على الجواب المذكور ما حكي عن المحقق الخراساني في تعليقته على الرسائل من أنّ غسل المسترسل حيث كان مستحبا مستقلا في واجب أو في مستحب لا يجوز المسح ببلته حتى على القول باستفادة استحباب نفس الغسل من أخبار من بلغ اللهمّ إلّا أن يقال : كما في مصباح الاصول إنّ ذلك خروج عن الفرض إذ المفروض دلالة الخبر الضعيف على كونه جزءا من الوضوء. (١)

وفيه أن الخبر يدل على استحباب غسل المسترسل لا على كون غسله جزءا من الوضوء فتأمل هذا مضافا إلى إمكان القول بأنه لا دليل على جواز الأخذ من بلة الوضوء مطلقا حتى من الأجزاء المستحبة واختصاص جواز أخذ البلة من الأجزاء الأصلية وعليه فالقول باستحباب غسل المسترسل لحيته لا يستلزم جواز المسح ببلته فلا فرق بين القول بدلالة أخبار من بلغ على استحباب نفس العمل وعدمها.

ومنها : أن الوضوء الذي دل خبر ضعيف على استحبابه لغاية من الغايات كقراءة القرآن أو النوم فعلى القول باستحباب نفسي يرتفع الحدث وعلى القول بعدمه لا يرتفع.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٢٢.

٦٢٦

أورد عليه بأن كل وضوء مستحب لم يثبت أنه رافع للحديث كما أن الوضوء للجنب أو الحائض مستحب في بعض الأحوال ومع ذلك لا يرتفع به الحدث.

أجاب عنه في مصباح الاصول بأن الوضوء يرفع الحدث الأصغر والجنب والحائض محدثان بالحدث الأكبر فعدم ارتفاع الحدث فيهما إنما هو من جهة عدم قابلية المورد فلا ينتقض بذلك على الارتفاع في مورد قابل.

ومن ذلك يظهر الجواب عن النقض بالوضوء التجديدي فهذه الثمرة تامة ولكنها مبنية على القول بعدم استحباب الوضوء نفسيا من دون أن يقصد به غاية من الغايات وأما لو قلنا باستحبابه كذلك كما هو الظاهر من الروايات فلا تتم الثمرة المذكورة إذ عليه يكون نفس الوضوء مستحبا رافعا للحدث ثبت استحبابه لغاية خاصة أم لم يثبت. (١)

ومنها : أنه لو دل خبر ضعيف على استحباب عمل قبل الزوال مثلا مع الشك في بقاء استحبابه بعد الزوال فبناء على جعل الحجية أمكن إثبات ذلك الاستصحاب بخلافه على الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ لأن البالغ إنما هو الثواب قبل الزوال وهذا منتف بعد الزوال جزما. (٢)

ولا يخفى ما فيه فإن الاستصحاب جار على تقدير الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ أيضا لأن المعيار في جريان الاستصحاب هو بقاء الموضوع عرفا لا لسان الدليل والعرف يحكم بالبقاء لو لم يكن مقيدا بقبل الزوال وأما مع التقييد بقبل الزوال فلا يجري الاستصحاب ولو بناء على جعل الحجية.

هذا مضافا إلى أن محل الكلام هو بيان الفرق بين تعلّق الثواب على نفس العمل الدال على ثبوت الأمر به وهو مسألة فقهية وبين تعلّق الثواب على العمل مع قيد بلوغ الثواب والإتيان به بداعي الأمر الذي لا يكشف عن الأمر لا بين تعلّق الثواب على نفس العمل

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٢٣.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ١٢٨.

٦٢٧

بالنحو المذكور وبين جعل الحجية وهي مسألة أصولية وأيضا الجمع بين الاستحباب النفسي وعنوان البلوغ في قوله بخلافه على الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ مع أن عنوان البلوغ من العناوين الثانية كما ترى.

ومنها : ما ذكره السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره من أنه بناء على جعل الحجية يفتي الفقيه بالاستحباب لمقلديه بينما على القول باستحباب العمل البالغ عليه الثواب فلا بد في ثبوته للمقلدين من بلوغهم ذلك وهذا الفرق ثابت بين القول بالاستحباب والقول بالأمر الطريقي على فتوى الاحتياط في موارد بلوغ الثواب أيضا. (١)

ويمكن الجواب عنه بأن المجتهد حيث كان نائبا عن المقلد في الرجوع إلى الأدلة يكون بلوغ الثواب إليه بلوغه إلى المقلد ومعه فيمكن له أن يحكم بالاستحباب أو ترتب الثواب للمقلد أيضا فلا فرق من هذه الجهة أيضا وإلى غير ذلك من الوجوه التي ذكروها ولا تخلو عن المناقشة فراجع.

التنبيه الرابع :

إنه ربما يتوهم عدم جريان البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية بعد ما قام الدليل مثلا على حرمة الخمر لوجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية ولا يحصل العلم بالامتثال إلّا بالاجتناب عن كل ما احتمل حرمته.

وبعبارة أخرى ليس الشك في مثله في التكليف ليرجع فيه إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو إلى حديث الرفع فإن حرمة الخمر معلومة وإنّما الشك في مقام الامتثال ومقتضى القاعدة بعد العلم بالحكم والشك في الامتثال هو وجوب الاحتياط لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

وتحقيق ذلك يتوقف على ملاحظة صور متعلق النواهي :

أحدها : أن يكون النهي متعلقا بصرف وجود طبيعة الفعل وهو أول الوجود وناقض

__________________

(١) مباحث الحجج ٢ : ١٢٩.

٦٢٨

العدم الكلي بحيث لو أتى بصرف الوجود عصى وسقط النهي وجاز الإتيان بالباقي لاختصاص المفسدة بصرف الوجود وفي هذه الصورة لا مجال للبراءة لأن امتثال النهي يكون منوطا بترك جميع الوجودات إذ لو أتى ببعضها عصى ولم يتحقق الامتثال وعليه فلا يجوز الاتيان بالمشكوك مع احتمال كونه مصداقا واقعا وإلّا لما حصل العلم بالامتثال مع أنه عالم بالاشتغال.

قال في الدرر لا مجال لأصالة البراءة في هذه الصورة لأن النّهى على هذا النحو يقتضي ترك جميع الأفراد لأن الطبيعة لا تترك إلّا بترك جميع الأفراد فمتى شك في شيء أنه من أفراد الطبيعة المنهي عنها يجب عليه تركه لأن اشتغال الذمّة بترك إيجاد الطبيعة معلوم ولا يتيقّن بالبراءة إلّا بالقطع بترك جميع أفرادها في نفس الأمر. (١)

أورد عليه في مباحث الحجج بأن الشك في انطباق متعلق النهي مجرى للبراءة فإنه بعد إن كان الطبيعة عين الفرد ومنطبقا عليه أصبح الشك في الشبهة التحريمية شكا في سعة دائرة المحركية المولوية باعتبار شمولية النهي. (٢)

وفي تسديد الاصول أيضا أن الحق إن الحرمة كالوجوب متعلق بنفس الطبيعة فمع الشك في المصداق يشك في تعلّق الحرمة به ويجري فيه عموم كل شيء حلال والمتعلق وإن كان صرف الوجود إلّا أنه لما كان امتثال الحرمة إنما هو بأن لا يتحقق متعلقها وعدم تحقق صرف الوجود إنما يكون بعدم تحقق جميع الأفراد فكل من الأفراد بما أنه لو تحقق أولا يكون صرف الوجود يتعلق به الحرمة فإذا شك في مصداقية شيء فلا محالة يستتبع الشك في حرمته مستقلا ويجري فيه أصالة الحل. (٣)

ولا يخفى ما فيهما من الإشكال أوّلا : بالنقض وثانيا : بالحلّ.

أما الأوّل : فبأن لازم ما ذكر هو عدم وجوب الاجتناب عن أطراف المعلوم بالإجمال

__________________

(١) الدرر : ٤٥٢ طبع جديد.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ١٤٨.

(٣) تسديد الاصول ٢ : ١٧٦.

٦٢٩

لان الشك في شمول النهي لكل طرف ينتهي إلى الشك في سعة دائرة المحركية المولوية وبتعبير آخر يكون الشك في مصداقية شيء للمعلوم بالإجمال ويستتبع الشك في حرمته مستقلا وهكذا لازم ذلك عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة البدوية قبل الفحص لأن الشك في شمول النهي له وفي مصداقية المشكوك للتكليف الواقعي.

وأيضا لازم ذلك عدم وجوب الاحتياط في كل مورد يكون الشك في الامتثال بعد العلم بالخطاب لأن مورد الشك مما يكون الشك في سعة دائرة المحركية المولوية أو مما يكون الشك في مصداقيته للواجب المعلوم وهو كما ترى.

وأما الثاني : فبأن الشك في هذه الموارد شك في ناحية الامتثال بعد العلم بالاشتغال ومقتضى العلم بالاشتغال هو وجوب الاحتياط في الموارد التي شك في انطباق متعلق النهي أو شك في مصداقية شيء بالنسبة إليه لأن الشك في السقوط بعد العلم بالثبوت.

ولعله لذلك قال في الكفاية انّ النهي عن الشيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذلك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالأصل فلا يجوز الإتيان بشيء يشك معه في تركه إلّا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الإتيان به. (١)

ولقد أفاد وأجاد إلّا أن تفسير النهي عن الشيء بطلب تركه لا يخلو عن إشكال وهو ما بيناه في النواهي عند البحث عن صيغة النهي وتفسيره من أن مفاد النهي هو الزجر عن الفعل كما إن مفاد الأمر هو البعث نحو الفعل فالمتعلق فيهما هو الفعل وطلب الترك ليس مساوقا لمعناه نعم طلب الترك لازم للزجر عن الفعل عقلا كما إن مبغوضية الترك في الأوامر لازم للبعث نحو الفعل. (٢) وكيف كان فلا علم بالبراءة عن التكليف الحاصل بالزجر عن صرف وجود الفعل إلّا بإحراز الاجتناب عن الفعل بالمرة.

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٢٠٠.

(٢) راجع عمدة الاصول ٣ : ١٥٦.

٦٣٠

ومما ذكر يظهر ما في مصباح الاصول حيث قال لكن التحقيق أن المرجع فيه أيضا هي البراءة لأن الشك في المصداق في هذا الفرض شك في تعلّق التكليف الضمني به فيرجع إلى البراءة إذ لا اختصاص لها بالتكاليف الاستقلالية بناء على ما ذكرناه في محله من جريان البراءة عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين. (١)

وذلك لما عرفت من أن الشك وإن كان في تعلّق التكليف بالمورد المشكوك ولكن مقتضى اليقين بالتكليف بالنسبة إلى صرف الوجود هو لزوم الاجتناب عنه بالمرة وهو لا يتحقق إلّا بالاجتناب عن موارد الشك كسائر الموارد التي علم بالاشتغال فيها مما يكون التكليف فيه متنجزا على تقدير ثبوته في الواقع.

وبعبارة أخرى إن عدم الاحتياط في مورد الشك يكون من باب عدم الاقتضاء وهو لا يصادم مع ما يقتضيه الاشتغال اليقيني ضرورة عدم التصادم بين المقتضي واللامقتضي.

ثم إن تنظير المقام بالأقل والأكثر الارتباطيين في غير محله لانحلال التكليف هناك إلى العلم التفصيلي والشك البدوي لمعلومية الأقل على أي تقدير سواء كان الأقل هو الواجب أو كان واجبا في ضمن الأكثر فالشك في سعة التكليف وضيقه فيجوز الرجوع في الأكثر إلى البراءة.

هذا بخلاف المقام فإن امتثال النهي عن عنوان صرف الوجود لا يتحقق إلّا بترك الوجودات جميعا إذ لو جاء بفرد واحد تحقق صرف الوجود فليس للنهي المذكور إلّا إطاعة واحدة وعصيان واحد وعليه فالاكتفاء بترك الأفراد المعلومة يوجب الشك في الامتثال مع أن مقتضى اليقين بالاشتغال هو تحصيل الامتثال اليقيني بالاجتناب عن مورد الشك أيضا ولعل السرّ في ذلك أن عنوان الأكثر في الأقل والأكثر الارتباطيين لا دخالة له إذ الواجب هو عين الأجزاء والشرائط وتعلّق الوجوب بغير الأكثر معلوم تفصيلا سواء كان الأقل هو الواجب أو كان واجبا في ضمن الأكثر والشك في الزائد شك في سعة التكليف وضيقه هذا

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٢٥.

٦٣١

بخلاف المقام فإن المطلوب فيه هو ترك أول الوجود وصرفه وهو أمر بسيط معلوم بحدوده ولا شك في أصل ثبوته ولا في سعته وضيقه حتى يجري فيه البراءة بل الشك في سببه ومحصله.

ودعوى أن هذا العنوان وهو ترك صرف الوجود مسبب وحاصل من ترك جميع الوجودات والتكليف في المحصل لصيغة الفاعل بالنسبة إلى بعض معلوم وبالنسبة إلى الآخر مشكوك فيرجع في المشكوك إلى البراءة.

مندفعة بأن مقتضى الاشتغال اليقيني بالمسبب وهو أمر معلوم بسيط هو الاحتياط في ناحية السبب حتى يحصل اليقين بالبراءة من أصل التكليف وبالجملة التكليف الأصلي في مثل المقام أمر بسيط ومعلوم ولا ينحل إلى العلم التفصيلي والشك البدوي حتى تجرى فيه البراءة فلا تغفل.

ومما ذكر يظهر ما في كلام المحقق الأصفهاني قدس‌سره حيث قال إنّ الحجة على الكبرى إن كانت حجة على الصغرى فلا فرق بين كبرى طلب الترك المطلق وكبرى طلب كل ترك.

وإن لم تكن حجة على الصغرى فلا فرق بين الشك في انطباق مدخول أداة العموم على المائع المردد والشك في انطباق طبيعي الترك المطلق على ما يسع هذا الفرد المردد وليس الشك في هذا الفرد شكا في محصل الترك المطلق بل هذا الفرد المردد على تقدير كونه خمرا مثلا يكون ترك شربه مقوم طبيعي ترك شرب الخمر بحدّه لا محصلا له فشرب هذا المائع بالإضافة إلى طبيعي الترك وإن لم يكن كالفرد بالإضافة إلى الكلي بل مطابق طبيعي الترك بحده واحد وهو ما بالحمل الشائع ترك شرب الخمر بنهج الوحدة في الكثرة إلّا أن المطلوب بالحمل الشائع بنحو فناء العنوان في المعنون هو الترك الجامع بين التروك الخارجية بنهج الوحدة في الكثرة وكون ترك شرب هذا المائع من جملة تلك الكثرات التي يكون جامعها بالحمل الشائع متعلقا للطلب مشكوك فما بالحمل الشائع مطلوب يشك في سعته لهذا المائع المردد والحجة على الكبرى ليست حجة على الصغرى إلّا بمقدار يعلم بسعة المطلوب

٦٣٢

بالحمل الشائع له إلى أن قال فإذا كان الإنشاء الواقعي المفروض تحققه بداعي جعل الداعي حقيقة فهو بعنوان جعل الداعي بالعرض على أي تقدير ولا يعقل أن يكون كذلك إلّا بنحو وجوده الواصل في وجدان العقل وإلّا ففي صورة احتماله لا يكون داعيا بالعرض على أي تقدير وكذا الأمر بالإضافة إلى عنوان متعلقه فإن جعله داعيا إلى الشرب بعنوانه يستدعي إحداث الشوق إليه بعنوانه لا إلى احتماله وكذا بالإضافة إلى ما أضيف إليه المتعلق عنوانا ومعنونا إلى أن قال ومن جميع ما ذكرنا تبين أن ملاك البراءة عدم فعلية الحكم بعدم الوصول كبرى وصغرى إلى أن قال لا يقال : إتيان المشكوك وإن لم يكن ظلما مذموما عليه إلّا أن مخالفة التكليف المعلوم وعدم الخروج عن عهدته ظلم موجب للذم والعقاب فلزوم ترك المشكوك ليس من حيث نفسه بل من حيث لزوم الخروج عن عهدة التكليف المنجز.

لأنا نقول : بعد تسليم أنّ إتيان هذا المشكوك من حيث كونه مخالفة ذلك التكليف المعلوم ليس ظلما فلا محالة لا يتنجز ذلك التكليف المعلوم إلّا بمقدار يكون مخالفته ظلما وخروجا عن زي الرقية ولا يجب الفراغ عن عهدة ما لا يتنجز بالإضافة إلى شيء بل يجب الفراغ عن عهدة ما كان منجزا له. (١)

حاصله جريان البراءة سواء كان الشك في انطباق مدخول أداة العموم على المائع المردد أو في انطباق طبيعي الترك المطلق على المائع المردد بعد كون المراد من طبيعي الترك المطلق هو الترك الجامع بين التروك الخارجية لا أمرا بسيطا حاصلا من المقدمات الخارجية وذلك لأن الحجة على الكبرى ليست بحجة على الصغرى ومع عدم دلالة الدليل الاجتهادي في حكم المشكوك يرجع فيه إلى البراءة وفيه ما لا يخفى فإنه خروج عن الفرض فإن الكلام فيما إذا كان متعلق النهي هو صرف الوجود لا الترك الجامع قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره : أنّ الكلام في هذه الصورة فيما إذا كان المتعلق أمرا بسيطا مأخوذا بنحو الموضوعية لا بنحو المعرفية وما ذكره المحقق الأصفهاني مناسب للثاني لا الأول والموضوعية ترجع إلى المحصل

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٣٠ ـ ٢٣٢.

٦٣٣

بكسر الصاد والمحصل بفتحها فكما أنّ التكليف منجز في المحصل ولزم عقلا امتثاله فكذلك في المقام لا يمتثل البسيط إلّا بإتيان ما يحتمل دخالته فيه وعليه فلا مجال لانطباق طبيعي الترك المطلق على التروك الخارجية حتى يقال إنّ المطلوب بالحمل الشائع بنحو فناء العنوان في المعنون هو الترك الجامع بين التروك الخارجية بنحو الوحدة في الكثرة وكون ترك شرب هذا المائع من جملة تلك الكثرات التي يكون جامعها بالحمل الشائع متعلقا للطلب مشكوك.

وهذا لأن ذلك متفرع على كون المتعلق وهو الترك المطلق ماخوذا بنحو المعرفية للتروك الخارجية وقد عرفت أنه مأخوذ بنحو الموضوعية والكلام فيه وهو نظير الشك في المحصل بعد العلم بالمحصل بالفتح ولا إشكال فيه في وجوب الاحتياط.

فتحصل أنه لا مجال للبراءة في هذه الصورة بل اللازم هو الاحتياط في الشبهات الموضوعية التحريمية.

وثانيها : هو أن يكون النهي متعلقا بذات طبيعة الفعل وحيث إن الطبيعة ملحوظة بعنوان المرآة إلى الوجودات الخارجية لا بنحو الموضوعية مع قطع النظر عن الوجودات الخارجية ينحل الحكم تحريما بعدد المصاديق الخارجية وعليه فلو شك في كون شيء مصداقا للطبيعة يرجع الشك إلى ثبوت التكليف زائدا على المصاديق الأخرى المعلومة فيكون مجرى للبراءة لأن الشك في سعة التكليف وضيقه ويلحق به ما إذا تعلّق النهي بالطبيعة على نحو مطلق الوجود أي العام الاستغراقي فإن النهي فيه أيضا ينحل إلى الأفراد المعلومة والمشكوكة ويجوز الرجوع في الأفراد المشكوكة إلى البراءة.

لا يقال : بعد ما قام الدليل على حرمة الخمر يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العام إلّا بالاجتناب عن كل ما احتمل حرمته.

لأنا نقول : كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره إن التكليف بذي المقدمة غير محرز إلّا بالعلم التفصيلي أو الإجمالي فالاجتناب عما يحتمل الحرمة احتمالا مجردا عن العلم الإجمالي لا يجب لا نفسا ولا مقدمة والله العالم. (١)

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٢٥ ط قديم.

٦٣٤

ولذا قال في الكفاية لو كان النهي عن شيء بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة لما وجب إلّا ترك ما علم أنه فرد وحيث لم يعلم تعلّق النهي إلّا بما علم أنه مصداقه فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة.

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حده أو كان الشيء مسبوقا بالترك وإلّا لوجب الاجتناب عنها عقلا ليتحصل الفراغ قطعا. (١)

وثالثها : هو أن يكون النهي أو الزجر متعلقا بمجموع أفراد الطبيعة بحيث لو ترك فردا واحدا امتثل ولو أتى ببقية الأفراد وعليه فيجوز للمكلف ارتكاب بعض الأفراد المتيقنة مع ترك غيره فضلا عن الفرد المشكوك فيه.

والسر في ذلك أن المفسدة في هذا الفرض في مجموع وجودات الفعل في زمان خاص أو مكان خاص فإذا ترك أحد الوجودات لم يأت بالمجموع وتركه ويتحقق الامتثال بذلك.

ثم يقع الكلام في الفرض المذكور في جواز ارتكاب جميع الأفراد المتيقنة وترك خصوص الفرد المشكوك وعدمه.

قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : الظاهر هو الجواز لأنه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين في المحرمات وهو على عكس الشك في الأقل والأكثر في الواجبات فإن تعلّق التكليف بالأقل عند دوران الواجب بين الأقل والأكثر هو المتيقن وإنما الشك في تعلّقه بالزائد فيرجع في نفيه إلى البراءة.

وأما في باب المحرمات فتعلق التكليف بالأكثر هو المتيقن إنما الشك في حرمة الأقل لأن الإتيان بالأكثر أعني الأفراد المتيقنة والفرد المشكوك فيه محرم قطعا وأما ارتكاب ما عدا الفرد المشكوك فيه فحرمته غير معلومة والمرجع هو البراءة. (٢)

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣٢٥.

٦٣٥

ولا يخفى ما فيه فإن الاشتغال بترك مجموع أفراد الطبيعة معلوم وامتثال ذلك بترك خصوص الأفراد المشكوكة غير محرز.

ورابعها : أن يرجع النهي إلى طلب العنوان الانتزاعي عن مجموع التروك الذي عبر عنه في محكي كلام المحقق النائيني قدس‌سره بالموجبة المعدولة المحمول كقوله كن لا شارب الخمر فهو لا يتحقق إلّا بمجموع التروك فلو شرب الخمر ولو دفعة لم يتحقق هذا العنوان وهو عنوان لا شارب الخمر أو تارك شرب الخمر فإذا شك في مورد أنه مصداق ذلك أو لا لا يجري البراءة لأن الشك في المحصل بعد كون المكلف به هو العنوان البسيط بل اللازم حينئذ هو الاحتياط أخذا بقاعدة الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية هذا كله بحسب مقام الثبوت.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الظاهر من النواهي هو تعلقها بذات الطبائع وهو الصورة الثانية إذ لا تحتاج الصورة الثانية إلى مئونة زائدة بخلاف إرادة صرف الوجود أو مجموع أفراد الطبيعة أو العنوان الانتزاعي فإن هذه الصور محتاجة إلى مئونة زائدة ثم إن الطبيعة في الصورة الثانية ملحوظة بعنوان المرآة إلى أفرادها فينحل النهي إلى الأفراد المعلومة والمشكوكة فيجري البراءة في المشكوكة منها وهكذا الأمر لو تعلّق النهي بالطبيعة على نحو مطلق الوجود أي العام الاستغراقي فإن النهي فيه أيضا ينحل إلى المعلوم والمشكوك فيجري فيه البراءة ومما ذكر في المقام يظهر جواز الصلاة في اللباس الذي شك فيه أنه مما لا يؤكل لحمه وقد حكى شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره إن الميرزا الشيرازي قدس‌سره ذهب في سابق الزمان إلى وجوب الاحتياط في اللباس المشكوك ولكن عدل عنه في سنتين قبل وفاته قدس‌سره.

ولكن لقائل أن يقول لا يبعد دعوى ظهور النواهي عن الموانع في المركبات مثل الصلاة في كون متعلقها هو صرف وجود الموانع بمناسبة الحكم والموضوع إذ يكفي في الإخلال أول وجود من الموانع ومعه لا مجال للبراءة بعد كون صرف الوجود ملحوظا بنحو الموضوعية لا الطريقية بل اللازم هو الاحتياط.

اللهمّ إلّا أن يقال : إن النهي في المركبات يمكن أيضا أن يكون بنحو العموم البدلي عن

٦٣٦

كل فرد ومعه فدعوى ظهوره في خصوص صرف الوجود مع أنها محتاجة إلى مئونة زائدة كما ترى ولو شك في كون النهي بنحو صرف الوجود أو ذات الطبيعة لكان الشك في التكليف الزائد فيجري فيه البراءة أيضا فتدبر جيدا.

التنبيه الخامس :

أنه قد عرفت في التنبيه الثاني إن ملاك رجحان الاحتياط في الشبهات البدوية هو إدراك الواقع لأن ما في الواقع تكاليف فعلية للمولى ولها ملاكات واقعية وإن كان الجهل بلزومها عذرا في مخالفتها والمفروض أن الأحكام الشرعية ثابتة في الواقع وجعل العذر لا يكون بمعنى رفع أصلها في الواقع بحيث لا يكون للجاهل حكم في الواقع بل بمعنى رفع الثقل من ناحية تلك التكاليف الواقعية مع فرض ثبوتها وهذا الملاك بعينه موجود في موارد الأمارات والحجج أيضا بعد ممنوعية التصويب لأن الواقع يكون على حاله ولو مع قيام الأمارة على خلافه ومقتضاه هو رجحان الاحتياط لأنه يوجب إدراك الواقع وهو حسن بعد كون الواقع تكاليف فعلية للمولى ولها ملاكات واقعية والمفروض أن الأمارة لا تنفي احتمال الخلاف ومع ثبوت احتمال الخلاف فيحسن الاحتياط لكونه موجبا لتدارك المصلحة الواقعية ولا فرق في ذلك بين كون الاحتياط في الأمور المهمة كالدماء والفروج والأموال أو غيرها كما لا تفاوت بين كون احتمال التكليف قويا أو ضعيفا.

نعم لو استلزم الأخذ بالاحتياط في جميع موارد الأمارات والشبهات البدوية اختلالا في النظام فالاحتياط الموجب لذلك قبيح عقلا بل ليس راجحا شرعا لما أشار المحقق الأصفهاني قدس‌سره من أن الجعل الشرعي بداعي جعل الداعي ومع قبح الاحتياط المخل بالنظام في نظر العقل لا يعقل تصديق الجعل من الشارع فيلغو البعث قهرا بل نقول أن نفس التكليف الواقعي الذي يقتضى الجمع بين محتملاته الإخلال بالنظام لا يبقى عليه فعلية الباعثية والزاجرية من حيث إن العقل بعد ما لم يحكم بتحصيل العلم بامتثاله لا معنى لبقائه على صفة الدعوة الفعلية. (١)

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٣٢.

٦٣٧

وعليه فاللازم حينئذ هو التبعيض في الاحتياط وهو إما بأن يختار الاحتياط في جميع الشبهات العرضية إلى أن ينتهي الأمر إلى اختلال النظام فيترك الاحتياط رأسا في مورد الأمارات وجميع الشبهات لا يقال : إن تحديد الاحتياط بصورة لزوم الاختلال عسر لأنا نقول : إنما يقدح ذلك في وجوب الاحتياط لا في حسنه ورجحانه وكيف كان التبعيض في الاحتياط اما بذلك واما التبعيض من أول الأمر. بحسب الاحتمالات أو المحتملات كما أشار إليه الشيخ الأعظم حيث قال الشيخ قدس‌سره : فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات فيحتاط في المظنونات إلى أن قال ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات فالحرام المحتمل إذا كان من الأمور المهمة في نظر الشارع كالدماء والفروج بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى ويدل على هذا جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح وإنه شديد وإنه يكون منه الولد. (١)

وقال صاحب الكفاية أيضا إن الاحتياط الموجب لذلك أي اختلال النظام لا يكون حسنا كذلك وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا فافهم. (٢)

ولعل قوله فافهم إشارة إلى أن التبعيض لا ينحصر في ذلك بل يمكن بما مر من جواز اختبار الاحتياط في جميع الشبهات العرضية إلى أن ينتهي الأمر إلى اختلال النظام فيترك الاحتياط رأسا في مورد الأمارات وجميع الشبهات ثم إن المستفاد من حسن الاحتياط في الشبهات بل في الأمارات لوجود الملاكات الواقعية ان الآثار الوضعية لتلك الملاكات لا تزول بأصالة الإباحة أو البراءة أو حجية الأمارات بل هي على ما هي عليه نعم ينتفي آثار الأحكام التكليفية من العقوبة والمؤاخذة فلا تغفل.

التنبيه السادس :

انّ جريان البراءة مشروط بأن يكون رفع الشيء في عالم التشريع بيد الشارع وعليه فلا مجال للبراءة فيما لا يكون وضعه ورفعه بيد الشارع.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٢٥.

(٢) الكفاية ٢ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٦٣٨

ويتفرع على ذلك عدم جريان البراءة عند الشك في القدرة العقلية بل مقتضى حكم العقل بعد العلم بالخطاب هو الاحتياط بالإقدام على الفحص عن القدرة وعدمها نعم لو شك في القدرة الشرعية كالاستطاعة أمكن التمسك بالبراءة فيها.

التنبيه السابع :

إنه إذا شك في كون الواجب تعيّنيا أو تخييريّا أو عينيا أو كفائيا أو نفسيا أو غيريا فإن كانت مقدمات الإطلاق كاملة فمقتضاها هو التعيني والعيني والنفسي لما تقدم في محله من أن إرادة غيرها تحتاج إلى مئونة زائدة.

وإن لم تكن مقدمات الإطلاق تامة ووصلت النوبة إلى الاصول العملية فقد يقال بالبراءة في الشك في التعيني والتخيري بدعوى أن التعينية خصوصية زائدة على أصل الوجوب وهي مشكوكة فتكون مجرى للبراءة.

أورد عليه بأن التعينية أمر ينتزع عن عدم جعل عدل له وليس هو بنفسه مجعولا شرعيا حتّى يكون قابلا للرفع في عالم التشريع فلا يشمله حديث الرفع فتأمل.

وأما جريان البراءة بالنسبة إلى وجوب العدل لكونه من المجعولات الشرعية ففيه أن رفع وجوب العدل يوجب التضييق على المكلف وهو خلاف الامتنان فلا يجري فيه البراءة.

هذا مضافا إلى أنه ينتج عكس المقصود من البراءة أي عدم التعين لأن البراءة عن وجوب محتمل العدلية مستلزم لتعينه وعدم كونه واجبا تغييريا وعليه فالمرجع في هذه الصورة هي قاعدة الاشتغال.

ودعوى أن الشيئين إذا اتحدا في الأثر فاللازم عند العقل ان يكون ذلك الأثر مستندا إلى القدر الجامع لقاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير فحينئذ مرجع الشك في التعيين والتخيير إلى أن التكليف هل هو متعلق بالجامع بين الفردين أو بخصوص ذلك الفرد ولما قلنا بالبراءة في الإنشاء المردد بين التعلق بالجامع أو الخاص نقول بها هنا أيضا.

مندفعة بما أفاد في الدرر من أن التخيير وإن كان راجعا إلى تعلّق الحكم بالجامع عقلا و

٦٣٩

في عالم اللب ولكن لو كان مراد المولى ذلك العنوان الخاص الذي جعله موردا للتكليف على وجه التعيين لم يكن للعبد عذر وليست المؤاخذة عليه مؤاخذة من دون حجة وبيان حيث انه يعلم توجه الخطاب بالنسبة إلى العنوان المخصوص. (١)

هذا مضافا إلى ما فيه من أن الاستدلال عليه بقاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد وقاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير غير سديد في المقام بعد اختصاص القاعدة المذكورة بالواحد الشخصي فلا تشمل الواحد النوعي ولذا نجد بالوجدان إمكان استناد الواحد النوعي إلى المتعدد كالحرارة فإنها واحد نوعي يمكن استنادها تارة إلى النار وأخرى إلى الحركة وثالثة إلى الشمس وهكذا وعليه فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الخطابات الواردة في موارد التخيير وإرجاعه إلى الجامع الحقيقي والقول بالتخيير العقلي لظهور خطابات التخيير الشرعي في تعلّقه بالأشياء الخاصة ورفع اليد عن هذا الظاهر وإرجاعه إلى جامع انتزاعي كعنوان أحدهما خلاف الظاهر وخلط بين العنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما وبين واقع أحدهما.

على أنه قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره : ولو سلمنا أنّ في اللب هنا جامعا هو مركب المصلحة وقد تعلّق الغرض الجناني به ولكن الذي وقع مركبا للأمر لا شك في أنه الخاص بخصوصيته وذاك الخاص كذلك بمعنى تعلّق الأمر بهما تعلقا بدليا والحاصل مركب المصلحة غير مؤاخذته وإنما المؤاخذة والاحتجاج على ما وقع تحت الأمر والإنشاء والإنشاء لا يدعي أحد تعلّقه بالجامع بل غاية ما يدعيه المدعي تعلّق الغرض والمصلحة بالجامع وإذن فليس المقام من قبيل ما إذا تردد أمر الانشاء بين التعلق بالجامع أو الخاص كما في المطلق والمقيد.

فان قلت سلمنا ذلك ولكن حجية هذا المقدار الذي معلوم لنا من الأمر في هذا الخاص على إتيان هذا الخاص غير مسلمة فإن الذي علمنا أن الأمر متعلق به بالأعم من البدلي و

__________________

(١) الدرر : ٤٨١.

٦٤٠