عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

بالتبعيض في الاحتياط دفعا لمحذور الاختلال أو العسر والحرج ، والعقل يحكم بمعذورية من أتى بالمظنونات وترك الموهومات أو المشكوكات دفعا لمحذور الاختلال أو العسر والحرج ، وهو معنى الحكومة العقلية في مقام الامتثال ، فالحكومة بهذا المعنى ثابتة. وأمّا بمعنى جعل الظن حجة عقلا أو شرعا فلا دليل له ولا تفيده مقدمات دليل الانسداد ، فتدبّر جيدا.

وعليه يسقط كثير من المباحث المتفرعة على ثبوت حجية الظن بمقدمات الانسداد ، منها : أنّ نتيجة دليل الانسداد هي حجية الظن بالواقع أو الظن بالطريق أو الأعم منهما.

التنبيه الثاني :

انّ دليل الانسداد على تقدير تمامية مقدماته مختص بالفروع ، ولا يجري في الاصول الاعتقادية ؛ لعدم جواز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا ، إذ لا يصدق المعرفة على الظن ، وهذا هو مقتضى ما قرّر في بحث القطع من أنّ الامارات لا تقوم مقام القطع إذا أخذ على نحو الصفتية ولذا قال في الكفاية : لا بد من تحصيل العلم لو امكن ، ومع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضية المطلب مع قلة الاستعداد. (١)

ولقائل أن يقول : يجب على من لم يتمكن من المعرفة التفصيلية أن يعتقد بما هو الواقع بنحو الاجمال ، فتأمّل. هذا كله بالنسبة الى الظن المتعلق بما تجب معرفته عقلا أو شرعا.

وأمّا اذا كان الظن متعلقا بالامور الدينية التي يجب التباني وعقد القلب عليها والتسليم والانقياد لها كتفاصيل البرزخ وتفاصيل المعاد ونحو ذلك مما لا يجب تحصيل معرفتها ، وانّما الواجب عقد القلب على تقدير اخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بها.

فقد فصل السيد المحقق الخوئي قدس‌سره بين الظن الخاص وبين الظن العام حيث قال : فان كان الظن المتعلق بهذه الأمور من الظنون الخاصة الثابتة حجيتها بغير دليل الانسداد فهو حجة ، بمعنى أنه لا مانع من الالتزام بمتعلقه وعقد القلب عليه ؛ لانه ثابت بالتعبد الشرعي بلا فرق

__________________

(١) الكفاية : ٢ ج ص ١٥٦.

٣٨١

بين أن تكون الحجية بمعنى جعل الطريقية كما اخترناه أو بمعنى جعل المنجزية والمعذرية كما اختاره صاحب الكفاية (لان عقد القلب والتسليم من الواجبات التعبدية ويصح فيها التنجيز والتعذير).

وإن كان الظن من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها بدليل الانسداد بناء على تمامية مقدمات الانسداد فلا يكون حجة ، بمعنى عدم جواز الالتزام وعقد القلب بمتعلقه ، لعدم تمامية مقدمات الانسداد في المقام ، إذ منها عدم جواز الاحتياط لاستلزامه اختلال النظام أو عدم وجوبه لكونه حرجا على المكلف ، والاحتياط في هذا النوع من الامور الاعتقادية بمكان من الامكان بلا استلزام للاختلال والحرج ؛ إذ الالتزام بما هو الواقع وعقد القلب عليه على اجماله لا يستلزم الاختلال ، ولا يكون حرجا على المكلّف.

وأمّا إذا كان الظنّ متعلّقا بالأمور التكوينية أو التاريخية فان لم يقم على اعتباره دليل خاص وهو الذي نعبر عنه بالظن المطلق فلا حجية له ، كما هو الظاهر.

(ولعل وجه الظهور أن الامور التكوينية أو التاريخية أجنبية عن الأحكام ومقام الاطاعة والامتثال ، وعليه فالظن المتعلق بها خارج عن موضوع دليل الانسداد).

وأمّا إن كان من الظنون الخاصة ، فان كانت الحجية بمعنى جعل غير العلم علما بالتعبد يكون الظن المذكور حجة باعتبار أثر واحد ، وهو جواز الإخبار بمتعلقه ؛ لأن جواز الإخبار عن الشيء منوط بالعلم به ، وقد علمنا به بالتعبد الشرعي.

وإن كانت الحجية بمعنى كونه منجزا ومعذرا فلا يعقل ذلك إلّا فيما اذا كان لمؤداه أثر شرعي ، وهو منتف في المقام ؛ إذ لا يكون أثر شرعي للموجودات الخارجية ولا للقضايا التاريخية ليكون الظن منجزا ومعذرا بالنسبة اليه.

وأما جواز الإخبار عن شيء فهو من آثار العلم به ، لا من آثار المعلوم بوجوده الواقعي ؛ ولذا لا يجوز الإخبار عن شيء مع عدم العلم به ولو كان ثابتا في الواقع.

ويتفرع عليه أنه لا يجوز الإخبار البتي بما في الروايات من الثواب على المستحبات أو الواجبات بأن نقول من صام من رجب مثلا كان له كذا ، بل لا بد من نصب قرينة دالة على

٣٨٢

أنه مروي عن الأئمة عليهم‌السلام بأن نقول مثلا روي أنه من صام في رجب كان له كذا. (١)

هذا بخلاف ما اذا قلنا بأنّ الحجية بمعنى جعل غير العلم علما لجواز الاخبار البتي حينئذ بما في الروايات من الثواب والعقاب والخواص وغير ذلك ، كما جاز له ذلك إذا علم وجدانا بما فيها ، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث :

أنه لا اشكال في النهي عن القياس بناء على ما مر من عدم استفادة حجية الظن من مقدمات الانسداد على تقدير تماميتها ؛ إذ لا منافاة بين عدم حجية الظن المطلق والنهي عن القياس ، بل لا اشكال في النهي عن القياس أيضا مع القول بحجية الظن المطلق بدليل الانسداد بناء على الكشف ؛ إذ للشارع أن يجعل الحجية لبعض الظنون دون البعض الآخر حسبما تقتضيه المصلحة ، فمع احراز نهي الشارع عن القياس لا مجال لكشف العقل عن حجية الظن القياسي وأن كشف حجية الظن المطلق شرعا بدليل الانسداد.

وانّما الاشكال في وجه خروج الظن الحاصل من القياس عن عموم حجية الظن بدليل الانسداد بناء على الحكومة.

وتقرير الاشكال على المحكي عن الأمين الاسترابادي أنه كيف يجامع حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للاطاعة والمعصية ويقبح على الآمر والمأمور التعدي عنه ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس ولا يجوز الشارع العمل به؟! فانّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا جرى في غير القياس ، فلا يكون العقل مستقلا ؛ إذ لعله نهى عن امارة مثل ما نهى عن القياس واختفى علينا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك على الشارع ؛ إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه ، وهذا من افراد ما اشتهر من أنّ الدليل العقلي لا يقبل التخصيص.

أورد عليه في الكفاية بقوله : وانت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال بعد وضوح كون حكم

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣٥ ـ ٢٣٩.

٣٨٣

العقل بذلك معلقا على عدم نصب الشارع طريقا وأصلا وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان اصلا بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي ، فلا موضع لحكمه مع احدهما ... الى أن قال : فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه ، بل به يرتفع موضوعه. (١)

التنبيه الرابع :

انّ ظهور الألفاظ حجة عند العقلاء ، ولا يرفع اليد عنه إذا حصل الظن غير المعتبر على خلافه ؛ لعدم اختصاص دليل حجيته بما اذا لم يكن الظن غير المعتبر على خلافه ، وعليه فلو كان اللفظ بنفسه ظاهرا في معنى وخالفه المشهور لا يسقط ظهور اللفظ عن الحجية مع احتمال أن يكون وجه المخالفة هو اجتهادهم واستنباطهم.

نعم اذا احرز أن وجه المخالفة مستند الى دلالة حاق اللفظ لا الى ظنونهم واجتهاداتهم يستكشف بذلك أن اللفظ في ذلك العصر ظاهر في المعنى الذي فهموه وما فهمنا منه في عصرنا خلاف الظاهر ، فاللازم هو الأخذ بما فهمه المشهور.

وهكذا إذا أحرز أن مخالفتهم مع الظاهر مستند الى قيام دليل على التخصيص أو التقييد لا من ناحية الاجتهاد والاستنباط ، كما لعله كذلك في قاعدة القرعة لكل امر مشتبه مع وضوح معناها ، فيؤخذ بما ذهب اليه المشهور ؛ فانه يكشف عن المخصص أو المقيد ، كما لا يخفى.

وبالجملة فالظن المستفاد من فتوى المشهور وإن لم يكن على اعتباره دليل ربما يكشف قطعيا عن الظهور من حاق اللفظ أو المقيد أو المخصص ، فمع الكشف عن الظهور المستند الى حاق اللفظ أو وجود المقيد أو المخصص فاللازم هو الاتباع للظهور المستكشف أو المقيد أو المخصص ؛ ولذا لا يعمل بعموم قاعدة القرعة ، ولا منافاة بين أن لا يكون الشهرة الفتوائية حجة ومع ذلك تكشف عن الظهور المذكور أو وجود المقيد أو المخصص ، فلا تغفل.

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ ص ١٤٤.

٣٨٤

التنبيه الخامس :

أن الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام على تقدير تماميتها وافادة حجية الظن في مقام اثبات التكليف أو اسقاطه هو حجية الظن في هذا المقام المنسد فيها باب العلم والعلمي ، لا في مقام تطبيق المأمور به على المأتي به في الخارج ، وعليه فيرجع الى الظن في مقام تعيين الحكم الكلي.

وأمّا بعد تعيين الحكم الكلي وحصول الشك في أن المأمور به ينطبق على المأتي به أولا فلا يجوز أن يعتمد على الظن المطلق ، بل لا بد من أن يقطع بانطباق المأمور به على المأتي به بمقتضى أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

نعم قد يجري دليل الانسداد في بعض الموضوعات الخارجية كموضوع الضرر أو العدالة أو النسب ونحوها مما لها أحكام كثيرة ، فاذا كان باب العلم والعلمي فيها منسدا في الغالب بحيث لا يعلم به إلّا بعد الوقوع فيه كالضرر أو بحيث يترك الواجب كما في العدالة أو النسب وعلم أن الشارع لا يرضى بذلك ولا يمكن الاحتياط عقلا أو شرعا أمكن دعوى جريان دليل الانسداد فيه والاكتفاء بمجرد الظن في ترتب الأحكام.

إلّا انه لا حاجة اليه في مثل الضرر في بعض الموارد كالصوم ؛ لاناطة الحكم فيه على خوف الضرر في الروايات ، فلا تغفل.

التنبيه السادس :

أنه هل يكتفى في تعيين معنى موضوعات الاحكام الكلية بالظن الانسدادي أو لا يكتفى؟

ذهب بعض الى الأول قائلا بأنّ الأخذ بالظن في ناحية الموضوعات يرجع الى الأخذ بالظن في تعيين الحكم الكلي ، فمع تمامية مقدمات الانسداد وافادة حجية الظن يجوز الرجوع اليه ، ولكن المقدمات غير تامة بعد ما عرفت من جواز الرجوع في موارد الاستعمال أو تراكيب الكلمات الى أهل اللغة ؛ لانهم خبراء ذلك ، ومعه لا تصل النوبة الى الاكتفاء بالظن الانسدادي.

٣٨٥

اللهمّ إلّا أن يقال : إن الرجوع الى الخبرة لا يخرج الراجع الى الخبرة عن الجهل ، وعليه فالتقليد عن الراجع تقليد عن الجاهل. نعم يجوز له الاعتماد على الخبرة في عمل نفسه.

ولكن يمكن أن يقال : أن اللغويين متعددون ، وحيث إنهم يشهدون على موارد الاستعمال ومعاني التراكيب فالاعتماد عليهم اعتماد على البينة والشهادة ، فلا اشكال حينئذ في تقليد من اعتمد على الشهادة ، فانه اعتمد على العلمي ، فلو لم يكن المورد من موارد الشهادة فلا بد من أن يعتمد على الظن من باب الانسداد ، فلا تغفل.

ويلحق به الظن الحاصل من توثيق أهل الرجال ؛ فانّ الأخذ بالظن في ناحية رجال الأحاديث يرجع أيضا الى الأخذ بالظن في الحكم الشرعي ، فمع تمامية مقدمات الانسداد يكون الظن المطلق حجة فيها أيضا ويصح أن يعتمد عليه.

وهذا أيضا مبني على تمامية المقدمات بأن يقال : إنّا مكلّفون بأخذ قول العدول والثقات وتشخيص العدالة أو الوثاقة بتعديل العدلين بالنسبة الى جميع الرواة في عصرنا غير ميسور ، فالامر يدور بين رفع التكليف وبين الاحتياط التام وبين الاكتفاء بالظن في تشخيصهما ، والأول ممنوع ، والثاني متعذر أو متعسر ، فانحصر الامر في جواز الاكتفاء بالظن في تشخيص الثقة أو العدل ، فيجوز الاعتماد على الظن المستفاد من توثيق أهل الرجال في الموارد التي لم يتحقق فيها شهادة العدلين ، فتدبّر جيدا.

ودعوى : أن أكثر الأخبار تكون معمول بها عند المشهور ومعظم الأصحاب ، ومعه لا حاجة الى الظن الرجالي ، بل لا يلزم من الرجوع الى الاصول النافية فيما عداها محذور المخالفة مع العلم الاجمالي أو الخروج عن الدين ، وعليه فلا يتم مقدمات الانسداد.

مندفعة : بالمنع عن كون أكثر الأخبار هي معمول بها ؛ لعدم احراز استنادهم إليها ، فتدبّر جيّدا.

٣٨٦

الخلاصة

التنبيهات

التّنبيه الأوّل :

أنّه لا مجال لحجّيّة الظنّ المطلق لا عقلا ولا شرعا بعد ما عرفت من عدم تماميّة مقدّمات الانسداد إذ العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة ينحلّ بأخبار الثّقات معه لا مجال لحجّيّة الظنّ المطلق بل لو لم نقل بحجّيّة أخبار الثّقات ولكن انحلّ العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة بالعلم الإجمالي في دائرة الصّغيرة وهي المظنونات وجب العمل بالمظنونات من باب كونها أطراف المعلوم بالإجمال ومقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط التّامّ في الأطراف لا من باب حكم العقل بحجّيّة الظنّ على تقرير الحكومة ولا من باب كشف العقل عن حجّيّة الظنّ شرعا هذا بناء على عدم تماميّة مقدّمات الانسداد.

وأنّ بناء على تماميّة المقدّمات وعدم انحلال العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة فهل يكون النتيجة هي حجّيّة الظنّ المطلق أو لا.

يمكن أن يقال إنّ النتيجة هي التبعيض في الاحتياط لا حجّيّة الظنّ عقلا ولا شرعا وذلك لأنّ على تقدير تسليم عدم انحلال العلم الإجمالي الأوّل بدعوى كون العلم بالتّكليف أزيد من موارد الأخبار لا بدّ من التبعيض في الاحتياط على نحو لا يكون مخلا بالنظام ولا موجبا للعسر والحرج فلو فرض ارتفاع المحذور بإلغاء الموهومات وجب الاحتياط في المشكوكات والمظنونات وإذا لم يرتفع المحذور بذلك يرفع اليد عن الاحتياط في جملة من المشكوكات ويحتاط في الباقي منها وفي المظنونات وهكذا إلى حدّ يرتفع محذور الاختلال والحرج ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات الطارئة على المكلّف والموارد ففي الموارد المهمّة التي علم اهتمام الشّارع بها كالدّماء والأعراض والأموال الخطيرة لا بدّ من الاحتياط حتّى في الموهمات منها وترك الاحتياط في غيرها بما يرفع معه محذور الاختلال والحرج.

٣٨٧

فتحصّل أنّ مقدّمات الانسداد على تقدير تماميّتها عقيمة عن إثبات حجّيّة الظنّ لا بنحو الحكومة لما عرفت من أنّ العقل ليس بمشرع ليجعل الظنّ حجّة وإنّما شأنه الإدراك ليس إلّا ، فالجعل والتشريع من وظائف المولى. نعم العقل يدرك ويرى المكلّف معذورا في مخالفة الواقع مع الإتيان بما يحصل معه الظنّ بالامتثال على تقدير تماميّة المقدّمات ويراه غير معذور في مخالفة الواقع على تقدير ترك الامتثال الظنّي والاقتصار بالامتثال الشكيّ أو الوهمي والحكومة بهذا المعنى ممّا لا بدّ منه.

ولا بنحو الكشف لتوقّفه على قيام دليل على بطلان التّبعيض في الاحتياط ولم يقم وعليه فتكون النتيجة التبعيض في الاحتياط لا حجّيّة مطلق الظنّ.

ولكن ذهب بعض المحقّقين إلى أنّ الحقّ هو تقرير دليل الانسداد على نحو يفيد الحكومة العقلية بمعنى أنّ الظنّ مثبت للتكليف عقلا لا بمعنى المعذوريّة في مقام الامتثال واستدلّ لذلك بأنّ مسلك التبعيض مبني على منجّزيّة العلم الإجمالي وعدم انحلاله بكشف وجود منجّز آخر في البين بمقدار الكفاية وهي ممنوعة جدّا لقيام الإجماع والضّرورة على بطلان الخروج من الدين ولو فرض عدم علم إجمالي رأسا أو فرض عدم منجّزيّته للتكليف.

إذ بمثله يكشف عن وجود مرجع آخر في البين بمقدار الكفاية غير العلم الإجمالي موجب لانحلاله ولذلك جعلنا هذا المحذور هو العمدة في المستند لعدم جواز الإهمال.

هذا مضافا إلى لزوم سقوطه عن المنجّزيّة أيضا بمقتضى التّرخيص المطلق في طرف الموهومات بل المشكوكات من جهة الاضطرار أو الحرج والعسر المقارن للعلم الإجمالي فبعد سقوط العلم الإجمالي يتعيّن تقرير الحكومة إذ بعد انسداد باب العلم والعلمي وعدم ثبوت جعل من الشّارع ولو بمثل ايجاب الاحتياط يحكم العقل بلزوم اتخاذ طريق في امتثال الأحكام بمقدار يرتفع به محذور الخروج عن الدين ويتعيّن في الظنّ باعتبار كونه أقرب إلى الواقع من الشكّ والوهم فيحكم بلزوم الأخذ به والرجوع فيما عداه إلى البراءة ومع حكم العقل بذلك لا مجال للكشف لاحتمال إيكال الشارع في حكمه بلزوم تعرّض الأحكام إلى

٣٨٨

هذا الحكم العقلي إذ مع الاحتمال المزبور لا يبقى طريق لكشف جعل من الشّارع في البين.

ويمكن الجواب عنه بأنّه لا يبعد دعوى العلم الإجمالي بوجود التّكاليف عديدة بين المظنونات مع قطع النظر عن العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة وبهذا قلنا بانحلال العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة بوجود العلم الإجمالي في دائرة الصّغيرة وهي دائرة المظنونات ومن المعلوم أنّ انحلال العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة أو عدم منجّزيّته لا يضرّ بوجود العلم الإجمالي في دائرة المظنونات ومنجّزيّته وعليه فمقتضى بقاء العلم الإجمالي في دائرة المظنونات ومنجّزيّته هو وجوب الاحتياط التامّ في أطرافها لا من باب كون الظنّ مثبتا للحكم ولا من باب التبعيض في الاحتياط بل من باب كون المظنونات هي أطراف المعلوم بالإجمال.

هذا مضافا إلى أنّ التّرخيص في بعض أطراف المعلوم بالإجمال لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز فيما إذا كانت التكاليف متعدّدة.

وعليه فلو لم نقل بانحلال العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة فلا محيص عن حكم العقل بالتبعيض في الاحتياط دفعا لمحذور الاختلال أو العسر والحرج والعقل يحكم بمعذوريّة من أتى بالمظنونات وترك الموهومات أو المشكوكات دفعا لمحذور الاختلال أو العسر والحرج وهذا هو معنى الحكومة العقليّة في مقام الامتثال فالحكومة بهذا المعنى ثابتة وأمّا بمعنى جعل الظنّ حجّة عقلا أو شرعا فلا دليل له ولا تفيده مقدّمات دليل الانسداد فتدبّر جيّدا.

التّنبيه الثّاني :

أنّ دليل الانسداد على تقدير تماميّة مقدّمات مختصّ بالفروع ولا يجري في الاصول الاعتقاديّة لعدم جواز الاكتفاء بالظنّ فيما يجب معرفته عقلا وهذا هو مقتضى ما عرفته في بحث القطع من أنّ الأمارات لا تقوم مقام القطع فيما أخذ القطع على نحو الصفتية فاللّازم في المسائل الاعتقادية هو تحصيل العلم لو أمكن ومع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضية المطلب مع قلّة الاستعداد.

٣٨٩

التّنبيه الثّالث :

أنّه لا إشكال في النّهي عن القياس بناء على ما مرّ من عدم استفادة حجّيّة الظنّ من مقدّمات الانسداد على تقدير تماميّتها إذ لا منافاة بين عدم حجّيّة الظنّ المطلق والنّهي عن القياس.

بل لا إشكال أيضا في النّهي عن القياس مع استفادة حجّيّة الظنّ المطلق من مقدّمات الانسداد بناء على الكشف إذ للشارع أن يجعل الحجّيّة لبعض الظنون دون بعض حسبما تقتضيه المصلحة فمع إحراز نهي الشّارع عن القياس لا مجال لكشف العقل عن حجّيّة الظنّ القياسي وإن كشف حجّيّة الظنّ المطلق شرعا بدليل الانسداد.

وإنّما الإشكال في وجه خروج الظنّ الحاصل من القياس عن عموم حجّيّة الظنّ بدليل الانسداد على تقدير الحكومة وتقرير الإشكال على ما حكي عن الأسترآبادي أنّه كيف يجامع حكم العقل يكون الظنّ كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ويقبح على الآمر والمأمور التعدّي عنه ومع ذلك يحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس والشّارع لا يجوز العمل به والجواب عنه واضح وهو أنّ حكم العقل بذلك معلّقا على عدم نصب الشّارع طريقا واصلا وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا بداهته أنّ من مقدّمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي فلا موضوع لحكم العقل مع أحدهما فلا يكون نهي الشّارع عنه رفع لحكم العقل عن موضوعه بل به يرتفع موضوع الحكم العقلي كما لا يخفى.

التّنبيه الرّابع :

أنّ ظهور الألفاظ حجّة عند العقلاء ولا يرفع اليد عنه إذا حصل الظنّ غير المعتبر على خلافه وعليه فلو كان اللّفظ بنفسه ظاهرا في معنى وخالفه المشهور لا يسقط ظهوره عن الحجّيّة فيما إذا كان وجه المخالفة هو اجتهاداتهم لعدم حجّيّة اجتهاداتهم لغيرهم من المجتهدين.

هذا بخلاف ما إذا كان وجه المخالفة هو قيام دليل عندهم يدلّ على التّخصيص أو التّقييد

٣٩٠

كما لعلّه كذلك في قاعدة القرعة لكلّ أمر مشتبه مع وضوح معناها فاللّازم حينئذ هو رفع اليد عن ظهور لفظ يخالفه المشهور فإنّ المتكشّف بالشّهرة حجّة لنا أيضا.

وبالجملة فالظنّ المستفاد من فتوى المشهور وإن لم يكن على اعتباره دليل لكنّه يكشف أحيانا كشفا قطعيا عن المقيّد أو المخصّص فمع هذا الكشف فاللّازم هو الاتّباع لما ذهب إليه المشهور ولا منافاة بين أن لا يكون الشهرة في نفسها حجّة ومع ذلك تكشف عن وجود المقيّد أو المخصّص فلا تغفل.

التّنبيه الخامس :

أنّ الثّابت بمقدّمات دليل الانسداد في الأحكام على تقدير تماميّتها وإفادة حجّيّة الظنّ في مقام إثبات التّكليف هو حجّيّة الظنّ المطلق في هذا المقام لانسداد باب العلم والعلمي لا في قوله تطبيق المأمور به على المأتي به في الخارج وعليه فيرجع إلى الظنّ المطلق في مقام تعيين الحكم الكلّي وأمّا بعد تعيين الحكم الكلّي وحصول الشكّ في أنّ المأمور به ينطبق على المأتيّ به أوّلا : فلا يجوز أن يعتمد على الظنّ المطلق بل لا بدّ من أن يقطع بالانطباق بمقتضى أنّ الاشتغال اليقيني بمقتضى الفراغ اليقيني.

نعم قد يجري دليل الانسداد في بعض الموضوعات الخارجية كموضوع الضّرر أو العدالة أو النّسب ونحوها ممّا لها أحكام كثيرة فإذا كان باب العلم والعلمي فيها منسدّا في الغالب بحيث لا يعلم به إلّا بعد الوقوع فيه كالضّرر أو بحيث يترك الواجب كما في العدالة أو النسب وعلم أنّ الشّارع لا يرضى بذلك ولا يمكن الاحتياط عقلا أو شرعا أمكن دعوى جريان دليل الانسداد فيه والاكتفاء بمجرّد الظنّ في ترتّب الأحكام إلّا أنّه لا حاجة إليه في مثل الضّرر في بعض الموارد كالصوم لإناطة جواز الإفطار على خوف الضّرر في الرّوايات.

التّنبيه السّادس :

أنّه هل يكتفي في تعيين معنى موضوعات الأحكام الكلّيّة بالظنّ الانسدادي أو لا.

واستدلّ للأوّل بأنّ الأخذ بالظنّ في ناحية الموضوعات يرجع إلى الأخذ بالظنّ في

٣٩١

تعيين الحكم الكلّي فمع تماميّة المقدّمات يجوز الرّجوع إليه إلّا أنّ المقدّمات غير تامّة لجواز الرّجوع في موارد الاستعمال أو تراكيب الكلمات إلى أهل اللّغة لأنّهم خبراء ذلك ومعه لا تصل النّوبة إلى الاكتفاء بالظنّ الانسدادي في معنى الموضوعات.

اللهمّ إلّا أن يقال : أنّ الرّجوع إلى الخبرة لا يخرج الرّاجع عن الجهل ولذا لا يجوز التّقليد عنه لأنّه جاهل والرّجوع إليه رجوع الجاهل إلى الجاهل لا رجوع الجاهل إلى العالم نعم لو كان اللغويّون متعدّدين جاز الاعتماد على أقوالهم من جهة الشّهادة وعليه فلا إشكال في التّقليد عمّن اعتمد على الشّهادة.

فلو لم يكن المورد من موارد الشّهادة فلا إشكال حينئذ في جواز الاعتماد على الظنّ من باب الانسداد.

ويلحق به الظنّ الحاصل من توثيق أهل الرّجال فإنّ الأخذ بالظنّ في ناحية رجال الحديث يرجع أيضا إلى الأخذ بالظنّ في الحكم الشّرعي فمع تماميّة المقدّمات يكون الظنّ المطلق حجّة ويصحّ أن يعتمد عليه.

والمقدّمات تامّة. لأنّا مكلّفون على أخذ قول العدول والثّقات وتشخيص هؤلاء العدول بتعديل العدلين بالنّسبة إلى جميع الرواة غير ميسور. وعليه فالأمر يدور بين رفع التّكليف وبين الاحتياط التامّ وبين الاكتفاء بالظنّ في تشخيصهما. والأوّل ممنوع والثّاني متعذّر أو متعسّر. فانحصر الأمر في جواز الاكتفاء بالظنّ في تشخيص الثّقة أو العدل. فيجوز الاعتماد على الظنّ المستفاد من توثيق أهل الرّجال في الموارد الّتي لم يتحقّق فيها شهادة العدلين ولله الحمد أوّلا وآخرا.

٣٩٢

المقصد السابع

في الأصول العملية

٣٩٣
٣٩٤

ولا يخفى عليك أنّ مواضع الاصول العملية هي موارد الاشتباه والشكوك الثابتة بسبب فقدان النص أو تعارض الدليلين أو إجمال الدليل ، أو الاشتباه من ناحية الامور الخارجية ، والاصول العملية متضمنة لحكم تلك الشبهات.

ثم إنّ هذه الموارد من الشكوك إمّا يكون اليقين السابق فيها ملحوظا وإمّا لا يكون كذلك لعدم وجوده أو لعدم اعتباره (كما إذا كان الشك في المقتضي بناء القول بعدم جريان الاستصحاب فيه) والأوّل مجرى الاستصحاب مطلقا سواء كان الشك في التكليف أو المكلّف به ، وأمكن الاحتياط أو لم يمكن ، وسواء كان الحكم المشكوك إلزاميا أو لم يكن كذلك ، والثاني أي ما لم يلحظ فيه اليقين السابق إمّا أن يكون الشك فيه في أصل التكليف وإمّا أن يكون الشك في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف ، فالأوّل مورد للبراءة والثاني فإن أمكن الاحتياط فيه فهو مجرى قاعدة الاحتياط كما إذا دار الأمر بين القصر والإتمام فيجمع بينهما ، وإن لم يمكن الاحتياط فيه كما إذا علم بأصل الإلزام والتكليف ولكن دار الأمر بين المحذورين كالحرمة والوجوب فهو مجرى قاعدة التخيير.

ولا فرق في ما ذكر بين أن يكون حكم تكليفيا أو وضعيا بناء على إمكان جعله مستقلا ولو في الجملة ، كما سيأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى ، ثم إنّه لا وجه لتخصيص الحكم بالإلزامي مع أنّ بعض الاصول يجري في غير الإلزامي أيضا ، وهو يكفي في تعميم المجرى ، ولو اختص بعض آخر بالإلزامي فالاستصحاب يجري في الحكم الاستحبابي والكراهتي أيضا وإن اختصت البراءة بما فيه كلفة والضيق وهما لا يكونان إلّا في الإلزامي كما لا يخفى.

٣٩٥

فتحصل أنّ الكلام في الاصول العملية يعمّ في الاستصحاب والبراءة والاحتياط أو الاشتغال والتخيير ومحل البحث في هذا المقصد هو هذه الاصول العملية.

ولا ندّعي حصر القواعد المقرّرة للشاك فيما ذكر من الاصول الأربعة لوجود قواعد أخرى تكون من قواعد علم الاصول أيضا ؛ كقاعدة أصالة الحلية وقاعدة أصالة الطهارة وغير ذلك من القواعد المقرّرة للشاك لتعيين الحكم الفرعي الكلي الفعلي.

قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : إنّ عدم ذكر أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة في علم الاصول إنّما هو لعدم وقوع الخلاف فيها ، فإنّها من الاصول الثابتة بلا خلاف فيها ولذا لم يتعرّضوا للبحث عنها في علم الاصول لا لكونها خارجة من علم الاصول وداخلة في علم الفقه على ما توهّم.

وخلاصة القول :

أنّ أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة بمنزلة أصالة الحلّية عند الشك في الحرمة فكما أنّ البحث عن الثانية داخل في علم الاصول باعتبار ترتب تعيين الوظيفة الفعلية عليه ، كذلك البحث عن الاولى أيضا داخل في علم الاصول لعين الملاك المذكور ، غاية الأمر أنّ مفاد أصالة الحلية هو الحكم التكليفي ، ومفاد أصالة الطهارة هو الحكم الوضعي ، ومجرد ذلك لا يوجب الفرق بينهما من حيث كون البحث عن إحداهما داخلا وعن الأخرى خارجا عنه.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّ الوجه لعدم التعرض لأصالة الطهارة في علم الاصول عدم اطرادها في جميع أبواب الفقه واختصاصها بباب الطهارة فغير تام ؛ لأنّ الميزان في كون المسألة اصولية هو أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي ولا يعتبر جريانها في جميع أبواب الفقه وإلّا لخرجت جملة من المباحث الاصولية عن علم الاصول ؛ لعدم اطرادها في جميع أبواب الفقه كالبحث عن دلالة النهي عن العبادة على الفساد ، فإنّه غير جار في غير العبادات من سائر أبواب الفقه. (١)

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٣٩٦

ثم لا يخفى عليك أنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يقع في مقامين :

أحدهما : في حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة ، وهذا يعمّ الاصول الثلاثة من البراءة والاحتياط والتخيير.

ثانيهما : في حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو منحصر في الاستصحاب.

المقام الأول :

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : إنّ الكلام في المقام الأول يقع في موضعين ؛ لأن الشك إمّا في نفس التكليف ، وهو النوع الخاص من الإلزام ، وإن علم جنسه كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم.

وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه كما إذا علم وجوب شيء وشك بين تعلّقه بالظهر أو الجمعة أو علم بفائتة وتردد بين الظهر والمغرب.

والموضع الأول (أعني الشك في نوع التكليف مع العلم بجنسه) يقع الكلام فيه في مطالب لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ، وصور الاشتباه كثيرة ، وهذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به.

ولو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

أقسام الشكّ في التكليف

ثم جعل الشيخ الشك في التكليف على أقسام ثمانية ، باعتبار أنّ الشبهة التكليفية تارة تكون وجوبية واخرى تحريمية ومنشأ الشك فيهما إمّا من ناحية فقدان النص أو إجمال النص أو تعارض النص ، وهذه ستة والشبهة تارة تكون موضوعية ومنشأ الشك فيها هي

٣٩٧

الأمور الخارجية ، والشبهة الموضوعية إمّا وجوبية وإمّا تحريمية فصارت الأقسام ثمانية.

ثم نعرض للبحث عن كل قسم مستقلا. (١)

أورد عليه السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره بأنّ الأقسام في الشك في التكليف غير منحصرة في ثمانية ، إذ من موارد الشك في التكليف الذي يكون موردا للبراءة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة ، وعليه كانت الأقسام اثنا عشر لا ثمانية. (٢)

حيث إنّ منشأ الشك في المزيد أي الإباحة أيضا أربعة وهي فقدان النص أو إجمال النص تعارض النص أو الأمور الخارجية كانت الأقسام اثنا عشر لا ثمانية.

ثم إنّ البحث عن كل قسم من الشبهة التحريمية أو الشبهة الوجوبية مستقلا مع أنّ ملاك جريان البراءة في جميع الأقسام واحد وهو عدم وصول التكليف إلى المكلّف غير لازم ومجرد اختصاص بعض الأدلة بالشبهة التحريمية أو اختصاص الخلاف ببعضها لا يوجب تكثير الأقسام كما ذهب إليه في الفرائد فالأولى هو ما صنعه صاحب الكفاية من تعميم البحث لمطلق الشك في التكليف سواء كان الشبهة تحريميه أو وجوبيّة وهو بعمومه يشمل لجميع أقسام الشك في التكليف ولذا تقتضي مسلك صاحب الكفاية في ضمن فصول ونقول بحول الله وقوته.

أصالة البراءة

الفصل الاول :

فيما لو شك في وجوب شيء أو شك في حرمة شيء ولم تنهض عليه حجة ولا يخفى عليك أنّه يجوز الترك في الأوّل والفعل في الثاني لقيام الأدلّة الشرعية والعقلية على جواز الترك والفعل فيهما وكون الفاعل والتارك مأمونين من عقوبة المخالفة من دون فرق بين أن

__________________

(١) فرائد الاصول ، ص ١٩٢.

(٢) مصباح الاصول ، ج ٢ ، ص ٢٥٢.

٣٩٨

يكون عدم نهوض الحجة لفقدان النص أو إجماله ، بحيث يحتمل في النهي الكراهة وفي الأمر الاستحباب أو تعارض النصّين فيما إذا لم يثبت بينهما ترجيح بناء على القول بالتوقف والتساقط في مسألة تعارض النصّين فيما لم يكن ترجيح في البين.

وأمّا بناء على التخيير كما هو المشهور فالحجة المعتبرة موجودة والتكليف واضح ، وهو الأخذ بأحد النصّين ولا مجال للبراءة الشرعية والعقلية مع تمامية البيان كما لا يخفى.

وإليك أدلة البراءة في الشك في التكليف وجوبا كان أو حراما.

أدلة القائلين بالبراءة في الشك في التكليف

واستدل للبراءة في الشك في التكليف بالأدلة الأربعة.

وأمّا من الكتاب فبآيات منها قوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (١)

تقريب الاستدلال بالآية كما أفاده سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره هو ان يقال إنّ المتفاهم عرفا من الآية لأجل تعليق العذاب على بعث الرسول الذي هو مبلّغ لأحكامه تعالى وبمناسبة الحكم والموضوع هو انّ بعث الرسول ليس له موضوعية في إنزال العقاب بل هو طريق لإيصال التكاليف على العباد وإتمام الحجة به عليهم وليس المراد من بعث الرسول هو بعث نفس الرسول وإن لم يبلّغ احكامه فلو فرض أنّه تعالى بعث رسولا لكن لم يبلّغ الأحكام في شطر من الزمان لمصلحة أو جهة أخرى لا يصح ان يقال أنّه تعالى يعذّبهم لأنّه بعث الرسول وكذا لو بلّغ بعض الأحكام دون البعض يكون التعذيب بالنسبة إلى ما لم يبلّغ مخالفا للوعد في الآية.

وكذا لو بلّغ إلى بعض النّاس دون بعض لا يصح ان يقال إنّه يعذّب الجميع لأنّه بعث الرسول وكذا لو بلّغ جميع الأحكام في عصره ثم انقطع الوصول إلى الأعصار المتأخرة وهذا

__________________

(١) الإسراء / ١٥.

٣٩٩

أو أشباهه يدل على أنّ الغاية لاستحقاق العذاب هو التبليغ الواصل وأنّ ذكر بعث الرسول مع انتخاب هذه الكلمة كناية عن إيصال الأحكام وإتمام الحجة وانّ التبليغ غير الواصل في حكم العدم وانّه لا يصح العذاب كما انّ وجود الرسول بين الامّة بلا تبليغ كذلك.

وعلى هذا فلو بحث المكلّف عن تكليفه ووظيفته بحثا أكيدا فلم يصل إلى ما هو حجة عليه من علم تفصيلي أو إجمالي وغيرهما من الحجج ، فلا شك أنّه يكون مشمولا لقوله عزوجل : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) إلى أن قال : وإن شئت قلت : إنّ قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) تنزيه للحق تعالى شأنه وهو يريد بهذا البيان أنّ التعذيب قبل البيان مناف لمقامه الربوبي ، وأنّ شأنه تعالى أجلّ من أن يرتكب هذا الأمر ، فلذلك عبّر بقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) دون أن يقول وما عذّبنا أو ما أنزلنا العذاب ، وذلك للإشارة إلى أنّ هذا الأمر مناف لمقامه الأرفع وشأنه الأجلّ.

وبعبارة أوضح أنّ الآية مسوقة إمّا لإفادة أنّ التعذيب قبل البيان مناف لعدله وقسطه ، أو مناف لرحمته وعطوفته ولطفه على العباد.

فلو أفاد الأول لدلّ على نفي الاستحقاق ، وأنّ تعذيب العبد حين ذاك أمر قبيح مستنكر يستحيل صدوره منه ، ولو أفاد الثاني لدل على نفي الفعلية وأنّ العذاب مرتفع ، وإن لم يدل على نفي الاستحقاق. (١) وسيأتي قوة الأول ودعوى أنّ الآية راجعة إلى نفي التعذيب عن الأمم السالفة قبل بعث الرسل فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة (٢) فلا ارتباط للآية الكريمة بالمقام فإنّ البحث في المقام عن العقوبة الاخروية دون العذاب الدنيوي.

مندفعة بما أفاده الشهيد الصدر قدس‌سره من إمكان منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيوية ، بل سياقها سياق استعراض عدة قوانين للجزاء الاخروي ، إذ وردت في سياق (لا تَزِرُ وازِرَةٌ

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ص ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٢) راجع فرائد الاصول : ص ١٩٣.

٤٠٠