عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

وإمّا يكون الجهل فيها بمعنى الغفلة فيستقيم الحكم بالمعذورية حينئذ ويشهد له قوله عليه‌السلام وذلك إنّه لا يقدر على الاحتياط معها ولكن إشكاله أنّه أجنبي عن المقام لأنّ البحث الأصولي حول الشك لا الغفلة.

ويمكن الجواب بحمل الجهالة على الغفلة في كلتي الصورتين وبحمل قول السائل «بجهالة أنّ الله حرم عليه ذلك» على الجهالة في الحكم التكليفي وقوله «أم بجهالته أنّها في العدة» على جهالته بأنّ العدة موضوعة للأمر الوضعي أعني الحرمة الأبدية.

وحينئذ وجه قدرته على الاحتياط في الثاني أنّه بعد الالتفات يتمكن من رفع اليد عن الزوجة بخلاف الأوّل فإنّه أتى بالفعل المحرم شرعا ولا يتمكن من تداركه بعد الالتفات فافهم.

ولكن الرواية حينئذ تكون أجنبية عن صورة الشكّ والترديد بل مختصة بمورد الغفلة مع أنّ بحث الاصولي في حكم الشكّ والترديد لا حكم الغفلة والأولى هو الجواب عن الاشكال بأنّ الجهالة ليست في الموضعين مستعملة في معنيين بل استعملت في كليهما في العام الشامل للشك والغفلة وهو عدم العلم ولكن هذا المعنى العام يكون الغالب تحققه في ضمن الغفلة بالنسبة إلى الحكم وفي ضمن الترديد والشك بالنسبة إلى الموضوع فالاختلاف في المحقق لا في المعنى المستعمل فيه الكلمة.

وأمّا وجه الاختلاف بينهما فلأنّ الحكم لغاية وضوحه مثل وجوب صلاة الظهر بين المسلمين يكون عدم علمه بنحو الترديد فيه في غاية الندرة نعم عدم علمه بنحو الغفلة ليس نادرا.

وأمّا الموضوع فالإنسان المريد لتزويج امرأة لا محالة يكون بصدد التفتيش عن موانع التزويج في حق المرأة الشخصيّة ومع هذا لو لم يقع في ذهنه الالتفات إلى حيث كونها في عدة الغير أولا فهو في كمال البعد والندرة فإذا كانت الغفلة بعيدة أمكن أن يبقى على حالة الترديد والشكّ بالنسبة إلى الموضوع هذا هو المحكي عن الأستاد الأعظم الميرزا

٥٠١

الشيرازى قدس‌سره وتبعه جماعة منهم المحقق الحائرى وشيخنا الأستاد والمحقق العراقى قدّس الله أرواحهم.

فتحصّل أنّ الرواية بعد تخصيصها بحكم العقل بغير مورد الشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص وبغير مورد الشبهة المحصورة وبغير مورد الاستصحاب أو الأمارات تدلّ على أنّ الجهل وعدم العلم بالحكم أو الموضوع عذر ومعناه أنّه لا فعلية للحكم بالنسبة إليه ولا عقوبة ومعه لا مجال لوجوب الاحتياط مطلقا سواء كانت الشبهة تحريمية أو وجوبية.

٥٠٢

حديث كل شيء مطلق

ومنها : أي من الأخبار التي استدل بها للبراءة هي الّتى رواها في الفقيه مرسلة عن الصادق عليه‌السلام قال وذكر شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه عن سعد بن عبد الله إنّه كان يقول لا يجوز الدعاء في القنوت بالفارسية وكان محمّد بن الحسن الصفار يقول إنّه يجوز والذي أقول به إنّه يجوز لقول أبي جعفر الثاني عليه‌السلام لا بأس أن يتكلم الرجل في صلاة الفريضة بكل شيء يناجي به ربه عزوجل.

ولو لم يرد هذا الخبر أيضا لكنت أجيزه بالخبر الذي روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي والنهي عن الدعاء بالفارسية في الصلاة غير موجود والحمد لله. (١) ورواها عوالي اللئالي (٢) ، ورواها في المستدرك بسند غير معتبر عن الصادق عليه‌السلام الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي. (٣)

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : استدل به الصدوق على جواز القنوت بالفارسية واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإمامية ودلالته على المطلوب أوضح من الكل وظاهره عدم وجوب الاحتياط لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو لا من حيث كونه مجهول الحكم فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها مما يدل على عدم وجوب الاحتياط ثم الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض. (٤)

فيدل الحديث على الإطلاق والإباحة وعدم وجوب الاحتياط ما دام لم يرد النهي عن الشيء من حيث هو.

وقد أورد عليه في الكفاية بأن دلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه باب ١٧ باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح ٤٣ ورواها عوالي اللآلي.

(٢) ج ٣ : ١٦٦ ح ٦٠ وص ٤٦٢ ح ١.

(٣) ج ١٧ ص ٣٣٣ ح ٢١٤٧٧ طبع آل البيت.

(٤) فرائد الاصول : ١٩٩.

٥٠٣

بحكمه بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل غير واحد مع أنّه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره. (١)

يمكن الجواب عنه بأن مع العلم بصدور النهي عن الشارع ووصوله لغير واحد لا مجال للتمسك بالرواية لإثبات الإطلاق للعلم بحصول الغاية وأما إذا لم يعلم بصدور النهي عن الشارع ووصوله لغير واحد بل يحتمل ذلك أمكن التمسك باستصحاب عدم ورود النهي وتنقيح موضوع الحديث كما في جميع موارد الاصول المنقحة فيصحّ التمسك بالحديث في مورد يشك فيه من جهة ورود النهي عنه وعدمه.

والقول بأنّ الأخذ بالحديث حينئذ يكون بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا كما في الكفاية.

غير سديد إذ لا يتفاوت في المقصود وهو الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

وما ذكره في الكفاية من أن الحديث بذلك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ولا يكاد يعم ما إذا نهى عنه في زمان وأباحه في آخر واشتبها من حيث التقدم والتأخر مع أن البراءة تشمله أيضا.

مندفع بأن هذا لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت مع أنّ هذا نادر جدا لا يقال : إنّ الأخذ بعدم الفصل يجدي فيما إذا كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل الاجتهادي لا الأصل. (٢)

لأنا نقول : بعد كون الأصل منقّحا يكون المثبت للحكم بالإباحة في المقام هو الدليل

__________________

(١) الكفاية ٢ : ١٧٧.

(٢) ربما يقال في وجه ذلك أن المراد بالإطلاق في الحديث هو الإباحة الواقعية المغياة بصدور النهي والاستصحاب حكم ظاهري ببقاء تلك الإباحة فليس في البين براءة لا بدليل اجتهادي ولا فقاهتى فلا موضوع للإجماع وعدم القول بالفصل والجواب عنه هو ما أشرنا إليه بأن الحكم بالإباحة ثابت بالدليل الاجتهادي لا الأصل.

٥٠٤

الاجتهادي لا الأصل ولعل قول صاحب الكفاية في آخر عبارته فافهم اشارة إلى ذلك.

لا يقال : إنّ أصالة عدم ورود النهي حتى تثبت الحلية الواقعية أو الظاهرية من الاصول المثبتة لأن تحقق ذي الغاية مع عدم حصول غايته من الأحكام العقلية والشك في تحقق ذيها وإن كان مسببا عن تحقق نفس الغاية وعدمها إلّا أنه ليس مطلق السببية مناطا لحكومة السببي على المسببي ما لم يكن الترتب شرعيا. (١)

وعليه فاستصحاب عدم الورود لإثبات كون الشيء مطلقا وحلا لا مثبت.

لأنا نقول : إنّ ثبوت الحلية الواقعية أو الظاهرية لا يترتب على أصالة عدم ورود النهي حتى يكون أصالة عدم ورود النهي مثبتة بل ثبوتهما لصدق موضوعهما نعم تحقق الموضوع متوقف على أصالة عدم ورود النهي فلو كان الاصول المنقحة للموضوعات مثبتة لزم أن لم تجر تلك الاصول في مورد من الموارد مع أنّها جرت ويثبت بها موضوعات الأحكام ومن المعلوم أن الأحكام حينئذ مترتبة على الموضوعات بالأدلة الاجتهادية فلا تغفل.

وأوضح ذلك في تسديد الاصول حيث قال إنّ مسئولية الاستصحاب ومفاده في جميع موارد جريانه ليست أزيد من الحكم ببقاء المستصحب وهذه المسئولية يؤدّيها ويفي بها هنا أيضا كسائر الموارد.

ثم إنّ الأدلّة الاجتهادية هي التي تنطبق ببركة الاستصحاب على الموضوعات المستصحبة وتحكم مفادها عليها وحينئذ فلا فرق بين أن يكون مفاد الدليل الاجتهادي حكما مجعولا من الأحكام الشرعية أو قاعدة كلية رافعة لتحير الناس ومبيّنة لوظيفتهم نظيرها كما لا يخفى فلا نعتمد في إثبات الإطلاق على مجرد حديث السببية والمسببية لكي يرمى بالبطلان والمثبتيّة. (٢)

ثم أورد في الدرر على الحديث بأنه لو حمل الورود على الصدور في نفس الأمر كما أنّه لم

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) تسديد الاصول ٢ : ١٤٦.

٥٠٥

يكن ببعيد فلا تدل إلّا على إباحة الأشياء قبل تعلّق النهي بها واقعا فما شك في تعلّق النهي به وعدمه من الشبهات لا يجوز لنا التمسك بالعام فيها إلّا أن يتمسك باستصحاب عدم النهي لإحراز الموضوع وعلى هذا لا يحتاج إلى الرواية في الحكم بالإطلاق لأنه لو صح الاستصحاب لثبت به ذلك فافهم. (١)

وأوضحه شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره حيث قال هذا الاستصحاب نافع للتمسك بالحديث على قول من لا يرى استصحاب العدم الأزلي جاريا مثل شيخنا المرتضى فإنه قائل بأنّ مورد الاستصحاب لا بد أن يكون شيئا قابلا للجعل بالاستصحاب فلو كان مما لا يقبل الجعل فلا يجري فيه الاستصحاب إلّا بواسطة ما يقبله فالعدم الأزلي لا يصير مجرى للاستصحاب إلّا أن يكون موضوعا لأثر شرعي لأن العدم ليس قابلا للجعل وإنّما هو مسبب عن عدم الجعل فعلى هذا يستصحب عدم ورود النهي الثابت في الأزل فيترتب عليه أثره الشرعي الذي رتب عليه بمقتضى هذا الحديث وهو الإباحة والإطلاق.

وأما على ما نختاره كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى من جريان الاستصحابات العدمية فلا يكون هذا الاستصحاب نافعا بحال الحديث لكونه مغنيا عن التمسك به وبالجملة فعلى المختار لا يكون التمسك بالحديث بناء على المعنى المذكور صحيحا لأنه مع قطع النظر عن الاستصحاب يكون من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ومع ملاحظة جريانه فلا حاجة إلى التمسك بالحديث. (٢)

ولا يخفى عليك أنّ نسبة عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية إلى الشيخ الأعظم ممنوعة بعد ما حكي عن الشيخ في الرسائل والمكاسب من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية.

نعم استشكل الشيخ قدس‌سره على الاستدلال على البراءة بالاستصحاب بأنّ استصحاب

__________________

(١) الدرر : ٤٥١.

(٢) أصول الفقه ٢ : ٧٨ ـ ٧٩.

٥٠٦

البراءة لو كان موجبا للقطع بعدم العقاب صح التمسك به وإلّا فلا إذ مع بقاء احتمال العقاب بعد جريان الاستصحاب لا مناص من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان لسد باب هذا الاحتمال ومعه كان التمسك بالاستصحاب لغوا محضا لأنّ التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كاف في سدّ باب احتمال العقاب من أول الأمر بلا حاجة إلى التمسك بالاستصحاب.

وعليه فإن بنينا على كون الاستصحاب من الأمارات أو قلنا بحجية مثبتات الاصول حصل منه القطع بعدم العقاب وصح التمسك به إذ عدم المنع من الفعل الثابت بالاستصحاب مستلزم للرخصة في الفعل فإذا فرض ثبوت الرخصة من قبل الشارع بالتعبد الاستصحابي باعتبار كونها من لوازم عدم المنع المستصحب لم يحتمل العقاب فان العقاب على الفعل مع الترخيص فيه غير محتمل قطعا وأمّا لو لم نقل بكون الاستصحاب من الأمارات ولا بحجية مثبتات الاصول كما هو الصحيح فلا يصح التمسك بالاستصحاب في المقام إذ لا يثبت به الترخيص الموجب للقطع بعدم العقاب ويبقى احتمال العقاب فنحتاج إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومعه كان التمسك بالاستصحاب لغوا.

ولكن هذا الإشكال غير وارد كما أفاد السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره حيث إنّ استصحاب عدم المنع كاف في القطع بعدم العقاب إذ العقاب من لوازم المنع عن الفعل وتحريمه فمع عدم إحراز عدم المنع عن الفعل بالاستصحاب نقطع بعدم العقاب بلا حاجة إلى إحراز الرخصة التي هي من لوازم عدم المنع ليكون مثبتا. (١)

فتحصل انّ مع إرادة الصدور من الورود وإن أمكن الاستدلال بالحديث المذكور في جريان استصحاب عدم صدور النهي ولكن لا حاجة إلى الحديث حينئذ لجريان الاستصحاب وسيأتي جريان الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

هذا كله بناء على أنّ المراد من الورود في قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» هو الصدور الواقعي وإن لم يصل إلى المكلفين وأمّا إذا كان الورود بمعنى الوصول إلى

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٥٠٧

المكلفين فلا حاجة في ثبوته إلى الاستصحاب قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره ان قوله عليه‌السلام «يرد» جملة استقبالية والنهي المتوقع وروده في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام ليست النواهي الأولية الواردة على الموضوعات لأن ذلك بيد الشارع وقد فعل ذلك وختم طوماره بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانقطاع الوحي غير أنّ كل ما يرد من العترة الطاهرة كلها حاكيات عن التشريع والورود الأوّلي وعلى ذلك ينحصر المراد من قوله «يرد» على الورود على المكلف أي الوصول إليه حتى يرتفع بذلك الحكم المجعول للشاك وهذا عين الحكم الظاهري. (١)

حاصله أنه يستظهر من جملة «يرد» إنّ المراد من الورود هو وصول ما صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لقيام القرينة على أنّه بعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصدر شيء من الأحكام حتى يكون المراد من قوله «يرد» هو ذلك ومن المعلوم أنّ الوصول إمّا معلوم الوجود وإمّا معلوم العدم ولا يحتاج إلى الاستصحاب.

واستدل في مصباح الاصول على أنّ الورود في الحديث بمعنى الوصول من ناحية كلمة المطلق حيث قال إنّ الورود وإن صح استعماله في الصدور إلّا أنّ المراد به في الرواية هو الوصول إذ على تقدير أن يكون المراد منه الصدور لا مناص من أن يكون المراد من الإطلاق في قوله عليه‌السلام كل شيء مطلق هو الإباحة الواقعية فيكون المعنى إنّ كل شيء مباح واقعا ما لم يصدر النهي من المولى ولا يصح أن يكون المراد من الإطلاق هي الإباحة الظاهرية إذ لا يصح جعل صدور النهي من الشارع غاية للإباحة الظاهرية فإنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك وعدم وصول الحكم الواقعي إلى المكلف فلا تكون الإباحة الظاهرية مرتفعة بمجرد صدور النهي من الشارع ولو مع عدم الوصول إلى المكلف.

بل هي مرتفعة بوصوله إلى المكلف فلا مناص من أن يكون المراد هي الإباحة الواقعية وحينئذ فإمّا أن يراد من الإطلاق الإباحة (الواقعية) في جميع الأزمنة أو الإباحة في خصوص عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا سبيل إلى الأول إذ مفاد الرواية على هذا إنّ كل شيء مباح واقعا حتى

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٨٥.

٥٠٨

يصدر النهي عنه من الشارع وهذا المعنى من الوضوح بمكان كان بيانه لغوا لا يصدر من الإمام عليه‌السلام فإنه من جعل أحد الضدين غاية للآخر ويكون من قبيل أن يقال كل جسم ساكن حتى يتحرك.

وكذا المعنى الثاني فإنه وإن كان صحيحا في نفسه إذ مفاد الرواية حينئذ انّ الناس غير مكلفين بالسؤال عن حرمة شيء ووجوبه في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله يبين الحرام والواجب لهم والناس في سعة ما لم يصدر النهي منه إلى أن قال بخلاف غيره من الأزمنة فإنّ الأحكام صدرت منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجب على المكلفين السؤال والتعلم إلّا أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الرواية فإنّ ظاهر كل شيء مطلق هو الإطلاق الفعلي والإباحة الفعلية بلا تقييد بزمان دون زمان لا الأخبار عن الإطلاق في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كل شيء كان مطلقا في زمانه ما لم يرد النهي عنه فتعين أن يكون المراد من الإطلاق هي الإباحة الظاهرية لا الواقعية.

وعليه فلا مناص من أن يكون المراد من الورود هو الوصول لأنّ صدور الحكم بالحرمة واقعا لا يكون رافعا للإباحة الظاهرية ما لم يصل إلى المكلف فنفس كلمة (مطلق) في قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق» قرينة على أن المراد من الورود هو الوصول. (١)

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في وجه ظهور الورود في الوصول أولى مما أفاده السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره. فإنّ دعوى اللغوية في صورة إرادة الإباحة الواقعية في جميع الأزمنة من لفظة الإطلاق وإرادة الصدور من لفظة الورود ليست بصحيحة لإمكان منع اللغوية بإفادة هذه القاعدة رفع الحيرة والحرج عن المكلفين فيجوز ارتكاب الأشياء فيما إذا لم يصدر النهي عن الشارع ومع إفادة هذه القاعدة جواز الارتكاب ونفي الحظر عن الأشياء كيف تكون هذه لغوا.

لا يقال : كيف يحرز عدم صدور النهي عن الشارع لأنا نقول : نحرز ذلك باستصحاب عدم صدور النهي عنه فالاولى هو الاكتفاء بما ذكره سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في وجه الظهور.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٥٠٩

فتحصل أن الورود في الرواية ظاهر في الوصول والمراد من الوصول هو الوصول العادي إلى المكلف بحيث لو تفحص لظفر به فإذا شك في حرمة شيء وعدمه وتفحص ولم يظفر بدليل يدل على حرمة الشيء المذكور كان فمقتضى هذا الحديث هو الحكم بالإباحة الظاهرية وعدم وجوب الاحتياط فيعارض مع دليل الاحتياط لأن الظاهر من قوله عليه‌السلام حتى يرد فيه نهي هو وصول النهي الواقعي عن الشيء بما هو شيء لا النهي الظاهري عن الشيء بما هو مشكوك الحرمة فإن النهي يتعلق بموضوع القضية وهو الشيء وعليه فيدل الحديث على الإباحة الظاهرية ما لم يصل النهي عن الشيء إلى المكلف نعم لو كان المراد بالنهي في الغاية الأعمّ من الواقعي والظاهري كانت هذه الرواية محكومة بدليل الاحتياط ولكنه خلاف الظاهر.

ثم إنّ هذه الرواية مختصة بالشبهة التحريمية ولا تشمل الشبهة الوجوبية ولا بأس بالاستدلال بها فإنّ عمدة الخلاف بين الأصوليين والأخباريين إنّما هي الشبهة التحريمية وأمّا الشبهة الوجوبية فأكثر الأخباريين موافقون مع الاصوليين في عدم وجوب الاحتياط فيها.

ثم إنّه لا وقع للإشكال في سند هذا الحديث بأنه مرسل مع ما عرفت من أن الصدوق اعتمد عليه بالخصوص بحيث قال لو لم يرد في جواز الدعاء بالفارسية إطلاق لكنت أجيزه بالخبر الذي روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال كل شيء مطلق حتى يرد فيه النهي هذا مضافا إلى ما قاله في مقدمة كتاب من لا يحضره الفقيه ولم أقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه بل قصدت إلى إيراد ما أفتي فيه وأحكم بصحته واعتقد أنّه حجة في ما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته ولكن لقائل أن يقول إن اعتماد الصدوق على رواياته لا يستلزم اعتمادنا عليه خصوصا في مرسلاته ولا يكون نقله شهادة بتوثيق رواته أيضا إذ لعله اعتمد عليها من ناحية القرائن نعم تصلح المرسلة المذكورة للتأييد فتدبّر جيدا.

ومنها : أي الأخبار التي استدل بها للبراءة ما رواه الصدوق قدس‌سره في الفقيه مرسلا عن

٥١٠

الصادق عليه‌السلام أنّه قال كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي واعتمد عليه وروي نحوه في المستدرك بسند غير معتبر عن الصادق عليه‌السلام الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي وكيف كان فاعتماد الصدوق عليها لا يستلزم اعتمادنا عليها فهي لا تصلح للاستدلال ولو اغمضنا من ضعف سندها.

فلا يخفى أنّ دلالة هذه الرواية على المطلوب أوضح من الكلّ لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو لا من حيث كونه مجهول الحكم فان تم ما سيأتى من أدلّة الاحتياط دلالة وسندا وحب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها لظهورها في عدم وجوب الاحتياط ثمّ الرجوع إلى مقتضى قاعدة التعارض وقد أورد عليها بأنّ دلالتها تتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل غير واحد مع أنّه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيّما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

ويمكن الجواب عنه بأنّ مع العلم بصدور النهى عن الشارع ووصوله لغير واحد لا مجال للتمسك بالرواية لإثبات الإطلاق لفرض العلم بحصول الغاية ولكن مع الشكّ في صدور النهي ووصوله لغير واحد أمكن التمسك باستصحاب عدم ورود النهي وبه ينقّح موضوع الحديث ويصحّ التمسك به في مورد يشكّ فيه من جهة ورود النهي عنه وعدمه.

نعم يرد حينئذ أنّ استصحاب عدم صدور النهي لإحراز الموضوع مثل هذه الرواية والاستدلال بها تبعيد المسافة لصحة الاستدلال بنفس الاستصحاب من دون حاجة إلى الرواية في الحكم بالإطلاق وبعبارة اخرى لا يجوز التمسك بالحديث مع قطع النظر عن الاستصحاب لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ومع ملاحظة جريان الاستصحاب فلا حاجة إلى التمسك بالحديث لأنّ الاستصحاب مغن عن التمسك بالحديث فلا تغفل.

هذا كله بناء على أنّ المراد من الورود هو الصدور الواقعي وأمّا إذا أريد منه هو الوصول إلى المكلفين فلا حاجة في ثبوته إلى الاستصحاب ويشهد له قوله عليه‌السلام «يرد» فإنّه جملة

٥١١

استقبالية والنهي المتوقع وروده في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام ليس نهيا من النواهي الأوّلية الواردة على الموضوعات لأنّ ذلك بيد الشارع وقد فعل ذلك وختم طوماره بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانقطاع الوحي وعلى ذلك ينحصر المراد من قوله عليه‌السلام «يرد» على الورود على المكلف وهو ليس إلّا الوصول الذي به يرتفع الحكم المجعول للشاك وهذا هو عين الحكم الظاهري.

ثمّ إنّ هذه الرواية مختصة بالشبهة التحريمية ولا تشمل الوجوبية ولا ضير فيه لأنّ عمدة الخلاف بين الاصوليّين والأخباريين في الشبهة التحريمية وأمّا الوجوبية فأكثر الأخباريين موافقون مع الأصوليّين في البراءة وعدم وجوب الاحتياط.

٥١٢

الخلاصة

حديث كلّ شيء مطلق

ومنها أي الأخبار التي استدل بها للبراءة ما رواه الصدوق قدس‌سره في الفقيه مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي واعتمد عليه وروي نحوه في المستدرك بسند غير معتبر عن الصادق عليه‌السلام الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي وكيف كان فاعتماد الصدوق عليها لا يستلزم اعتمادنا عليها فهي لا تصلح للاستدلال ولو اغمضنا من ضعف سندها.

فلا يخفى أنّ دلالة هذه الرواية على المطلوب أوضح من الكلّ لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو لا من حيث كونه مجهول الحكم فان تم ما سيأتى من أدلّة الاحتياط دلالة وسندا وحب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها لظهورها في عدم وجوب الاحتياط ثمّ الرجوع إلى مقتضى قاعدة التعارض وقد أورد عليها بأنّ دلالتها تتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل غير واحد مع أنّه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيّما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

ويمكن الجواب عنه بأنّ مع العلم بصدور النهى عن الشارع ووصوله لغير واحد لا مجال للتمسك بالرواية لإثبات الإطلاق لفرض العلم بحصول الغاية ولكن مع الشكّ في صدور النهي ووصوله لغير واحد أمكن التمسك باستصحاب عدم ورود النهي وبه ينقّح موضوع الحديث ويصحّ التمسك به في مورد يشكّ فيه من جهة ورود النهي عنه وعدمه.

نعم يرد حينئذ أنّ استصحاب عدم صدور النهي لإحراز الموضوع مثل هذه الرواية والاستدلال بها تبعيد المسافة لصحة الاستدلال بنفس الاستصحاب من دون حاجة إلى الرواية في الحكم بالإطلاق وبعبارة اخرى لا يجوز التمسك بالحديث مع قطع النظر عن الاستصحاب لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ومع ملاحظة جريان الاستصحاب

٥١٣

فلا حاجة إلى التمسك بالحديث لأنّ الاستصحاب مغن عن التمسك بالحديث فلا تغفل.

هذا كله بناء على أنّ المراد من الورود هو الصدور الواقعي وأمّا إذا أريد منه هو الوصول إلى المكلفين فلا حاجة في ثبوته إلى الاستصحاب ويشهد له قوله عليه‌السلام «يرد» فإنّه جملة استقبالية والنهي المتوقع وروده في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام ليس نهيا من النواهي الأوّلية الواردة على الموضوعات لأنّ ذلك بيد الشارع وقد فعل ذلك وختم طوماره بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانقطاع الوحي وعلى ذلك ينحصر المراد من قوله عليه‌السلام «يرد» على الورود على المكلف وهو ليس إلّا الوصول الذي به يرتفع الحكم المجعول للشاك وهذا هو عين الحكم الظاهري.

ثمّ إنّ هذه الرواية مختصة بالشبهة التحريمية ولا تشمل الوجوبية ولا ضير فيه لأنّ عمدة الخلاف بين الاصوليّين والأخباريين في الشبهة التحريمية وأمّا الوجوبية فأكثر الأخباريين موافقون مع الأصوليّين في البراءة وعدم وجوب الاحتياط.

٥١٤

حديث أي رجل ركب أمرا بجهالة

ومنها : أي من الأخبار التي استدل بها للبراءة قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الصمد بن بشير أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه. (١)

بتقريب أنّ الجهالة بعمومها تشمل الجاهل البسيط وهو الشاك المتردد وتدلّ على البراءة.

وقد أورد عليه الشيخ قدس‌سره : بأنّ الباء في قوله بجهالة ظاهر في السببية للارتكاب وعليه يختص بالغافل والجاهل المركب ولا يشمل الجاهل البسيط وصورة التردد في كون فعله صوابا أو خطأ ويؤيده أنّ تعميم الجهالة لصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك الغير المقصر وسياقه يأبى عن التخصيص فتأمل. (٢)

ولعل وجه تأمله هو ما ذكره في نهاية الأفكار من أنّ الالتزام بالتخصيص مما لا بد منه على أي حال للزوم إخراج الجاهل المقصر. (٣) إذ الجاهل المركب ربما يكون مقصرا والمقصر لا يكون ممن لا شيء عليه.

هذا مضافا إلى ما أفاده في تهذيب الاصول من أنّ ذلك دعوى مجردة فإنّ لسانه ليس على وجه يستهجن في نظر العرف ورود التخصيص به كما لا يخفى. (٤)

وأما ما ذكره الشيخ من أنّ الباء في قوله بجهالة ظاهر في السببية للارتكاب ففيه أوّلا كما في تهذيب الاصول من أنّ الجهل ليس علّة للإتيان بالشيء فإنّ وجود الشيء في الخارج معلول لمباديه نعم ربما يكون العلم بالحكم مانعا ورادعا عن حصول تلك المبادي في النفس وعليه فالمناسب هو جعل الباء بمعنى عن. (٥)

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ عدم العلم وهو الجهالة هو عدم المانع وهو من أجزاء العلة وله المدخلية فبهذا الاعتبار يناسب جعل الباء بمعنى السببية وثانيا كما في نهاية الأفكار من أنه

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٥ من أبواب تروك الإحرام ح ٣.

(٢) راجع فرائد الاصول : ١٩٩.

(٣) نهاية الأفكار ٣ : ٢٢٩.

(٤) تهذيب الاصول ٢ : ١٧٦.

(٥) تهذيب الاصول ٢ : ١٧٧.

٥١٥

كذلك في الجهل البسيط أيضا لكونه هو السبب في الارتكاب بمقتضى حكم عقله بقبح العقاب بلا بيان. (١)

يمكن أن يقال : إنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس من مبادي وجود الشيء اللهمّ إلّا أن يكتفي في السببية بما له المدخلية ولو من جهة عدم المانعية فتحصل أنّ التمسك بهذا الحديث للبراءة تام ولكنه متوقف على أنّ المراد من الجهالة هو الجهل بحكم الشىء واقعا وعدم علم به كما لعله الظاهر لعدم تقيد الأمر المذكور في الرواية بالشك وعليه فمقتضى هذا الحديث الصحيح انّ الإتيان بشيء عن عدم علم وجهالة بحكمه الواقعي لا يوجب شيئا وعليه فهذا الحديث ينافي أدلة وجوب الاحتياط نعم لو كان المراد من الجهالة هو الجهل بمطلق الوظيفة الفعلية يشكل التمسك به كما في نهاية الأفكار للبراءة لورود أدلة الاحتياط حينئذ عليه. (٢) ولكن عرفت أن ظاهر إطلاق الأمر في قوله عليه‌السلام أي رجل ركب أمرا يقتضي أن يكون الجهل متعلقا بحكمه الواقعي وعليه فلا يرتفع موضوع هذا الدليل بأدلة وجوب الاحتياط ويكون مفاد هذا الحديث كحديث الرفع في دلالته على البراءة بالنسبة إلى الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر هذه عمدة ما استدل به من الأخبار على البراءة والإنصاف هو ظهور بعضها في الدلالة على البراءة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نص فيه سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية وعليه فلو تمت أخبار الاحتياط الدّالة على التوقف عند الشبهة وعدم العلم معللا بأنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة كانت تلك الأدلة محكومة لأدلة البراءة إذ لا هلكة مع أخبار البراءة ولو نسلم الحكومة فالأخبار الدالة على الاحتياط إمّا مخصّصة بأدلة البراءة فيما إذا كانت أدلة البراءة أخص لاختصاصها بالشبهة التحريميّة وأدلة الاحتياط أعم من الشبهة الوجوبية وإمّا محمولة على الاستحباب والرجحان عند تساويهما في العموم وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٢٩.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٢٩.

٥١٦

الخلاصة

حديث أيّ رجل ركب أمرا بجهالة

ومنها : أي من الأخبار التى استدل بها للبراءة صحيحة عبد الصمد بن بشير حيث قال عليه‌السلام فيها «أيّ رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»

ولا يخفى عليك أنّ التمسك بها متوقف على أنّ المراد من الجهالة هو الجهل بحكم الشيء واقعا وعدم العلم به كما هو الظاهر لعدم تقيد الأمر المذكور في الرواية بالشك وعليه فمقتضى هذا الحديث الصحيح أنّ الإتيان بشيء عن عدم علم وجهالة بحكمه الواقعي لا يوجب شيئا.

فهذا الحديث ينافي أدلّة وجوب الاحتياط نعم لو كان المراد من الجهالة هو الجهل بمطلق الوظيفة الفعلية يشكل التمسك به للبراءة لورود ادلة الاحتياط عليه لكن عرفت أنّ ظاهر إطلاق الأمر في قوله عليه‌السلام أيّ رجل ركب أمرا يقتضي أن يكون الجهل متعلقا بحكمه الواقعي فيكون مفاده كحديث الرفع في دلالته على البراءة بالنسبة إلى الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر.

ودعوى أنّ الباء في قوله بجهالة ظاهر في السببية الارتكاب وعليه يختصّ بالغافل والجاهل المركب ولا يشمل الجاهل البسيط وصورة التردد ويؤيده أنّ تعميم الجهالة لصورة التردد يوجب التخصيص بالشاك الغير المقصّر وسياقه آب عن التخصيص.

مندفعة بأنّ الجهل ليس علة للإتيان بالشيء فإنّ وجود الشيء في الخارج معلول لمباديه نعم ربما يكون العلم بالحكم مانعا ورادعا عن حصول تلك المبادي في النفس وعليه فالمناسب هو جعل الباء في قوله بجهالة بمعنى عن.

هذا مضافا إلى أنّ التخصيص ممّا لا بدّ منه للزوم إخراج الجاهل المقصر إذا حمل الجهالة على الجاهل المركب إذ المقصر ولو كان جاهلا مركبا لا يكون ممن لا شيء عليه هذه عمدة ما استدل به من الأخبار على البراءة.

٥١٧

والإنصاف هو ظهور بعضها في الدلالة على البراءة وعدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحكم الواقعي من دون فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية وعليه فلو تمّت أخبار الاحتياط الدالة على التوقف عند الشبهة معللا بأنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة كانت محكومة لأدلة البراءة إذ لا هلكة مع أخبار البراءة ولو لم نسلم الحكومة فالأخبار الاحتياط إما مخصّصة بأدّلة البراءة لاختصاصها بالشبهة التحريميّة أو محمولة على الاستحباب والرجحان لو قلنا بتساويهما من جهة الإطلاق أو العموم.

٥١٨

الاستدلال بالإجماع

ربما يستدل بالإجماع على البراءة فيما لم يرد دليل على تحريم شيء من حيث هو وليس المراد منه دعوى قيام الإجماع والاتفاق على قبح العقاب على مخالفة التكليف الغير الواصل إلى المكلف حتى يقال إنّ الإجماع المذكور إجماع على أمر عقلي ولا يكشف عن الحكم الشرعي هذا مضافا إلى أنّ الإجماع على الكبرى لا ينفع إلّا بعد ثبوت الصغرى وهو عدم وصول دليل الاحتياط والمفروض أن الأخباريين يقولون بتمامية أدلة الاحتياط.

بل المراد من الإجماع المستدل به في المقام هو دعوى قيام الإجماع على جواز الارتكاب وعدم وجوب الاحتياط شرعا كما هو ظاهر فتاوى العلماء في الموارد المختلفة من الفقه.

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : لا تكاد تجد من زمان المحدثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرد الاحتياط.

نعم ربما يذكرونه في طي الاستدلال (على وجه التأييد) في جميع الموارد حتى في الشبهة الوجوبية التي اعترف القائلون بالاحتياط بعدم وجوبه فيها ولا بأس بالإشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول أي القول بالبراءة إلى أن قال ومنهم الصدوق قدس‌سره فإنه قال اعتقادنا إنّ الأشياء على الإباحة حتى يرد النهي ويظهر من هذا موافقة والده ومشايخه لأنه لا يعبر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم بل ربما يقول الذي اعتقده وأفتى به واستظهر من عبارته هذه إنّه من دين الإمامية إلى أن قال وأمّا الشيخ الطوسي قدس‌سره فإنّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد إلى أن الأصل في الأشياء من طريق العقل الوقف إلّا أنه صرّح في العدة بأن حكم الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف لكنه لا يمتنع أن يدل دليل سمعي على أنّ الأشياء على الإباحة بعد إن كانت على الوقف بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب ثم قال الشيخ الأعظم قدس‌سره وبالجملة فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط وإن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة (١) وعليه فدعوى قيام الإجماع على البراءة الشرعية ليست بمجازفة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠٢.

٥١٩

أورد عليه في الكفاية بأن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل ومن واضح النقل عليه دليل بعيد جدا. (١)

يمكن أن يقال بأن الإجماع المذكور على فرض تحصيله يكون متصلا إلى عصر الائمة عليهما‌السلام فحينئذ لو كان ذلك خلافا للدين لأرشدهم الأئمة الطاهرون عليهما‌السلام فمع عدم إرشادهم عليهما‌السلام إلى الاحتياط كفى ذلك في عدم وجوب الاحتياط شرعا لأنه ينتهي إلى تقرير الائمة عليهما‌السلام هذا من ناحية الكبرى وأمّا من جهة الصغرى فلا يخلو دعوى الإجماع عن الإشكال.

أورد عليه في نهاية الأفكار بأنّ دعوى الإجماع غير تامة مع مخالفة الأخباريين وذهابهم إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية. (٢)

وقال أيضا في مصباح الاصول وهذا الاتفاق لو ثبت لأفاد ولكنه غير ثابت كيف وقد ذهب الأخباريون وهم الأجلاء من العلماء إلى أنّ الحكم الظاهري هو وجوب الاحتياط. (٣)

ويمكن أن يقال إنّ المراد من دعوى الاتفاق والإجماع هو اتفاق كلمات الأجلاء والأعاظم من القدماء إلى زمان الأئمة عليهما‌السلام وقد عرفت تصريح الشيخ الأعظم بأنه لا تعرف قائلا معروفا منهم بالاحتياط وإن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة انتهى وعليه فمخالفة المتأخرين لا تضرّ بالإجماع المذكور فتدبر جيدا.

__________________

(١) الكفاية ٢ : ١٧٩.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٣٥.

(٣) مصباح الاصول ٢ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٥٢٠