عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

فحيث لم يأمره بالبيان لحكمة لا يعلمها إلّا هو صح إسناد الحجب إليه تعالى هذا في الشبهات الحكمية وكذا الحال في الشبهات الموضوعية فإن الله تعالى قادر على إعطاء مقدمات العلم الوجداني لعباده فمع عدم الإعطاء صح إسناد الحجب إليه تعالى فصحّ الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية كحديث الرفع. (١)

وإذا عرفت صدق الحجب وعدم التعريف حتى بالنسبة إلى موارد إخفاء الظالمين بترك البيان المجدد فلا حاجة في شمولهما للموارد المذكورة إلى ما ربما يقال من أنه لمّا لم يمكن وقوع فعل إلّا بإرادة الله وإذنه تعالى فيصح إسناد حجب الأشياء أو حجب العلم بها عن العباد إلى الله تعالى وإن كان الحجب المذكور ناشئا عن معصية العصاة في إيجاد أسباب الاختفاء.

مع ما فيه من أنه خروج عن الاستناد بالظواهر واستدلال بما هو مقتضى الأدلة العقلية ومما ذكر يظهر ما في تهذيب الاصول وتسديد الاصول ومباحث الحجج فراجع أو يظهر ما فيما قد يقال من أنّه يمكن التعدي من مورد خبر الحجب (وهو الأحكام الواصلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوسيط خطابه إليه التي لم يؤمر من قبله سبحانه بإبلاغها إلى العباد بملاحظة صدق استناد الحجب فيها إليه سبحانه) إلى غيرها من الأحكام المجهولة التي كان سبب خفائها الأمور الخارجية بمقتضى عدم الفصل بينهما بعد صدق التكليف الفعلي على المضامين الخطابات المنزلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو مع عدم الأمر بإبلاغها إلى العباد وبذلك تصلح الرواية لمعارضة ما دل على وجوب الاحتياط (٢) مع ما فيه من أنّ الأخذ بعدم الفصل فيما إذا لم يشمل الدليل وقد عرفت أنّ الحجب وعدم التعريف صادقان بعد إمكان البيان المجدد وامتنع عنه سبحانه تعالى ثم لا وجه لدعوى اختصاص هذه الروايات بالتفصيلات الاعتقادية لإطلاقها وعمومها بالنسبة إلى الأحكام أيضا كما لا يخفى.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٢٧.

٤٦١

ثم إنّ ظاهر قوله عليه‌السلام ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم أو قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) اي حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه أو قوله عليه‌السلام ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا أو قوله أن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم وغير ذلك هو ثبوت الحكم في الواقع وإنّ الحجب أو عدم التعريف يتعلق بالعلم به وعليه فقوله عليه‌السلام فهو موضوع عنهم أو قوله عليه‌السلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء قال لا أو قوله عليه‌السلام ولله على الخلق إذا عرفهم ان يقبلوا يدلّ على رفع التكليف بالنسبة إلى ما في الواقع ارفاقا وتسهيلا فينا في ما يدل على وجوب الاحتياط بالنسبة إلى المحجوب من الأحكام الواقعية ومن المعلوم أنّ الإرفاق فيما إذا كان ما في الواقع قابلا للوضع ولو بوضع ظاهري وجعل الاحتياط وهو لا يكون إلّا الأحكام الفعلية من ناحية الله سبحانه وتعالى وأما ما لم يبلغ إلى الفعلية كالحكم الإنشائي فلا يحتاج إلى الرفع والإرفاق وبذلك تصلح هذه الروايات للمعارضة مع ما دل على وجوب الاحتياط في الأحكام الواقعية الفعلية فلا تغفل.

٤٦٢

حديث السعة

ومن الأخبار التي استدل بها للبراءة حديث السعة.

روى في مستدرك الوسائل عن عوالي اللئالي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال «الناس في سعة ما لم يعلموا» وفيه أنّ الرواية ضعيفة وروي في الكافي بسند موثق عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يقوم ما فيها ثمّ يؤكل لأنّه يفسد وليس له بقاء فإن جاء طالبها غرموا له الثمن قيل يا أمير المؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال هم في سعة حتى يعلموا.

ولا مجال لتضعيف الرواية من ناحية النوفلي من جهة عدم توثيقه لوقوعه في طريق كثير من الأخبار في الكتب المعتبرة وهو يكفي وثاقته وإلّا فلم يكثروا عنه الرواية بهذه الكثرة.

هذا مضافا إلى أنّ ناشر رواياته هو إبراهيم بن هاشم وغيره من أجلّاء القمّيين الذى طعنوا على أحمد بن محمّد بن خالد البرقي بأنّه يروي عن الضعفاء واعتمد على المراسيل ولذا نفاه احمد بن محمّد بن عيسى عن بلدة قم ثم اعتذر وأعاده.

وأيضا كانت روايات السكوني مقبولة كما نصّ عليه الشيخ في العدّة مع أنّ كتب السكوني منقولة بواسطة النوفلي فالرواية معتبرة.

وكيف ما كان فتقريب الاستدلال بهذه الرواية بأن يقال إنّ دلالة قوله عليه‌السلام «الناس في سعة حتى يعلموا» على المطلوب ظاهرة لأنّ المستفاد منها هو التوسعة ما لم يحصل العلم بالواقع فمع عدم العلم لا يوجب التكاليف الواقعية ضيقا بوجوب الاحتياط.

لا يقال : إنّ الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبع ولكن مع العلم بالاحتياط بأحد الطريقين ارتفع الوسعة ولا منافاة بين الرواية ووجوب الاحتياط مع العلم به بالعقل أو النقل لأنا

٤٦٣

نقول : إنّ ذلك يتمّ إذا كان دعوى الأخباري إثبات العقوبة على مخالفة نفس إيجاب الاحتياط في قبال الواقع وليس كذلك بل مقصودهم إنّما هو إثبات العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي المجهول ومن المعلوم أنّ إثبات السعة من ناحية التكليف الواقعي ينافي إيجاب الاحتياط كما أنّ أدلّة وجوب الاحتياط ليست من باب قيام العلم على الواقع إذ الاحتياط لا طريقة له كما لا يخفى.

ودعوى أنّ شمول موثّقة السكوني «هم في سعة حتى يعلموا» لمثل المقام محل تأمّل لأنّ موردها هو خصوص اللحم وحكمه عليه‌السلام بالإباحة إنّما هو من جهة كونه في أرض المسلمين وهي أمارة على التذكية وإن كان مقتضى أصالة عدم التذكية حرمة أكله فمورد الرواية من الشبهة الموضوعية التى تقوم فيه الأمارة على الحلّية ومن المعلوم أنّها أجنبية عن المقام.

مندفعة بأنّه لا قرينة في الرواية على أنّ الطريق في أرض المسلمين حتى يكون ذلك أمارة على التذكية بل السؤال مطلق والإمام عليه‌السلام لم يستفصل عن الطريق أنّه طريق المسلمين أو غيره.

اللهمّ إلّا أن يحمل الرواية جمعا بينها وبين ما دل على عدم جواز أكل اللحم من دون إحراز تذكيته على تخصيص هذه الرواية بمورد جريان الأمارة ولكن ذلك لا يضر بجواز الأخذ بالكبرى المذكورة في الموارد التى لا أمارة فيها كحلية الجين وبالجملة حمل الرواية بالنسبة إلى اللحم على مورد قيام الأمارة لا يكون دليلا على حملها بالنسبة إلى سائر الموارد إذ لا شاهد له ثمّ إنّ الرواية تعمّ الشبهة الموضوعية والحكمية كليهما ومجرد تطبيقها على الشبهة الموضوعية لا يوجب تخصيصها بها إذ المورد لا يكون مخصّصا.

٤٦٤

الخلاصة

حديث السعة

ومن الأخبار التي استدل بها للبراءة «حديث السعة» :

روي في مستدرك الوسائل عن عوالي اللآلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الناس في سعة ما لم يعلموا. (١)

وفيه أنّ السند ضعيف بالإرسال ولم أر نسخة ما لا يعلمون ولو كانت تلك النسخة موجودة فكلمة «ما» موصولة لا ظرفية لاختصاص الثانية بما إذا كان النفي في الماضي لا المستقبل على ما حكي عن أهل الأدب.

وروي في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن (الحسين بن يزيد) النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يقوّم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فإن جاء طالبها غرموا له الثمن قيل يا أمير المؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال هم في سعة حتى يعلموا ورواه البرقى في المحاسن عن النوفلي. (٢)

لا يقال : إنّ هذه الرواية أيضا ضعيفة بالنوفلي إذ هو لم يوثق.

لأنا نقول : كما أفاد بعض الأعلام أنه وقع في طريق كثير من الأخبار في الكتب المعتبرة وهو يكفي في وثاقته وإلّا فلم يكثروا عنه بهذه الكثرة هذا مضافا إلى أنّ ناشر رواياته هو إبراهيم بن هاشم وغيره من أجلاء القميّين فلو كانت رواياته ضعيفة لم يتحملها أجلاء القميّين كما طعن القميون على أحمد بن محمّد بن خالد البرقي بأنّه يروي عن الضعفاء واعتمد على المراسيل ولذا نفاه أحمد بن محمّد بن عيسى عن بلدة قم ثمّ أعاده إليها واعتذر منه.

__________________

(١) المستدرك الباب ١٢ من أبواب مقدمات الحدود ح ٤.

(٢) الوسائل الباب ٣٨ من أبواب كتاب الصيد والذبائح ح ٢ : ٣٠٧.

٤٦٥

هذا مضافا إلى أنّ روايات السكوني مقبولة كما نص الشيخ في العدة بأنّه عملت الطائفة بما رواه السكوني فيما لم يكن عندهم خلافه مع أنّ كتب السكوني منقولة بواسطة النوفلي كما صرّح بذلك النجاشي في رجاله والشيخ في الفهرست فلو كان النوفلي غير مقبول الرواية لما أفاد ما في العدة من أنّ الطائفة عملت بما رواه السكوني فيما لم يكن عندهم خلافه كما لا يخفى ولذا قال في بهجة الآمال عند ترجمة السكوني وبالجملة من جميع ما ذكر ظهر الاعتماد على النوفلي أيضا فإنّه الراوي عنه جلّا إن لم نقل كلا حتى رواية الماء يطهر المتقدمة فإن راويها عنه هو. (١) وقال أيضا عند ترجمة النوفلي ومر في اسماعيل بن أبي زياد ما يشير إلى اعتماد تام عليه ويؤيده رواية الأجلاء عنه منهم الحسن بن علي الكوفي (٢)

ومما ذكر يظهر ما في مباحث الحجج من تضعيف السند بواسطة النوفلي. (٣)

وكيف ما كان فتقريب الاستدلال كما في نهاية الأفكار انّ دلالة قوله الناس في سعة ما لا يعلمون على المطلوب ظاهرة سواء كانت كلمة ما مصدرية ظرفية أو موصولة أضيف إليها السعة إذ المعنى على الأول إنهم في سعة ما داموا غير عالمين بالواقع.

وعلى الثاني انّهم في سعة ما لا يعلمونه من الأحكام الراجع إلى عدم كونهم في كلفة إيجاب الاحتياط فيعارض ما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط (٤) إذ لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة فهذا الحديث يعارض ما دل على وجوب الاحتياط.

أورد عليه في فرائد الاصول بأنّ فيه ما تقدم في الآيات من أنّ الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمل والتتبع. (٥)

__________________

(١) بهجة الآمال ٢ : ٢٥٣.

(٢) بهجة الآمال ٣ : ٣٢٢.

(٣) مباحث الحجج ٢ : ٦٣.

(٤) نهاية الأفكار ٣ : ٢٢٨.

(٥) فرائد الاصول : ١٩٩.

٤٦٦

وأجاب عنه في نهاية الأفكار بأنّ ذلك يتم إذا كان دعوى الأخباري إثبات العقوبة على مخالفة نفس إيجاب الاحتياط في قبال الواقع وليس كذلك بل مقصودهم إنّما هو إثبات العقوبة على مخالفة التكليف المجهول بمقتضى ما دل على وجوب التوقف والاحتياط في قبال الاصولي فإنّ هذا هو الذي يساعد أدلتهم من نحو رواية التثليث من نحو قوله عليه‌السلام وهلك من حيث لا يعلم وعليه فلا وجه لتوهم ورود أدلة الاحتياط على الرواية ولا حكومتها عليها.

نعم لو كانت أدلة الاحتياط متكفلة لإثبات العلم بالواقع كالأمارات كان لدعوى الحكومة كمال مجال ولكنه ليس كذلك بداهة إنّ مفاد تلك الأدلة لا يكون إلّا مجرد إثبات وجوب التوقف والاحتياط عند الجهل بالواقع.

ومجرد صلاحيتها لتنجيز الواقع عند الموافقة لا يقتضي الطريقية والكاشفية كما هو ظاهر.

نعم لو كان العلم في الرواية كناية عن مطلق قيام الحجة على الواقع أو كان المراد من عدم العلم الذي عليه مدار السعة هو عدم العلم بمطلق الوظيفة الفعلية لأمكن دعوى ورود إيجاب الاحتياط عليها ولكن ذلك خلاف ما يقتضيه ظهور الرواية في كون العلم الذي عليه مدار الضيق هو العلم بالواقع كما هو ظاهر. (١)

ولقد أفاد وأجاد إلّا انّا لا نسلم الحكومة أيضا فيما إذا كان العلم في الرواية كناية عن مطلق قيام الحجة على الواقع لأنّ أدلة الاحتياط ليست من باب قيام العلم والحجة على الواقع.

ولذا قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : إنّ العلم المستعمل في الروايات وإن كان المراد منه المعنى الأعم أي الحجة لا الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ولكن الحجة عبارة عن الطرق العقلائية والشرعية إلى الواقع التي تكشف كشفا غير تام والاحتياط ليس منها بلا إشكال والشاهد على ذلك إنّه لو أفتى أحد على الواقع لقيام الأمارة عليه لما يقال إنّه أفتى بغير علم

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٢٨.

٤٦٧

وأمّا إذا أفتى بوجوب شيء لأجل الاحتياط فإنّه أفتى بغير علم إلى أن قال إن شرب التتن بملاحظة كونه مجهول الحكم مرخص فيه حسب الحديث فلو تم أخبار الاحتياط ولزم وجوب الاحتياط لعدّ ذلك منافيا للترخيص من غير فرق بين أن يكون لزوم الاحتياط نفسيا أو غيريا. (١)

ومما ذكر يظهر ما في بعض العبائر من أنّ إيجاب الاحتياط إنّما هو طريقي للوصول إلى التكليف الواقعي فإيجابه ضيّق ناش من ناحية التكليف الواقعي المجهول فالحكم بالسعة من ناحيته يقتضي عدم إيجاب الاحتياط. (٢)

وذلك لما عرفت من أنّ الاحتياط ليس بطريق إلى الواقع وإن أتى به الواقع وكان حكما غيريا لأنّ الاحتمال لا طريقية له وصرف كون الاحتياط واجبا غيريا لا يوجب أن يكون طريقا إلى الواقع هذا مضافا إلى أنّ الاحتياط لو كان طريقا إلى الواقع فبعد قيام دليل الاحتياط لا مجال للحكم بالسعة من ناحية الجهل بالواقع إذ معه لا جهل بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

ثم لا يذهب عليك أنّ الاستدلال بهذا الحديث لا يتوقف على تعيين أنّ كلمة «ما» موصولة أو ظرفية لما عرفت من تمامية الاستدلال على التقديرين كما هو المستفاد من ظاهر الكفاية ونهاية الأفكار وتهذيب الاصول وذلك لأن متعلق العلم هو الحكم الواقعي كما في حديث رفع ما لا يعلمون فالحديث يدل على رفع الضيق الناشي من الحكم الواقعي المجهول أو يدل على رفع الضيق الناشي من ناحية الحكم الواقعي المجهول ما دام لا يحصل العلم أو الطريق بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

ودعوى احتمال أن يكون مفاد الحديث الحكم بالسعة ما دام لم يعلموا بالضيق ولو ضيق ما بعنوان وجوب الاحتياط فلا محالة تحصل الغاية وترتفع السعة بوجوب الاحتياط ومع

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٧٤.

(٢) تسديد الاصول ٢ : ١٤٣.

٤٦٨

هذا الاحتمال صار مفاد الحديث مجملا فإن كان مفاد الحديث هو الحكم بالسعة من ناحية الحكم الواقعي المجهول كان الحديث معارضا مع أدلة وجوب الاحتياط وإن كان مفاد الحديث هو الحكم بالسعة ما دام لم يعلموا بضيق ما ولو ضيق الاحتياط فلا ينافي ذلك وجوب الاحتياط بأدلته بل يكون كالبراءة العقلية التي لا تنافي وجوب الاحتياط وحيث يحتمل في قراءة الحديث احتمالان فلا تقاوم هذه الرواية مع أدلة وجوب الاحتياط.

مندفعة بما عرفت من ظهور كون متعلق العلم هو الحكم الواقعي مثل قوله عليه‌السلام رفع ما لا يعلمون فكما أنّ دليل حديث الرفع ينافي دليل وجوب الاحتياط فكذلك في المقام دليل السعة عند الجهل بالحكم الواقعي ينافي أيّ ضيق ولو كان بعنوان وجوب الاحتياط وعليه فليس وجوب الاحتياط حاكما بالنسبة إلى دليل السعة من دون فرق بين أن يكون «ما» موصولة أو ظرفية فالصحيح دلالة الحديث على البراءة وبإطلاقه يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية ودعوى أنّ ما ذكر تام لو ثبتت صحة سند قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس في سعة ما لم يعلموا وأمّا مع ضعفه فلا يصلح للتمسك به فلا يبقى في المقام إلّا قوله عليه‌السلام في موثقة السكوني هم في سعة حتى يعلموا.

وشموله للمقام محل تأمل لأن مورده كما أفاد السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره هو خصوص اللحم وحكمه عليه‌السلام بالإباحة إنّما هو من جهة كونه في أرض المسلمين فهي أمارة على التذكية وإلّا كان مقتضى أصالة عدم التذكية حرمة أكله وبالجملة مورد هذه الرواية هى الشبهة الموضوعية القائمة فيها الأمارة على الحلية فهي اجنبية عن المقام. (١)

مندفعة بأنّه لا يكون في موثقة السكوني قرينة على أنّ الطريق هو طريق المسلمين حتى يكون أمارة على التذكية بل السؤال عن سفرة وجدت في الطريق والإمام عليه‌السلام لم يستفصل عن أنّ الطريق طريق المسلمين أو غيره اللهم إلّا أن يحمل جمعا بينه وبين ما دل على عدم جواز أكل اللحم من دون إحراز التذكية على تخصيص مورد هذه الرواية في اللحم بمورد جريان الأمارة.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٧٩.

٤٦٩

وأمّا ما ذكر من أنّ مورد الرواية مورد استصحاب عدم التذكية ومقتضاه هو حرمة أكله ففيه أنّ مجرى استصحاب عدم التذكية هو الحيوان الذي يكون قابلا للذبح لا أجزاؤه فلا يجري الاستصحاب المذكور في اللحم كما لا يخفى. وأمّا دعوى اختصاص قوله هم في سعة حتى يعلموا بخصوص اللحم فهي ممنوعة لأنّ الجبن أيضا يكون في السفرة وهو أيضا مشكوك الحليّة ولا دليل على إحراز كونه من غير ميتة بل يكتفى في جواز أكله بأصالة الحليّة ولا وجه لتخصيص الرواية باللحم.

ثم لو كان تطبيق قوله عليه‌السلام هم في سعة حتى يعلموا على مورد الرواية مشكلا فلا يضر ذلك بجواز الأخذ بالكبرى في الموارد التي لا أمارة فيها كحلية الجبن فالرواية دالة على البراءة في الشبهة الموضوعية والحكمية لأن قوله عليه‌السلام هم في سعة حتى يعلموا يكون بمنزلة الكبرى الكلية وتطبيقها على الشبهة الموضوعية لا يوجب تخصيصها بها فبإطلاقها يشمل الشبهة الحكمية أيضا فتدبر جيدا.

اللهمّ إلّا أن يقال : رجوع الضمير في قوله عليه‌السلام هم في سعة حتى يعلموا إلى الّذين وجدوا السفرة المطروحة يمنع عن كون هذا القول كبرى كليّة بل يحتاج إلى إلقاء الخصوصية وهو مشكل بعد احتمال مدخلية خصوصيات المورد ولكن لحن الرواية يساعد كبروية القول المذكور ولا خصوصية في الذين وجدوا السفرة المطروحة فتدبر جيّدا.

٤٧٠

حديث الحلّية

ومنها : أي من الأخبار التي استدل بها للبراءة حديث الحلّية وأخبار الحلّية منقولة بألفاظ مختلفة :

منها : هي مرسلة الشيخ الأنصاري قدس‌سره وهي قوله عليه‌السلام «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام»

وفيه أنّ هذا الحديث لم يوجد بهذه اللفظة في جوامع الحديث واحتمل بعض الأعاظم أنّه صدر رواية مسعدة بن صدقه عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته ولعله سرقة الحديث.

ولكنّه غير ظاهر بعد اختلاف صدر رواية مسعدة مع هذه المرسلة واحتمل آخر أنها مضمون خبر عبد الله بن سليمان عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه ميتة وفيه أنّه لو كان كذلك لزم أن يقتصر في نقل المضمون بمقدار مفاد هذه الرواية والمفروض أنّ هذه الرواية مختصّة بالشبهة الموضوعية لدلالة جعل البيّنة هي الغاية على أنّ الشبهة هي الموضوعية.

ومنها : خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امراة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»

بتقريب أنّه يدلّ على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب.

٤٧١

أورد عليه أوّلا : بأنّ قوله عليه‌السلام «بعينه» ظاهر في الاختصاص بالشبهة الموضوعية وحمل هذه الكلمة على أن يكون المراد منها هو تأكيد النسبة خلاف الظاهر إذ الظاهر أن يكون ذكرها للاحتراز عن العلم بالحرام لا بعينه ولا ينطبق ذلك إلّا على الشبهة الموضوعية إذ لا يتصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية لأنّ العناوين الكلية إما أن تكون معلومة الحرمة أو لا تكون كذلك فعلى الأوّل تكون معلومة الحرمة بعينها وعلى الثاني لا علم بالحرمة أصلا.

واجيب عنه بمنع اختصاص الاحتراز بصورة العلم بالحرام لا بعينه مع أنّ المفروض في رواية مسعدة كل شيء لك حلال لا كل شيء فيه حلال وحرام لإمكان أن يكون قيدا «بعينه» احترازا عن الحكم بالحرمة بمجرد كون شيء نظيرا للحرام فيصح أن يحكم بكونه حلالا حتى يعرف أنّه بعينه حرام وعليه فلا وجه لتخصيص الرواية بالشبهة الموضوعية بل هي أعم.

وثانيا : أنّ الأمثلة المذكورة في رواية مسعدة كلّها من الشبهات الموضوعية وهي تؤكد اختصاصها بالشبهة الموضوعية هذا مضافا إلى عدم ارتباطها بقاعدة الحلّيّة لأنّ تلك الموارد موارد الأمارة والاصول المحرزة.

وأجيب عنه بأنّ الأمثلة المذكورة تكون من باب التمثيل لا الاختصاص لأنّ الأمثلة المذكورة لا توجب اختصاص الكبرى الكلية بها ويشكل ذلك بأنّ هذا خلاف الظاهر جدا لأنّ المناسب مع التمثيل ذكر القاعدة المماثلة للقاعدة المذكورة أوّلا لا ذكر تطبيقات قاعدة اخرى لم تذكر كبراها.

ودعوى أنّ المقصود من رواية مسعدة بن صدقة بيان عدم الاعتناء بالشك في الحرمة في هذه الموارد لمكان جعل الحلية الظاهرية فيها بعنوانات مختلفة غير أنّه جمع الكل ببيان واحد لا أنّ المقصود هو إنشاء الحليّة في الموارد المزبورة بعنوان قاعدة الحلية.

مندفعة لظهور قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه في الإنشاء وحمله على الحكاية عن القواعد المختلفة خلاف الظاهر.

٤٧٢

فتحصّل أنّ الأمثلة لا تساعد مع قاعدة الحليّة اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المشكل هو تطبيق الكبرى المذكورة فيها على الأمثلة المذكورة لا أصل الكبرى فيمكن الأخذ بالكبرى فتدبر وثالثا : أنّ جعل غاية الحليّة قيام البيّنة في قوله عليه‌السلام والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة قرينة على اختصاصها بالشبهة الموضوعية فلا تصلح الرواية للاستدلال بها في الشبهات الحكمية.

التنبيه

واعلم أنّ مقتضى عموم قاعدة الحلية هي حلية المشكوك ولو كان الشيء المشكوك هو أجزاء الحيوان من الجلد أو اللحم أو الشحم الماخوذة من يد الكافر أو المستوردة من بلاد الكفر إذا احتمل التذكية الشرعية في حيوانها فيجوز التصرف فيها واستعمالها عدى أكلها والصلاة فيها وذلك لجريان قاعدة الحلية كما تجري فيها قاعدة الطهارة ولا مجال لاستصحاب عدم التذكية في الأجزاء إذ التذكية المساوية لفري الأوداج الأربعة لا تتصور في أجزاء الحيوان بناء على أنّ التذكية هي نفس فري الأوداج الأربعة لا أمر معنوي يحصل بالفري المذكور وإلّا فلا يبعد جريان أصالة عدم التذكية في الأجزاء أيضا بناء على أنّ الأجزاء أيضا لها نصيب من هذا الأمر المعنوي.

نعم لو كان المشكوك جسد الحيوان الكامل فمقتضى أصالة عدم التذكية هو حرمة استعماله والتصرف فيه مضافا إلى حرمة أكلها والصلاة فيها كما لا يخفى.

هذا بخلاف الأجزاء فإنّ أصالة عدم التذكية كما عرفت لا تجري بالنسبة إليها فمع احتمال التذكية يشملها عموم قوله كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف إنّه الحرام منه بعينه.

بل يجوز أكلها واستعمالها في الصلاة لو لم يمنع عنهما ولكن مع اشتراط العلم بالتذكية في جواز الأكل بمثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ

٤٧٣

بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(١) لا يجوز الأكل وهكذا مع اشتراط العلم بالتذكية في الصلاة بمثل قوله عليه‌السلام في موثقة ابن بكير وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي لا يجوز الصلاة فيه فتدبر جيدا.

__________________

(١) المائدة / ٥.

٤٧٤

الخلاصة

حديث الحلّية

ومنها : أي من الأخبار الّتي استدل بها للبراءة «حديث الحلّيّة» وهو منقول بألفاظ مختلفة منها مرسلة الشيخ الأنصاري قدس‌سره وهي قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام» استدل به الشيخ قدس‌سره في فرائد الاصول حيث قال كما في قوله عليه‌السلام في رواية أخرى كل شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام. (١)

ولم يوجد هذه الرواية بهذه اللفظة في جوامع الحديث والموجود مختلف معه في الألفاظ والخصوصيات.

واستظهر سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره انّه صدر رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته ولعله سرقه الخ.

ولكنه غير ظاهر بعد اختلاف صدر رواية مسعدة بن صدقة معه حيث زاد في رواية مسعدة كلمة «بعينه» وجملة «فتدعه من قبل نفسك» مع أنّ قوله حتى تعلم غير قوله حتى تعرف.

واحتمل المحقق العراقي انّها مضمون ما رواه في الكافي بسنده عن أبان بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة. (٢)

ولا يخفى أنه لو كان كذلك لزم أن يقتصر في نقل المضمون بمقدار مفاد هذه الرواية والمفروض أنّ هذه الرواية مختصة بالشبهة الموضوعية لدلالة جعل البيّنة هي الغاية على أنّ الشبهة هي الموضوعية مع أنّ قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام أعم من الشبهة الموضوعية فلا تغفل.

ثم إنّ رواية الشيخ الأنصاري على تقدير ثبوتها تكون واضحة الدلالة على البراءة في

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠١.

(٢) الوسائل الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٢.

٤٧٥

الشبهة الحكمية والموضوعية ولذا قال في نهاية الأفكار دلالة هذه الرواية على المطلوب ظاهرة لو كانت هي غير رواية مسعدة بن صدقة (١) وإلّا ففيها إشكال من جهة موارد انطباقها كما سيأتي إن شاء الله تعالى بل عمومية دلالتها متوقفة على كونها غير رواية عبد الله بن سليمان وإلّا فالظاهر اختصاصها بالشبهة الموضوعية فإنّ السؤال فيها عن الجبن من جهة احتمال أن يكون الجبن مما فيه الميتة فأجاب الإمام بالحلية حتى تقوم الحجة على أنّ فيه ميتة وأمّا الإيراد على الرواية بأنها في صدد الترخيص لارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال فيكون وزانه وزان قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فإنّ المتبادر منهما هو جواز التصرف في الحلال المختلط بالحرام الذي جمع رواياته السيّد الفقيه الطباطبائي قدس‌سره في حاشيته على المكاسب عند بحثه عن جوائز السلطان ولا ترتبطان بالشبهة البدئيّة. (٢)

ففيه أنّ هذا الإيراد لو كان واردا في مثل كل شيء فيه حلال وحرام لما كان واردا في مثل قوله «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام» فإنّ المفروض فيه ليس هو اجتماع الحلال والحرام مع اشتباه كل واحد بالآخر حتى يكون مربوطا بباب اختلاط الحرام بالحلال بل الأمر كذلك في مثل قوله كل شيء فيه حلال وحرام إذ لم يفرض فيه الاختلاط فتدبر جيدا.

ومنها : خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك.

وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة. (٣)

لم يستدل شيخنا الأعظم قدس‌سره بهذه الرواية على البراءة في الشبهة الحكمية ولعل وجه ذلك

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٤٣.

(٢) راجع تهذيب الأصول ٢ : ١٧٥.

(٣) الوسائل الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٤.

٤٧٦

هو اشتمالها على جملة من أمثلة الشبهة الموضوعية فرأى اختصاصها بها أو رأى أنّ الرواية في مقام إبراز حلية جامعة بين حليات متعددة من قواعد مختلفة جمعت في قضية واحدة فالجملة إخبار عن القواعد المختلفة لا إنشاء يدل على إنشاءات متعددة أو رأى شيئا آخر.

ولكن استدل بها في الكفاية في الشبهة الحكمية حيث قال ومنها قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه الحديث حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب مع إمكان أن يقال ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال تامل. (١)

وكيف ما كان فقد أورد عليه أوّلا : بأن قوله عليه‌السلام (بعينه) ظاهر في الاختصاص بالشبهة الموضوعية وذلك لأن حمل هذه الكلمة على التأكيد بأن يكون المراد منها تاكيد النسبة والاهتمام بالعلم بالحرمة خلاف الظاهر إذ الظاهر أن يكون احترازا عن العلم بالحرام لا بعينه ولا ينطبق إلّا على الشبهة الموضوعية إذ لا يتصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية فإنّه مع الشك في حرمة شيء وحليته لا علم لنا بالحرام لا بعينه.

وبعبارة أخرى العناوين الكلية إمّا أن تكون معلومة الحرمة أو لا تكون كذلك فعلى الأول تكون معلومة الحرمة بعينها وعلى الثاني لا علم بالحرمة أصلا.

نعم يتصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية مع العلم الإجمالي بالحرمة ومن الظاهر أنّ هذا الحديث لا يشمل العلم الإجمالي بالحرمة إذ جعل الترخيص في الطرفين مع العلم بحرمة أحدهما إجمالا مما لا يمكن الجمع بينهما ثبوتا ويتناقضان.

وأمّا الشبهة الموضوعية فلا ينفكّ الشك فيها عن العلم بالحرام لا بعينه فإنّا إذا شككنا في كون مائع موجود في الخارج خمرا كان الحرام معلوما لا بعينه إذ نعلم إجمالا بوجود الخمر في الخارج المحتمل انطباقه على هذا المائع فيكون الحرام معلوما لا بعينه.

__________________

(١) الكفاية ٢ : ١٧٦.

٤٧٧

ولكن هذا العلم لا يوجب التنجيز لعدم حصر أطرافه وعدم كون جميعها في محل الابتلاء فما ابتلي به من أطرافه محكوم بالحليّة ما لم يعلم أنه حرام بعينه. (١)

وثانيا : أنّ الأمثلة المذكورة فيها كلّها من الشبهات الموضوعية. وهي تؤكد اختصاصها بالشبهة الموضوعية فلا تشمل الشبهة الحكمية هذا مضافا إلى عدم ارتباطها بقاعدة الحلية لأنّ تلك الموارد موارد الأمارة والأصول المحرزة.

وثالثا : أنّ جعل غاية الحلية قيام البينة في قوله عليه‌السلام والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة قرينة على اختصاصها بالشبهة الموضوعية أيضا.

وعليه فلا وجه للاستدلال بموثقة مسعدة للبراءة في الشبهات الحكمية.

يمكن الجواب عن الجميع أمّا عن الإشكال الأول فبأن هذه القرينة غير تامة لوضوح أنّ المطلوب ليس هو التخصيص بالشبهة الحكمية وإنما تعميم الحديث لها وهو لا يتنافي مع عدم غلبة الشبهة غير المحصورة فيها إذ يكفي أن يكون غير نادر بلحاظ جامع الشبهة. (٢)

ولا يخفى ما فيه فإن الإشكال يكون من جهة ظهور فيه «بعينه» في الاختصاص بالشبهة الموضوعية بدعوى ظهوره في الاحتراز عن العلم بالحرام لا بعينه وهو لا ينطبق إلّا على الشبهة الموضوعية لعدم تصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية فإنه مع الشك في حرمة شيء وحليته لا علم لنا بالحرام لا بعينه وعلى فرض تصوره في العلم الإجمالي بالحرمة لا يمكن شمول الحديث له للمناقضة وبعبارة أخرى أنّ الإشكال ليس من جهة حمل المطلق على النادر حتى يصح الجواب عنه بأنّه ليس حمل المطلق على النادر بل هو من باب إطلاق المطلق على النادر بل الإشكال من جهة عدم إمكان تصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية بحيث لا تلزم منه المناقضة فتدبر جيدا.

قال في منتقى الاصول يمكن تعميم الحديث للشبهة الحكمية مع المحافظة على ظهور لفظ

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٢) مباحث الحجة ٢ : ٦٥.

٤٧٨

«بعينه» كما في موارد العلم الإجمالي (غير المنجز كما كان بعض أطراف المعلوم بالإجمال خارجا عن محل الابتلاء) بدوران الحرمة المجعولة بين شيئين كحرمة الغيبة أو الغناء فإنّه يصدق على مثل ذلك بأنّ كلّا منهما حلال حتى يعرف الحرام بعينه مع كون الشبهة في كل منهما حكمية لا موضوعية. (١)

ولا يخفى عليك أنّ فرض الخروج عن الابتلاء في الشبهات الحكمية كما ترى فإنّ الأحكام مجعولة على موضوعها على نحو ضرب القانون لا القضايا الخارجية والمجتهد لا يمكن له أن يجري البراءة في الشبهات الحكمية بمجرد كون بعض الأحكام خارجا عن محل ابتلاء بعض الآحاد.

هذا مضافا إلى أنّ مثل الغيبة والغناء لا يكونان خارجين عن محل الابتلاء كما هو واضح. نعم يمكن منع اختصاص الاحتراز بصورة العلم بالحرام لا بعينه مع أنّ المفروض في رواية مسعدة كل شيء لك حلال لا كل شيء فيه حلال وحرام وذلك لإمكان أن يكون قيد «بعينه» احترازا عن الحكم بالحرمة بمجرد كون شيء شبيها ونظيرا للحرام الخاص فيصح أن يحكم بكونه حلالا حتى يعرف أنه بعينه حرام وعليه فلا وجه لتخصيص الرواية بالشبهة الموضوعية بل هي أعمّ منها كما ذهب إليه صاحب الكفاية.

هذا مضافا إلى أنه لا باس بكون قيد «بعينه» للتاكيد لأنه شائع بل لعله متعين لأن تخصيص الحديث بموارد العلم الإجمالي يستلزم حمله على النادر إذ الحديث لا يشمل موارد الابتلاء لاستلزام المناقضة ويختص بموارد التي خرج بعض أطرافها عن محل الابتلاء والمفروض أنّ هذه الموارد نادرة ودعوى أنّ الشبهة الموضوعية لا تنفك عن العلم بالحرام لا بعينه مندفعة بأنّ العلم الإجمالي في هذه الموارد منحلة بالموارد المعلومة ويصير الشبهة بدوية كما لا يخفى.

وعليه فكون القيد وهو بعينه لتأكيد النسبة والاهتمام بالعلم بالحرمة أقرب ومعه لا مانع من شمول الحديث للشبهات الحكمية فتدبر جيدا.

__________________

(١) منتقى الاصول ٤ : ٤٢٥.

٤٧٩

وأما عن الثاني فبأن الأمثلة المذكورة تكون من باب التمثيل لا اختصاص الرواية بها وعليه فكما في تسديد الاصول أصالة الحل المذكورة في الحديث إذا كانت عامة لجميع موارد الشك في الحرمة فجميع الأشياء التي لم يعلم حرمتها مشمولة له محكوم عليها بالحل فأصالة الحل كبرى كلية والأمثلة المذكورة مصاديق لها وجزئيات ولا يجب في ذكر المثال أن يذكر جميع الأنواع المتصورة إذا لم يكن المتكلم بصدد بيان الأنواع المختلفة. (١)

ويمكن أن يقال انّ الأمثلة المذكورة لو كانت من موارد أصالة الحل أمكن أن يقال اكتفى بذكر بعض مواردها ومصاديقها ولكنها أجنبية عن أصالة الحل والبراءة إذ ليس فيها شيء يمكن أن يكون مستند الحلية فيه هو أصالة الحل بل المستند هو قاعدة اليد والاستصحاب ولذا قال السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره : قد حاول البعض دفع الشبهة بأنّ المذكورات إنّما ذكرت من باب التمثيل لا التطبيق.

ثم أورد عليه بأنّ هذا خلاف الظاهر جدا لأن المناسب مع التمثيل ذكر القاعدة المماثلة للقاعدة المذكورة أولا لا ذكر تطبيقات قاعدة أخرى لم تذكر كبراها.

لا يقال : بناء على جريان الاصول الطولية إذا كانت من سنخ واحد تكون البراءة جارية في هذه الموارد.

فإنه يقال هذا المقدار لا يكفي بعد ظهور الحديث في أنّ منشأ التأمين والحلية هو القاعدة وحدها لا القاعدة بضم عدم جريان الاصول الحاكمة عليها. (٢)

اللهمّ إلّا أن يكون مقصود تسديد الاصول أنّ المراد من أصالة الحل في رواية مسعدة هو الحكم بحلية كل شيء ما لم يقطع قطعا وجدانيا بالحرمة وإنّ العلم المذكور فيه لا يعم العلم التعبدي الموجود في مورد الاستصحاب واليد ولكنه مما لا يمكن الالتزام به لمعلومية تقدم أصالة اليد والاستصحاب على أصالة الحلية بأي معنى كانت.

__________________

(١) تسديد الاصول ٢ : ١٤٧.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ٦٦.

٤٨٠