عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

وأمّا العقل فتقريره بوجهين

الوجه الأوّل :

كما في فرائد الاصول إنّا نعلم إجمالا قبل المراجعة بالأدلة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(١) ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية باتفاق المجتهدين والأخباريين.

وبعد المراجعة بالأدلة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية فلا بد من اجتناب كل ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن هنا دليل شرعي يدل على حليته إذ مع هذا الدليل نقطع بعدم العقاب على تقدير حرمته واقعا.

ويمكن الجواب عنه أوّلا : بالنقض بالشبهات الوجوبية والموضوعية فإنّ العلم المذكور لو كان مانعا عن الرجوع إلى البراءة في الشبهات التحريمية كان مانعا عن الرجوع إليها في الشبهات الوجوبية والموضوعية أيضا مع أنّ الأخباريين لا يقولون بوجوب الاحتياط فيهما.

وثانيا : بأن العلم الإجمالي بالمحرمات الواقعية ينحل بمجرد كون الأمارات الدالة على وجوب الاجتناب بمقدار المعلوم بالإجمال في معرض الوصول لاحتمال كون المعلوم بالإجمال هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ومع الانحلال المذكور لا مانع من الرجوع إلى أصالة الحل في غير مورد الأمارات المذكورة لعدم كونها معارضة بالمثل إذ لا مجال لأصالة الحل في موارد الأمارات كما لا يخفى. (٢)

وتفصيل ذلك كما أفاد السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره إنّ لنا هنا ثلاثة علوم إجمالية

الأوّل : العلم الكبير وأطرافه جميع الشبهات مما يحتمل التكليف ومنشؤه العلم بالشرع الأقدس إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف رأسا.

__________________

(١) حشر / ٧.

(٢) راجع فرائد الاصول : ٢١٢.

٥٨١

الثاني : العلم الإجمالي المتوسط وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة ومنشؤه كثرة الأمارات والقطع بمطابقة بعضها للواقع فإنّا لا نحتمل مخالفة جميعها للواقع.

الثالث : العلم الإجمالي الصغير وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة ومنشؤه القطع بمطابقة مقدار منها للواقع.

وحيث إنّ العلم الإجمالي الأول ينحل بالعلم الإجمالي الثاني والثاني بالثالث فلا يتنجز التكليف في غير مؤديات الطرق والأمارات المعتبرة.

والميزان في الانحلال أن لا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقل عدد من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الإجمالي الكبير مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير لم يبق لنا علم إجمالى في بقية الأطراف إلى أن قال بل وجود التكاليف (فيها) مجرد احتمال إلى أن قال.

ثم إنّ ما ذكرناه من الانحلال مبني على العلم الوجداني بمطابقة الأمارات المعتبرة للواقع بمقدار ما علم إجمالا ثبوته في الشريعة المقدسة من التكاليف.

وهذا الأمر وإن كان صحيحا إلّا أنه لو منع منه القائل بوجوب الاحتياط وادعى عدم العلم بمطابقة الأمارات للواقع بمقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول فنحن ندعي الانحلال مع عدم العلم الوجداني بمطابقة الأمارات المعتبرة للواقع (للكفاية العلم بالواقع تعبّدا) وتوضيح ذلك أن العلم الإجمالي متقوم دائما بقضية منفصلة مانعة الخلو ففي العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين يصدق قولنا إمّا هذا الإناء نجس وإمّا ذاك وقد يحتمل نجاستهما معا والمدار في تنجيز العلم الإجمالي على هذا الترديد حدوثا وبقاء فإذا فرضنا أن القضية المنفصلة انقلبت إلى قضيتين حمليتين إحداهما متيقنة ولو باليقين التعبدي والأخرى مشكوكة بنحو الشك الساري فلا محالة ينحل العلم الإجمالي ويسقط عن التنجيز.

والسرّ في ذلك أن تنجيز العلم الإجمالي ليس أمرا تعبديّا وإنّما هو بحكم العقل لكاشفيته عن التكليف كالعلم التفصيلي فإذا زالت كاشفيته بطرو الشك الساري زال التنجيز لا محالة كما هو الحال في العلم التفصيلي بعينه.

٥٨٢

ولا ينتقض ذلك بما إذا علم بحدوث تكليف جديد في أحد الأطراف معينا ولا بطرو الاضطرار إلى بعض الأطراف أو تلفه أو امتثال التكليف فيه فإن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي في جميع هذه الفروض باق على حاله «لعدم تقارن ذلك العلم مع العلم الإجمالي». غاية الأمر إنه يتحقق أحد هذه الأمور يشك في سقوطه (أي سقوط التكليف) فلا بد من الاحتياط وتحصيل العلم بسقوطه فإن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة بخلاف ما إذا زال العلم الإجمالي بطرو الشك الساري وانقلبت القضية المنفصلة إلى حمليتين أحدهما متيقنة ولو باليقين التعبدي والأخرى مشكوكة بالشك الساري فإنّ التنجيز يسقط فيه بانحلال العلم الإجمالي لا محالة (ولا فرق في ذلك بين اختلاف المباني في حجية الأخبار) أما على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو نفس الطريقية والمحرزية فالأمر واضح لأن قيام الأمارة يوجب العلم بالواقع تعبدا «مقارنا مع العلم الإجمالي» وكما تنقلب القضية المنفصلة إلى حمليتين بالعلم الوجداني (المقارن) كذلك تنقلب إليهما بالعلم التعبدي (المقارن) إلى أن قال.

وأمّا على القول بأن المجعول في باب الأمارات هي المنجزية والمعذرية إلى أن قال فإن قلنا (وهو الصحيح) بأن مجرد كون الأمارة في معرض الوصول بمعنى كون الأمارة بحيث لو تفحص عنها المكلّف وصل إليها كاف في التنجيز انحلّ العلم الإجمالي فإن المكلف في أول بلوغه حين يلتفت إلى وجود التكاليف في الشريعة المقدسة يحتمل وجود أمارات دالة عليها فيتنجز عليه مؤدياتها بمجرد ذلك الاحتمال وحيث إنّ هذا الاحتمال مقارن لعلمه الإجمالي بالتكاليف فلا يكون علمه منجزا لجميع أطرافه لتنجز التكليف في بعض أطرافه بمنجز مقارن له. نظير ما لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد الإناءين وعلمنا بنجاسة أحدهما المعين مقارنا لذلك العلم الإجمالي فإنّه لا يتنجّز حينئذ أصلا.

والسرّ فيه أن تنجيز العلم الإجمالي إنّما هو بتساقط الاصول في أطرافه للمعارضة وفي مفروض المثال يجري الأصل في الطرف المشكوك فيه بلا معارض ولذا ذكرنا في محله أنه لو كان الأصل الجاري في بعض الأطراف مثبتا للتكليف وفي بعضها الآخر نافيا له لا يكون

٥٨٣

العلم الإجمالي منجزا (أي لكون الأصل في الطرف النافي بلا معارض هذا مضافا إلى أن العلم الإجمالي المقارن لا يكشف عن تكليف آخر على كل تقدير إذ لو كان النجس في طرف علمنا بوقوع النجاسة فيه لما أوجب التكليف الآخر لأنه تحصيل الحاصل فالتكليف محتمل في طرف آخر ويجري الأصل فيه).

ومما ذكرناه ظهر الحال وصحة الانحلال على القول بالسببية في باب الأمارات وان المجعول هي الأحكام الفعلية على طبقها فان قيام الأمارة يكشف عن ثبوت الأحكام في مواردها من أول الأمر (فتكون مقارنة مع العلم الإجمالي) فلا يبقى أثر للعلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية مرددة بينها وبين غيرها والمتحصل مما ذكرناه في المقام انّه في جميع الأقوال في باب الأمارات تكون أطراف العلم الإجمالي من غير مواردها موردا لأصالة البراءة الخ. (١)

لا يقال : إنّ الانحلال الحقيقي بالعلم الإجمالي في دائرة الأمارات يوجب العمل بتمام الأمارات حتى غير المعتبرة منها لوجود علم إجمالي في تمام أطرافها وهو كما ترى لأنا نقول : إنّ المدعى هو الانحلال الحقيقي بالعلم الإجمالي في دائرة الأمارات المعتبرة لا مطلق الأمارات فيمكن دعوى الانحلال الحقيقي بالعلم الإجمالي في دائرة الأمارات المعتبرة إذ مع العلم المذكور تنقلب القضية المنفصلة إلى الحمليتين حقيقة أحدهما قضية بتيّة والأخرى قضية مشكوكة فيجري البراءة في المشكوكة.

وأما دعوى أن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل وعلى الطرف الآخر كاشف قطعي عن بقاء العلم الإجمالي لكونه من لوازمه.

فهي مندفعة بما أفاد سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أن ما ذكر خلط بين احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فعلا واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال سابقا وقد زال عنه العلم فعلا والمفيد لما ادعاه هو الأول مع أنه غير واقع ضرورة ارتفاع العلم الإجمالي عن مركزه فإن العلم (التفصيلي) بكون هذا واجبا أو خمرا لا يجتمع مع التردد في كونه واجبا أو عدله أو كونه خمرا

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٨.

٥٨٤

أو الآخر فإنّ الإجمال متقوم بالتردد وهو ينافي العلم التفصيلي ولا يجتمع معه. (١)

والأولى أن يقال إن كشف تقارن المعلوم بالتفصيل مع المعلوم بالإجمال يوجب انحلاله من الأول لا من حال ورود الأمارات إذ المفروض أنها تكشف عن مؤداها من السابق ولعلّ المراد من السابقية توهمها فتدبر جيدا.

ثم إن الانحلال كما عرفت حقيقي لعدم بقاء العلم الإجمالي في لوح النفس بعد اعتبار الطرق والأمارات الدالة على التكاليف الواقعية بمقدار المعلوم بالإجمال ولا حاجة في ذلك إلى اثبات ان المعلوم بالتفصيل بالطرق والامارات هو عين ما علم بالإجمال بل يكفيه احتمال الانطباق إذ مع هذا الاحتمال لا يبقى علم بالنسبة إلى سائر الأطراف فينقلب القضية المنفصلة الحقيقية إلى قضية بتية وهي في مورد الطرق والأمارات المعتبرة وقضية مشكوكة وهي في سائر الموارد.

قال سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره : والتحقيق أن يقال إنّ ميزان الانحلال لو كان قائما باتحاد المعلومين مقدارا مع العلم بأن المعلوم بالتفصيل هو عين ما علم بالإجمال لكان لعدم الانحلال وجه (لعدم العلم بالاتحاد المذكور) إلّا أن الميزان هو عدم بقاء العلم الإجمالي في لوح النفس وانقلاب القضية المنفصلة الحقيقية أو المانعة الخلو إلى قضية بتية ومشكوكة فيها أو إلى قضايا بتية وقضايا مشكوكة فيها فلو علم بوجود واجب بين أمرين بحيث لا يحتمل الزيادة حتى يكون القضية منفصلة حقيقية أو مع احتمال الزيادة حتى يكون مانعة الخلو فمع العلم التفصيلي بوجوب بعض الأطراف أو واحد من الطرفين ينقلب القضية إلى قضية بتية أي إلى وجوب واحد معينا وإلى مشكوكة فيها فلا يصح أن يقال إما هذا واجب أو ذاك بل لا بد أن يقال هذا واجب بلا كلام والآخر مشكوك الوجوب وهذا ما ذكرنا من ارتفاع الإجمال الموجود في لوح النفس.

إلى ان قال واحتمال كون المعلوم بالإجمال عين المشكوك فيه الذي خرج عن الطرفية

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

٥٨٥

غير مضر لأن المعلوم بنعت المعلومية الفعلية غير محتمل الانطباق وإنما المحتمل انطباق ما كان معلوما سابقا مع زوال وصف العلم بالفعل على الطرف الآخر لأنّ المعلومية الإجمالية الفعلية ملازم للعلم الإجمالي ومع زوال العلم لا معنى لوجود المعلوم بالفعل فتدبر. (١)

الوجه الثاني :

كما نسبه الشيخ الأعظم في الفرائد إلى طائفة من الإمامية أن الأصل في الأفعال الغير الضرورية الحظر فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة ولم يرد الإباحة فيما لا نص فيه وما ورد فيه على تقدير تسليم دلالته معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط فالمرجع إلى الأصل (وهو أصالة الحظر) ولو نزلنا عن ذلك فالوقف كما عليه الشيخان قدس‌سره. واحتج عليه في العدة بأن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم المفسدة فيه وقد جزم بهذه القضية السيّد ابو المكارم في الغنية وإن قال بأصالة الإباحة كالسيد المرتضى تعويلا على قاعدة اللطف وإنه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه لكن ردها في العدة بأنه قد يكون المفسدة في الأعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف. (٢)

ويمكن الجواب عنه أوّلا : بما في الكفاية من أنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال وإلّا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة. (٣)

وثانيا : بما في الكفاية أيضا من أنّ الإباحة الشرعية ثابتة في المقام لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط للمعارضة لما دلّ على الإباحة. (٤)

وثالثا : بما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر من أنه إن أريد (من الضرر) ما يتعلق بأمر الآخرة من العقاب فيجب على الحكيم تعالى بيانه فهو مع عدم

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٠٦.

(٢) فرائد الاصول : ٢١٤.

(٣) الكفاية ٢ : ١٨٩.

(٤) الكفاية ٢ : ١٨٩.

٥٨٦

البيان مأمون (بقاعدة قبح العقاب بلا بيان) وإن أريد غيره مما لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتبة مع الجهل أيضا فوجوب دفعها غير لازم عقلا إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوي المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانية وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد (كالجهاد) وعلى تقدير الاستقلال فليس مما يترتب عليه العقاب لكونه من باب الشبهة الموضوعية لأن المحرم هو مفهوم الإضرار وصدقه في هذا المقام مشكوك كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاص والشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الاخباريين أيضا. (١)

اللهمّ إلّا أن يدعى استقلال العقل بوجوب الاحتراز عن محتمل الضرر فالمحتمل هو موضوع حكم العقل لا الشبهة الموضوعية للمحرّم.

ورابعا : كما في الكفاية بأن مسألة استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية تختلف عن مسألتنا ولا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول بالاحتياط في هذه المسألة لاحتمال ان يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وما قيل من أن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة ممنوع ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليست بضرر غالبا ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر والمفسدة فيما فيه المنفعة واحتمال أن يكون في الشبهة ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا بل قد يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره مع القطع فضلا عن احتماله. (٢)

ولذا قال في مصباح الاصول لا ارتباط بين المقام وتلك المسألة فإن استقلال العقل بالحظر على تقدير التسليم إنما هو بمناط غير موجود في المقام باعتبار أن موضوع أصالة الحظر إنما هو الفعل بما هو مقطوع بعدم جعل الحكم له وفي المقام بما هو مشكوك الحكم

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢١٤.

(٢) الكفاية ٢ : ١٨٩ ـ ١٩٠.

٥٨٧

فلا يستلزم القول بالحظر في تلك المسألة القول بالاحتياط في المقام بل يمكن القول بالبراءة في المقام مع الالتزام بالحظر في تلك المسألة. (١)

وخامسا : بأن الحكم بالحظر في الفعل الذي فرض خلوه عن الحكم بقول مطلق ممنوع لعدم كونه خروجا عن زي الرقية كما أفاد في نهاية الدراية حيث قال إنّ الشارع كل تكاليفه منبعث عن المصالح والمفاسد لانحصار أغراضه المولوية فيها فليس له إلّا زجر تشريعي أو ترخيص كذلك فمنعه وترخيصه لا ينبعثان إلّا عما ذكر.

ولا محالة إذا فرض خلو الفعل عن الحكم بقول مطلق أعني الحكم الذي قام بصدد تبليغه وإن كان لا يخلو موضوع من الموضوعات من حكم واقعي وحيا أو إلهاما فليس الفعل منافيا لغرض المولى بما هو شارع فليس فعله خروجا عن زي الرقية ومنه تبين أن الأصل فيه هو الإباحة لا الحظر.

فإن عدم الإذن المفروض في الموضوع لا يؤثر عقلا في المنع العقلي إلّا باعتبار كون الفعل معه خروجا عن زي الرقية وحيث إنه فرض فيه عدم المنع شرعا فلا يكون خروجا عن زي الرقية إذ فعل ما لا ينافي غرض المولى بوجه من الوجوه بل كان وجوده وعدمه على حد سواء لا يكون خروجا عن زي الرقية. (٢)

نعم ربما يقال في وجه الحظر وجوه أخرى

منها : ان كل مكلف عبد مملوك لله تعالى بشراشر وجوده والعبد لا يجوز أن يتحرك إلّا بإذن مولاه كما لا يجوز له أن يتصرف في ملك مولاه والمفروض أن العبد وما في يده وما في حوله وغيرهما ملك لله تعالى.

ولكن يرد عليه مضافا إلى إمكان منع عدم جواز الحركة وسكون العبد إلّا بإذن المولى ولو مع عدم منافاتهما مع حق المولى لعدم كونه موجبا للخروج عن زي الرقية في صورة عدم المنافاة أن الملكية المذكورة إنما تقتضي ما ذكر ما دام لم يجعل الله تعالى نفسه كأحد الموالي و

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٠٩.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٨٨

مع جعله نفسه كذلك تجري بالنسبة إلى الله تعالى ما يجري بالنسبة إلى الموالي والعبيد وعليه فقاعدة قبح العقاب بلا بيان كما تدل على قبح العقاب بالنسبة إلى الموالي والعبيد فكذلك تدل بالنسبة إليه سبحانه وتعالى والخلق بعد ما جعل نفسه سبحانه وتعالى كواحد منهم كما لا يخفى.

الوجه الثالث :

هو ما حكي عن الشهيد الصدر من حق الطاعة بتقريب أن المولوية المطلقة الذاتية لله تعالى التي تحققت من جهة خالقيته ومنعميته ومالكيته توجب حق الطاعة المطلقة ولو في التكاليف الاحتمالية وعليه فلا يختص حق إطاعته تعالى بما يصل إلينا بالقطع بل اللازم هو الاحتياط حتى بالنسبة إلى التكاليف الاحتمالية نعم لو رخص الشارع في ذلك لا يجب الاحتياط كما لا يخفى.

وفيه أوّلا : أنا لا نسلّم ايجاب المولوية الذاتية لله تعالى لطاعته المطلقة في التكاليف الظنية والاحتمالية زائدا على الرجحان والاستحباب كما لا توجب المولوية المذكورة وجوب تداوم الذكر وعدم الغفلة عنه مع ان المناسبة بينهما والمولوية المطلقة الذاتية موجودة أيضا لأنّ مولويته تعالى دائمية ومقتضاها هو ذكره دائما وعدم الغفلة عنه تعالى.

وثانيا : إنّ ذلك على تقدير التسليم صحيح ما دام لم يجعل نفسه كأحد الموالي وأمّا مع جعله نفسه كواحد منهم يجري في حقه ما يجرى في حقهم وقد دلّ مثل قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) على أنّ طريقته تعالى في الاحتجاج والعذاب والعقاب ليس إلّا طريقة العقلاء من الاكتفاء بما وصل من الأوامر والنواهي فكما أنّ العقلاء لا يعذبون العبيد إلّا بوصول الخطاب وتمردهم فكذلك الله تعالى لا يعذب بدون البعث وجعل الأحكام في معرض الوصول وعليه فلا مجال لدعوى وجوب الاحتياط مع الفحص وعدم الظفر.

__________________

(١) الاسراء / ١٥.

٥٨٩

وثالثا : إنّا سلمنا أنّ حق الطاعة في الأوامر والنواهي ولو كانت احتمالية يكون مما تقتضيها المولوية المطلقة ولكن ذلك ما دام لم يستلزم محذور العسر والحرج والاختلال وأما مع استلزام المحذور المذكور فتمنع عنه حكمة الرب المتعال والمفروض لزوم المحذور المذكور في حق الطاعة حتى في المحتملات فلا يصح الحكم بإطلاق الوجوب مع لزوم المحذور المذكور كما لا يخفى.

ورابعا : أن طاعة الله سبحانه وتعالى لها درجات متعددة ومراتب مختلفة وليس كل مرتبة واجبة ومن المراتب أن لا يطيع العبد إلّا إياه حتى في المباحات ولا يتحرك ولا يسكن إلّا فيما يرضى الله سبحانه وتعالى ومن المعلوم أن هذه المرتبة لا تكون واجبة بالضرورة وعليه فيمكن أن يكون الإطاعة في المحتملات من المراتب الراجحة نعم يجب طاعته فيما يكون ترك الطاعة منافيا مع زي الرقية والعبدية.

وخامسا : بما أفاده بعض الأعزة من أنه كما احتملنا التكليف الوجوبي أو التحريمي في الشبهات البدوية كذلك نحتمل الإباحة الاقتضائية الواقعية وحق الطاعة كما يكون مطرحا في التكاليف الوجوبية أو التحريمية كذلك يكون مطرحا في ناحية الإباحة الواقعية الاقتضائية أيضا.

ولو اقتضى المنعمية أو الخالقية أو مالكية المولى أن نطيعه في تلك التكاليف الإلزامية فكذلك اقتضت أن نعمل بمقتضى الإباحة الاقتضائية أيضا فإنها مجعولة كمجعولية الوجوب والحرمة كما يشهد له عدّ الإباحة من الأحكام الخمسة ولا يجتمع لزوم رعاية التكاليف الإلزامية الواقعية بالاحتياط مع لزوم رعاية الإباحة الاقتضائية الواقعية بالترخيص ومع منافاتهما نكشف عن عدم صحة نظرية حق الطاعة. (١)

يشكل ذلك بأن الإباحة هي إطلاق العنان في طرف التشريع وهو لا يطلب من العبد شيئا حتى يكون فعله إطاعة وتركه عصيانا وعليه فلا يتصور التزاحم والمنافاة بين حق

__________________

(١) راجع پژوهش هاى اصولي شماره ١ : ١٥ ـ ١٦.

٥٩٠

الطاعة في الإباحة الاقتضائية وبين حق الطاعة في احتمال الوجوب أو الحرمة.

ويجاب عنه بأن حصول المنافاة والمزاحمة في أحكام العقل العملي من جهة أن الترخيصات الواقعية والإباحات المجعولة إذا وصلت إلى العبد صارت موضوعة لحكم العقل بالترخيص وإطلاق العنان لأن هذا هو مقتضى رعاية احترام المولى ومولويته وبناء على نظرية حق الطاعة لا يختص ذلك بوصولها بالقطع بل يجري في موارد الشك في الإباحة الواقعية وعليه فالعقل يحكم في المشتبهات بكون الفعل أو الترك مرخصا فيه رعاية لمولوية المولى إذ احترام المولى لا يختص بجعل خاص بل هو لازم الرعاية في جميع أنحاء جعله ومنها الإباحة والترخيص وهو لا يجتمع مع حكم العقل بوجوب الاحتياط باحتمال التكاليف الإلزامية. (١) ولا يخفى عليك ما في هذا الجواب فإن احترام المولى في ناحية الإباحة الاقتضائية يتحقق بعدم القول باللزوم أو الحرمة بخلاف الوجوب أو الحرمة فإنّ رعاية المولى وحق الطاعة فيهما لا يتحقق إلّا بالفعل في الوجوب وبالترك في الحرمة وعليه فلا منافاة بين حق الطاعة في الوجوب والحرمة وبين حق الطاعة في الإباحة الاقتضائية فيما فعل ولم يقل بالوجوب ويترك ولم يقل بالحرمة.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المهم في حق الطاعة هو رعاية ما أهمه المولى من مصالح العباد فلو رأى المولى الترخيص أهم من التقيد والمحدودية لما أمكن للعبد أن لا يرى ذلك وأخذ جانب المحدودية إذ الأخذ المذكور وإن لم يستلزم المخالفة العملية ولكنه ينافي ما أهمه المولى ومقتضى رعاية حق المولى هو أن يراعي ذلك ولو مع اشتباه الإلزام الواقعي والإباحة الواقعية.

وعليه فرعاية ما أهمه المولى في الإباحة الاقتضائية الواقعية تنافي مع رعاية ما اهمه المولى في الأحكام الالزامية وعاد المحذور. (٢)

__________________

(١) راجع پژوهش هاي اصولي شماره ١ : ١٦ ـ ١٩.

(٢) راجع پژوهش هاى اصولي ١ : ٢٢.

٥٩١

لا يقال : إنّ التنافي بين الرعايتين المذكورتين فيما إذا كانت الإباحة الواقعية بالنسبة إلى الفعل أو الترك مقتضية لإطلاق العنان من جميع الجهات سواء كانت من ناحية الإلزامات الصادرة من الله سبحانه وتعالى أو الإلزامات العقلية الأخرى كوجوب الاحتياط فإطلاق العنان بالنحو المذكور لا يجتمع مع رعاية الأحكام الإلزامية المقتضية للاحتياط واما إذا لم تكن الإباحة مقتضية لذلك إلّا بالنسبة إلى الالزامات الصادرة من الله سبحانه وتعالى فلا منافاة بين رعاية الإباحة الواقعية ورعاية الأحكام الإلزامية فإنها تدل على عدم الإلزام وإطلاق العنان من ناحية خصوص الاوامر الصادرة من المولى فهذا الترخيص لا ينافي مع الضيق الحاصل من ناحية الإلزام العقلي الاحتياطي بالنسبة إلى الأحكام الإلزامية لأنا نقول : إنّ الإباحة على قسمين وكلاهما محتمل الوقوع في عرض واحد ومع احتمالهما في عرض واحد نحتمل أن يكون الإباحة المشكوكة من سنخ الإباحة الدالة على نفي الإلزام من جميع الجهات حتى الحكم العقلي بالاحتياط ومع هذا الاحتمال يكون التنافي بين الحكم العقلي برعاية عدم الإلزام من هذه الناحية وبين حكمه برعاية الإلزام من ناحية الأحكام الإلزامية موجود وعدم التنافي يتوقف على إثبات أن الإباحة المشكوكة من سنخ الإباحة الدالة على نفي الإلزام من ناحية خصوص الأوامر الصادرة من الشارع ولا دليل له كما لا يخفى. (١)

هذا مضافا إلى أنه لو كان نظرية حق الطاعة صحيحة لزم الاحتياط في جميع الموارد التي نحتمل فيها أنّ للمولى غرضا لزوميا ولو لم يأمر به وذلك لأن نظرية حق الطاعة ترجع في اللب إلى لزوم رعاية احترام المولى إذ لا خصوصية للفظة الطاعة الدالة على تحقق الأمر فلا يكون وجود الأمر ولو احتمالا شرطا للزوم هذا الاحترام وعليه فلا فرق بين رعاية احترام المولى في الأوامر المحتملة وبين رعاية احترامه في الأغراض اللزومية المحتملة مع أنه لم يلتزم به أحد بالنسبة إلى الأغراض المحتملة اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ عدم التكليف من

__________________

(١) راجع پژوهش هاي اصولي ١ : ٢٤ ـ ٢٥.

٥٩٢

ناحية المولى يكشف عن عدم وجود الغرض اللزومي فلا يجب رعاية الأغراض المحتملة لعدم لزومها ولكن هذا صحيح فيما إذا لم نحتمل أن عدم التكليف من ناحية وجود الموانع كما لا يخفى. (١)

الوجه الرابع :

ما حكاه بعض الأعلام عن سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره من أن الاحتمال كالعلم منجز فيما إذا لم يتمكن المولى من البيان ألا ترى صحة احتجاج المولى على عبده بالاحتمال عند عدم تمكنه من البيان كما إذا منع من التكلم فلا يقبح المؤاخذة حينئذ بالاحتمال لأنه في حكم البيان في هذه الحال ومعه لا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان كما لا موضوع له عند العلم بالخطاب أو المراد وعليه فالبراءة العقلية ممنوعة.

وقد أورد عليه بعض الأعلام بأن هذا صحيح إذا علمنا بأن المولى عند ارتفاع المانع أمر أو نهى وأما إذا لم نعلم بذلك بل احتملنا انه لا يأمر ولا ينهى من جهة مزاحمة مفسدة أو مصلحة فلا يكفى الاحتمال المذكور لوجوب الاحتياط عند الاحتمال فالأولى أن يقال في تقريب وجوب الاحتياط عقلا ومنع البراءة العقلية أنه لا شك في أن العبد احتاط عند احتمال الإلزاميات في أمور نفسه ألا ترى أنه عند العطش واحتمال وجود الماء في مكان يسعى في طلبه لئلا يهلك من العطش ولم يترك الطلب والاحتياط.

فإذا كان العبد في أمور نفسه كذلك فالالتزام بالاحتياط في أمور المولى واجب بالأولوية إذ ليس أمر اطاعته سبحانه وتعالى أدون من أغراض نفسه وهذا الوجه غير الوجه الذى ذكره الشهيد الصدر لإثبات حق الطاعة فلا تغفل.

ولقائل أن يقول إنا لا نسلم ذلك في احتمال الإلزاميات بالنسبة إلى الامور الشخصية إلّا فيما يكون ترك الاحتياط فيه موجبا للهلاكة فالدليل المذكور اخص من المدعى.

اللهمّ إلّا أن يقال : بلزوم الاحتياط في مطلق الإلزاميات ما لم يتزاحم بما يوجب الترخيص دفعا لاحتمال الضرر هذا مضافا إلى أن ذلك صحيح فيما إذا لم يجعل المولى نفسه

__________________

(١) راجع پژوهش هاي اصولي ١ : ٢٥.

٥٩٣

كسائر الموالى في كيفية الإطاعة والامتثال وأما مع هذا الجعل كما هو ظاهر الأدلة فلا يكون احتمال الإلزاميات منجزا كما لا يؤاخذ الموالى العرفية بمجرد الاحتمال.

ومضافا إلى أن لزوم الاحتياط بمجرد الاحتمال ينافي ما فيه عليه الشريعة من كونها سمحة وسهلة فتحصل أنه لا حكم للعقل بالنسبة إلى وجوب الاحتياط عند احتمال التكليف والله هو الهادي.

٥٩٤

الخلاصة

وأمّا العقل فتقريره بوجهين

الوجه الأوّل :

إنّا نعلم إجمالا قبل المراجعة بالأدلة الشرعية بمحرمات كثيرة والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وحيث لا نقطع بالفراغ بعد المراجعة بالأدلة والعمل بها فاللازم هو الاجتناب عن كل ما يحتمل أن يكون منها حتى يحصل القطع بالفراغ.

وفيه أنّه لا فرق بين الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية فلو كان العلم المذكور موجبا للاحتياط في التحريمية فليكن كذلك في الوجوبية مع أنّ القائلين بالاحتياط في التحريميّة لا يقولون به في الوجوبية.

هذا مضافا إلى أنّ العلم الإجمالي ينحل بوصول الأمارات الدالة على المحرمات لاحتمال كون المعلوم بالإجمال هي موارد الأمارات المعلومة حرمتها تفصيلا ومع لانحلال لا مانع من الرجوع إلى أصالة الحل في غير مورد تلك الأمارات ولا حاجة في ذلك إلى إثبات أنّ المعلوم بالتفصيل بالأمارات عين ما علم بالإجمال بل يكفيه احتمال الانطباق إذ مع هذا الاحتمال لا يبقى علم بالنسبة إلى سائر الأطراف فينقلب القضية المنفصلة الحقيقيّة وهي أنّ المحرمات إمّا هذه الموارد أو غيرها إلى قضية بينة وهي أنّ موارد قيام الأمارات المعتبرة هي المحرمات وإلى قضية مشكوكة وهي أنّ سائر الموارد غير الأمارات المعتبرة يحتمل حرمتها وعليه فيلزم الاجتناب عن موارد الأمارات المعتبرة للعلم بها أو قيام الحجة على حرمتها دون سائر الموارد لأنه ليس فيها إلّا احتمال الحرمة وهو محلّ البراءة كما لا يخفى.

الوجه الثاني :

أنّ الأصل في الأفعال الغير الضرورية هو الحظر فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة ولم يرد الإباحة فيما لا نصّ فيه وما ورد فيه على تقدير تسليم دلالته معارض بما ورد من

٥٩٥

الأمر بالتوقف والاحتياط فالمرجع بعد التعارض هو أصالة الحظر ولو تنازلنا عن ذلك فاللازم هو الوقف.

واستدل لأصالة الحظر أيضا بأنّ كلّ مكلف عبد مملوك لله تعالى بشراشر وجوده والعبد لا يجوز أن يتحرك إلّا بإذن مولاه كما لا يجوز له أن يتصرّف في ملك مولاه والمفروض أنّ العبد وما في يده وما في حوله وغيرهما ملك الله تعالى.

وفيه أنّ الملكية المذكورة إنّما تقتضي ما ذكر ما دام لم يجعل الله تعالى نفسه كأحد الموالي ومع جعله كذلك تجري بالنسبة إليه ما يجري بالنسبة إلى سائر الموالي والعبيد فكما أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تدل على قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الموالي والعبيد فكذلك بالنسبة إليه سبحانه وتعالى.

هذا مضافا إلى إمكان منع عدم جواز الحركة وسكون العبد إلّا بإذن المولى ولو مع عدم منافاتهما مع حقوق المولى لأنّ الحركة والسكون في هذه الصورة لا تكونان خروجا عن زيّ الرقبة.

الوجه الثالث :

ما حكى عن الشهيد الصدر من حق الطاعة بتقريب أنّ المولوية المطلقة الذاتية لله تعالى التى تحققت من جهة خالقيته ومنعميته ومالكيته توجب حق الطاعة المطلقة ولو في التكاليف الاحتمالية وعليه فلا يختصّ حق إطاعته تعالى بما يصل إلينا بالقطع بل اللازم هو الاحتياط حتى بالنسبة إلى التكاليف الاحتمالية نعم لو رخص الشارع في ذلك لا يجب الاحتياط كما لا يخفى.

واستدل له بأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم المفسدة فيه ودعوى أنّ مقتضى قاعدة اللطف إنّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه وحيث لم يبين ذلك كشف ذلك عن الإباحة.

مندفعة بأنّه قد يكون المفسدة في الاعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف.

وفيه أنّه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال وإلّا لصح الاستدلال على

٥٩٦

البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.

هذا مضافا إلى أنّ ما قيل من أنّ الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما تعلم فيه المفسدة ممنوع ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل فان المفسدة المحتملة في المشتبه ليست بضرر غالبا ضرورة أنّ المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر والمفسدة فيما فيه المنفعة واحتمال أن يكون في الشبهة ضرر ضعيف غالبا لا يعتني به قطعا مع أنّ الضرر ليس دائما ممّا يجب التحرز عنه عقلا بل قد يجب ارتكابه أحيانا فيما كان الترتب عليه أهم في نظره ممّا في الاحتراز عن ضرره مع القطع فضلا عن احتماله.

وفيه أوّلا : إنّا لا نسلّم إيجاب المولوية الذاتية لله تعالى لطاعته المطلقة في التكاليف الظنية والاحتمالية زائدا على الرجحان والاستحباب كما لا توجب المولوية المذكورة وجوب تداوم ذكر تعالى وعدم الغفلة عنه مع أنّ المناسبة بينهما وبين مولويته المذكورة موجودة لأنّ مولويّته تعالى دائميّة ومقتضاها هو تداوم ذكره وعدم الغفلة عنه مطلقا.

وثانيا : إنّ ذلك على تقدير التسليم صحيح ما دام لم يجعل نفسه كأحد الموالي في مقام الامتثال وإلّا فيجري فيه تعالى ما يجري في حق الموالي العرفية.

وقد دلّ مثل قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) على أنّ طريقته تعالى في الاحتجاج ليس إلّا طريقة العقلاء من الاكتفاء بما وصل من الأوامر والنواهي في مقام الامتثال والاحتجاج.

وثالثا : إنّ ذلك على تقدير التسليم ما دام لم يستلزم محذور العسر والحرج والاختلال في النظام ومع الاستلزام كما هو الظاهر تمنع عن وجوب ذلك الحق حكمة الرب المتعال.

ورابعا : إنّ لطاعة الله سبحانه وتعالى درجات متعددة ومراتب مختلفة وليس كل مرتبة واجبة كما يشهد لذلك إنّ من المراتب أن لا يطيع العبد إلّا إيّاه تعالى حتى في المباحات مع أنّ المعلوم أنّ هذه المرتبة ليست بواجبة بالضرورة.

٥٩٧

وعليه فيمكن أن يكون الإطاعة في المحتملات من المراتب الراجحة نعم يجب طاعته فيما يكون تركها منافيا لزيّ الرقّية والعبدية.

وخامسا : إنّ نظرية حق الطاعة لو كانت صحيحة لزم الاحتياط في جميع الموارد التى تحتمل فيها أنّ للمولى غرضا لزوميا ولو لم يأمر به وذلك لأنّ نظرية حق الطاعة ترجح في اللب إلى لزوم رعاية احترام المولى إذ لا خصوصية للفظ الطاعة الدالة على تحقّق الأمر فلا يكون وجود الأمر ولو احتمالا شرط للزوم هذا الاحترام وعليه فلا فرق بين رعاية احترام المولى في الأوامر المحتملة وبين رعاية احترامه في الأغراض اللزومية المحتملة مع أنّه لم يلتزم به أحد بالنسبة إلى الأغراض المحتملة.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ عدم التكليف من ناحية المولى يكشف عن عدم وجود الغرض اللزومي فلا يجب رعاية الأغراض المحتملة لعدم لزومها ولكن هذا صحيح فيما إذا لم نحتمل أنّ عدم التكليف من ناحية وجود الموانع كما لا يخفى.

الوجه الرابع :

ما حكاه بعض الأعلام عن سيدنا الأستاذ المحقق الداماد قدس‌سره من أنّ الاحتمال كالعلم منجز فيما إذا لم يتمكن المولى من البيان ألا ترى صحة احتجاج المولى على عبده بالاحتمال عند عدم تمكنه من البيان كما إذا منع من التكلّم فلا يقبح المؤاخذة حينئذ بالاحتمال لأنّه في حكم البيان في هذه الحال ومعه لا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان كما لا موضوع له عند العلم بالخطاب أو المراد وعليه فالبراءة العقلية ممنوعة بل يجب الاحتياط مع الاحتمال.

أورد عليه بعض الأعلام بأنّ هذا صحيح إذا علمنا بأنّ المولى عند ارتفاع المانع أمر أو نهى وأمّا إذا لم نعلم بذلك بل احتملنا أنّه لا يأمر ولا ينهى من جهة مزاحمة مفسدة أو مصلحة فلا يكفي الاحتمال المذكور لوجوب الاحتياط عند الاحتمال فالأولى

أن يقال : في تقريب وجوب الاحتياط العقلي ومنع البراءة العقلية إنّه لا شك في أنّ العبد أحتاط في أمور نفسه عند احتمال الإلزاميات ألا ترى أنه لو عطش واحتمل وجود الماء في

٥٩٨

مكان جهله في طلبه لئلا يهلك من العطش ولم يترك الطلب والاحتياط.

فإذا كان العبد في أمور نفسه كذلك فالالتزام بالاحتياط في أمور المولى واجب بالأولوية إذ ليس أمر إطاعته سبحانه وتعالى أدون من أغراض نفسه.

ولقائل أن يقول إنّا لا نسلم ذلك في احتمال الإلزاميات بالنسبة إلى الأمور الشخصية إلّا فيما إذا كان ترك الاحتياط موجبا للهلاكة فالدليل المذكور أخصّ من المدعى وهو لزوم الاحتياط في جميع المحتملات.

هذا مضافا إلى أنّ ذلك صحيح فيما إذا لم يجعل المولى نفسه كسائر الموالي في كيفية الإطاعة والامتثال وأمّا مع هذا الجعل كما هو ظاهر الأدلة فلا يكون احتمال الإلزاميات منجزا.

ومضافا إلى أنّ لزوم الاحتياط بمجرد الاحتمال ينافي ما عليه الشريعة من كونها سمحة سهلة فتحصل أنه لا حكم للعقل بالنسبة إلى وجوب الاحتياط عند احتمال التكليف والله هو الهادي.

٥٩٩

التنبيهات

التنبيه الأوّل :

إن جريان أصالة البراءة والإباحة في مشتبه الحكم مشروط بعدم جريان أصل حاكم عليهما لأنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان بالنسبة إلى الحكم الواقعي كما أن موضوع الإباحة الشرعية هو الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي.

وعليه فكل ما يكون بيانا ورافعا للشك ولو تعبدا يتقدم على البراءة والإباحة بالورود أو بالحكومة.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الشبهة موضوعية كما إذا علمنا بخمرية مائع ثم شككنا في انقلابه خلا فلا مجال لأصالة البراءة أو الإباحة عن حرمة شربه لجريان استصحاب الخمرية في مشكوك الانقلاب ومع جريان الاستصحاب المذكور لا يبقى موضوع لأصالة البراءة أو الإباحة.

وبين أن تكون الشبهة حكمية كما إذا شك في جواز وطي الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال فإن استصحاب حرمة وطيها على تقدير جريانه لا يبقى موضوعا لأصالة البراءة والإباحة.

قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : وعبّر الشيخ قدس‌سره عن هذا الأصل بالأصل الموضوعي باعتبار أنه رافع لموضوع الأصل الآخر ولم يرد منه خصوص الأصل الجاري في الموضوع كما توهم. (١)

وأيضا لا تفاوت في عدم جريان أصالة البراءة أو الإباحة بين أن يكون الأصل الموضوعي مخالفا للبراءة أو الإباحة أو موافقا لهما بدعوى أن مع أصل موضوعي لا مجال لهما لوروده عليهما ولكن ذلك فرع كون أدلة اعتباره ناظرة إلى الاصول الموافقة أيضا وهو غير محرز لأن الأدلة في مثل الاستصحاب ناظرة إلى عدم نقض اليقين والنقض يحصل بالاصول

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٦٠٠