عمدة الأصول - ج ٢

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٧

١
٢

٣
٤

المقصد الأوّل

في الأوامر

٥
٦

الفصل الأوّل :

فيما يتعلّق بمادّة الأمر :

وفيه جهات من البحث :

الجهة الأولى :

في أنّ المعروف بين الأصوليّين أنّ لفظ الأمر مشترك لفظيّ بين المعاني العديدة المذكورة لكلمة الأمر «كالشيء» و «الشأن» و «الشغل» و «الغرض» و «الحادثة» و «الفعل العجيب» و «الفعل» و «الطلب» كما يقال رأيت أمرا ـ وشغله أمر كذا ـ وجاء زيد لأمر كذا ـ وإذا وقع الأمر فارجع إلينا ـ ورأيت امرا عجيبا ـ وأمر فلان مستقيم ـ وأمركم مطاع.

أورد عليهم بأنّ ذكر بعض هذه المعاني للفظ الأمر من باب اشتباه المصداق بالمفهوم كالحادثة والشأن والفعل أو الفعل العجيب والشغل والغرض فإنّها مصاديق الشيء الذي هو مفهوم الأمر وليست هي بنفسها من معاني الأمر بل يكون بعض هذه المعاني غير مرتبط بلفظ الأمر وإنّما يفهم من غير لفظ الأمر كالغرض فإنّه مستفاد من لفظة اللام في مثل «جاء زيد لأمر كذا» ومدخول اللام تارة يكون مصداقا للغرض وتارة ليس هو بنفسه مصداقا له وإنّما يكون سببا له.

ولذلك عدل في الكفاية عن مختار المعروف وذهب إلى أنّ لفظ الأمر مشترك لفظيّ بين الطلب في الجملة أي حصّة خاصّة من الطلب وهي الحصّة المتعلّقة بفعل

٧

الغير دون الطلب النفسانيّ الغير المتعلّق بفعل الغير وبين الشيء. (١)

كما أنّ صاحب الفصول ذهب إلى ما ذكر قبل صاحب الكفاية إلّا أنّه جعل لفظ الأمر مشتركا لفظيّا بين الطلب في الجملة والشأن (٢) مع أنّ الشأن من جملة مصاديق مفهوم الشيء وليس هو بنفسه معنا للفظ الأمر ولذا أورد عليه في الكفاية بمنع كونه حقيقة في الشأن. (٣)

أورد المحقّق الأصفهانيّ على صاحب الكفاية بأنّ استعمال الأمر في الشيء مطلقا لا يخلو عن شيء ، إذ الشيء يطلق على الأعيان والأفعال مع أنّ الأمر لا يحسن إطلاقه على العين الخارجيّة فلا يقال : رأيت أمرا عجيبا إذا رأى فرسا عجيبا ولكن يحسن ذلك إذا رأى فعلا عجيبا من الأفعال. انتهى (٤)

وتبعه في نهاية الاصول حيث قال : الظاهر فساد القول بكونه بمعناه الجموديّ مرادفا للشيء إذ الشيئيّة من الأمور العامّة المطلقة على الجواهر والأعراض بأسرها وإطلاق الأمر على الجواهر بل على بعض الأعراض فاسد جدّا فلا يقال مثلا زيد أمر من الأمور. انتهى (٥)

ويمكن اندفاع الإشكال بتقييد الشيء بقيد «في الجملة» كما أنّ الطلب متقيّد به والمراد من الحصّة الخاصّة من مفهوم الشيء هو ما يتقوّم بالشخص في قبال الجواهر وبعض أقسام الأعراض.

__________________

(١) الكفاية ١ / ٨٩.

(٢) الفصول / ٤٩ الطبع القديم.

(٣) الكفاية ١ / ٩٠.

(٤) نهاية الدراية ١ / ١٤٦.

(٥) نهاية الأصول ١ / ٨٥.

٨

وأمّا القول بأنّ معناه الجموديّ هو الفعل كما في نهاية الأصول (١) ففيه أنّه إن اريد به أنّ الأمر مرادف لمفهوم الفعل فلا نسلّم لأنّه خلاف المتبادر من لفظ الأمر وعليه فلفظ الأمر موضوع لحصّة خاصّة من مفهوم الشيء. نعم" أمر فلان مستقيم" ظاهر في أنّ المراد من الأمر فيه هو الفعل أو الشأن ولكن لو لم نقل إنّه مستفاد بالقرينة لزم اشتراك لفظ الأمر بالاشتراك اللفظيّ بين ثلاثة من المعاني من المعنيين المذكورين والفعل أو الشأن.

أورد في تهذيب الاصول على صاحب الكفاية بأنّ مادّة الأمر موضوعة لجامع اسميّ بين هيئات الصيغ الخاصّة بما لها من المعنى لا الطلب ولا الإرادة المظهرة ولا البعث وأمثالها فالمعنى مفهوم اسميّ مشترك بين الهيئات التي هي الحروف الإيجاديّة.

ثمّ استشكل على نفسه بأنّ البحث في لفظ الأمر الذي له معنى اشتقاقيّ وما ذكرت من الجامع يستلزم كونه غير قابل للتصريف.

وأجاب عنه بأنّ ما ذكرنا من الجامع الاسميّ بما أنّه قابل للانتساب والتصرّف يصحّ منه الاشتقاق كما أنّ الكلام واللفظ والقول مشتقّات باعتبار ذلك فلا إشكال من هذه الجهة بوجه إذ الاشتقاق باعتبار كونه حدثا صادرا عن الأمر. (٢)

يمكن أن يقال أوّلا : إنّ الأمر بمعناه المصدريّ ليس حاكيا عن هيئات الصيغ الخاصّة بالجامع الاسميّ بل معناه هو ما يساوق في اللغة الفارسيّة ب «فرمان دادن».

وثانيا : إنّ ملاحظة الجامع الاسميّ بما أنّه قابل للانتساب يباين ملاحظته بما هو جامع اسميّ مباينة بشرط الشيء واللابشرط فإنّ في الجامع الاسميّ لا يلاحظ إلّا نفس المعنى دون المعنى المصدريّ فإنّ المعنى ملحوظ بشرط انتسابه إلى الفاعل و

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٣١ ـ ١٣٢.

٩

صدوره عن الآمر فالجمع بين الملاحظتين جمع بين المتنافيين.

وثالثا : إنّ الحق أنّ الاشتقاق ليس من لفظ الأمر على زنة الفعل المتحصّل بهيئة خاصّة لأنّ المتحصّل كما أفاد لا يكون مقوّما لمتحصّل آخر بل الاشتقاق من المادّة السارية كالهيولى في جميع الهيئات المعبّر عنه في المقام بالألف والميم والراء «أ ـ م ـ ر» فلا تغفل.

وأورد في تهذيب الاصول على أصل الاشتراك بأنّه غير صحيح لأنّ الموضوع للحدث غير الموضوع للمعنى الجامديّ ومع المغايرة لا يكون لفظ واحد موضوعا للمعنيين حتّى يكون اشتراكا لفظيّا حيث قال :

إنّ القول باشتراكه لفظا غير صحيح إذ الموضوع للحدث فهي المادّة السارية في فروعها التي لم تتحصّل بهيئة خاصّة بل خالية عن جميع الفعليّات والتحصّلات والموضوع لمعان أخر هو لفظ الأمر جامدا المتحصّل بهيئة خاصّة كلفظ الانسان والحيوان وعلى ذلك فالوضعان لم ينحدرا على شيء واحد حتّى يجعل من الاشتراك اللفظيّ بل على مادّة غير متحصّلة تارة وعلى اللفظ الجامد اخرى ولعلّ القائل بالاشتراك يرى مادّة المشتقّات هو المصدر وتبعه غيره في ذلك من غير توجّه إلى تاليه. (١)

وفيه أنّ الأمر على زنة الفعل كالفلس موضوع للمعنيين :

أحدهما : الأمر بمعناه الحدثيّ الذي يعبّر عنه في اللغة الفارسيّة ب «فرمان دادن».

وثانيهما : غير المعنى الحدثيّ كالشيء أو الشأن أو الفعل كما يشهد له تبادرهما من لفظة الأمر.

وعليه فلفظ الأمر على زنة الفعل مشترك لفظيّ بين المعنيين ولا ينافي ذلك أنّ

__________________

(١) المصدر السابق.

١٠

مبدأ الاشتقاق هو المادّة السارية (أ ـ م ـ ر) والعجب منه قدس‌سره حيث خصّص لفظ الأمر المتحصّل بهيئة الفعل كالفلس بغير المعاني الحدثيّة مع أنّ الأمر علي زنة الفعل يأتي بمعنيين أحدهما المعنى الحدثيّ وهو الطلب على سبيل الإلزام المعبّر عنه في اللغة الفارسيّة ب «فرمان دادن» فلا وجه لتخصيصه بغير المعنى الحدثيّ.

هذا مضافا إلى ما في جعل لفظ الأمر جامدا مع أنّه مشتقّ أيضا من مادّة (أ ـ م ـ ر) بناء على أنّ مبدأ الاشتقاق هو المادّة السارية ويشهد على تعدّد معنى الأمر على زنة الفعل اختلاف جمعه بالأوامر والامور مع أنّه لو كان مختصّا بغير المعنى الحدثيّ لزم أن يأتي جمعه على الامور خاصّة مع أنّه ليس كذلك.

فانقدح ممّا ذكر قوّة القول بالاشتراك اللفظيّ فلا وجه لمنع الاشتراك اللفظيّ بعد تعدّد المعاني لمادّة الأمر على زنة الفعل.

نعم يرد على صاحب الكفاية أنّ مفاد لفظ الأمر ليس الطلب للفرق الظاهر بين الأمر والطلب حيث أنّ الإلزام داخل في حاقّ الأمر دون الطلب والأمر مساوق لما يقال في اللغة الفارسيّة من «فرمان دادن». نعم الأمر بمعناه المذكور يحتوى الطلب ولكن ليس مجرّد الطلب.

ثمّ لا يخفى عليك عدم صحّة القول بالاشتراك المعنويّ كما عن المحقّق النائينيّ قدس‌سره من أنّ معنى الجامع الذي يحتوي أيضا الأمر بمعنى الطلب هو الواقعة التي لها أهمّيّة في الجملة فهذا المعنى كما يشمل الحادثة والغرض ونحوهما فكذلك يشمل الأمر بمعنى الطلب فإنّه أيضا من الأمور التي لها أهمّيّة فلا يكون للفظ الأمر إلّا معنى واحد تندرج فيه كلّ المعاني المذكورة وتصوّر الجامع القريب بين الجميع وإن كان صعبا إلّا أنّه نرى وجدانا أنّ الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد ومعه ينتفي الاشتراك

١١

اللفظيّ. (١)

وذلك واضح بعد اختلاف المعنى الجامديّ مع المعنى الحدثيّ في الجمع حيث أنّ جمع الأوّل على امور وجمع الثاني على أوامر لأنّ الاختلاف المذكور حاك عن اختلاف المفردات فلا وجه لدعوى اشتراكهما في معنى واحد.

هذا مضافا إلى ما في تهذيب الاصول من امتناع وجود جامع حقيقيّ بين الحدث وغيره وعلى فرض وجوده لا يكون حدثيّا حتّى يقبل الاشتقاق إلّا بنحو من التجوّز. (٢)

ومضافا إلى ما في المحاضرات من أنّه لا دليل على أخذ الأهمّيّة في معنى الأمر بحيث يكون استعماله فيما لا أهمّيّة له مجازا وذلك لوضوح أنّ استعماله فيه كاستعماله فيما له أهمّيّة في الجملة من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا. (٣)

ولقد أفادا وأجادا إلّا أنّ الاشتقاق كما عرفت وذهب إليه في تهذيب الاصول ليس من المصدر بل من المادّة السارية فلا وجه للإشكال عليه بأنّ المعنى الجامع بين الحدث والجامد لا يقبل الاشتقاق نعم يرد على من ذهب إلى إمكان الجامع بأنّه لا جامع بين الحدث وغيره.

هذا مضافا إلى إمكان أن يقال إنّ الاشتقاق باعتبار بعض مصاديق الجامع لا إشكال منه بناء على أنّ الاشتقاق من المصدر.

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية النهاية حيث قال : لا يبعد أن يكون إطلاق لفظ الأمر بالمعنى الثاني [أي الشيء] مأخوذا من الأوّل ـ بمعنى الحدثيّ ـ وبمناسبة أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٨٦.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٣١.

(٣) المحاضرات ٢ / ٦ ـ ٧.

١٢

الشيء يكون متعلّقا للطلب وموردا له اطلق عليه لفظ الأمر كما أنّه بمناسبة أنّه تعلّق به المشيّة اطلق عليه لفظ الشيء ثمّ توسّع واطلق اللفظان على المحالات غير القابلة لتعلّق الطلب والمشيّة بها. (١)

وذلك لأنّ هذه المناسبات مناسبات فلسفيّة ولا ربط لها بباب الوضع وعلى فرض تسليم كونها موجودة في نظر الواضع تكون متروكة ومهجورة إذ المتفاهم العرفيّ في مثل «شغله أمر كذا» أو «جاء زيد لأمر كذا» هو ما يصدق عليه عنوان الشيء من دون التفات إلى كونه متعلّقا للطلب وموردا له أو متعلّقا للمشيّة.

فدعوى الاشتراك المعنويّ في لفظة الأمر بالنسبة إلى معانيها لا شاهد له.

هذا مضافا إلى أنّ الطلب بمعناه المصدريّ غير الطلب بمعناه المفعوليّ. والأشياء تكون متعلّقا للطلب بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأوّل.

فتحصّل أنّ الأقوى هو القول بالاشتراك اللفظيّ في لفظ الأمر بالنسبة إلى معانيها من الطلب الإلزاميّ والشيء والفعل.

الجهة الثانية : في اعتبار العلوّ في مفهوم الأمر

ولا يخفى عليك أنّ الحقّ هو اعتبار العلوّ في مفهوم الأمر من دون فرق بين كون العلوّ معنويّا أو ظاهريّا وذلك للتبادر وصحّة سلب الأمر عن الطلب من المساوي أو السافل ولذا نرى بالوجدان ذمّ العقلاء بالنسبة إلى خطاب المساوي أو السافل لغيره بلفظ الأمر.

وممّا ذكر يظهر ما في تهذيب الاصول حيث خصّص العلوّ بالظاهريّ (٢) مع أنّ

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٨٧.

(٢) تهذيب الاصول ١ / ١٣٣.

١٣

العلوّ الواقعيّ كاف في صدق الأمر على طلبه الإلزاميّ ولذا يكون طلب الإمام المعصوم غير مبسوط اليد أمرا وإن لم يكن قادرا على إجراء أوامره وتكاليفه وهكذا غيره ممّن يكون عاليا في الواقع.

وصدق الأمر على الطلب الإلزاميّ من ناحية الإمام ومن يكون عاليا في الواقع لا يكون موقوفا على نفوذ الكلمة إذ لا دخل لنفوذ الكلمة في العلوّ الواقعيّ نعم هو من مقوّمات العلوّ الظاهريّ فإنّ العلوّ الظاهريّ بدون نفوذ الكلمة لا معنى له غاية ما يلزم هو اعتقاد جماعة من الناس بعلوّ من يكون عاليا في الواقع ولزوم إطاعته وأمّا النفوذ الظاهريّ والسلطة والقدرة الإجرائيّة فلا كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الظاهر كما في الكفاية عدم اعتبار الاستعلاء في حقيقة الأمر لصدق الأمر على طلب العالي مع الغفلة عن علوّه (١) والقول بأنّ الظاهر أنّ الاستعلاء أيضا مأخوذ في حقيقة الأمر فلا يعدّ مكالمة المولى مع عبيده على طريق الاستدعاء والالتماس أمرا فمفهوم الأمر مضيّق لا ينطبق إلّا على الأمر العالي المستعلي عند التحليل محلّ تأمّل وإشكال لأنّ اعتبار الاستعلاء أمر واعتبار عدم اقترانه بما يدخله في الاستدعاء والالتماس أمر آخر.

وعليه فيمكن أن يقال بعدم اعتبار الاستعلاء في صدق الأمر ولذا لو صدر عن العالي طلب مع الغفلة من علوّه لصدق عليه الأمر مع أنّه خال عن الاستعلاء.

قال في الوقاية نقلا عن جدّه صاحب الهداية يصدق الأمر حقيقة على الأوامر الصادرة من الأمير إلى الرعيّة والسيّد إلى العبيد وإن كان المتكلّم غافلا عن علوّه حين الخطاب (٢).

__________________

(١) الكفاية ١ / ٩١.

(٢) الوقاية / ١٧٧.

١٤

مع أنّه لو كان الاستعلاء دخيلا في الصدق لما كان طلب الغافل عن علوّه أمرا.

نعم لو اقترن الطلب بما يدخله في حقيقة الاستدعاء أو الالتماس لا يصدق عليه الأمر لفقدان ما اعتبر في صدقه من صدوره عن العالي بما هو العالي وإن كان غافلا عن علوّه إذ مع الاقتران المذكور نزّل نفسه عن علوّه ويدرّجها في المساوي والأدون كما أنّ المولى الشرعيّ إذا نزّل عن مقام المولويّة وجعل نفسه بمنزلة أحد من العقلاء وأمر كان أمره إرشاديّا ولم يترتّب عليه ما يترتّب على أوامره المولويّة من عصيان المخالفة.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه لاعتبار الجمع بين العلوّ والاستعلاء لما عرفت من عدم دخالة الاستعلاء بالمعنى المذكور إذ اللازم في صدق الأمر هو صدور الخطاب عن العالي وإن لم يكن مستعليا به.

كما اتّضح ممّا مرّ أيضا عدم صحّة اعتبار أحدهما إذ الاستعلاء بدون العلوّ الواقعيّ أو الظاهريّ لا يوجب صدق الأمر على طلب السافل المستعلي بل يصحّ سلب الأمر عنه. نعم يكفي العلوّ البنائيّ وهو يقوم مقام العلوّ الواقعيّ والظاهريّ كالمجاز السكّاكيّ ولذا نرى صدق الأمر على طلب من يفرض أنّه سلطان بالنسبة إلى غيره من الوزراء الفرضيّة ونحوهم كما هو المشاهد في لعب السلطان والوزير. فكما أنّ ادّعاء كون زيد أسدا يصحّح إطلاق الأسد عليه حقيقة والمجاز في الادّعاء كذلك يصدق الأمر على طلبه حقيقة بعد ارتكاب المجاز والعناية في جعل السافل عاليا.

لا يقال : والشاهد على صدق الأمر على طلب السافل المستعلي هو تقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه وتوبيخه بمثل أنّك لم تأمره فإنّ الظاهر منه أنّ التوبيخ على أمره لا على استعلائه وهو كاشف عن كفاية الاستعلاء في صدق الأمر.

لأنّا نقول : إنّ التوبيخ وإن كان في بدو الأمر بالنسبة إلى أمره ولكنّه يرجع في

١٥

الحقيقة إلى استعلائه والدليل عليه هو صحّة سلب الأمر عن طلبه إذا لم يكن عاليا عند العرف ولا عاليا في الواقع ولا بناء على كونه عاليا.

فتحصّل أنّ مفهوم الأمر متضيّق ولا يصدق إلّا على طلب العالي على سبيل الإلزام.

ذهب في نهاية الاصول إلى منع اعتبار العلوّ بنحو القيديّة في معنى الأمر حيث قسّم الطلب على قسمين :

أحدهما : الطلب الذي قصد فيه الطالب انبعاث المطلوب منه من نفس هذا الطلب بحيث يكون داعيه ومحرّكه إلى الامتثال صرف هذا الطلب وهذا القسم من الطلب يسمّى أمرا.

ثانيهما : هو الطلب الذي لم يقصد الطالب فيه انبعاث المطلوب منه من نفس طلبه بل كان قصده انبعاث المطلوب منه من هذا الطلب منضمّا إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في نفسه كطلب المسكين من الغنيّ فإنّ المسكين لا يقصد انبعاث الغنيّ من نفس طلبه وتحريكه لعلمه بعدم كفاية بعثه في تحرّك الغنيّ ولذا يقارنه ببعض ما له دخل في انبعاث الغنيّ كالتضرّع والدعاء لنفس الغنيّ ووالديه مثلا وهذا القسم من الطلب يسمّى التماسا أو دعاء.

فعلى هذا حقيقة الطلب على قسمين غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منه (أي الذي يسمّى بالأمر) حقّ من كان عاليا ومع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان أمرا أيضا ولكن يذمّه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأنا له فيقولون أتأمره؟ كما أنّ القسم الثاني يناسب شأن السافل ولو صدر عن العالي أيضا لم يكن أمرا فيقولون لم يأمره بل التمس منه ويرون هذا تواضعا منه. انتهى (١)

__________________

(١) نهاية الاصول ١ / ٨٦.

١٦

حاصله هو منع اعتبار الصدور من العالي في صدق مفهوم الأمر ولذا حكم بالصدق فيما إذا كان الطالب سافلا وطلب على سبيل الإلزام وبعدم صدقه فيما إذا كان الطالب عاليا ولكن استدعى والتمس من غيره مع أنّه صدر عن العالي فالمعتبر هو قصد الطالب فإن كان قصده من الطلب هو الامتثال بنفس طلبه فهو أمر وإلّا فهو استدعاء والتماس.

يمكن أن يقال : فيه :

أوّلا : إنّ قصد الطالب انبعاث المخاطب بنفس الطلب لا ينافي اعتبار العلوّ في صدق الأمر عليه ومدخليّته فيه كما هو الظاهر وتدلّ عليه صحّة سلب الأمر عن طلبه ولو مع القصد المزبور فمنه يعلم أنّ مجرّد القصد المذكور لا يكفي في صدق الأمر وإلّا لما صحّ سلب الأمر عنه.

ولذلك قال في تهذيب الاصول : إنّ عدم صدقه على غير العالي المستعلي كاشف عن تضييق مفهومه إذ لو ابقى على سعته كان عدم صدقه على غيرهما بلا ملاك. انتهى (١)

وثانيا : إنّ عدم صدق الأمر على طلب العالي المستدعي أو الملتمس من جهة تنزيل نفسه عن مرتبة العلوّ وجعلها في مرتبة المخاطب ومن المعلوم أنّ الطلب مع هذا البناء لا يكون صادرا عن العالي بما هو العالي فلا يصدق على طلبه أمر ، كما لا يصدق الأوامر المولويّة على أوامر المولى الذي نزّل نفسه عن مرتبة المولويّة وأمر بعنوان كونه أحدا من العقلاء ولذا لا يترتّب عليها آثار الأوامر المولويّة من عصيان المخالفة وغيره.

فانقدح ممّا ذكر أنّ مفهوم الأمر متضيّق وإلّا يصدق على غير العالي مع أنّك

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ / ١٣٣.

١٧

عرفت صحّة السلب وعدم صدقه على طلب العالي المستدعي لتنزيل نفسه عن مقامه ومع التنزيل المذكور لا يبقى قيد المفهوم ولذا لا يصدق على طلبه حينئذ عنوان الأمر فلا تغفل.

الجهة الثالثة : في اعتبار الإلزام والإيجاب في مادّة الأمر وعدمه

ولا يخفى أنّ مقتضى التبادر هو الأوّل. إذ لا ينسبق من مادّة الأمر التي تكون في اللغة الفارسيّة بمعنى «فرمان دادن» إلّا الطلب الإلزاميّ والإيجابيّ ولذا ذهب إليه صاحب الفصول حيث قال (بعد اختيار كون لفظ الأمر مشتركا بين الطلب المخصوص وبين الشأن) :

ثمّ المراد بالطلب المخصوص طلب العالي من الداني حصول الفعل على سبيل الإلزام.

واستدلّ عليه بالتبادر (١). وتبعه صاحب الكفاية ، وقال : لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لانسباقه عنه عند إطلاقه. إلى أن قال : وصحّة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره وتوبيخه على مجرّد مخالفته. كما في قوله تعالى : (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك). (٢)

قال في الوقاية : لفظ الأمر له ظهور قويّ في الوجوب حتّى أنّ كثيرا من القائلين باشتراك الصيغة بين الوجوب والندب يقولون باختصاص لفظ الأمر بالوجوب والدليل عليه الفهم العرفيّ. (انتهى ملخّصا) (٣)

__________________

(١) الفصول / ٤٩ ط قديم.

(٢) الكفاية ١ / ٩٢.

(٣) الوقاية / ١٧٨.

١٨

ربّما استدلّ لذلك بالاستعمالات الواردة في الكتاب والسنّة. كقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١). حيث أنّ الحذر عن المخالفة لا يناسب إلّا مع الوجوب والإلزام. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة» (٢) حيث نفى الأمر مع ثبوت الاستحباب وهو لا يكون إلّا لدلالة الأمر على الوجوب والإلزام.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصّة بريرة حيث كانت أمة لعائشة وزوجها كان عبدا ثمّ اعتقتها عائشة فلمّا علمت بريرة بخيارها في نكاحها بعد العتق أرادت مفارقة زوجها فاشتكى الزوج إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة : ارجعي إلى زوجك فإنّه أبو ولدك وله عليك منّة. فقالت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتأمرني بذلك؟ فقال : لا إنّما أنا شافع. بتقريب الاستدلال به أنّ نفيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمر دليل على كونه للوجوب. ولذا قالت بريرة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتأمرني يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك. إذ لو لم تكن دلالة الأمر على الوجوب مركوزة في الأذهان لم يكن وجه لسؤالها منه. هذا.

ولكن أورد عليه في الفصول بأنّ استعمال الأمر في هذه الموارد في الإيجاب لا يوجب أن يكون موضوعا له بخصوصه بل يكفي ظهوره فيه عند الإطلاق مع أنّ مجرّد الاستعمال لا يقتضي الحقيقة. (٣)

وتبعه في الكفاية ولذا عبّر عن تلك الموارد بالمؤيّدات. (٤)

قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره بعد قبول الإيراد في بعض الموارد المذكورة معلّلا

__________________

(١) سورة النور / ٦٣.

(٢) علل الشرائع ١ / ٢٩٣.

(٣) الفصول / ٥٣ الطبع القديم.

(٤) الكفاية ١ / ٩٢.

١٩

بأنّ المراد معلوم ولا أصل لتعيين كيفيّة الاستعمال بعد معلوميّة المراد أنّها هل تكون على سبيل الحقيقة أو بمعونة القرينة. يمكن دفع المناقشة في مثل قول بريرة : أتأمرني؟ إذ لا يبعد دعوى أنّ المنسبق من مادّة الأمر عند بريرة والنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الوجوب. وعليه فهو ممّا يشهد على تبادر الوجوب من مادّة الأمر كما أنّ صحّة الاحتجاج على العبد تكون مبنيّة على التبادر. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ غايته هو ظهور اللفظ في الوجوب ولعلّه من جهة الانصراف بسبب كثرة الاستعمال فلا يدلّ على التبادر من حاقّ اللفظ فافهم.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ بعد كون معنى التبادر هو ظهور المعنى من حاقّ اللفظ لا مجال لدعوى الظهور الانصرافيّ كما لا مجال لظهور الاطلاقيّ ومقدّمات الحكمة أو الظهور العقليّ بمعنى أنّ الوجوب هو إدراك العقل لابدّيّة الخروج عن عهدة الخطاب فيما إذا لم يحرز من الداخل أو من الخارج ما يدلّ على جواز تركه.

وذلك لأنّ الانصراف من جهة كثرة الاستعمال لا من جهة اللفظ فقطّ والظهور الإطلاقيّ من جهة المقدّمات لا من جهة اللفظ فقطّ وإدراك اللابدّيّة العقليّة لا حاجة إليه بعد دلالة اللفظ بنفسه فللمولى أن يحتجّ بنفس اللفظ لا بمقتضى قضيّة العبوديّة والرقّيّة وهو لزوم الخروج عن عهدة الخطاب ما لم ينصب قرينة على الترخيص في تركه.

ففي المقام مع ظهور مادّة الأمر التي تكون في اللغة الفارسيّة بمعنى «فرمان دادن» في الطلب الإلزاميّ لا مجال لتلك الدعاوي إذ الإلزام يكون مستفادا من حاقّ اللفظ لا من جهة كون لفظ الأمر موضوعا لأصل الطلب ولكن لكثرة استعماله في الطلب الإلزاميّ صار ظاهرا في الإلزاميّ ولا من جهة أنّ الطلب الندبيّ يحتاج إلى بيان زائد من الترخيص في الترك وحيث لم يبيّن كان مقتضى مقدّمات الإطلاق هو إرادة الطلب الإلزاميّ ولا من جهة حكم العقل بالتقريب المذكور.

٢٠