عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

الخلاصة

الاستدلال بالإجماع

ربما يستدل بالإجماع على البراءة فيما إذا لم يرد دليل على تحريم شيء من حيث هو هو.

وليس المراد من الإجماع في المقام قيام الإجماع على قبح العقاب على مخالفة التكليف الغير الواصل إلى المكلف حتى يقال إنّ الإجماع المذكور إجماع على أمر عقلي ولا يكشف عن الحكم الشرعي هذا مضافا إلى أنّ الإجماع على الكبرى لا ينفع إلّا بعد ثبوت الصغرى وهو عدم وصول دليل الاحتياط والمفروض هو تمامية أدلّة الاحتياط عند الأخباريّين.

بل المراد من الإجماع في المقام هو دعوى قيام الإجماع على جواز الارتكاب وعدم وجوب الاحتياط شرعا.

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : لا تكاد تجد هي زمان المحدثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرد الاحتياط.

وقد أورد عليه بأنّ تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة مما لا نقل إليه سبيل ومن واضح النقل عليه دليل بعيد.

يمكن أن يقال : إنّ الإجماع المذكور على فرض تحصيله واتصاله إلى عصر الأئمة : لو كان خلافا للدين لأرشدهم الأئمة عليهم‌السلام فمع عدم إرشادهم عليهم‌السلام إلى لزوم الاحتياط كفي ذلك في كشف عدم وجوب الاحتياط شرعا لأنّه ينتهي إلى تقرير المعصوم عليه‌السلام هذا من ناحية الكبرى وأمّا من جهة الصغرى فلا يخلو دعوى الإجماع عن الإشكال.

لما قيل كيف يمكن دعوى الإجماع مع مخالفة الأخباريّين وذهابهم إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المراد من الإجماع هو إجماع الأجلّاء والأعاظم من القدماء إلى زمان الأئمة عليهم‌السلام وعليه فمخالفة المتأخرين لا يضرّ بالإجماع المذكور فلا تغفل.

٥٢١

الاستدلال بالسيرة

ربما يستدل للبراءة بسيرة المسلمين والمتشرعة من أول الشريعة بل في كل شريعة على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان.

وذلك لأنّ طريقة الشارع على بيان المحرمات دون المباحات وليس ذلك إلّا لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان وكفاية عدم وجدان النهي فيها.

قال المحقق على ما حكي عنه أنّ أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر إلى تناول شيء من المشتبهات سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من الماكول والمشروب ان يعلم التنصيص على إباحته ويعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الإذن.

أورد عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأنّ الغرض من عدم التخطئة إن كان بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع لكنه راجع إلى الدليل العقلي الآتي ولا ينبغي الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع بل بناء كافة العقلاء وإن لم يكونوا من أهل الشرائع على قبح ذلك.

وإن كان الغرض منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل حتى لو فرض عدم قبحه لفرض العقاب من اللوازم القهرية لفعل الحرام مثلا أو فرض المولى في التكاليف العرفية ممن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا لم يزل بنائهم على ذلك فهو مبني على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل وسيجىء الكلام فيه إن شاء الله تعالى. (١)

وفيه أوّلا : أنّ الغرض ليس بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالحكم حتى يرجع إلى الدليل العقلي ولا يختص بأهل الشرائع وذلك لعدم تقييد المستدل عمل المتشرعة بما إذا التفتوا إلى القاعدة العقلية ومجرد توافق سيرتهم مع القاعدة لا يلازم التفاتهم إليها ولا يوجب اتحاد

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠٣.

٥٢٢

الدليلين أيضا وعليه فالاستدلال بسيرتهم مع قطع النظر عن القاعدة العقلية وثانيا : بأنّ إرجاع سيرة المتشرعة إلى سيرة العقلاء بدعوى بنائهم على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل حتى لو فرض عدم قبحه لفرض العقاب من اللوازم القهرية لفعل الحرام أو فرض المولى في التكاليف العرفية ممن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا خلاف المفروض لأنّ الفرض هو استدلالهم بسيرة المسلمين والمتشرعة لا ببناء العقلاء.

هذا ولو سلم انّ مرادهم من السيرة هي سيرة العقلاء فقوله رحمه‌الله بأنّها مبنية على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل منظور فيه لأنّ السيرة العقلائية المذكورة مع عدم الردع عنها تكشف عن عدم وجوب الاحتياط ومن المعلوم أنّ مع عدم وجوب الاحتياط لا يحتمل الضرر الأخروي فالسيرة لا تبتني على إنكار الكبرى بل هي كاشفة عن عدم وجود الصغرى لها في المقام ولا بأس به.

فتحصل انّ دعوى قيام السيرة المتشرعة مع قطع النظر عن القاعدة العقلية أو الإباحة الشرعية ممكنة ولكن إثباتها فرع إحراز عدم استنادهم إلى القاعدة العقلية والشرعية ومع احتمال استنادهم إليهما لا يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام نعم إن قلنا في السيرة المذكورة بمثل ما قلناه في الإجماع من أنّ مع اتصال الإجماع إلى زمان المعصوم وعدم ردعه عن ذلك لا يضر استنادهم إلى الأدلة العقلية أو السمعية في الكشف عن موافقة المعصوم عليه‌السلام معهم إذ لو لم يوافق معهم لأرشدهم وحيث لم يرشدهم علم أنّ رأيه كان موافقا لهم أمكن الاكتشاف بالسيرة المتصلة إلى زمان المعصوم ولو مع العلم باستنادهم إلى القاعدتين فضلا عن احتماله لا يقال : إنّ الردع حاصل بمثل أخبار الاحتياط لأنا نقول : هذه الأخبار مضافا إلى أنه لا موضوع لبعضها مع أخبار البراءة معارضة مع أخبار البراءة فتحمل على الاستحباب أو تخصص بغير مورد الشبهة التحريمية وبالجملة أنّ أخبار الاحتياط لا تصلح للردع عن السيرة المذكورة فتدبر.

٥٢٣

الخلاصة

الاستدلال بالسيرة

ربما يستدل للبراءة بسيرة المسلمين على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود المنهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان وذلك لأنّ طريقة الشارع بيان المحرمات دون المباحات وليس ذلك إلّا لعدم احتياج الرخصة في جواز ارتكاب الفعل إلى البيان بل يكفي فيه عدم وجدان النهي عنه.

ولذا نرى انّ أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر إلى تناول شيء من المشتبهات سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم ولو كان تناولها محظورا لأسرعوا إلى تخطئة كما لا يخفى.

وقد أورد عليه بأنّ الغرض من عدم التخطئة إن كان بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع لكنه راجع إلى الاستدلال بالدليل العقلى ولا ينبغي الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع اذ بناء كافة العقلاء على قبح ذلك وإن لم يكونوا من أهل الشرائع.

وإن كان الغرض منه بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل فهو مبني على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ويمكن الجواب عنه بأنّ غرض المستدلّين ليس بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالحكم حتى يرجع إلى الدليل العقلي ولا يختصّ بأهل الشرائع وذلك لعدم تقييدهم عمل المتشرعة بما إذا اتفقوا إلى القاعدة العقلية.

ومجرّد توافق السيرة مع القاعدة لا يلازم التفاتهم إليها ولا يوجب اتّحاد الدليلين أيضا وعليه فالاستدلال بالسيرة مع قطع النظر عن القاعدة العقلية ولا وجه لإرجاعها إليه هذا مضافا إلى أنّ إرادة بناء العقلاء من عدم التخطئة لا تكون مبنية على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل لأنّ بناء العقلاء مع عدم الردع عنها يكشف عن عدم وجوب الاحتياط في مثل المقام ومع عدم وجوب الاحتياط في مثل المقام لا يحتمل الضرر الأخروي فإرادة بناء العقلاء من عدم التخطئة لا تبتني على إنكار الكبرى بل هي كاشفة عن عدم وجود الصغرى في المقام ولا بأس به كما لا يخفى.

٥٢٤

الاستدلال بالاستصحاب

قال في مصباح الاصول من الوجوه التى استدل بها على البراءة الاستصحاب وتقريبه على نحوين لأنّ الأحكام الشرعية لها مرتبتان.

المرتبة الأولى :

مرتبة الجعل والتشريع والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوم بفرض الموضوع لا بتحققه فعلا إذ التشريع غير متوقف على تحقق الموضوع خارجا بل يصح جعل الحكم على موضوع مفروض الوجود على نحو القضية الحقيقية فصح تشريع القصاص على القاتل وإن لم يقتل أحد أحدا إلى الأبد.

وتقريب الاستدلال باعتبار هذه المرتبة بأن يقال إنّ الأحكام الشرعية لما كانت في جعلها تدريجية فالحكم المشكوك فيه لم يكن مجعولا في زمان قطعا فتستصحب ذلك ما لم يحصل اليقين بجعله.

وقد أورد عليه أوّلا : بأنّ عدم الجعل المتيقن عدم محمولي والعدم المشكوك فيه هو العدم النعتي المنتسب إلى الشارع ولا يمكن إثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي إلّا على القول بالأصل المثبت.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب إنّما هو العدم المنتسب إلى الشارع بعد ورود الشرع لما عرفت من أنّ جهل الأحكام كان تدريجيا فقد مضى من الشريعة زمان لم يكن الحكم المشكوك فيه مجعولا يقينا فيستصحب ذلك (بأن نقول لم يكن هذا الحكم المشكوك مجعولا للشارع والآن كان كذلك) هذا مضافا إلى أنّ الانتساب يثبت بنفس الاستصحاب. (١)

وثانيا : بأن المحرك للعبد أعني الباعث أو الزاجر له إنّما هو التكليف الفعلي لا الإنشائي فالحكم الإنشائي مما لا يترتب عليه أثر ومن الواضح انّه لا يمكن إثبات عدم التكليف الفعلي باستصحاب عدم الجعل إلّا على القول بالأصل المثبت.

__________________

(١) كما يقال إن الأعدام أعدام بعدم علل وجودها ولكن إذا استصحبت إلى زمان الشرع استند بقاء الأعدام إلى الشارع بنفس الاستصحاب لأن الانتساب من آثار نفس الاستصحاب لا المستصحب.

٥٢٥

ويمكن الجواب عنه بالنقض والحل أما الأول فبالنقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي لا خلاف في جريانه فلو كان نفي الحكم الفعلي باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت كان إثبات الحكم الفعلي باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضا كذلك. (١)

وأما الثاني بأن الإنشاء هو إبراز أمر اعتباري والاعتبار كما يمكن تعلّقه بأمر فعلي يمكن تعلّقه بأمر متأخر مقيّد بقيود فليس جعل الحكم وإنشاؤه إلّا عبارة عن اعتبار شيء على ذمة المكلف في ظرف خاص ويتحقق المعتبر بمجرد الاعتبار بل هما أمر واحد حقيقة والفرق بينهما اعتباري كالوجود والايجاد فالحكم الفعلي هو الحكم الإنشائي مع فرض تحقق قيوده المأخوذة فيه.

وعليه فاستصحاب الحكم الإنشائي أو عدمه هو استصحاب الحكم الفعلي أو عدمه نعم مجرد ثبوت الحكم في عالم الاعتبار لا يترتب عليه وجوب الإطاعة بحكم العقل قبل تحقق موضوعه بقيوده في الخارج وليس ذلك إلّا من جهة أنّ الاعتبار قد تعلّق بظرف وجود الموضوع على نحو القضية الحقيقية من أول الأمر فمع عدم تحقق الموضوع لا يكون حكم وتكليف على المكلف وبعد تحقق الموضوع بقيوده خارجا لا يكون المحرك إلّا نفس الاعتبار السابق لا أمر آخر يسمى بالحكم الفعلي.

فتحصل بما ذكرناه إنّ الاستدلال بالاستصحاب على هذا التقريب مما لا بأس به وعليه فلا يبقى مورد للرجوع إلى البراءة الشرعية أو العقلية. (٢)

إن قلت : إنّ استصحاب عدم جعل الإلزام معارض باستصحاب عدم جعل الترخيص فإنا نعلم إجمالا بجعل أحد الأمرين فيسقطان بالمعارضة ويرجع حينئذ إلى البراءة.

قلت : لا مانع من جريان كلا الاستصحابين بعد ما لم يلزم من جريانهما مخالفة عملية للتكليف الإلزامي فإذا ثبت عدم جعل الإلزام وعدم الترخيص بمقتضى الاستصحابين كفى

__________________

(١) يمكن أن يقال بأن استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل ليس بلازم لإمكان استصحاب الحكم الفعلي من دون حاجة إلى استصحابين المذكورين.

(٢) وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

٥٢٦

ذلك في نفي العقاب لأن استحقاقه مترتب على ثبوت المنع ولا يحتاج نفيه إلى ثبوت الترخيص فإذا ثبت عدم المنع ينتفي العقاب ولو لم يثبت الترخيص إلى أن قال إن قلت : لا يصح التمسك باستصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعية لأن مورد الشبهة لم يجعل له الحكم بشخصه يقينا إلى أن قال قلت : إن الأحكام المجعولة بنحو القضايا الحقيقية تنحل إلى أحكام متعددة بحسب تعدد أفراد موضوعاتها كما هو مبنى جريان البراءة في الشبهات الموضوعية إذ بدونه لا يكون هناك حكم مجعول ليرفع بالبراءة الخ.

المرتبة الثانية :

هي المرتبة الفعلية والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوم بتحقق الموضوع خارجا لأن فعلية الحكم إنّما هي بفعلية موضوعه ومع انتفاء الموضوع خارجا لا يكون الحكم فعليا.

وتقريب الاستدلال في هذه المرتبة بالاستصحاب باعتبار المرتبة الثانية للحكم وهي المرتبة الفعلية فيقال يستصحب عدم التكليف الفعلي المتيقن قبل البلوغ.

وقد أورد عليه أوّلا : بأنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه أو بأثره مجعولا شرعيّا وعدم التكليف أزلى غير قابل للجعل وليس له أثر شرعي فإن عدم العقاب من لوازمه العقلية فلا يجري فيه الاستصحاب.

ويمكن الجواب عنه بأن المعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب قابلا للتعبد الشرعي ولا خفاء في أن عدم التكليف كوجوده قابل للتعبد وتوهم أنه لا بد من أن يكون المستصحب قابلا للتعبد حدوثا والعدم الأزلي لا يكون حادثا مدفوع بأن المعتبر كونه قابلا للتعبد عند جريان الاستصحاب وفي ظرف الشك فيكفي كون المستصحب قابلا للتعبد بقاء وإن لم يكن قابلا له حدوثا.

وثانيا : بأن المتيقن الثابت قبل البلوغ إنما هو عدم التكليف في مورد غير قابل له كما في الحيوانات ومثل ذلك لا يحتمل بقاؤه بعد البلوغ وإنما المحتمل فيه عدم التكليف في المورد القابل له فلا معنى للتمسك بالاستصحاب.

٥٢٧

وبعبارة أخرى العدم الثابت قبل البلوغ عدم محمولي وغير منتسب إلى الشارع والعدم بعد البلوغ عدم نعتي منتسب إلى الشارع وإثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي مبني على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

ويمكن أن يقال إنّ عدم التكليف في الصبي غير المميز وإن كان كما ذكره إلّا أنه ليس كذلك في المميز بل هو عدم التكليف في مورد قابل له وإنما رفعه الشارع عنه امتنانا.

هذا مضافا إلى أنّ العدم المتيقن وإن كان أزليا غير منتسب إلى الشارع (١) إلّا أنه يثبت انتسابه إليه بنفس الاستصحاب فإن الانتساب من الآثار المترتبة على نفس الاستصحاب لا من آثار المستصحب ليكون إثباته بالاستصحاب مبنيا على القول بالأصل المثبت وسنذكر في بحث الاستصحاب إنّ اللوازم التي لا تثبت بالاستصحاب إنما هي اللوازم العقلية أو العادية للمستصحب وأمّا اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب فهي تترتب عليه إذ الاستصحاب بعد جريانه محرز بالوجدان فتترتب آثاره ولوازمه عليه عقلية كانت أو شرعية.

وثالثا : بأنه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ليصدق نقض اليقين بالشك عند عدم ترتيب الأثر حين الشك فإنه مع عدمه كان إثبات حكم المتيقن للمشكوك من اسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر وذلك داخل في القياس لا في الاستصحاب.

وفي المقام لا اتحاد للقضية المتيقنة والمشكوكة من حيث الموضوع إذ الترخيص المتيقن ثابت لعنوان الصبي على ما هو ظاهر قوله عليه‌السلام رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وهو مرتفع بارتفاع موضوعه والمشكوك فيه هو الترخيص لموضوع آخر وهو البالغ فلا مجال لجريان الاستصحاب.

__________________

(١) ولا يخفى أنّ عدم التكليف قبل البلوغ ليس عدما أزليا بل هو العدم المنتسب إلى الشارع ، فيستصحب وعليه فلا مجال للإشكال المذكور.

٥٢٨

قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : والإنصاف إنّ هذا الإشكال وارد على الاستدلال بالاستصحاب في المقام إلى أن قال لأنّ عنوان الصبي المأخوذ في الحكم بالترخيص في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم مقوّم للموضوع في نظر العرف ولا أقل من احتمال ذلك ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب بعد زواله بعروض البلوغ. (١)

ولا يخفى عليك أنّ عنوان الصبي مقوّم للموضوع الدليلي وأمّا الموضوع الخارجي فهو باق عرفا فإنّ زيد بن عمرو مثلا إذا لم يكن قبل بلوغه محكوما بحكم وشككنا بعد بلوغه بأنه صار محكوما بالحكم المذكور أم لا أمكن جريان الاستصحاب لبقاء الموضوع الخارجي عرفا قال الشهيد الصدر لا شك في صحة إضافة الصبي بعد البلوغ الإباحة إلى نفسه وصدق أنّه بقاء للإباحة السابقة عرفا وهذا دليل على انحفاظ الموضوع ووحدته وهو يكفي في جريان الاستصحاب انتهى. (٢) فتحصل أنّه يجوز استصحاب عدم التكليف الفعلي ومعه لا مجال لأدلة الاحتياط لحكومة الاستصحاب بالنسبة إليها.

نعم يشكل بعد تمامية الاستصحاب بأنه لا يبقى مع جريان الاستصحاب موضوع لدليل البراءة وهو الشك لحكومة الاستصحاب على موضوع البراءة كما لا يخفى.

وحيث إنه يجري الاستصحاب في تمام موارد الشبهات الحكمية فيلزم من جريانه لغوية أدلة البراءة مع أنّ هنا روايات تدل على البراءة كما عرفت.

ويمكن الجواب عنه أوّلا : بأن الاستصحاب لا يجري في جميع الموارد إذ مع توارد الحالتين لا مجال لجريان الاستصحاب وهكذا لا يجري الاستصحاب في موارد تغير الموضوع بحيث لا تبقى وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وأيضا من لم يصل إليه الاستصحاب يبقي البراءة مفيدة في حقه. (٣)

وثانيا : بأن المستفاد من أدلة الاستصحاب أنه تعبد وحكومة بإبقاء اليقين بالنسبة إلى

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٩٧.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ٧٠.

(٣) راجع مباحث الحجج ٢ : ٧٣.

٥٢٩

القواعد المخالفة لئلا يترتب آثار المخالف ولا نظر لها إلى التعبد بإبقاء اليقين في قبال قواعد أخرى تدل على الآثار الموافقة معه كالمقام ولذا نقول بجريان القواعد المتوافقة مع جريان الاستصحاب لبقاء موضوعها فيجري قاعدة الطهارة مع استصحاب الطهارة وقاعدة الحلية مع استصحاب الحلية وهكذا وعليه فحكومة أدلة الاستصحاب تكون بإضافة القواعد والاصول المخالفة وهو فرع التعارض والتنافي بين مدلولي الدليلين فلا يشمل القواعد الموافقة ولا أقل من الشك في تعميم الحكومة ومعه لا مجال لرفع اليد عن أدلة البراءة ومما ذكرناه يظهر أن جريان البراءة مع الاستصحاب لا يتوقف على دعوى أنّ تقدم أدلة الاستصحاب من باب الأظهرية والجمع العرفي لا الحكومة فإنّ من الواضح أنّ هذا إنّما يكون في فرض التنافي بين مفاد الدليلين والتعارض لا ما إذا كان مفادهما معا التامين كما هو في المقام. (١)

وذلك لما عرفت من إمكان الجواب عن الشبهة المذكورة على تقدير الحكومة أيضا لأن الحكومة إضافية وليست بمطلقة فلا تغفل.

فالأقوى هو جريان البراءة مع جريان استصحاب عدم الجعل أو استصحاب عدم التكليف الفعلي لتوافقهما واختصاص الحكومة بالقواعد المخالفة كأصالة الاحتياط فلا تغفل.

__________________

(١) مباحث الحجج ٢ : ٧٣ ـ ٧٢.

٥٣٠

الخلاصة

الاستدلال بالاستصحاب

ومن الوجوه التى استدل بها على البراءة هو الاستصحاب وتقريب الاستدلال به على نحوين لأنّ الأحكام الشرعية لها مرتبتان.

المرتبة الأولى :

مرتبة الجعل والتشريع والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوّم بفرض الموضوع لا بتحقّقه فعلا إذا التشريع غير متوقّف على تحقّق الموضوع خارجا بل يصحّ جعل الحكم على موضوع مفروض الوجود على نحو القضيّة الحقيقيّة فصحّ تشريع القصاص على القاتل مثلا وإن لم يقتل أحد أحدا إلى الأبد وفي هذه المرتبة يمكن استصحاب عدم الجعل والتشريع ما لم يحصل اليقين بالجعل لأنّ الحكم المشكوك فيه مسبوق بعدم الجعل في زمان قطعا فيقال إنّ هذا الحكم المشكوك لم يكن مجهولا للشارع والآن كان كذلك.

ودعوى أنّ المحرّك للعبد أعني الباعث أو الزاجر له إنّما هو التكليف الفعلي لا الإنشائي فالحكم الإنشائي ممّا لا يترتب عليه أثر وإثبات عدم التكليف الفعلي باستصحاب عدم الجعل لا يمكن لأنّه مثبت.

مندفعة بأنّ الحكم الفعلي هو الحكم الإنشائي مع فرض تحقّق قيوده المأخوذة فيه ومع وحدتهما فلا مجال لدعوى كون استصحاب عدم الجعل مثبتا.

فتحصّل أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب ومع جريانه لا يبقى مورد للرجوع إلى البراءة الشرعيّة أو العقليّة.

لا يقال : إنّ استصحاب عدم جعل الإلزام معارض باستصحاب عدم جعل الترخيص.

وحيث نعلم إجمالا بجعل أحد الأمرين يسقطان بالمعارضة ويرجع حينئذ إلى البراءة. لأنّا نقول لا مانع من جريان كلا الاستصحابين ما لم يلزم من جريانهما مخالفة عملية للتكليف الإلزامي فإذا ثبت بالاستصحابين عدم جعل الإلزام وعدم جعل الترخيص كفى ذلك في نفي

٥٣١

العقوبة لأن استحقاقها مترتب على ثبوت المنع ولا يحتاج إلى ثبوت الترخيص فإذا ثبت عدم المنع ينتفي العقوبة ولو لم يثبت الترخيص.

وبالجملة يجرى استصحاب عدم الجعل لعدم المانع منه ولا فرق فيه بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية لأنّ الأحكام المجعولة تكون بنحو القضايا الحقيقية فتنحلّ إلى أحكام متعددة بحسب تعدد أفراد موضوعاتها كما لا يخفى.

المرتبة الثانية هي المرتبة الفعليّة والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوّم بتحقّق الموضوع خارجا لأنّ فعلية الحكم إنّما هي بفعلية موضوعه وعليه فيمكن استصحاب عدم التكليف الفعلي المتيقن قبل البلوغ في ما إذا شك في حكم شيء بهذه المرتبة.

لا يقال : إنّ المعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه أو بأثره مجعولا شرعيا وعدم التكليف الأزلي غير قابل للجعل وليس له أثر شرعي فإنّ عدم العقاب من لوازمه العقلية فلا يجري فيه الاستصحاب لأنا نقول : بأنّ المعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب قابلا للتعبّد الشرعي ولا خفاء في أنّ عدم التكليف كوجوده قابل للتعبد عند جريان الاستصحاب وفي ظرف الشكّ.

ودعوى أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ليصدق نقض اليقين بالشك عند عدم ترتيب الأثر حين الشكّ وفي المقام لا اتحاد من حيث الموضوع إذ الترخيص المتيقّن ثابت لعنوان الصبي على ما هو ظاهر قوله عليه‌السلام رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وهو مرتفع بارتفاع موضوعه والمشكوك فيه هو الترخيص لموضوع آخر وهو البالغ فلا مجال لجريان الاستصحاب لأنه إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

مندفعة بأنّ عنوان الصبي مقوّم للموضوع الدليلى وأمّا الموضوع الخارجى فهو باق عرفا فإنّ زيد بن عمرو مثلا إذا لم يكن قبل بلوغه محكوما بحكم وشككنا بعد بلوغه بأنّه صار محكوما بالحكم المذكور أم لا أمكن جريان الاستصحاب لبقاء الموضوع الخارجى عرفا.

٥٣٢

فتحصل أنّ جريان استصحاب عدم التكليف الفعلي لا إشكال فيه ومعه لا مجال لأدلة الاحتياط لحكومة الاستصحاب بالنسبة إليها كما لا يخفى.

نعم يشكل بعد تمامية الاستصحاب بأنّه لا يبقى مع جريان الاستصحاب موضوع لدليل البراءة أيضا وهو الشكّ لحكومة الاستصحاب على موضوع البراءة كما أنّه حاكم بالنسبة إلى موضوع أدلّة الاحتياط فيلزم منه لغوية أدلّة البراءة مع أنّ هنا روايات تدل على البراءة.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الاستصحاب لا يجري في جملة من الموارد كتوارد الحالتين وموارد تغيير الموضوع بحيث لا يبقى وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة وغير ذلك فلا يلزم اللغوية بالنسبة إلى أدلّة البراءة هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من أدلّة اعتبار الاستصحاب أنّه معتبر شرعا في قبال القواعد المخالفة لئلّا يترتب آثار المخالف وعليه فلا نفي لها بالنسبة إلى القواعد الموافقة معه وعليه فيجري الاستصحاب مع القواعد الموافقة كالبراءة فلا تغفل.

٥٣٣

الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان

ربما يستدل على البراءة بالعقل والمراد منه هو حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يكون حجة عليه وهذا هي البراءة العقلية استدل بها الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية ومن تبعهما قدّس الله أرواحهم واستشهد له الشيخ الأعظم قدس‌سره بحكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه. (١)

واستشهد له صاحب الكفاية قدس‌سره بالوجدان حيث قال إنّ العقوبة والمؤاخذة بدون إقامة الحجة عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان وهما قبيحان بشهادة الوجدان. (٢)

وقد قرّب المحقق الأصفهاني قدس‌سره هذه القاعدة بأنّها حكم عقلي عملي بملاك التحسين والتقبيح العقليين ومأخوذ من الأحكام العقلائية التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع وهي المسماة بالقضايا المشهورة ومن الواضح ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكما عقليا عمليا منفردا عن سائر الأحكام العقلية العملية بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء نظرا إلى أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن زيّ الرقيّة ورسم العبودية وهو ظلم من العبد إلى مولاه فيستحق منه الذم والعقاب كما أنّ مخالفته ما لم تقم عليه الحجة ليست من أفراد الظلم إذ ليس من زيّ الرقيّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر فليس مخالفته ما لم تقم عليه الحجة خروجا عن زيّ الرقيّة حتى يكون ظلما وحينئذ فالعقوبة عليه ظلم من المولى إلى عبده إذ الذم على ما لا يذم عليه والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض وإيذاء بحت بلا موجب عقلائي فهو ظلم والظلم بنوعه يؤدي إلى فساد النوع واختلال النظام وهو قبيح من كل أحد بالإضافة إلى كل أحد ولو من المولى إلى عبده.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٠٣.

(٢) الكفاية ٢ : ١٧٩.

٥٣٤

ثم قال ولكن لا يخفى انّ المهم هو دفع استحقاق العقاب على فعل محتمل الحرمة مثلا ما لم تقم عليه حجة منجزة لها وحيث إنّ موضوع الاستحقاق بالاخرة هو الظلم على المولى فمع عدمه لا استحقاق قطعا وضمّ قبح العقاب من المولى أجنبي عن المقدار المهم هنا وإن كان صحيحا في نفسه. (١)

ولقد أفاد وأجاد ولكن لقائل أن يقول إن حكم العقل بقبح الظلم لا يتوقف على وجود الاجتماع والنظام وملاحظة تأثير الظلم في فساد النوع واختلال النظام بل هو حكم عقلي مستقل ثابت ولو من دون نظام واجتماع فجعل هذا الحكم ماخوذا من القضايا المشهورة إن أراد به أنّ العقل لا يحكم به مع قطع النظر عن دخله في النظام فهو ممنوع جدا إذ نجد من أنفسنا إدراك القبح المذكور ولو لم يكن اجتماع وهذا هو معنى كونه وجدانيا كما صرح به صاحب الكفاية وإن أراد به أنّ العقلاء يحكمون بذلك أيضا فلا إشكال فيه بل هو كذلك ولكن الظاهر من كلامه هو الأول وهو كما ترى وكيف ما كان. فتحصل إنّ قبح العقاب بلا بيان يكون من مصاديق البديهيات الأولية وهو حكم العقل بقبح الظلم ويكون منشأ لبناء العقلاء على دفع استحقاق العقاب على فعل محتمل الوجوب أو الحرمة ما لم تقم عليه حجة منجزة مع اعتراف المولى بعدم الإعلام.

ثم إنّه قد يشكل قاعدة قبح العقاب بلا بيان بأمور منها أنها مصادرة قال الشهيد الصدر قدس‌سره : إنّ دعوى ان مخالفة تكليف تمّت عليه الحجة خروج عن زيّ العبودية فيكون ظلما قبيحا وأمّا مخالفة ما لم تتم عليه الحجة فليس ظلما ولا يستحق فاعله العقاب واللوم مصادرة إذ ما ذا يراد بالحجة إذ لو اريد بها ما يصحح العقاب كانت القضية بشرط المحمول وإن أريد بها العلم فهو أول الكلام فيكون الدليل عين المدعى نفسه وبمنهجة غير فنيّة لأنه التزم فيها بأن مرجع قضايا الحسن والقبح إلى قاعدة أولية بديهية هى حسن العدل وقبح الظلم.

وقد تقدم في بحث الدليل العقلي أنّ قضية قبح الظلم وحسن العدل لا يمكن أن تكون

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١.

٥٣٥

أولية لأن الظلم عبارة عن سلب ذي حق حقه فلا بد من تشخيص الحق الذي هو من مدركات العقل العملي نفسه في المرتبة السابقة عليه. (١)

حاصل الإشكال إنّ ما ذهب إليه المشهور من أنّ مخالفة التكليف الذي تمت عليه الحجة ظلم دون مخالفة تكليف لم تتم عليه الحجة فإنها ليست بظلم منظور فيه لأن مرادهم من الحجة إن كان ما يصحح العقوبة صارت القضية هي القضية بشرط المحمول وإن كان مرادهم منها هو العلم أو العلمي (والمقصود إنّ كل تكليف يدل عليه العلم أو العلمي يكون مخالفته ظلما بخلاف كل تكليف لم يكن كذلك) فالقضية أول الكلام والدليل عين المدعى وهي مصادرة وإن ادعى أنّ القضية من البديهيات الأولية فهي ممنوعة بعد كون الظلم والعدل من مدركات العقل العملي وهما مقدمان على تعلّق الحكم تقدم الموضوع على الحكم.

ويمكن الجواب عنه بأن الدعوى هي أنّ قضية حسن العدل وقبح الظلم من الوجدانيات البديهية ولا تحتاج إلى الاستدلال حتى يقال إنّ القضية المستدل بها هي القضية بشرط المحمول أو يكون الدليل عين المدعى ولا منافاة بين كون القضية بديهية وبين تقدم تشخيص الحق والظلم والعدل على تعلّق التقبيح والتحسين بهما لأن تشخيص الحق والظلم والعدل أيضا من البديهيات وترتب الحكم البديهي على الموضوع البديهي لا ينافي بديهية القضية كما لا يخفى.

ثم المراد من الحجة في القضية المذكورة هو ما يمكن الاحتجاج به وهو البيان لا عنوان ما يصحح العقوبة حتى يوجب أن تكون القضية بشرط المحمول.

وحاصل القضية ان مخالفة التكليف الذي كان معلوما بالعلم أو العلمي ظلم وخروج عن زيّ العبودية لقيام الحجة عليه بخلاف ما إذا لم يكن كذلك لعدم قيام الحجة عليه فليست بظلم بل العقوبة عليها عقوبة بلا حجة وظلم والاحتمال عند العقلاء حيث ليس بحجة فهو بحكم عدم البيان ولا ينبغي أن يكتفي المولى بما لا يراه العقلاء حجة والقاضي في

__________________

(١) مباحث الحجج ٢ : ٢٧.

٥٣٦

ذلك هو الوجدان فلا مجال بعد وجدانية القضية وبديهيتها لدعوى أنها مصادرة والدليل عين المدعى فتدبر.

ومنها : أنها مناف مع حق الطاعة لما ذكره الشهيد الصدر قدس‌سره أيضا من أنّ المحققين من علماء الاصول قد فصّلوا بين أمرين أحدهما : مولوية المولى وحق طاعته واعتبروا المولوية وحق الطاعة كليا متواطئا لا تقبل الزيادة والنقصان وليست ذات مراتب وهي عبارة عن حق طاعة كل تكليف يصدر عن المولى واقعا إذا تمت عليه الحجة والبيان.

والثاني : ميزان الحجية والمنجزية فقالوا بأن البحث في أصل المولوية موضعه علم الكلام وأمّا البحث عن ميزان الحجية فهو وظيفة البحث الأصولي.

وفي هذا المجال بينوا قاعدتين أحدهما : حجية القطع وإن كل حجة لا بد وأن ترجع إلى القطع والحجية ذاتية للقطع.

والثانية : انتفاء الحجية بانتفاء القطع لأنه من مستلزمات كون الحجية ذاتية للقطع وهذا هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان وترتب على ذلك أنّ الظن بنفسه لا يمكن أن يكون حجة فلا بد لكي يكون حجة من جعل جاعل وعندئذ نواجه حيرة في أن جعل الجاعل كيف يجعل الظن حجة ومنجزا وهل ذلك إلّا تخصيص في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع أن أحكام العقل غير قابلة للتخصيص ومن هنا برزت اتجاهات جعل الطريقية والعلمية للحكومة على حكم العقل وقال بعضهم بأنّ العقاب على مخالفة الحكم الظاهري المقطوع به لا الواقعي إمّا مطلقا أو في خصوص ما لم يجعل له العلمية كقاعدة الاحتياط الشرعية.

وقد أوضحنا مفصلا في بحوث القطع انّ هناك خطأ اساسيا في هذا الطرز من التفكير حيث فصل بين الحجية والمولوية مع أنه لا فصل بينهما بل البحث عن الحجية بحث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة لأن المولوية عبارة عن حق الطاعة وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية ولكن حق الطاعة له مراتب وكلما كان الملاك أكد كان حق الطاعة أوسع.

٥٣٧

فقد يفرض بعض المراتب من منعمية المنعم لا يترتب عليه حق الطاعة إلّا في بعض التكاليف المهمة لا في كلها وقد تكون المنعمية أوسع بنحو يترتب حق الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك بأن كانت منعميته بدرجة يترتب عليه حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف.

فهذا بحسب الحقيقة سعة في دائرة المولوية إذن فالحجية ليست شيئا منفصلا عن المولوية وحق الطاعة ومرجع البحث في قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى البحث عن أنّ مولوية المولى هل تشمل التكاليف المحتملة أم لا.

ولا شك أنه في التكاليف العقلائية عادة تكون المولوية ضيقة ومحدودة بموارد العلم بالتكليف وأمّا في المولى الحقيقي فسعة المولوية وضيقها يرجع فيها إلى حكم العقل تجاه الخالق سبحانه ومظنوني إنّه بعد الالتفات إلى ما بيناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حتى التكاليف الموهومة ومن هنا نحن لا نرى جريان البراءة العقلية. (١)

وفيه أولا : أن الموالي العرفية أيضا مختلفون في سعة المولوية وضيقها وبعضهم أوسع حقا من الآخرين ومع ذلك لا يحكم العقلاء بالنسبة إلى ذلك البعض بوجوب مراعاة التكاليف الموهومة بعد الفحص عنها وعدم وجدان حجة عليها بل يجعلون احتمال التكليف كالعدم والعقاب عليه عقابا بلا بيان فكما أنّ العقلاء لا يحكمون بذلك بالنسبة إلى بعض الموالي فكذلك لا يحكمون بذلك بالنسبة إلى طاعة المولى الحقيقي من دون تفاوت. وثانيا :

إنّ إيجاب الاحتياط في جميع الأمور بمجرد الاحتمال ولو كان الاحتمال وهميا لا يناسبه حكمة الرب المتعال بل هو خلافها لأن الإيجاب المذكور يكون حرجيا وصعبا لا يتحمله الناس عادة بل يلزم منه الاختلال فلا معنى لتقبيح تركه عقلا وأتمية مراتب المولوية وأكبرية حق المولى الحقيقي توجب أهمية الامتثال بالنسبة إلى خطاباته المعلومة لا مراعاة الخطابات

__________________

(١) مباحث الحجج ٢ : ٢٣ ـ ٢٤.

٥٣٨

المحتملة أو الموهومة مع كونها خلاف الحكمة وحرجيا ومخلا بالامور وبالجملة وجوب الاحتياط ولو في المحتملات مزاحم بالعسر والحرج والاختلال وهو لا يناسب الشريعة السمحة السهلة ولو فرضنا بناء العقلاء عليه في خطابات الموالي والعبيد فلا يعمّ الخطابات الشرعية لأنّ بناء الشارع على السهولة والسمحة.

وثالثا : أنّ ما يحتج به لزم أن يكون أمرا يعرفه العقلاء لذلك والاحتمال عندهم لا يصلح لذلك إذ طريقة العقلاء في طاعة المولى مطلقا على لزوم الإتيان والترك فيما إذا قام العلم أو العلمي عليهما وأما إذا فحصوا ولم يعثروا على ذلك فهم يرخصون المكلف في عدم الإتيان أو الفعل ولو مع احتمال الوجوب في الأول والحرمة في الثاني ويرون المؤاخذة عليه مؤاخذة بلا حجة ويقبحونه لأنّ احتمال التكليف عندهم كعدمه نعم لو أمر المولى في بعض الموارد بمراعاة الاحتياط في المحتمل كان ذلك مما تقوم الحجة عليه ويلتزمون بمراعاة ذلك.

وهذه الطريقة ارتكازي لعرف العقلاء ولا يعدلون عنه في الإطاعة والمعصية وهذا هو المعبر عنه بقبح العقاب بلا بيان ولا مجال لاكتفاء الشارع بالاحتمال مع أنّ العقلاء لا يرونه حجة لأن عذرهم باق على حاله ويشهد لذلك أنّ الشارع المقدس لم يعين طريقة أخرى في أوامره ونواهيه بل قرّر ما يراه عرف العقلاء حجة حيث قال عزوجل : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (١)

وقال عليه‌السلام إنّ الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم (٢)

فاللازم في الاحتجاج هو بعث الرسل وإيصال الخطابات وإتيانها وتعريف المقاصد والمرادات ولا يكفي الاحتمال.

ورابعا : أنّه لو سلمنا أن المولوية الذاتية المطلقة تكون مقتضية للإطاعة المطلقة ولكن ليس هذا الطلب في جميع المراتب وجوبيا كما لا يخفى. ثم دعوى أنّ قاعدة قبح الظلم قد أخذ

__________________

(١) الاسراء / ١٥.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ باب حجج الله على خلقه ح ٤.

٥٣٩

في موضوعها عنوان الظلم وهو عبارة عن سلب ذي الحق حقه ففى المرتبة السابقة لا بد من افتراض حق الآمر على المأمور لكي نفترض مخالفته سلبا لحقه وإلّا لم يكن ظلما فإن أريد إثبات ذلك بنفس تطبيق قاعدة قبح الظلم كان دورا وإن أريد بعد الفراغ عن ثبوت حق الطاعة والمولوية على العبد تطبيق هذه القاعدة فهو مستدرك وحشو من الكلام إذ بعد الفراغ عن حق الطاعة للمولى على العبد وبعد افتراض وجدانية القطع لدى القطع فلا نحتاج إلى شيء آخر. (١)

مندفعة بأن حق الآمر على المأمور والمولى على المولى عليه مفروض في الرتبة السابقة بعد وضوح منعميته ومولويته وربوبيته.

وصدق الظلم على سلبه لا يأتي من ناحية المحمول وهو التقبيح حتى يكون دوريا بل هو من ناحية كون الحق مما تقتضيه المنعمية والمولوية والربوبية ومن المعلوم أنّ سلب الحق المذكور مع وجود مقتضيه من المنعمية ونحوها يكفي في صدق الظلم فإذا ثبت الموضوع وهو الظلم يترتب عليه القبح وبعد حكم العقل بالقبح لزم التزام العبد بمراعاة هذا الحق وعليه فالاحتياج إلى المحمول بعد ثبوت الظلم واضح لأن الموضوع وهو الظلم لا يكون عين التقبيح بل يقتضي التقبيح وعليه تقبيح الظلم ليس بمستدرك كما لا يخفى.

وأمّا دعوى أن الاحتمال بنفسه بيان ومع احتمال التكليف لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لأن العبد كما يحتاط في موارد احتمال الإرادة الفاعلية لنفسه ما لم يزاحم بجهة أخرى من حرج ونحوه يجب عليه بالأولوية أن يحتاط في موارد احتمال الإرادات الآمرية لمولاه وإلّا كان ذلك نقصا في مقام عبوديته حيث لم يجعل نفسه بمنزلة جوارح المولى.

فهي مندفعة بما أفاد شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره من أنّ المطلوب في حق الفاعل ليس إلّا نيل أغراضه فلهذا يحتاط في مورد الاحتمال وأمّا العبد فليس المهم في حقه إلّا إقامة الحجة في جواب المولى ولا شبهة في أن عدم العلم حجة مقبولة من العبد. (٢)

__________________

(١) مباحث الحجج ١ : ٢٨.

(٢) حاشية الدرر : ٤٢٧.

٥٤٠