عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

فتحصّل أنّ المرفوع فيما لا يعلمون لا يختص بالشبهات الموضوعية بل يعم الشبهات الحكمية ولا يضرّه اختصاص سائر الفقرات بالشبهات الموضوعية كما أنّ ما لا يعلمون يعمّ الواجبات والمحرمات المجهولة والتكليفيات والوضعيات ولا وجه لتخصيصه لبعضها كما لا يخفى.

ربما يقال إنّ الحكم هو فعل صادر عن المولى وليس بفعل العباد فلا معنى لكون فعل الله تعالى ثقيلا على العباد فالثقيل هو فعل العباد لا مجرد إنشاء الوجوب الصادر من مولى الموالي وعليه فلا بد من أن يراد من الموصول في جميع الفقرات هو الفعل لا الحكم ويمكن الجواب عنه بأنّ الثقل وإن كان في الفعل ولكن يسند عرفا إلى الحكم من باب إسناد ما للمسبب إلى السبب والشاهد عليه هو تسمية الحكم بالتكليف مع أنّ ما يوجب الكلفة حقيقة هو الفعل وليس ذلك إلّا من باب سببية الحكم للكلفة فيصح أن يكون المرفوع في جميع الفقرات هو الحكم سواء كانت الشبهة موضوعية أو الحكمية.

قال في مصباح الاصول إنّ الثقل وإن كان في متعلق التكليف لا في نفسه إلّا أنّه صحّ إسناد الرفع إلى السبب بلا عناية وصحّ إسناده إلى الأثر المترتب عليه فصحّ ان يقال رفع الإلزام أو رفع المؤاخذة فلا مانع من إسناد الرفع إلى الحكم باعتبار كونه سببا لوقوع المكلف في كلفة وثقل. (١)

تنبيهات حديث الرفع

التنبيه الأول :

أنّ الرفع في حديث الرفع حيث إنّه رفع عن الامة يكون ظاهرا في رفع الثقل عنهم ورفع الثقل مما يصلح للامتنان والسبب في هذا الرفع هو العناوين العارضة المذكورة في الحديث من الجهل والخطأ والنسيان والإكراه والاضطرار وعدم الطاقة والمرفوع هو الأحكام الثابتة في موارد عروض هذه العناوين.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٦٢.

٤٢١

وأمّا أحكام نفس هذه العناوين كوجوب سجدتي السهو ودية الخطأ وغير ذلك مما يترتب على نفس هذه الأمور فليست مرتفعة أصلا كما لا يخفى وعليه فالمراد من رفع الخطأ والنسيان مثلا هو رفع أحكام ما أخطئوا أو نسوا فيه لا رفع حكم الخطأ والنسيان ثم إنّ رفع الحكم بواسطة عروض هذه الأمور حيث كان امتنانيا يختص برفع كل حكم ثقيل على الأمة ولا يشمل ما لا يكون كذلك ويتفرع عليه الفرق بين فعل حرام اضطر إليه ومعاملة اضطر إليها ولذا حكموا بجريان حديث الرفع في الأول دون الثاني والوجه في ذلك أنّ رفع الحرمة في الأول امتناني دون رفع الصحة في الثاني فإنّ صحته ليست بثقيلة بل الأمر بالعكس هذا بخلاف بيع المكره فإنّ صحته ثقيلة عليه ورفع نفوذه وصحته امتناني وهكذا مقتضى كون الامتنان على الامّة أنّه لو اضطر إلى إتلاف مال الغير لا يرتفع به ضمان الإتلاف لأنّ الرفع خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك كما لا يخفى. لا يقال : إنّ الامتنان نكتة الحكم لا علته وعليه فلم لم يؤخذ بإطلاق حديث الرفع في غير موارد الامتنان.

لأنّا نقول إنّ ظهور الحديث في الامتنان ظهور لفظي يقتضيه ظهور الرفع عن الامة الدال على رفع الثقل عنهم وعليه فليس الامتنان مستفادا من غير الظهور اللفظي حتى يقال إنّ الامتنان حكمة الحكم لا علته بل لا يشمل حديث الرفع غير موارد الامتنان أخذا بظهور الكلام فيه فلا تغفل ومما ذكر يظهر أنّ رفع التسعة عن الامة لا يقاس برفع الضرر والضرار فإنّ الرّفع في حديث لا ضرر ولا ضرار رفع مطلق والامتنان فيه نكتة الحكم فيجيء فيه حديث شموله وعمومه بالنسبة إلى الموارد التي لا امتنان فيه وعدمه.

هذا بخلاف رفع التسعة عن الامة لما عرفت من ظهور الرفع عن الامة في رفع الثقل عنهم وهو امتنان.

ولذلك لا يشمل حديث الرفع الموارد الّتي لا امتنان في رفعها ولعلّ من هذه الموارد الشرائط الراجعة إلى أصل التكليف لأنّ رفعها يوجب وضع التكليف وهو خلاف الإرفاق.

٤٢٢

قال المحقق العراقي قدس‌سره : ومما ذكرنا من ورود الحديث في مقام الامتنان على الامة يظهر اختصاص المرفوع أيضا بالآثار التي لا يلزم من رفعها خلاف الإرفاق على المكلف فما لا يكون كذلك لا يشمله حديث الرفع كما في الشرائط الراجعة إلى أصل التكليف كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ونحوها حيث لا يجري فيها حديث الرفع لاقتضاء رفع الشرطية فيها بوضع التكليف على المكلف وهو خلاف الإرفاق في حقه بخلاف شرائط الواجب فإنّه يجري فيها حديث الرفع كما سنشير إليها. (١)

التنبيه الثاني :

أنّ الرفع في الحديث ظاهر في معناه وهو إزالة الشيء عن صفحة الوجود بعد تحصله وتفسيره بالدفع خلاف الظاهر ولا موجب لذلك فيما إذا أمكن إرادة معناه والرفع إذا أسند إلى الحكم مع قاعدة الاشتراك وعموم القانون مستعمل في معناه ويكون بمعنى إزالة لزومه في مرحلة الظاهر وقد عرفت أنّ رفع الأحكام المجهولة رفع إلزامها وهكذا في سائر الفقرات فإنّ رفع حكم مورد ما استكرهوا أو رفع حكم مورد الخطأ والنسيان مثلا هو رفع لزوم أحكام مواردها لا يقال : إنّ الخطاب لا يشمل الناسي والعاجز ونحوهما فليكن الرفع بالنسبة إليهم بمعنى الدفع لا الرفع.

لأنّا نقول نمنع ذلك بل هو بمعنى الرفع لشمول الخطابات إيّاهم بحسب الإرادة الاستعمالية لهذه الأحوال فالرفع في الموارد المذكورة يدل على رفع الأحكام الشاملة لهم بحسب الإرادة الاستعمالية نعم الرفع دفع بالنسبة إلى الإرادة الجدية كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ الحسد والطيرة والوسوسة لا حكم لها حتى يكون الرفع بالنسبة إليها مستعملا في معناه بل اللازم أن يكون بمعنى الدفع في هذه الفقرات لأنا نقول : كما أفاد سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره انّ الفقرات الثلاث أيضا فعل من الأفعال القلبية ولأجل ذلك تقع موردا للتكليف فإنّ تمنّي زوال النعمة عن الغير فعل قلبي محرّم وقس عليه الوسوسة والطيرة

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢١٢.

٤٢٣

فإنّهما من الأفعال الجوانحية والمصحح لاستعمال الرفع فيها كونها محكومة بالأحكام في الشرائع السابقة وهذه الأحكام ظاهرة في الدوام والبقاء بحسب الإرادة الاستعمالية فإطلاق الرفع باعتبار عمومات توهم بقاء حكمها في عامة الأزمنة فتدبر جيدا. (١)

ومما ذكر يظهر ما في الدّرر حيث ذهب إلى أنّ الرفع في الحديث ليس بمعناه الحقيقي معلّلا بأنّه غير واقع في بعض العناوين المذكورة قطعا بل معناه هو الدفع أو الأعم منه ومن الرفع. (٢)

ولكنّك عرفت إمكان أن يكون الرفع بمعناه الحقيقي في المقام لأنّه مسبوق بوجود حكم بنحو من الأنحاء ولو في مرحلة الإطلاق أو العموم الاستعمالي ثم لا يذهب عليك أنّه لا حاجة إلى ادعاء الوجود حتى يصدق الرفع بل يكفيه وجوده الواقعي أو وجوده بنحو ضرب القانون أو وجوده في الشرائع السابقة ومما ذكر يظهر ما في نهاية الأفكار حيث ذهب إلى لزوم اعتبار وجود الشيء سابقا على الرفع عند وجود مقتضيه ولذلك قال لا مانع من إبقاء الرفع في الحديث الشريف على ظهوره في الرفع الحقيقي في جميع الأمور التسعة حيث إنّه يكفي في صحة إطلاق الرفع فيها مجرد اعتبار وجود الشيء سابقا على الرفع عند وجود مقتضيه بلا حاجة إلى جعل الرفع في الحديث بمعنى الدفع. (٣)

وذلك لما عرفت من كفاية الوجود الإطلاقي والاستعمالي ولا حاجة معه إلى اعتبار وجود الشيء سابقا.

لا يقال : إنّ رفع الحكم لا يساعد جميع الفقرات لأنّ من جملتها هو الحسد والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق وهذه الأمور خصوصا الحسد ليست باختيارية حتى يكون لها حكم وعليه فلا يصح تعلّق الرفع بها باعتبار حكمها.

لأنّا نقول إنّ هذه الأمور وإن كانت بنفسها غير اختيارية ولكنها باعتبار مباديها كانت

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٢) الدرر : ٤٤٤.

(٣) نهاية الأفكار ٣ : ٢٠٩.

٤٢٤

اختيارية لإمكان التحرز عنها باختيار مبادي أضدادها وعليه يصح تعلّق الحكم بها باعتبار اختيارية مباديها.

التنبيه الثالث :

أنّه لا إشكال في قبح مؤاخذة الناسي والعاجز والمخطي بحكم العقل وعلى هذا يرد على الرواية المذكورة أمران : أحدهما أنّ رفع الحكم عن هؤلاء لا يختص بالأمة المرحومة لأنّ القبيح قبيح في كل زمان.

وثانيهما أنّ الرواية ظاهرة في الامتنان مع أنّه لا منّة في رفع ما هو قبيح عند العقل وفيه منع استقلال العقل بقبح مؤاخذة الناسي والمخطي مع كون أضداد مبادي هذه الأمور تحت الاختيار وترك التحفظ فيها فإذا لم يكن المؤاخذة في هذه الصورة قبيحة أمكن تصور الامتنان عند رفع المؤاخذة عند النسيان والخطأ كما لا يخفى.

قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : إنّ الذي يهوّن الأمر في الرواية جريان هذا الإشكال في الكتاب العزيز أيضا فإنّ موارد الإشكال فيها وهي الخطأ والنسيان وما لا يطاق وما اضطروا إليه هي بعينها ما استوهبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ربه جلّ ذكره ليلة المعراج على ما حكاه الله تعالى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن بقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) الآية والذي يحسم أصل الإشكال منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الأمور بقول مطلق فإنّ الخطأ والنسيان الصادر من ترك التحفظ لا يقبح المؤاخذة عليها وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع إمكان الاحتياط وكذا في التكليف الشاق الناشئ عن اختيار المكلف والمراد بما لا يطاق في الرواية هو ما لا يتحمل في العادة لا ما لا يقدر عليه أصلا كالطيران في الهواء وأمّا في الآية فلا يبعد ان يراد به العذاب والعقوبة فمعنى لا تحملنا ما لا طاقتنا به لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة. (١)

التنبيه الرابع :

في أنّه لا فرق بين أن يكون متعلق الحكم هو الفعل أو الترك إذ أيّ واحد منهما فله حكم و

__________________

(١) فرائد الاصول : ١٩٦.

٤٢٥

أثر وقابل للرفع فلو نذر أن يشرب من ماء الفرات فاكره على الترك فترك الشرب بعد ما تعلّق النذر على الشرب له حكم وهو الحرمة لأنّه حنث وله كفّارة فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع ما اكرهوا عليه يدل على رفع حكم الترك المذكور من الحرمة والكفارة فلا وجه لتخصيص المرفوع بحكم الأمور الوجودية.

وحكم الترك كحكم الفعل أمر حقيقي قابل للرفع والرفع فيه أيضا حقيقي لا ادعائي بعد ما عرفت من أنّ الرفع هو رفع حكم ثقيل عن الامة وعليه فالجواب عمّن خصص المرفوع بالامور الوجودية بأنّ التحقيق أنّه لا مانع من تعلّق الرفع بالامور العدمية إذ الرفع رفع ادعائي لا حقيقي والمصحح له ليس إلّا آثار ذلك العدم وأحكامها كما أنّ المصحح لرفع الأمور الوجودية هو آثارها وأحكامها (١) لا يخلو عن إشكال وذلك لما عرفت من ممنوعية الادعاء الوجودية هو آثارها وأحكامها (١) لا يخلو عن إشكال وذلك لما عرفت من ممنوعية الادعاء لأنّ حكم الترك كحكم الفعل حكم حقيقي وهو قابل للرفع من دون حاجة إلى ادعاء ورفعه رفع حقيقي بمعنى رفع ثقل الحكم عن الامة كما لا يخفى ثم إذا عرفت أنّ حديث الرفع يشمل حكم الفعل والترك اتّضح حكم ما إذا اكره على ترك الصلاة في جميع الوقت فإنّ تركها مصداق لما اكرهوا عليه وهو كما في تسديد الاصول ثقيل على المكلف فإنّه مخالفة للواجب موجبة للتعزير الدنيوي والعقاب الأخروي وللقضاء خارج الوقت وكل ذلك ثقل على المكلف أوجبه عليه إكراه المكره على الترك فيرفع هذا الأمر الثقيل بجميع ثقله على المكلف أوجبه عليه إكراه المكره بالكسر على الترك فيرفع هذا الأمر الثقيل بجميع ثقله عن عاتقه بحيث لا يكون على عاتقه من الثقل أثر أصلا فإطلاقه ومقتضى رفعه بالمرة أن لا يستحق تعزير الدنيا ولا عذاب الآخرة ولا القضاء خارج الوقت.

نعم لو أكرهه على ترك الصلاة في وقت الفضيلة مثلا فلا يترتب من تركها أمر عليه ثقيل فإنّ وجوب الإتيان بها في بقية الوقت مما يقتضيه نفس التكليف بالواجب والموسّع لا أنّه

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٥٩.

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٥٩.

٤٢٦

أمر جديد أتى من ناحية الإكراه وفوت الفضل ليس إلّا فوات النفع لا تحميل ثقل وضرر. (١)

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه ينافي ما رواه في الكافي بسنده عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم فقلت ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا فقال يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه وانا أعلم والله انّه يوم من شهر رمضان فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله انتهى بناء على أنّ التقيّة نوع من الإكراه ووجه المنافاة أنّ هذه الرواية تدل على لزوم القضاء مع الإكراه على ترك الصوم.

نعم يمكن أن يقال : إنّ الموضوع لوجوب القضاء ليس هو الترك بل هو الفوت وهو مسبب عن الترك وحديث الرفع مختص بما يكون فعلا مباشريّا للمكلف سلبا أو إيجابا لا ما يكون مترتبا عليه وبناء على هذا فلو اكره على ترك الصلاة في جميع الوقت لا يدل حديث الرفع إلّا على رفع التعزير والعقوبة وأمّا القضاء فهو مترتب على عنوان الفوت وليس هو فعلا مباشريا للمكلف وأصل البراءة لا يثبت العنوان ومما ذكر يظهر وجه لزوم القضاء على من نسي الصلاة في تمام الوقت فتدبر.

ولكن لقائل أن يقول أنّ الرواية ضعيفة ، هذا مضافا إلى أنّ موضوعها مختصّ بالصوم على أنّها لا تدلّ على وجوب القضاء ولعل القضاء ليس بواجب لأنّ الفعل أعمّ من الوجوب فتدبّر.

تفصيل : ولا يذهب عليك أنّ المحكي عن المحقق النائيني قدس‌سره أن يكون المرفوع في حديث الرفع شاغلا لصفحة الوجود فإنّه بذلك يمتاز الرفع عن الدفع فإنّ الدفع هو المنع عن تقرر الشيء والرفع هو المنع عن بقاء الوجود إلى أن قال فاعلم أنّ الظاهر الأوّلي وإن كان رفع نفس صفة النسيان إلّا أنّه لا يمكن الأخذ بهذا الظهور فإنه مضافا إلى أنّ النسيان ليس من الأمور التشريعية بنفسه وليس له أثر شرعا كي يكون رفعه بلحاظ رفع أثره يلزم من ذلك

__________________

(١) تسديد الاصول ٢ : ١٣٧.

٤٢٧

ترتيب آثار الصدور العمدي على الفعل الصادر عن النسيان وهو كما ترى خلاف الامتنان فلا محيص من رفع اليد عما يقتضيه الظاهر الأوّلي بجعل النسيان بمعنى المنسي فيكون المرفوع نفس الفعل الصادر عن المكلف نسيانا بأن يفرض عدم وقوع الفعل منه وخلو صفحة الوجود عنه وعلى هذا يختص الحديث بالمحرمات ولا يشمل الواجبات لأنه لو فرض الإتيان بواجب عن نسيان فرفعه عبارة عن إعدامه وفرض عدم صدوره وهو ينافي الامتنان ولو فرض تركه عن نسيان فليس في البين شيء شاغل لصفحة الوجود كي يمكن رفعه وبذلك يظهر فساد توهم دلالة قوله رفع النسيان على سقوط الجزئية ووقوع الطلب فيما عداه.

وقد أورد عليه سيدنا الاستاذ المحقق الدّاماد قدس‌سره : في محكي كلامه بأن المرفوع نفس الخطأ والنسيان ويكون رفعهما مع أنهما قد يقعان كثيرا ما كناية عن فرض عدم صدور ما صدر عن المكلف عن نسيان أو خطأ عنه وبعبارة أوضح أنه لما كان المكلف المتشرّع بأحكام الله المبالي بدينه وفرائضه بحيث إذا لم يعرض له الخطأ والنسيان لكان آتيا بالواجبات وتاركا للمحرمات فإذا جعل الشارع خطأه أو نسيانه بمنزلة العدم فكأنّه فرضه آتيا بالواجب الذي ترك عن خطأ أو نسيان وتاركا للمحرم الذي أتى به عنه وقد عرفت سابقا انصراف الحديث المبارك عن السهو والنسيان الذي نشأ عن عدم المبالاة بالدين وعدم التقيد بأحكام الله وفرائضه وعلى هذا نقول وإن كان ظاهر الرفع في قبال الدفع جعل الموجود بمنزلة المعدوم إلّا أن المرفوع نفس صفة النسيان والخطأ الموجودين ادعاء باعتبار رفع الفعل أو الترك الصادر عن المكلف عن نسيان وخطأ وجعله بمنزلة العدم.

وعلى هذا فكما انه يستفاد من الحديث الرفع في بعض الأحيان فكذلك يستفاد منه الوضع في بعضها الآخر إلى أن قال فنقول وبه نستعين معنى رفع الخطأ والنسيان رفع كل ما كان عن خطأ ونسيان بادعاء رفع الأثر عنه شرعا سواء كان الفعل أو الترك وسواء كان بنفسه منسيّا أو كان منشؤه النسيان فيرد على المحقق المذكور أوّلا : أنه لا موجب لاختصاص

٤٢٨

الحديث بالامور الوجودية وثانيا : أنه لا موجب للقول بأنّ المرفوع بعد ما لم يمكن أن يكون نفس النسيان هو المنسي فانه على ما ذكر يشمل كل ما كان عن نسيان وناشئا عنه ولو لم يكن بنفسه منسيّا فتدبر ولا تغفل. (١)

ومما ذكرنا يظهر النظر في ما أفاده السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره حيث قال إنّ المرفوع لا بد أن يكون أحد الأمرين إمّا الحكم المتعلق بالشيء أو الحكم المترتب على الشيء بحيث يكون هذا الشيء الذي تعلّق به النسيان أو الإكراه أو غيرهما موضوعا بالإضافة إليه فمعنى رفعه في عالم التشريع عدم كونه متعلقا للحكم الثابت له في حد نفسه أو عدم كونه موضوعا للحكم المترتب عليه في حد نفسه فبحسب النتيجة يفرض وجوده كالعدم وكأنّه لم يكن فإذا اضطر أو نسي أو أكره على شرب الخمر مثلا فمعنى رفعه أن هذا الشرب لا يكون متعلقا للحرمة الثابتة له في حد نفسه كما أنه لا يكون موضوعا للحكم الآخر المترتب عليه كوجوب الحد فهو أيضا مرفوع عنه فيكون ذلك تخصيصا في أدلة الأحكام الأوليّة وموجبا لاختصاصها بغير هذه الموارد المذكورة في الحديث وأما لو فرضنا أن الموضوع للحكم شيء آخر غاية الأمر أنه ملازم بحسب الوجود مع متعلق الاضطرار والإكراه ونحوهما فلا يكاد يرتفع الحكم عن ذلك الموضوع بحديث الرفع فلو فرضنا أنه مضطر أو مكره على التكلم في الصلاة فغايته أنّ حرمة القطع على تقدير القول بها مرفوعة وأمّا وجوب الإعادة أو القضاء المترتب على عدم الإتيان بالمأمور به الذي هو لازم التكلم فلا يتكفل الحديث لرفعه بوجه فإنه حكم مترتب على موضوع آخر لا ربط له بمتعلق الإكراه أو الاضطرار وإن كانا متقارنين بحسب الوجود الخارجي. (٢)

ولذا قال في مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الصمد الواردة فيمن لبس المخيط حال الإحرام جاهلا أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه. (٣)

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٦.

(٢) مستند العروة ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٣) الوسائل الباب ٤٥ من تروك الإحرام ح ٣.

٤٢٩

ان المنفي في ظرف الجهل إنّما هو الأثر المترتب على الفعل وإنّه ليس عليه شيء من ناحية فعله الصادر عن جهل لا ما يترتب على الترك ومن المعلوم أنّ الأثر المترتب على الفعل أعني الإفطار إنّما هو الكفارة فقط فهي المنفي وأما القضاء فليس هو من آثار الفعل وانما هو من آثار ترك الصوم وعدم الإتيان به في ظرفه على وجهه فهو أثر العدم لا الوجود نعم لأجل الملازمة بين الأمرين أعني الإفطار وترك الصوم الناشئة من كون الصوم والإفطار ضدين لا ثالث لهما صح إسناد أثر أحدهما إلى الآخر مجازا. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ الرفع كناية عن فرض عدم صدور ما صدر عن المكلف نسيانا أو خطأ فمع هذا الفرض يرجع الرفع إلى جعل الشارع خطأه أو نسيانه أو اضطراره بمنزلة العدم فكأنّه فرضه آتيا بالواجب الذي تركه خطأ أو نسيانا وتاركا للمحرم الذي اتى به عن نسيان أو خطأ أو نحوهما وعليه فمعنى الرفع رفع كل ما كان عن خطأ ونسيان بادعاء رفع الأثر عنه شرعا سواء كان الفعل أو الترك وسواء كان بنفسه منسيّا أو كان منشؤه النسيان وعليه فلا وجه لتخصيص الحديث بالموجودات وهكذا لا وجه لجعل المرفوع مخصوصا بنفس المنسي بعد عدم إمكان أن يكون المرفوع هو نفس النسيان لشمول الرفع لما يكون ناشئا عن النسيان ولو لم يكن بنفسه منسيّا فيعلم مما ذكر أنّه لا يختص المرفوع بالحكم المتعلق بالشيء أو الحكم المترتب على الشيء بل يشمل ما يكون ناشئا عن الخطأ والنسيان ومرتبطا بهما بنحو من الأنحاء لأنه هو مقتضى فرض النسيان أو الخطأ الموجود بمنزلة العدم من دون تقييد وتخصيص وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى صحيحة عبد الصمد فإن رفع المجهول يعم ما كان بنفسه مجهولا أو كان ناشئا عن الجهل فيدلّ على نفي القضاء والكفارة كليهما نعم يمكن استفادة الاختصاص بنفي الكفّارة في خصوص هذه الصحيحة بقرينة الحكم بالبطلان ولزوم الإعادة أو القضاء في موارد من أفعال الحجّ كترك الوقوفين جهلا أو الطواف من بين حجر اسماعيل ونحوهما فتدبر جيدا.

__________________

(١) مستند العروة ١ : ٢٥٤.

٤٣٠

التنبيه الخامس :

انه لو نسي شرطا أو جزءا من المأمور به هل يمكن تصحيح المأتي به بحديث الرفع أو لا يمكن.

ذهب بعض الأعاظم إلى الثاني معلّلا بأنّ الحديث لا يشمل الأمور العدمية لأنه لا محل لورود الرفع على الجزء والشرط المنسيين لخلو صفحة الوجود عنهما فلا يمكن أن يتعلق الرفع بهما هذا مضافا إلى أنّ الأثر المترتب على الجزء والشرط ليس إلّا الإجزاء وصحة العبادة وهما ليسا من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع بل من الآثار العقلية لأن موافقة المأتي به مع المأمور به أو مخالفته معه من الأمور الواقعية ولا دخل للشرع فيهما حتى يشملهما حديث الرفع.

ويمكن الجواب عنه بأنّ : ما هو متعلّق الرفع هو حكم الجزء والجزئية فإنه ثقيل على المكلف فلا يجب عليه الإعادة بعد شمول حديث الرفع لهما وأمّا موافقة المأتي به مع المأمور به أو مخالفته معه فهما مترتبان على بقاء الجزاء أو الشرط على الجزئية والشرطية وعدم بقائهما في حال النسيان وعليه فمع كونهما متفرعان ومترتبان على بقاء الجزئية أو الشرطية وعدمه فيد الجعل تنالهما أيضا باعتبار منشأهما كما لا يخفى فإذا عرفت ذلك فالأقوى هو إمكان تصحيح المأتي به لأنّ حديث الرفع حاكم على أدلة المركبات أو على أدلة اعتبار الأجزاء والشرائط وبعد الحكومة تصير النتيجة اختصاص الأجزاء والشرائط بغير حال النسيان ويكون تمام المأمور به في حق المكلف عامة الأجزاء والشرائط غير المنسية منها وعليه فالمأتي به حال النسيان موافق للمامور به ومع المطابقة يصح المأتي به كما لا يخفى.

والقول بحكومتها في حال نسيان الحكم (الجزئية) لا في حال نسيان نفس الجزء والشرط تحكم محض بعد القول بتعلق الرفع بنفس ما نسوا أي المنسي على نحو الإطلاق. (١)

ثم إنّ مقتضى ما عرفت من إمكان تصحيح المأتي به بحديث الرفع هو عدم الفرق بين

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ٢ : ١٦١.

٤٣١

كون النسيان مستوعبا لجميع الوقت وعدمه إذ الحديث يدل على رفع الثقل عنهم ومقتضى ذلك هو عدم وجوب الإعادة في الوقت فضلا عن وجوب القضاء خارج الوقت إذ مع رفع الثقل فالمأتي به هو الموافق للمأمور به ومع موافقة المأمور به يسقط الأمر المتعلق بالمأمور به ولا يبقى أمر حتى يجب إعادته بل ذهب في تسديد الاصول إلى أنّ مقتضى حديث الرفع انّه لو نسى التشهد مثلا وقام وتذكر قبل ركوع الركعة التالية فبما ان تدارك التشهد يوجب إعادة ما أتى به من تسبيحاته الأربع في هذه الركعة فهو ثقل قد لزمه من نسيانه فمقتضى الحديث رفع هذا الثقيل بثقله عنه. (١)

نعم لو دل دليل خاص على لزوم الإعادة فيخصص حديث الرفع به وبالجملة فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق حديث الرفع ما لم يرد دليل خاص على خلافه ودعوى اختصاص المنسي بنسيان المركب الواجب النفسي وهو لا يشمل النسيان غير المستوعب فضلا عن النسيان في أثناء الصلاة مندفعة بأنه لا وجه للاختصاص المذكور بعد إطلاق المنسي ووجود ملاك جريانه وهو تحميل أمر عليه بسبب النسيان وهو موجود فيما إذا تذكر في أثناء المركب مثل الصلاة فضلا عما بعدها ولو لم يكن مستوعبا كما لا يخفى هذا كله بالنسبة إلى العبادات.

ومما ذكر يظهر الكلام في النسيان في ناحية الأسباب والمعاملات وهو كما أفاد سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ النسيان مثلا إن تعلّق بأصل السبب أو بشرط من شرائطه العقلائية التي بها قوام العقد عرفا كإرادة تحقق معناه فلا ريب في بطلان المعاملة إذ ليس هنا عقد عرفي حتى يتصف بالصحة ظاهرا وإن تعلّق النسيان بشرط من شرائط الشرعية ككونه عربيا أو تقدم الإيجاب على القبول ونحو ذلك فلا إشكال في إمكان تصحيح العقد المذكور بحديث الرفع فإنّ الموضوع أعني نفس العقد محقق قطعا في نظر العرف غير أنه فاقد للشرط الشرعي فلو قلنا بحكومة الحديث على الشرائط بمعنى رفع شرطية العربية أو تقدمه على القبول في هذه الحالة يصير العقد الصادر من العاقد عقدا مؤثرا في نظر الشارع أيضا والنسيان وإن

__________________

(١) تسديد الاصول ٢ : ١٣٨.

٤٣٢

تعلّق بإيجاد الشرط لا بشرطيّته لكن لا قصور في شمول الحديث لذلك لأن معنى رفع الشرط المنسي رفع شرطيته في هذا الحال والاكتفاء بالمجرد منه ثم إنّ النسيان لم يتعلّق بالفارسي من العقد بل تعلّق بالشرط أعني العربية فرفعه رفع لشرطيته في المقام ورفع الشرطية عين القول بكون ما صدر سببا تاما. (١)

التنبيه السادس :

انّه لا اختصاص لحديث الرفع بالأحكام التكليفية بل يعم الأحكام الوضعية ولا اختصاص في الوضعية بالجزئية والشرطية بل يشمل المانعية أيضا فكما أنّ حديث الرفع يرفع الحرمة والوجوب فكذلك يرفع المانعية كالمفطرية ومقتضى ذلك أنّه لو أكره الصائم على مفطر ولو لم يكن الإكراه بحيث خرج عن اختياره فهو إكراه على إيجاد المفطر والمانع وهو لا يبطل الصوم.

كما هو الظاهر من المحقق في موضع من الشرائع حيث قال في كتاب الصوم لو كان (تناول المفطر) سهوا لم يفسد سواء كان الصوم واجبا أو ندبا وكذا لو أكره على الإفطار أو وجر في حلقه انتهى ونسبه في الجواهر إلى الأكثر نعم تردد المحقق في موضع آخر من الشرائع حيث قال : ولو وجر في حلقه أو أكره إكراها يرتفع معه الاختيار لم يفسد صومه ولو خوّف فأفطر وجب القضاء على تردد ولا كفّارة (٢) وكيف كان فقد استدل له بحديث الرفع.

وقد أورد عليه أوّلا : بأنّ حديث الرفع مختص بالمؤاخذة وجوابه ظاهر بعد ما عرفت من أنّ المرفوع هو مطلق الحكم تكليفا كان أو وضعيا استقلاليا كان أو غير استقلالي.

وثانيا : بأنّ الأمر بالصوم قد تعلّق بمجموع التروك من أول الفجر إلى الغروب وليس كل واحد من هذه التروك متعلقا لأمر استقلالي بل الجميع تابع للأمر النفسي الوحداني المتعلق بالمركب إن ثبت ثبت الكل وإلّا فلا فإنّ الأوامر الضمنية متلازمة ثبوتا وسقوطا

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٦٦.

(٢) راجع الجواهر ١٦ : ٢٥٨ ـ ٢٦٧.

٤٣٣

بمقتضى فرض الارتباطية الملحوظة بينها كما في أجزاء الصلاة وغيرها من سائر الواجبات فإذا تعلّق الإكراه بواحد من تلك الأجزاء فمعنى رفع الأمر به رفع الأمر النفسي المتعلق بالمجموع المركب لعدم تمكنه حينئذ من امتثال الأمر بالاجتناب عن مجموع هذه الأمور فإذا سقط ذلك الأمر بحديث الرفع فتعلق الأمر حينئذ بغيره بحيث يكون الباقي مأمورا به كي تكون النتيجة سقوط المفطرية عن خصوص هذا الفعل يحتاج إلى دليل ومن المعلوم أنّ الحديث لا يتكفل بإثباته فإنّ شأنه الرفع لا الوضع فهو لا يتكفّل بنفي المفطرية عن الفعل الصادر عن إكراه لينتج كون الباقي مأمورا به ومجزيا كما هو الحال في الصلاة فلو أكره على التكلم فيها فمعناه أنّه في هذا الأمر غير مأمور بالإتيان بالمقيد بعدم التكلم وأما الأمر بالباقي فلا.

والقضاء من آثار ترك المأمور به وعدم الإتيان به في ظرفه اللازم لفعل المفطر فلا مجال حينئذ للتمسك بالحديث لأن المكره عليه هو الفعل وليس القضاء من آثاره فإطلاق دليل القضاء على من فات عنه الواجب في وقته هو المحكّم فالتفرقة بين الكفارة والقضاء واضحة. (١)

يمكن أن يقال بأنّ : المفطرية من الأحكام المجعولة لمثل الأكل ومقتضى إطلاق رفع ما أكرهوا عليه هو رفع المفطرية أيضا بالإكراه وحيث انّ حديث الرفع حاكم بالنسبة إلى الأدلة الأولية يوجب تخصيص المفطرية بحال غير الإكراه ومقتضى ذلك هو عدم سقوط الأمر بالمجموع من التروك في باب الصوم ومع عدم سقوط الأمر المذكور فالمأتي به موافق للمأمور به ومع الموافقة لا مجال لدعوى الملازمة بين ترك المأمور به ولزوم القضاء لعدم تحقق موضوعه وهو ترك المأمور به كما لا يخفى ودعوى أنّ الموافقة والمخالفة والصحة والفساد ليستا من الأمور الجعليّة حتى تكونا قابلتين للرفع والوضع.

مندفعة بأن الموافقة والمخالفة للمأمور به وإن لم تكونا مجعولتين ولكنهما قابلتان للرفع و

__________________

(١) مستند العروة ١ : ٢٥٨.

٤٣٤

الوضع بسبب إمكان وضع منشأهما ورفعه ومن المعلوم أنّ رفع المفطرية في حال الإكراه بحديث الرفع موجب لموافقة المأتي به مع المأمور به بعد اختصاصه بغير حال الإكراه جمعا بين حديث الرفع الحاكم والأدلة الأوليّة والقضاء من آثار الفوت الحاصل بترك المأمور به والمفروض مع حكومة حديث الرفع هو عدم تحقق ترك المأمور به الملازم لحصول الفوت المترتب عليه القضاء كما لا يخفى وبعبارة أخرى أنّ الأدلة الأولية مع حديث الرفع الذي يكون حاكما وشارحا كدليل واحد يدل على لزوم التروك في غير حال الإكراه ونحوه فالأمر النفسي بعد ورود حديث الرفع يكون متقيّدا بغير حال الإكراه ولا مجال لدعوى سقوط الأمر النفسي بعروض الإكراه.

هذا مضافا إلى ما أفاده في جامع المدارك من أنّ لازم ما ذكر هو عدم جواز التمسك بحديث لا تعاد إلّا من خمس فانّ مقتضاه هو صحة الصلاة الفاقدة لبعض الأجزاء أو بعض الشرائط مع عدم موافقة المأتي به المذكور للمأمور به وهكذا عدم جواز التمسك بحديث الرفع في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيّين إذ مع الشك في أنّ الواجب المركب هو الأقل أو الأكثر يقال بالبراءة وعدم وجوب مشكوك الجزئية أو الشرطية ومقتضاها هو صحة الصلاة الفاقدة للجزئية أو الشرطية (مع أن الفاقدة ليست بموافقة للمأمور به وهو الأكثر) والحل أنّ اللزوم المذكور من جهة الأمر وحيث إنّ الأمر بيد الشارع ويكون قابلا للرفع والوضع لا مجال للاستشكال من هذه الجهة وإلّا لما أمكن القول بالصحة في الموارد الخاصة كالحكم بالصحة في التمام في محل القصر والجهر في موضع الاخفات أو العكس. (١)

لا يقال : ليس الإكراه على ترك جزء أو شرط من العبادات إلّا كما لو أكره في باب المعاملات على ترك شيء من الأجزاء أو الشرائط المعتبرة في صحتها مثل القبض أو الإشهاد في الطلاق فكما لا يدل حديث الرفع على نفي اعتبار هذه الأمور في حال الإكراه في

__________________

(١) جامع المدارك ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٤.

٤٣٥

صحّة المعاملات فكذلك في العبادات (١) ، لأنا نقول فرق واضح بين المقام وهو باب العبادات وبين المعاملات فإنّ مقتضى كون حديث الرفع مختصا بمورد الامتنان هو رفع ثقل لزوم المعاملة ونفوذها بسبب الإكراه لأنّ اللزوم والنفوذ خلاف الامتنان ولذا يحكم ببطلان المعاملة عن إكراه هذا بخلاف باب العبادات فإنّ الحكم بلزوم الإعادة والقضاء خلاف الامتنان فاللازم هو الحكم بصحّة العبادة وعليه فالفارق هو اختلاف الموارد في الامتنان وعدمه.

نعم استشكل في جامع المدارك في التمسك بالحديث في الإكراه من ناحية أخرى وهي أنّ العمل بحديث الرفع في كثير من أمثال المقام غير معهود بل لعل العمل بها يستلزم فقها جديدا إلى أن قال وبالجملة فالمسألة محل إشكال (٢)

يمكن أن يقال إنّ خروج بعض الموارد عن حديث الرفع بالتخصص أو الانصراف أو التخصيص يمنع عن لزوم الفقه الجديد بالأخذ بحديث الرفع في بقية الموارد وقد استدل بالحديث في الناصريات على ما حكاه سيدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال وفي الناصريات دليلنا على أنّ كلام الناسي لا يبطل الصلاة بعد الإجماع المتقدم ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي النسيان وما استكرهوا عليه ولم يرد رفع الفعل لأن ذلك لا يرفع وإنّما أراد رفع الحكم وذلك عام في جميع الأحكام إلّا ما قام عليه دليل ويقرب منه كلام ابن زهرة في الغنية وتبعهما العلامة والأردبيلي في مواضع وقد نقل الشيخ الأعظم في مسألة ترك غسل موضع النجو من المحقق في المعتبر انه تمسك بالحديث لنفي الإعادة في مسألة ناسي النجاسة وقد تمسك الشيخ الأعظم وغيره في مواضع بحديث الرفع لتصحيح الصلاة فراجع. (٣)

فتحصل أنه يجوز الأخذ بعموم حديث الرفع في الأحكام الوضعية كالتكليفية من دون فرق بين الإكراه وبين غيره ما لم تقم قرينة على الاختصاص أو التخصص.

__________________

(١) مصباح الفقيه ١٤ : ٤٦٢.

(٢) جامع المدارك ٢ : ١٦٤.

(٣) تهذيب الاصول : ٢ : ١٦٤.

٤٣٦

بقي شيء وهو أنه يخطر بالبال عدم العمل بإطلاق حديث الرفع وأما نسبة العمل إلى الأكثر فلا تكفي مع احتمال أن يكون مرادهم من الإكراه هو الرافع للاختيار لا مطلق الإكراه فليتأمّل.

التنبيه السابع :

انّه لا يذهب عليك انّه ربما يفصل في الإكراه بين الإكراه على إيجاد المانع وبين الإكراه على ترك الجزء والشرط بأنّه لو تعلّق الإكراه على ايجاد مانع شرعي فإن كان العاقد مضطرا اضطرارا عاديا أو شرعيا لإيجاد العقد والمكره يكرهه على إيجاد المانع فالظاهر جواز التمسك به لرفع مانعيّة المانع في هذا الظرف وإن لم يكن مضطرا للعقد فالظاهر عدم صحة التمسك لعدم صدق الإكراه (مع إمكان التفصي عنه) ولو تعلّق الإكراه على ترك الجزء والشرط فإذا كان مضطرا في أصل العقد عادة أو شرعا فمحصل المختار فيه عدم جريان الحديث لرفعهما في هذه الحالة لأن الإكراه قد تعلّق بترك الجزء والشرط وليس للترك بما هو هو أثر شرعي قابل للرفع غير البطلان ووجوب الإعادة وهو ليس أثرا شرعيا بل من الأمور العقلية الواضحة فإنّ ما يرجع إلى الشارع ليس إلّا جعل الجزئية والشرطية تبعا أو استقلالا وأما إيجاب الإعادة والقضاء بعد عدم انطباق المأمور به على المأتي به فإنما هو أمر عقلي يدركه هو عند التطبيق.

وتوهم إنّ مرجع الرفع عند الإكراه على ترك جزء أو شرط إلى رفع جزئيته وشرطيته في هذه الحالة مدفوع بأنّ المرفوع لا بد وان يكون ما هو متعلق العنوان ولو باعتبار أنه أثر لما تعلّق به العنوان كالجزئية عند تعلّق النسيان بنفس الجزء وأمّا المقام فلم يتعلّق الاكراه إلّا بنفس ترك الجزء والشرط والجزئية ليست من آثار نفس الترك نعم لو كان لنفس الترك أثر شرعي يرتفع أثره الشرعي عند الإكراه. ووجوب الإعادة ليس أثرا شرعيا في حد نفسه ولا أثرا مجعولا لبقاء الأمر الأول بل هو أمر عقلي منتزع يحكم به إذا أدرك مناط حكمه وما يرى في الأخبار من الأمر بالإعادة فإنما هو إرشاد إلى فساد المأتي به وبطلانه ويشهد على

٤٣٧

ذلك أنّ التارك للإعادة لا يستحق إلّا عقابا واحدا لأجل عدم الإتيان بالمأمور به لا لترك إعادته واحتمال العقابين كاحتمال انقلاب التكليف إلى وجوب الإعادة باطل بالضرورة فتلخص من جميع ما ذكر أنّ الإكراه إن تعلّق بإيجاد المانع (الشرعي) فيمكن أن يتمسك بحديث الرفع لتصحيح الماتي به وأمّا إذا تعلّق بترك الجزء والشرط فلا كما ظهر الفرق بين نسيان الجزء والشرط وبين تركهما لأجل الإكراه. (١)

يمكن أن يقال : إنّ هذا التفصيل ناش من لزوم تقدير الأثر في حديث الرفع وأمّا على ما عرفت من عدم الحاجة إلى التقدير فلا وجه له لأنّ مفاده أنّ الإلزامات المجهولة أو المنسية أو المكره عليها أو المضطر إليها رفعت ثقلها بعروض هذه الطواري ومن المعلوم أنّ التدارك والإعادة ثقيل على المكلفين وهما من لوازم بقاء الإلزامات المذكورة ومقتضى حديث الرفع هو رفع ثقل هذه الإلزامات برفعها بقاء ومعنى ذلك عدم وجوب التدارك والإعادة من دون فرق بين النسيان والإكراه ومن دون تفاوت بين كون الإكراه على ترك الجزء والشرط وبين الإكراه على إيجاد المانع إذ الحديث يعم جميع الموارد المذكورة. ولا نحتاج إلى وجود الأثر الشرعي حتى يقال إنّ وجوب الإعادة ليس أثرا شرعيا في حد نفسه ولا أثرا مجعولا لبقاء الأمر الأول بل هو أمر عقلي منتزع يحكم به إذا أدرك مناط حكمه.

وذلك لما عرفت من أنّ حديث الرفع يدل على رفع ثقل الأحكام الأولية وبقاء تلك الأحكام بحيث يجب التدارك والإعادة ومع رفع هذه الأحكام لا مجال للإعادة والتدارك كما لا يخفى فالأقوى بناء على جواز الأخذ بعموم حديث الرفع هو عدم الفرق بين الإكراه على إيجاد المانع الشرعي وبين الإكراه على ترك الجزء والشرط فكما أنّه يجوز التمسك بحديث الرفع في الأول فكذلك يجوز في الثاني فتدبر جيدا.

التنبيه الثامن :

أنّ المرفوع بحديث الرفع كما مر هو الحكم المتعلق بالموضوع لا الموضوع وعليه فمثل

__________________

(١) راجع تهذيب الاصول ٢ : ١٦٧ ـ ١٦٨.

٤٣٨

النجاسة مما له واقعية خارجية تكوينية ليست مرفوعة بل هي حاصلة بنفس أسبابها التكوينية كالملاقاة مع النجس لأنّها من الموضوعات الخارجية ولا دخل لفعل الإنسان فيها وعليه فإذا ابتلي الإنسان بعدم ترتيب آثار النجاسة بسبب الجهل أو الاضطرار أو الخطأ والنسيان وغير ذلك فحديث الرفع لا يدل على رفع نفس النجاسة بل يدل على رفع أحكام النجاسة ما دامت العناوين المذكورة موجودة ولذا لو صلى في النجس خطأ أو نسيانا أو جهلا أو اضطرارا أو إكراها فحديث الرفع يدل على رفع حكمه وثقله فيحكم بصحة صلاته فيه لا رفع تنجس الملاقي كما لا يخفى.

إن قلت : مقتضى أن يكون مفهوم حديث الرفع هو رفع الأحكام المتعلقة بالموضوعات دون نفسها هو ارتفاع الحكم بتنجس جسم الملاقي للنجاسة في حال عروض النسيان أو الاضطرار أو الجهل لأن التنجس أيضا من الأحكام وعليه فلو لاقى يده أو لباسه النجس فتذكر والتفت كان مقتضى الحديث هو رفع الحكم بالتنجس فلو أراد بعد الالتفات ، الصلاة في لباسه النجس ونحوه كان مقتضى حديث الرفع هو الحكم بصحة صلاته ولو بعد التفاته بملاقاة لباسه أو يده مع النجاسة وهو مما لم يلتزم به أحد ويلزم منه فقه جديد.

قلت : اجيب عن ذلك باجوبة :

منها : ان تنجس شيء بالملاقاة لم يترتب على الملاقاة بما هو فعل من أفعال المكلف بل هو مترتب على الملاقاة بما هي هى من الموضوعات الخارجية إذ النجاسة قذارة خارجية تكوينية أو سياسية وعليه فالابتلاء بها وإن كان بسبب الخطأ والنسيان أو الجهل أو الاضطرار ونحوها لا يوجب أن يحكم عليها برفع نفسها بحديث الرفع والحكم بصحة صلاته ولو بعد الالتفات إلى النجاسة لأنّ مثل هذا المورد خارج تخصّصا.

قال السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره : إنّ المعتبر أن يكون الحكم مترتبا على فعل المكلف بما هو فعل المكلف فلا يرفع به مثل النجاسة المترتبة على عنوان الملاقاة فإذا لاقى جسم طاهر بدن الإنسان المتنجس اضطرار أو إكراها لا يمكن الحكم بارتفاع تنجس هذا الجسم الملاقي

٤٣٩

لحديث الرفع لان تنجس الملاقي لم يترتب على الملاقاة بما هو فعل المكلف بل هو مترتب على نفس الملاقاة وإن فرض تحقّقها بلا استناد إلى المكلف فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من أن ذلك خارج عن حديث الرفع بالإجماع. (١)

وهذا الجواب تام بالنسبة إلى مسألة ملاقاة النجاسة في الأحوال المذكورة ولكن يرد عليه ما أورد عليه في مباحث الحجج بقوله وهذا الجواب لا بأس به لو لا أنّه لا يرفع الإشكال نهائيا فإنه يفيد في مثال الملاقاة مع أنّ هناك ما يكون فعلا للمكلف وموضوعا لآثار تحميلية ومع ذلك لا ترتفع تلك الآثار بالحديث كالإتلاف نسيانا لمال الغير في مورد لا يكون تلفه موجبا للضمان فإنه فعل للمكلف وبما هو كذلك يقع موضوعا للضمان.

وكمسّ الميت فإنه فعل للمكلف وليس كالملاقاة التي قد تقع بين شيئين بلا نسبة إلى المكلف فهل يقال بشمول الحديث لرفع الضمان في الأول ووجوب الغسل في الثاني إذا وقعا بأحد العناوين التسعة. (٢)

وعليه فلا يكفي في الجواب إن يقال إنّ المعتبر أن يكون الحكم مترتبا على فعل المكلف فإنّ مثل الإتلاف ومسّ الميت هو فعل المكلف ومع ذلك لا يشمله حديث الرفع. اللهمّ إلّا أن نقول : بالتخصيص في هذه الموارد.

ومنها : ما أفاده الشهيد الصدر قدس‌سره بقوله والذي ينبغي أن يقال إنّ المعذرية المستفادة من الحديث للعناوين المذكورة فيها طعم إمضاء المعذرية العرفية العقلائية المركوزة في مثل هذه العناوين فليست تأسيسية محضة بل ملاكها مركوز لدى العرف ومن الواضح أنّ تلك المعذرية إنّما هو فيما إذا كان الحكم التحميلي المرتب على الموضوع مما يكون للاختيار والعمد دخل في ترتيبه سواء كان فعلا مباشرا للمكلف أو تسبيبا.

وكون الاختيار والعمد دخيلا في ترتب الحكم يستفاد إمّا من كون الفعل متعلقا للحكم

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٦٩.

(٢) مباحث الحجج ٢ : ٥٥.

٤٤٠