عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

وجب اتّباعها ولو بعد الفحص فلا يكون اعتبارها لغوا إذ بعد الفحص لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط ومفاد الأمارات هو وجوب الاتّباع عنها وأمّا دعوى أنّ ظاهر الآيات مدخليّة كون النافرين جماعة في وجوب النفر ووجوب الإنذار والحذر وحيث يحتمل دخالة تلك الخصوصية في الحكم واقعا للمناسبة المذكورة لا يمكن رفع اليد عنه فلا طريق حينئذ إلى استظهار كون الجمع ملحوظا بنحو الاستغراق وعلى هذا كانت الآية أجنبية عن المدعى ولا ترتبط بإثبات حجّيّة قول المنذر عند الشكّ في قوله هل هو حكم الله الواقعي أو لا بل إنّما كان مفادها وجوب نفر جماعة ليتعلّموا أحكام الله الواقعيّة فينذروا قومهم بها لعلّهم يحذرون من عقاب مخالفة تلك الأحكام أو يحذرون عملا بإتيان واجب الدين وترك محرمه وأين ذلك بما نحن بصدده فهي محل نظر لأنّ لازم اعتبار الجماعة هو عدم وجوب الإنذار إذا نفر جماعة وتفقّهوا ثمّ عرض لهم الموت وبقي واحد منهم وهو ممّا لا يلتزم به أحد هذا مضافا إلى أنّ مقام التعلّم والإنذار قرينة على أنّ المراد من كلّ طائفة هو الاستغراق لا المجموع والجماعة إذ التعلّم والتعليم والإنذار لا يتقيّدان بالجميع والجماعة كما لا يخفى.

ومنها ـ أي من الآيات التي استدلّ بها لحجّيّة المخبر آية الكتمان وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

بتقريب أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار وإلّا لزم لغويّة تحريم الكتمان ووجوب الإظهار.

اورد عليه أوّلا : بأنّ موردها ما كان فيه مقتضى القبول لو لا الكتمان لقوله عزوجل : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) فالكتمان حرام في قبال الواضح والظّاهر على حاله كما يشهد له سوق الآية المباركة فإنّه في اصول الدين والعقائد ردّا على أهل الكتاب حيث أخفوا شواهد النّبوّة والبيّنات لا في قبال الإظهار والملازمة المذكورة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول عند الإظهار لا مورد لها في المقام إذ لا إظهار فيه نعم تجدي الملازمة المذكورة

٢٨١

في مثل قوله تبارك وتعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) فإنّ الإظهار فيه متصوّر فمورد الآية أجنبية عن المقام.

وثانيا : بأنّ الآية الكريمة لا تتعرّض لبيان حرمة الكتمان حتّى يؤخذ بإطلاقها لأنّها في مقام بيان ترتّب بعض آثار الكتمان من اللعنة.

ومنها ـ بأنّ من الآيات التي استدلّ بحجّيّة الخبر ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ).

بدعوى أنّ وجوب السّؤال يستلزم وجوب القبول وإلّا لكان وجوب السّؤال لغوا وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه ويقع جوابا له لعدم مدخليّة المسبوقيّة بالسؤال فكما أنّ جواب الرّاوي حين السّؤال واجب القبول فكذلك قوله ابتداء بأنّي سمعت الامام يقول كذا واجب القبول والاتّباع.

أورد عليه أوّلا : بأنّ المراد من أهل الذّكر بمقتضى السياق علماء أهل الكتاب وعليه فالآية أجنبية عن حجّيّة الخبر.

اجيب عنه بأنّ العبرة بعموم الوارد لا خصوصية المورد وتطبيق أهل الذكر على علماء أهل الكتاب من باب تطبيق الكلّي على بعض مصاديقه وليس من باب استعمال الكلّي في الفرد وعليه فلا منافاة بين كون المورد علماء أهل الكتاب وعدم اختصاص الوارد به.

ويشهد للكلّيّة المذكورة تطبيق الآية الكريمة على الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كما أنّ الآية لا تختصّ بالأئمّة عليهم‌السلام لمنافاته مع مورد الآية وهو علماء أهل الكتاب فليس ذلك إلّا لكلّية الوارد.

هذا مضافا إلى أنّه لو اختص الآية الكريمة بالسؤال عن أهل الكتاب لزم وجوب قبول قول أهل الكتاب دون غيره ممّن أقرّ بالشهادتين وهو ممنوع إذ لا يحتمل ذلك كما لا يخفى.

نعم يشكل الاستدلال بالآية الكريمة من ناحية أنّه لا أمر بالجواب في الآية حتّى يؤخذ بإطلاقه لصورة عدم إفادة العلم كما في إيجاب الإنذار وحرمة الكتمان وعليه فالمراد من

٢٨٢

الآية هو إيجاب السّؤال إلى أن يحصل العلم بالجواب ولو بجواب جماعة ولا دلالة للآية على حصول العلم بالجواب الأوّل حتّى يكون ذلك علما تعبّدا.

وأمّا ما قيل من أنّ عنوان أهل الذّكر والعلم لا يطلق على الرّواة بما هم رواة مع أنّ لصدق هذا العنوان مدخلية في الحكم ففيه أنّ عنوان أهل الذكر والاطّلاع من العناوين المشكّكة ويصدق على الرّواة أيضا باعتبار معرفتهم بالحلال والحرام ولو من دون إعمال نظر ورأي فتحصّل أنّ الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب التعبّد بقول العادل مشكل.

وأمّا الأخبار فبطوائف

الطّائفة الأولى :

هي الّتي وردت في الخبرين المتعارضين ودلّت على الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور والتخيير عند التّساوي مثل مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصّادق عليه‌السلام حيث قال الحكم ما حكم به أعلمهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر قال فقلت فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه قال فقال ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ... إلى أن قال فإن كان الخبران عنكم مشهوران قد رواهما الثّقات عنكم قال ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنة وخالف العامّة فيؤخذ به الحديث.

وموردها وإن كان في الحكمين إلّا أنّ ملاحظة جميع الرّواية تشهد على أنّ المراد بيان المرجح للروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان.

ثمّ إنّ هذا الخبر باعتبار قوله خذ بأعدلهما ظاهر في اعتبار العدالة في التعبّد بالخبر اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ قوله في الذيل فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم ... إلخ يشهد على أنّ الملاك في حجّيّة الخبر هو نقل الثقات والأعدلية ملاك ترجيح أحد المتعارضين على الآخر.

٢٨٣

ثمّ إنّ مع التعارض لا وثوق بالصّدور ومع ذلك دلّت المقبولة على أنّ الخبر لا يكون بالتعارض ساقطا التعبّد بالخبر.

وإلّا فمع التّعارض لا يحصل الوثوق في الصّدور في الراجح بمجرّد الأفضلية في صفات الرّاوي أو المطابقة مع الكتاب أو المخالفة مع العامّة ومع عدم الوثوق بالصّدور لا بناء من العقلاء وإن كان النّاقل عدلا أو ثقة بل يحكمون بالتّساقط.

ونحو هذه الرواية مرفوعة زرارة قال يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما نأخذ؟ قال عليه‌السلام يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النّادر قلت يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم فقال خذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك فقلت إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان فقال عليه‌السلام انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم قلت ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين كيف أصنع؟ فقال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط فقلت إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر.

فإنّها مثل المقبولة في الدّلالة على أنّ الخبر لا يكون ساقطا عند التّعارض بل يقدّم الراجح من حيث الصفات وساير المرجّحات ومع عدم الرجحان فالحكم هو التخيير وقد عرفت أنّ هذا هو حجّيّة تعبّديّة وليس من باب بناء العقلاء.

اورد عليه بأنّه لا إطلاق لهذه الطّائفة من الأخبار لأنّ السؤال عن الخبرين المتعارضين اللذين فرض السّائل كلّ واحد منهما حجّة يتعيّن العمل به لو لا التّعارض ولا نظر للسّائل بالنّسبة إلى اعتبار خبر كلّ عدل أو ثقة بل نظره إلى حجّيّة الخبر في حال التّعارض.

ويمكن الجواب عنه بأنّ هذه الأخبار ظاهرة الدّلالة على مفروغيّة حجّيّة خبر الواحد في نفسه عند عدم ابتلائه بالمعارض وإلّا لما سألوا عن صورة تعارضها لأنّ هذا السؤال مناسب مع حجّيّة الخبر في نفسه وإنّما أشكل الأمر من جهة المعارضة فسألوا عن حكمهما عند التّعارض.

٢٨٤

ودعوى أنّ التّعارض كما يوجد في الخبرين غير المقطوعين كذلك ربّما يوجد في المتواترين أو المحفوفين بما يوجب القطع بصدورهما وعليه فصرف بيان العلاج لا يدلّ على حجّيّة الخبر الذي لم يقطع بصدوره.

مندفعة بأنّ وقوع المعارضة بين مقطوعي الصّدور بعيد جدّا هذا مضافا إلى أنّ الظّاهر من مثل قوله (يأتي عنكم خبران متعارضان) كون السّؤال عن مشكوكي الصّدور فإذا لم يكن المراد من الأخبار العلاجية مقطوعي الصّدور تكشف الأخبار العلاجية عن مفروغيّة حجّيّة خبر العادل عند عدم المعارضة.

نعم يشكل التمسّك بهذه الأخبار لحجّيّة خبر الثّقة بعد اعتبار الأعدليّة فإنّ المستفاد منه أنّ المعتبر في حجّيّة الخبر هو كون الرّاوي عدلا حتّى يجعل الأعدليّة مرجّحة بينهما.

اللهمّ إلّا أن يقال : يكفي قوله في المقبولة «فإن كان الخبران عنكم مشهوران قد رواهما الثّقات عنكم ... الحديث» للدّلالة على أنّ المعتبر هو كون الرّاوي ثقة والبحث في هذا المقام مع قطع النظر عن سائر الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الثّقة.

الطّائفة الثّانية :

هي التي تدلّ على إرجاع آحاد الرّواة إلى أشخاص معينين من ثقات الرّواة مثل قوله عليه‌السلام : إذا أردت الحديث فعليك بهذا الجالس مشيرا إلى زرارة ولكن هذه الرّواية لا تصلح للاستدلال لاحتمال أن يكون المعتبر هو العدالة وأرجع الرّاوي إليه لكونه عدلا.

وقوله عليه‌السلام : نعم في موثقة الحسن بن علي بن يقطين بعد ما قال الرّاوي أفيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه.

فإنّ الظّاهر منه أنّ قبول قول الثّقة مفروغ عنه بين السّائل والمسئول عنه وإنّما الرّاوي سئل عن كون يونس ثقة ليترتّب عليه آثار ذلك وعدمه.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة أحمد بن اسحاق «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي وما قال لك عنّي فعنّي يقول فاسمع له وأطع فإنّه الثّقة المأمون».

٢٨٥

إذ مقتضى التّعليل أنّ المعيار هو كون الرّاوي ثقة ومأمونا لأنّ المراد بالثّقة هو الثّقة عند النّاس ولذا قال الشّيخ الأعظم بعد نقل الأخبار المذكورة وغيرها وهذه الطّائفة أيضا مشتركة مع الطّائفة الأولى في الدلالة على اعتبار خبر الثّقة المأمون.

اورد عليه بأنّ المراد من الثقات في هذه الإرجاعات هم الأشخاص الذين لا يكذبون لكونهم على مرتبة عظيمة من التّقوى والجلالة حتّى وثق به الإمام عليه‌السلام فهذه الأخبار لا تدلّ على حجّيّة خبر كلّ ثقة بل تدلّ على حجّيّة خبر ثقات أهل البيت وهم العدول.

ويمكن الجواب بأنّه نعم ولكن يكفي ما ورد في مثل يونس بعد سؤال الرّاوي عن كون يونس ثقة منه عليه‌السلام نعم في موثّقة الحسن بن علي بن يقطين للدلالة على كفاية الوثوق عند النّاس.

وحمل الثّقة في هذه الرّواية على غير الصّدق المخبري وإرادة كونه مورد الاطمئنان لأخذ الآراء بقرينة أنّ يونس من الفقهاء بعيد والظّاهر منه هو الثّقة عند النّاس وهو الصادق في إخباره بل لعلّه الظّاهر من التعليل الوارد في صحيحة أحمد بن إسحاق في مورد العمري وهو قوله فإنّ الثّقة المأمون.

الطّائفة الثّالثة :

هي الأخبار الدالّة على وجوب الرّجوع إلى الرّواة والثّقات والعلماء على وجه يظهر منها عدم الفرق بين روايتهم وفتاويهم في وجوب الرّجوع إليهم والأخذ منهم.

مثل قول الحجّة عجّل الله تعالى فرجه لإسحاق بن يعقوب : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله.

بدعوى أنّ ظاهر الصدر وإن كان هو الاختصاص بالرّجوع إليهم في أخذ حكم الوقائع وفتاويهم ولكن عموم التّعليل بأنّهم حجتي يقتضي قبول رواياتهم أيضا لأنّ التعليل معمّم اللهمّ إلّا أن يقال : جعل الحجّيّة للأخصّ وهو الرواة المجتهدون لا يدلّ على جعل الحجّيّة لمطلق الرّواة فهو أخصّ من المدّعى.

ومثل الرّواية المحكية في العدّة عن الصّادق عليه‌السلام إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما

٢٨٦

روى عنّا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به واعتمد الشيخ عليها وصرّح باعتماد الأصحاب عليها.

دلّت هذه الرّواية على جواز أخذ روايات الثّقات ولو من العامّة فيما إذا لم يكن معارض لروايات الثّقات من العامّة في رواياتنا.

ومثل ما رواه في الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام ... فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشّيعة لا كلّهم.

فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامّة فلا تقبلوا منهما عنّا شيئا ولا كرامة وإنما كثر التخليط فيما يتحمّل عنها أهل البيت لذلك لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ويضحون الأشياء على غير وجوهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم.

والمستفاد من مجموع الرّواية أنّ المناط في تصديق الرواة والفقهاء هو التحرّز عن الفسق والكذب وإن كان ظاهر بعض فقراته هو اعتبار العدالة بل ما في فوقها ولكن العبرة بالمستفاد من مجموع الرّواية ومثل ما عن أبي الحسن الثّالث عليه‌السلام فيما كتبه جوابا عن سؤال أحمد بن حاتم بن ماهوية وأخيه عمّن آخذ معالم ديني؟

فهمت ما ذكرتما في دينكما على كل مسنّ في حبّنا وكل كثير القدم في أمرنا فإنّهما كافيكما إن شاء الله تعالى. ولكن عنوان مسنّ في حبّنا وكثير القدم في أمرنا غير عنوان الثّقة فلا يشمل ما إذا لم يكن الثّقة واجدا لهذا العنوان ومثل قوله عليه‌السلام لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا فإنّك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم إنّهم استؤمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ... الحديث.

والظّاهر منه وإن كان هو الفتوى ولكن الإنصاف شموله للرواية والمراد هو المنع عن قبول روايات غير الثقات منهم جمعا بينه وبين ما أفاده الشّيخ الطوسي قدس‌سره في العدّة ونقلناه آنفا.

٢٨٧

ومثل ما عن الإمام العسكري عليه‌السلام بالنّسبة إلى كتب بني فضال حيث قالوا ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء قال خذوا بما رووا وذروا ما رأوا.

فإنّ المستفاد منه هو جواز أخذ الرّواية منهم إذا كانوا من الثّقات.

ومثل قوله عليه‌السلام حديث واحد في حلال وحرام تأخذوه من صادق «يأخذه صادق عن صادق» خير لك من الدنيا وما فيها من ذهب وفضّة. بناء على أنّ المراد من الصّادق هو الصدق المخبري.

ومثل ما ورد في التوقيع لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرنا ونحمله إيّاه إليهم.

ولكنّه أخصّ من المدّعى لأنّ ثقاتنا أخصّ من عنوان الثّقة ولو عند النّاس هذا مضافا إلى توصيف الثّقة بكونها من أهل السّرّ.

الطّائفة الرّابعة :

هي الأخبار الدالّة على جواز العمل بخبر الواحد كالنّبوي المستفيض بل المتواتر من حفظ من أمتي أربعين حديثا ممّا يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله فقيها عالما.

بدعوى أنّ دلالة هذا الخبر على حجّيّة خبر الواحد لا يقصر عن دلالة آية النفر ولكنّه لا يخلو عن إشكال وهو أنّه لا ملازمة بين النّقل والقبول تعبّدا لاحتمال أن يكون القبول مشروطا بحصول العلم أو الاطمئنان أو اتّصاف الرّاوي بوصف العدالة.

وكقوله عليه‌السلام اكتب وبثّ علمك في إخوانك فإن متّ فاورث (فورث) كتبك بنيك فإنّه يأتي على النّاس زمان حرج لا يأنسون (فيه) إلّا بكتبهم.

وجه الدلالة واضح فإنّ مورد التّوصية هو كتابة الواحد هذا مضافا إلى التعبير عنه بالبثّ بالعلم وأنّه إرث وموجب للأنس به وكلّ ذلك ينادي بحجّيّة خبر الواحد وكقوله عليه‌السلام ستكثر بعدي القالة وإنّ من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار.

بدعوى أنّ بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات لم يكثر القالة والكذابة إذ الاحتفاف بالقرينة القطعيّة في غاية القلّة.

٢٨٨

وبالجملة يستفاد من مجموع هذه الأخبار القطع برضا الأئمّة عليهم‌السلام بالعمل بالخبر الواحد وإن لم يفد القطع ثمّ إنّ هذه الأخبار كثيرة إلى حدّ ادّعى في الوسائل تواترها.

ولكن القدر المتيقّن منها هو خبر الثّقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتنى به العقلاء ويقبحون التوقّف فيه لأجل هذا الاحتمال كما دلّ عليه لفظ الثّقة والمأمون والصّادق وغيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها.

بل ولو لم يكن الأخبار متواترة بالاصطلاح كفى كونها مفيدة للاطمئنان بحجّيّة خبر الثّقة ولو لم يكن عادلا هذا.

وأمّا العدالة فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عن اعتبارها بل في كثير منها التّصريح بخلافه مثل ما رواه الشيخ في كتاب العدّة في الأخذ بما روته الثقات عن على عليه‌السلام. ولو من رواة العامّة وما ورد في كتب بني فضال ، ومثل عموم التعليل في صحيحة أحمد بن اسحاق لقبول رواية العمري بأنّه الثّقة المأمون فإنّه يفيد الكبرى الكلّي وهي أنّ كلّ ثقة مأمون يسمع له وتطبيق هذه الكبرى على مثل العمري الذي كان في مرتبة عالية من الوثاقة والجلالة لا ينافي كون المعيار هو إفادة الوثوق بالمخبر ولا دخالة لما زاد عليه من المراتب العالية لأنّ ما زاد من خصوصيّات المورد كما لا يخفى وغير ذلك من الأخبار.

وأمّا ما يظهر من الأخبار من حصر الذي يعتمد عليه في أخذ معالم الدين في طائفة الشيعة فهو بالنّسبة إلى غير الثّقة من العامّة فالحصر اضافي ويكون بالنّسبة إلى غير ثقاتهم فلا ينافي ما دلّ على جواز الأخذ من ثقاتهم فيما إذا لم يعارضه ما وصل إلينا من طرقنا.

هذا مضافا إلى أنّ بناء العامّة على العمل بخبر الواحد كان ذلك بمرأى ومسمع الأئمّة عليهم‌السلام ومع ذلك لم يردعوا عنه كما دلّ عليه روايات :

منها مرسلة داود بن فرقد حيث قال الإمام الصادق عليه‌السلام لابن أبي ليلى فبأيّ شيء تقضي قال بما بلغني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن علي وعن أبي بكر وعمر قال فبلغك عن رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ عليا أقضاكم قال نعم قال فكيف تقضي بغير قضاء علي وقد بلغك هذا ... الحديث.

٢٨٩

بدعوى أنّ قول ابن أبي ليلى بما بلغني يدل على أنّ مراده منه البلوغ بنحو الخبر الواحد لقلّة التواتر جدّا ولم يردعه الإمام عليه‌السلام عن ذلك بل شبّهه بخبر آخر وصل إليه.

نعم يمكن الإشكال فيه بأنّه لا إطلاق له حيث إنّه في مقام بيان لزوم القضاء بقضاء علي عليه‌السلام إلّا أنّ احتمال اشتراط العلم في البلوغ في أخبار العامّة بعيد جدّا بناء الأصحاب أيضا على ذلك كما يدلّ عليه الأخبار فمنها مرسلة شبيب وأبي جميلة البصري وموثّقة إسحاق بن عمّار وخبر علي بن حديد وخبر معمّر بن خلّاد وصحيحة زرارة وخبر سليم بن قيس وغير ذلك من الأخبار الحاكية على أنّ أصحابنا آخذون بخبر الواحد الثّقة ودعوى كون المتيقّن من الرّوايات هو اعتبار خبر العدل لا الثّقة كما يشهد له الارجاع إلى الأعدل في المتعارضين فإنّه حاك عن كون كلّ طرف من أطراف التعارض عدلا هذا مضافا إلى اعتبار عنوان (ثقاتنا) وعنوان (مرضيان) وعنوان (حجّتي) وعنوان (من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه) وعنوان (كلّ مسنّ في حبّنا) وعنوان (كل كثير القدم في أمرنا) فإنّها ظاهرة في اعتبار العدالة وفوقها.

مندفعة بأنّ اعتبار هذه العناوين ليس من جهة دخالتها في حجّيّة الرّواية بل من باب خصوصيّة مورد السّؤال أو من باب علاج الأخبار المتعارضة.

والشاهد على ذلك عدم اعتبار الأصحاب في الأخذ بالرّوايات أن يكون الرّاوي من أصحاب السّر أو ممّن يرضى عنه الأئمّة عليهم‌السلام أو أن يكون الرّاوي من الشيعة كما صرّح بذلك الشّيخ الطّوسي في العدّة حيث قال : إنّ الطائفة عملت بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن درّاج والسكوني وغيره من العامة الذين ينقلون الأخبار عن أئمّتنا عليهم‌السلام فالمعيار في جواز الأخذ هو الوثوق بالناقل ولو كان عامّيا.

نعم يتقدّم رواية الشّيعي الثّقة على رواية العامّي الثّقة عند التّعارض كما رواه في العدّة عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلى ما رووه (اي ما روته العامّة) عن علي عليه‌السلام فاعملوا به.

٢٩٠

فتحصّل أنّ مقتضى امعان النّظر في الأخبار هو حجّيّة خبر الثّقات فلا مجازفة في دعوى تواترها بالتّواتر المعنوي بالنّسبة إلى حجّيّة خبر الثّقات ذهب في الكفاية إلى أنّ التّواتر في المقام إجمالي لأنّها غير مقتصر على لفظ أو على معنى حتّى تكون متواترة لفظا أو معنى.

ومعنى التواتر الإجمالي هو العلم بصدور بعضها منهم وقضيّته وإن كانت حجّيّة خبر دلّ على حجّيّة أخصّها مضمونا إلّا أنّه يتعدّى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصيّة وقد دلّ على حجّيّة ما كان أعمّ.

وقد عرفت كفاية الأخبار المذكورة في إثبات التّواتر المعنوي هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من بعضها أنّ خبر الثّقة مفروغ الحجّيّة عند السائل والمسئول عنه وأيضا سيرة الأصحاب على العمل بخبر الثقات ولو كان المخبر من العامّة أو الذين أخطئوا في اعتقاداتهم من فرق الشّيعة.

ثمّ إنّ الأخبار التي دلّت على اعتبار الأعدلية لا تعارض مع الأخبار المذكورة لأنّها في مقام ترجيح أحد المتعارضين على الآخر فلا وجه لجعلها من أدلّة اعتبار العدالة في حجّيّة الخبر هذا مضافا إلى دلالة قوله في المقبولة : (فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم ...) على أنّ الملاك في حجّيّة خبر الواحد هو كون الرّاوي ثقة كما أنّه لا وجه لجعل الأخبار الواردة في موارد العدول من الأخبار المعارضة بعد كونها معلّلة بكون الملاك في اعتبار أخبارهم هو كونهم من الثّقات المأمونين فلا تغفل.

وينقدح ممّا ذكرنا أنّه لا وجه للقول بتعارض الأخبار وإنّ النّسبة بينها من العموم من وجه والأخذ بالقدر المتيقّن منها وهو الجامع للعدالة والوثاقة كما ذهب إليه في مصباح الاصول وذلك لما عرفت من أنّ مقتضى الإمعان في الرّوايات أنّها غير متعارضة ولا منافاة فيها حتّى تأخذ بالأخص مضمونا والأظهر هو ما ذهب إليه الشّيخ الأعظم قدس‌سره من ثبوت التّواتر المعنوي على اعتبار خبر الثّقة المأمون.

وعليه فدعوى منع التّواتر المعنوي والأخذ بالتّواتر الإجمالي والأخذ بالخبر الصحيح

٢٩١

الأعلائي والاستدلال به لحجّيّة خبر كلّ ثقة المأمون تبعيد المسافة من دون موجب.

ثمّ إنّ الظاهر هو من محكيّ المحقّق النائيني قدس‌سره إنكار التّواتر الإجمالي بدعوى أنّا لو وضعنا اليد على كلّ واحد من تلك الأخبار نراه محتملا للصدق والكذب فلا يكون هناك خبر مقطوع الصّدور.

وفيه أنّ مع تسليم عدم ثبوت التّواتر المعنوي فلا وجه لإنكار التّواتر الإجمالي وذلك لأنّ احتمال الصّدق والكذب بالنّسبة إلى كلّ فرد لا ينافي حصول القطع بصدور الأخصّ مضمونا باعتبار المجموع ألا ترى أنّه إذا أخبر النّفرات الكثيرة بدخالة شيء في صحّة معاملة أو عبادة أو بحدوث أمر مع الاختلاف في النقل لم نعلم بخصوص كلّ واحد مع قطع النّظر عن أخبار الآخرين ولكن مع ملاحظة أخبار الآخرين نعلم بدخالة الأخصّ مضمونا كما لا يخفى فإنّه هو الذي أخبر عنه بخصوصه أو في ضمن المطلق ففي المقام إذا فرضنا أنّ بعض الأخبار يدلّ على اعتبار العدالة وبعضها الآخر يدلّ على اعتبار الثّقة وثالث يدلّ على اعتبار كونه إماميا وفي رابع يدلّ على اعتبار كونه مأمونا حصل لنا القطع باعتبار الاخصّ مضمونا وهو خبر الثّقة العدل الإمامي المأمون بملاحظة مجموع الأخبار وإن لم نقطع باعتبار كلّ واحد واحد فلا مجال لإنكار التواتر الإجمالي ومقتضاه هو الالتزام بحجّيّة الأخصّ منها المشتمل على جميع الخصوصيّات المذكورة في هذه الأخبار.

إلّا أنّ الذي يقتضي الإنصاف هو عدم وجود خبر يدلّ على اعتبار كون الرّاوي إماميا وعدم وجود خبر يدل على اعتبار العدالة لأنّ ما يستدل به لاعتبارها يكون موردا بالنّسبة إلى عموم التعليل أو لا إطلاق له أو يكون مخصوصا بباب علاج الأخبار المتعارضة وأمّا اعتبار كونه مأمونا فهو ملازم مع كونه ثقة وعليه فلا معارض لإطلاق ما يدل على اعتبار كون الرّاوي ثقة.

والرّوايات الدالّة على حجّيّة أخبار الثّقات كثيرة ودعوى تواترها بالتّواتر المعنوي ليست بمجازفة وممّا ذكرنا يظهر ما في المحكي عن الشهيد الصدر من أنّ الرّوايات خمسة

٢٩٢

عشر رواية وهي عدد لا يبلغ حد التّواتر ولكن في خصوص المقام هناك بعض القرائن الكيفيّة التي قد توجب حصول الاطمئنان الشخصي لصدور بعض هذه الرّوايات وإن فرض التشكيك في ذلك وعدم حصول اطمئنان شخصي فيكفي الاطمئنان النّوعي بالنّسبة إلى بعض الرّوايات وهي صحيحة الحميري وهي القدر المتيقّن من السّيرة العقلائية وذلك لأنّ الرّوايات لا تنحصر في خمسة عشر رواية بل تزيد عليها بكثرة وعليه فلا وجه لإنكار التواتر رأسا والاعتماد على الظنّ الشخصي الاطمئناني لأنّ مجموع الأخبار يكون بحدّ يحصل القطع بأنّ الثقات حجّة بل التعليلات الواردة في الأخبار تشرح الأخبار الاخرى الّتي لم تعلم منها أنّ المعيار هو العدالة أو الوثاقة كما لا يخفى.

التنبيهات

التنبيه الأول :

إن ارجاع الأخبار الى الارشاد الى ما عليه بناء العقلاء واعتبار الوثوق والاطمئنان النوعي بمؤداه لا دليل له ؛ إذ مجرد كون الشيء مما عليه بناء العقلاء لا يجوز ذلك ما دام يمكن أن يتعبد الشارع بما عليه البناء بالامضاء مع التوسعة أو التضييق ، كما في مثل المعاملات كقوله عزوجل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المؤمنون عند شروطهم» وقوله عليه‌السلام : الصلح جائز ، وغير ذلك ؛ فان هذه العبارات امضاءات لا ارشادات ، ولذا يتمسك باطلاقها ولو لم يثبت اطلاق البناء.

وعليه فيجوز الاخذ بقول الثقات تعبدا ولو لم يحصل منه الاطمئنان النوعي. ويشهد لذلك وقوع التعبد في المقام بالراجح من المتعارضين عند ترجيح أحدهما بالاوصاف أو موافقة الكتاب أو مخالفة العامة ، مع أن المرجحات المذكورة لا توجب الاطمئنان النوعي بالمؤدى ، وأيضا يشهد لذلك التعبد بالتخيير عند عدم وجود المرجحات مع أن البناء على التساقط ، ويعتضد ذلك أيضا بوقوع التعبد بالاخبار ولو مع كثرة الوسائط مع أنه لا يحصل

٢٩٣

الاطمئنان احيانا بسبب كثرة الوسائط ويعتضد ذلك أيضا بوقوع التعبد بتقديم أخبار ثقات الشيعة على اخبار ثقات العامة عند اختلافهما مع أنه لا فرق بينهما عند العقلاء ، كل ذلك شاهد على أن اعتبار الأخبار من باب الامضاءات لا الارشاد ، وإلّا فلا مجال لهذه التصرفات التعبدية ، كما لا يخفى.

وأيضا لو كانت حجية الأخبار من باب بناء العقلاء فلا حاجة الى إتعاب النفس في الاستدلال بالأخبار ، بل يكفي فيها عدم الردع ، كما هو الواضح.

ثم إنا لا نضايق من وجود بناء العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقات ، ولكن نقول لا وجه لحمل ادلة اعتبار الأخبار على الارشاد ، بل اعتبار الأخبار من باب التعبد ، والمستفاد منها هو الاعم مما عليه بناء العقلاء ، كما عرفت.

ومما ذكر يظهر أنه لا وجه لحمل سيرة المسلمين أيضا على السيرة العقلائية مع اختلافهما في الموارد ، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.

ولذا يشكل ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أن الانصاف أن الدال من الأخبار لم يدل إلّا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤداه ، وهو الذي فسر به الصحيح في مصطلح القدماء ، والمعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء ، ولا يكون عندهم موجبا للتحير والتردد. (١)

وذلك لما عرفت من دلالة الأخبار على لزوم العمل بقول الثقات تعبّدا من دون اعتبار حصول الوثوق النوعي والاطمئنان بمؤداه. نعم يصح اعتبار الوثوق والاطمئنان النوعي لو كانت الأخبار ارشادا الى بناء العقلاء ، ولكن المفروض أنّ اعتبار الأخبار تعبد ، وليس بارشاد. نعم يصح اعتبار الوثوق النوعي والاطمئنان بالمخبر ؛ لانّ الثقة لا معنى لها إلّا ذلك ، وأمّا الوثوق بمؤدى خبره فلا دليل له بعد ما عرفت من أن اعتبار الاخبار من باب التعبد.

ولقد أفاد بعض الاعلام حيث قال : أن الاخبار تفيد التعبد بلزوم العمل بقول العدول ،

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ١٠٦.

٢٩٤

ولكن يرد عليه انه لا وجه لتخصيص التعبد بقول العدول مع أن عنوان الثقة أعم منه ، هذا مضافا الى أن لازمه هو القول بالانسداد ؛ فان كثيرا من الموارد لا تكون الروات عدولا ، كما لا يخفى. فمع اختصاص التعبد بالعدول يحصل الانسداد ، وهو كما ترى.

فتحصّل : أن مفاد الاخبار هو اعتبار قول الثقة تعبدا لا الارشاد الى بناء العقلاء واعتبار الوثوق النوعي بمؤدى الخبر ، فلا تغفل.

التنبيه الثاني :

أنّ مما استدل به الشيخ الأعظم قدس‌سره لحجية أخبار الثقات هو استقرار سيرة المسلمين طرّا على استفادة الأحكام الشرعية من أخبار الثقات المتوسطة بينهم وبين الامام عليه‌السلام أو المجتهد ، أترى أنّ المقلدين يتوقفون في العمل بما يخبرهم الثقة عن المجتهد أو الزوجة تتوقف فيما يحكيها زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما يتعلق بها الى أنّ يعلموا من المجتهد تجويز العمل بالخبر الغير العلمي ، وهذا مما لا شك فيه.

ودعوى حصول القطع لهم في جميع الموارد بعيدة عن الانصاف. نعم المتيقن من ذلك حصول الاطمئنان بحيث لا يعتنى باحتمال الخلاف. (١)

اورد عليه اولا بأنّه مع اختلاف بعض العلماء في المقام مثل السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن ادريس في جواز العمل بمطلق الخبر كيف يمكن دعوى قيام سيرة المسلمين على ذلك ؛ فانهم ومقلديهم يخالفون في العمل ، فلا يتحقق سيرة المسلمين طرا وإن لم يضر ذلك الاختلاف بقيام الاجماع الحدسي لامكان الحدس من اتفاق غيرهم.

اللهمّ إلّا أن يقال : ما من سيرة إلّا تخالفها جماعة ، ألا ترى أن السيرة على رجوع الجاهل الى العالم ومع ذلك خالف الأخباريون في ذلك. والملاك في حجية السيرة المتشرعية هي الكشف عن رأي الشارع أيضا وهو حاصل وأن خالفها جماعة ، فتأمل.

وثانيا كما في الكفاية بقوله : ولو سلّم اتفاقهم على ذلك لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم

__________________

(١) فرائد الاصول : ٩٩ ـ ١٠٠.

٢٩٥

مسلمون ومتدينون بهذا الدين أو بما هم عقلاء ولو لم يلزموا بدين كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأمور الدينية من الأمور العادية. (١)

ولكن يمكن الجواب عنه بما عرفت من أنه لا موجب لارجاع سيرة المسلمين الى سيرة العقلاء بعد ما نرى من الاختلاف بينهما في جواز العمل وعدمه في بعض الاحوال ، كحال كثرة الوسائط أو حال التعارض وترجيح أحدهما بالصفات أو بالمخالفة مع العامة أو بالموافقة مع الكتاب أو التخيير فيما اذا لم يكن مرجح ؛ فان الاختلاف المزبور شاهد على أن سيرتهم ثابتة بما هم مسلمون لا بما هم عقلاء ، فتدبّر.

وعليه فسيرة المسلمين كالأخبار في افادة حجية خبر الثقات مطلقا سواء حصل الاطمئنان النوعي أو لا. نعم لا يبعد تقييدها بما دلّت عليه أخبارنا من تقديم الثقة الامامي على الثقة العامي عند المخالفة.

نعم المستفاد من قول الشيخ قدس‌سره : نعم المتعين من ذلك حصول الاطمئنان بحيث لا يعتني باحتمال الخلاف هو اختصاص السيرة بمورد حصول الاطمئنان.

وقد عرفت امكان المنع عن ذلك ؛ لوجدان السيرة المتشرعة على نقل الثقات ولو لم يحصل الاطمئنان النوعي ؛ إذ لا ملازمة بين كون الراوي ثقة وأمينا وصادقا وبين الوثوق بصدور ما أخبر به ، لاحتمال الخطأ والاشتباه ، بل لاحتمال تعمد الكذب فيما اذا كان احراز وثاقة الراوي بقيام البينة أو الاكتفاء بحسن الحال.

قال الشهيد الصدر قدس‌سره : لا اشكال في أنّ الروايات التي بأيدينا ليس رواتها كلهم من الاجلّاء الذين لا يحتمل في حقهم تعمد الكذب ، كيف وفي الرواة من ثبت كونه وضاعا ودجالا ، كما شهد بذلك الائمة عليهم‌السلام في حق بعضهم ، وشهد بذلك النقادون من علماء الرجال وكبار الطائفة ، بل أن بعض الرواة أيضا كان يتّهم بعضهم بعضا ويكذبه ، وبين القسمين طائفة منهم كانوا وسطا بين الطائفتين وهم اكثر الرواة حيث لا يعهد أنهم على تلك المرتبة

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ ص ٩٨.

٢٩٦

العالية من التقوى والورع والضبط ولكن لا يعرف في حقهم الوضع والدس والكذب.

ولا اشكال أن روايات مثل هذه الطائفة لم يكن يحصل منها العلم أو الاطمئنان ، والفقهاء وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام كانوا يواجهون هذه الروايات في أكثر المسائل الفقهية ؛ لانّ الأحاديث هي أساس الفقه وعماده عند جميع المذاهب الفقهية الاسلامية ، فلا بد لهم من موقف تجاهها ، ولا يحتمل أن يكون موقفهم تجاهها الرفض من دون استعلام حالها عن الامام عليه‌السلام ؛ إذ كيف يمكن افتراض ذلك مع أن العمل بخبر الثقة إن لم يكن عقلائيا فلا أقل أنه ليس مرفوضا عقلائيا ، فكيف يفرض عدم استعلام حال حجيته منهم مع كون الشبهة حكمية بل ام الشبهات التي يقوم عليها عماد الفقه ، كما لا يحتمل أنهم رفضوها بعد استعلام حالها عن المعصومين عليهم‌السلام ؛ اذ كيف يمكن فرض ذلك مع عدم حصول رواية على المنع ، بل ما وصل إمّا دال على الحجية أو مناسب معها قابل للحمل عليها ، بل أساسا احتمال رفض العمل بهذه الأخبار غير وارد للقطع بعملهم بها ... الى أن قال : فانّ ذلك يكشف عن السنة المتمثلة في تقرير المعصوم لعمل أصحابه أو بيان موافق صادر منه اليهم.

وأما احتمال أنهم قد عملوا بها لحصول العلم أو الاطمئنان لهم فهو بعيد ، بل مما يقطع بعدمه. (١)

ثمّ إنّ نفس انعقاد سيرة المتشرعة كما أفاد الشهيد الصدر قدس‌سره دليل قطعي على عدم شمول عمومات النهي عن اتّباع الظن للعمل بخبر الثقة. (٢)

التنبيه الثالث :

أنه لا يخفى وقوع التعبد بالخبر الواحد بعد ما عرفت من الأخبار الكثيرة الدالة على حجية قول الثقات ، ولكن ربما يمنع ذلك ويقال : أن وثاقة الشخص بمعنى تحرزه من الكذب تارة تحرز بالوجدان بواسطة المعاشرة أو بواسطة شهادة من يطمأن بشهادته وإصابتها

__________________

(١) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٩٧.

٢٩٧

للواقع ، واخرى تثبت بواسطة حسن الظاهر الذي جعل طريقا للعدالة شرعا ، وثالثة تثبت بشهادة البينة العادلة التي يجوز في حقها الاشتباه ، والصنف الأول يلازم الجزم بصدقه وتحقق المخبر به ؛ لفرض أنه ممن يقطع بعدم كذبه ، نعم قد يحتمل في حقه الاشتباه المنفي بأصالة عدم الغفلة.

وأما الصنفان الآخران فهما ممن يجوز في حقهما الكذب ، إذ حسن الظاهر لا يلازم الوثاقة واقعا ، وهكذا شهادة البينة بالنحو الذي عرفته ، وعليه فالتعبد بالصدق وايجاد التصديق الذي هو واقع حجية الخبر المبحوث انما يصح بالنسبة الى الصنفين الآخرين ، لا بالنسبة الى الصنف الأول للاطمئنان بعدم كذبه كما هو الفرض ، وعليه فلا معنى لحجية خبر الثقة بالمعنى الأول.

ومن الواضح أنّ موضوع الإرجاع في رواياته من الصنف الأول ، فانّ شهادة الامام عليه‌السلام بالوثاقة لمن يرجع اليه تلازم القطع بوثاقته ، لعدم جواز الاشتباه في حقه عليه‌السلام ، فيكون من قبيل تحصيل الجزم بالوثاقة من المعاشرة ، وفي مثل ذلك لا يتوقف قبول قوله على التعبد ، بل يجزم بصدقه بلا تردد ، فالنصوص المزبورة لا تتكفل التعبد بخبر زرارة أو غيره ، بل تتكفل الارشاد الى وثاقته ، فيترتب عليها القبول عقلا للجزم بصدقه لا تعبدا.

فما نحتاج فيه الى التعبد بخبره لا تتكفله النصوص المزبورة ، وهكذا الحال في مثل «لا عذر لأحد ...» ؛ لأنّ رواية الثقة مستلزمة للجزم ، فلا يعذر تارك العمل بها عقلا ، فهي لا تتكفل جعل الحجية لخبر الثقة ؛ إذ لا معنى لذلك ولا محصل له ، هذا. (١)

ويمكن أن يقال : أن اراد القائل بذلك أن النصوص منحصرة في الصنف الأول من الارجاع الى ثقاتهم ففيه ما لا يخفى ؛ لما عرفت من دلالة النصوص على تقرير العامة في العمل بما روى الثقات عندهم عن علي عليه‌السلام كخبر شبيب بن انس وداود بن فرقد ، وأيضا عرفت دلالة النصوص على اعتماد اصحابنا على نقل الثقات ، ولم ينهوا عنه.

وأيضا دل بعض الأخبار على أن وجه النهي عن أخبار غير ثقات العامة هو الخيانة ، ومقتضى ذلك هو جواز النقل عنهم عند انتفاء الخيانة كما لا يخفى.

__________________

(١) منتقى الاصول : ج ٤ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

٢٩٨

وأيضا دل ما رواه ابن الجهم على أن خبر الثقة في نفسه حجة ، وانما السؤال عن حاله عند ابتلائه بالمعارض.

وأيضا دل خبر الكناسي على جواز الاعتماد على نقل من ضيّع كلام الامام بعدم العمل به اذا كان موثقا في نقله ، فراجع.

وأيضا دل موثق معاذ بن مسلم النحوي على ترغيب معاذ في نقل الأخبار عن الثقات للآخرين.

والى غير ذلك من الأخبار الدالة على حجية خبر الثقات ولو لم نعاشرهم ولم يثبت توثيقهم بسبب قول الامام عليه‌السلام.

هذا مضافا الى أن بعض الارجاعات الى بعض ثقات الائمة معلّل بعنوان كلي ، ومن المعلوم أن هذا العنوان الكلي ليس مما أخبر عنه الامام بوثاقته حتى لا يتوقف قبوله على التعبد لحصول الجزم به من دون تردد ، فلا وجه لمنع التعبد وانكاره رأسا.

وأيضا إنّ الارجاعات الى الموثقين بتوثيق الامام لا تختص بمن سمع من الامام عليه‌السلام توثيقه ، بل الامر كذلك لمن سمع ممن سمع من الامام عليه‌السلام ، فبعد الواسطة ربما لا يحصل معه الجزم بوثاقة الواسطة ، ومع عدم الجزم بوثاقته يمكن التعبد ، كما لا يخفى.

التنبيه الرابع :

أنّ الوثوق الفعلي بالصدور بمنزلة العلم بالصدور ، فكما أن العلم حجة عقلا ولا يحتاج الى الامضاء ، فكذلك ما يقوم مقامه من الوثوق الفعلي.

ولا ينافي الوثوق المذكور الآيات الناهية عن العمل بالظن ؛ لخروج الوثوق المذكور عنها بالتخصص ، فلا تشمله الآيات الناهية.

وعليه فاذا وثقنا وثوقا فعليا بصدور خبر ولو كان مرسلا أو مسندا بسند ضعيف مردود فالخبر حجة عقلا يصلح للاستناد اليه ؛ للوثوق والاطمئنان الفعلي بصدوره ، ولا يحتاج الى دلالة دليل على حجيته.

ولعل اعتماد الاصحاب على ما روي بسند صحيح عن أصحاب الاجماع من هذا الباب ؛

٢٩٩

لان ذلك يكشف عن احتفاف رواياتهم بقرائن توجب الوثوق الفعلي لهم بصدورها وأن وقعت في طريقهم الى الامام عليه‌السلام غير الثقات أو المجاهيل أو كانت طرقهم اليه عليه‌السلام هي المرسلات أو المرفوعات هذا بناء على أن معنى اجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم بمعنى تحقق الاجماع على تصحيح المروى لا الراوى وإلّا فيكون ذلك كاشفا عن احتفاف الراوى بامور توجب الوثوق الفعلى بوثاقته.

وايضا يمكن أن يكون اعتماد الأصحاب على المتون المنقولة في كتب علي بن بابويه وهداية الصدوق ونهاية الشيخ الطوسي وغيرهم أيضا من هذا الباب ؛ فانهم اطمأنوا بالاطمئنان الفعلي بصدورها بعمل أمثال هؤلاء بها ، وحينئذ فان حصل لنا أيضا ذلك الاعتماد فهو حجة ، ولعل اعتماد جلّ الاصحاب أو كلهم مع اختلاف مشاربهم واستعداداتهم حاك عن مقرونية المتون أو المروي بالقرائن المحسوسة التي تصلح لايجاد الوثوق والاطمئنان الفعلي لنا أيضا ، وإلّا لما اجمعوا عليه بل اختلفوا.

فلا مورد لما ربما يقال من أن اعتمادهم على أصحاب الاجماع أو صاحب المتون لعله لا يوجب اعتمادنا عليهم.

لما عرفت من أن اعتماد الجل أو الكل يحكي عن المقرونية بما يكون قريبا بالحس بحيث لو اطلعنا عليه لوثقنا به كما أنهم وثقوا بذلك ، نعم لو لم يحصل لنا ذلك الاعتماد فاعتمادهم ليس حجة لنا.

التنبيه الخامس :

في أنه لا يبعد دعوى أنّ الوثوق النوعي بالصدور مما يصلح للاحتجاج عند العقلاء وإن لم يقرن بالوثوق الفعلي أو لم يكن الراوي ثقة ؛ وذلك لأنّ الوثوق النوعي طريق عقلائي. ولذا يصح احتجاج الموالى على عبيدهم بذلك.

ودعوى اختصاص الطريق العقلائي بخصوص نقل الثقات مندفعة بصحة الاحتجاج المذكور ، كما لا يخفى.

٣٠٠