عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

الطائفة الثالثة :

كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله. (١)

وكقول أبي عبد الله عليه‌السلام : فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزوجل ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) الحديث.

وكقول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في موثقة يونس : فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصداق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه ، وقولوا انت أعلم وما جئت به ، فإنّ مع كل قول منا حقيقة وعليه نور ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان. (٣)

وعليه فهذه الروايات تدلّ على ممنوعية الأخذ بالروايات المخالفة للقرآن ولا كلام فيه ، ولكن المراد من المخالف هو المناقض كما أشار إليه في موثقة يونس ، ولا إشكال في مردودية الأخبار المتباينة مع الكتاب وخروجها عن الاعتبار. ودعوى تعميم المخالف لمثل العموم والخصوص لا يساعده العرف مع إمكان الجمع بين العموم والخصوص والمطلق والمقيّد ، وإطلاق المخالف على مخالفة العموم والخصوص أو المطلق والمقيّد إطلاق بدويّ ، كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ نقل الروايات المتباينة مع القرآن غير مقبول عند الأصحاب ، فكيف يحمل المخالفة عليها؟! فليكن المراد من المخالفة هو العموم والخصوص المطلق ، لا التباين أو العموم من وجه.

لأنّا نقول : تشهد الأخبار المتعددة منها صحيحة هشام بن الحكم وموثقة يونس على أن جماعة من خصماء أهل البيت : كالمغيرة بن سعيد وابي الخطاب وغيرهما كانوا يأخذون

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١٥.

(٢) رجال الكشي رقم ١٩٤ المغيرة بن سعيد رقم ١٠٣.

(٣) رجال الكشي : ١٩٥. المغيرة بن سعيد رقم ١٠٣.

١٨١

الاصول ويدسّون الأحاديث المخالفة فيها ولم يرووها حتى لا يقبلها الأصحاب.

قال سيدنا الامام المجاهد قدس‌سره : إنّ الفرية إذا كان على وجه الدسّ في كتب أصحابنا يحصل لهم في هذا الجعل والبهتان كل مقاصدهم من تضعيف كتب أصحابنا بإدخال المخالف لقول الله ورسوله فيها حتى يشوّهوا سمعة أئمة الدين عليهم‌السلام بين المسلمين وغيرهما من المقاصد الفاسدة التي لا تحصل إلّا بجعل أكاذيب واضحة البطلان.

هذا ، مضافا إلى أنّه لو قلنا بعموم الأخبار الدالة على عدم قبول المخالف لعامة أقسام المخالفة من الخصوص المطلق ومن وجه والتباين الكلي يلزم خلاف الضرورة ؛ فإنّ الأخبار المقيدة أو المخصصة للكتاب قد صدرت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه بعده عليهم‌السلام بلا شك ، فلا بدّ من حملها على المخالف بالتباين الكلي. (١)

الطائفة الرابعة :

الأخبار الدالة على اشتراط الأخذ بالأخبار بوجود شاهد لها من الكتاب أو السنة :

كقول أبي عبد الله عليه‌السلام عند السؤال عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فالذي جاءكم أولى به. (٢)

ويمكن الجواب عنه بأنّ هذه الأخبار تكون من الأخبار العلاجية بقرينة قول السائل سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث ونحوه ، وعليه فهي واردة في مقام ترجيح الموافق على غيره ، ولا إطلاق لها حتى يشمل صورة عدم التعارض ، كما لا يخفى.

هذا ، مضافا إلى ما أفاده شيخنا الأعظم قدس‌سره من القطع بصدور أخبار ليس لها شاهد من الكتاب والسنة ، فمن تلك الأخبار ما عن البصائر والاحتجاج وغيرهما مرسلة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لازم ولا عذر لكم في تركه ، وما لم

__________________

(١) تهذيب الأصول ٢ : ١٠٧.

(٢) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١١.

١٨٢

يكن في كتاب الله تعالى وكانت فيه سنة منّي فلا عذر لكم في ترك شيء ، وما لم يكن فيه سنة منّي فما قال أصحابي فقولوا به ، فإنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اخذ اهتدي وبأيّ أقاويل أصحابي أخذتم اهديتم ، واختلاف أصحابي رحمة لكم. قيل : يا رسول الله ومن أصحابك قال : أهل بيتي ، الخبر.

فإنّه صريح في أنّه قد يرد من الأئمة عليهم‌السلام ما لا يكون له شاهد من الكتاب والسنة. (١)

هذا كلّه مع أن كل طائفة من الأخبار المذكورة لا تكون متواترة ، بل هي أخبار آحاد لا يجوز الاستدلال بها قبل إثبات حجّيّة الخبر الواحد ، وهي لا تقاوم الأدلّة الآتية الدالّة على حجّية الخبر الواحد ؛ فإنّها موجبة للقطع بحجية خبر الثقة ، فلا بدّ من توجيه الطوائف المذكورة.

نعم يمكن دعوى التواتر الإجمالي بمعنى العلم بصدور البعض في مجموع الطوائف ، ولكن اللازم حينئذ هو الأخذ بالأخص مضمونا ؛ لأنّه المتيقن ، والأخص مضمونا هو الخبر الذي يخالف الكتاب بنحو المخالفة التباينية ، فتحصّل : أنّه لا مانع من حجّيّة الخبر الواحد ، فاللازم هو إقامة الدليل عليها. ولقد أفاد وأجاد سيدنا الأستاذ المحقق الداماد قدس‌سره في محكي كلامه بالنسبة إلى الأخبار المانعة حيث قال إنّ الأخبار المانعة معارضة في خصوص موردها بالأخبار العلاجية الدالة على لزوم ترجيح الخبر على معارضه المخالف للكتاب الوارد مورد ثبوت الحجّيّة لكل واحد من الطرفين لو لا المعارضة مع أن فيها دلالة على أن هذا المرجّح مؤخر عن مثل الأفقهية والأعدلية ونحوهما التى لازمها كون المخالف مقدما على معارضه إذا كان رواية أفقه أو أوثق وبالجملة لا مجال لتشكيك في أن المفروض فيها سؤالا وجوابا حجيّة المخالف ووجوب الأخذ به لو لا التعارض فيجب التأويل في هذه الأخبار بحملها على غير المخالف بنحو العموم والخصوص والإطلاق والتقييد بل التحقيق أن هذا ليس تاويلا وإنما يكون ظاهرها مع قطع النظر عن المعارض أيضا ذلك لوقوع التعاشى فيها والإنكار الجدّي والأمر بضرب المخالف على الجدار لو كان فيها ما فيه ذلك والحكم بأنّه زخرف و

__________________

(١) راجع فرائد الأصول : ٦٩.

١٨٣

باطل وكل ذلك يقتضى أن يكون المراد المخالفة بنحو التباين للعلم بصدور المخالف عنهم بغير هذا النحو في ضمن أخبار متواترة. (١)

أدلّة المثبتين :

استدل المجوزون للعمل بخبر الواحد بالأدلّة الأربعة :

١ ـ أمّا الكتاب فبآيات :

منها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (٢)

والمحكي في وجه الاستدلال بالآية الكريمة وجوه :

الوجه الأوّل :

هو الاستدلال بمفهوم الشرط بتقريب أنّه سبحانه وتعالى علّق وجوب التبيّن عن الخبر على مجيء الفاسق ، فينتفي عند انتفائه عملا بمفهوم الشرط ، وإذا لم يجب التثبت عند مجيء غير الفاسق فاذا يجب القبول ، وهو المطلوب ، أو الردّ وهو باطل.

أورد عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، وعدم التبين هنا لأجل عدم ما يتبيّن ، فالجملة الشرطية هنا مسوقة لبيان تحقق الموضوع ، كما في قول القائل إن رزقت ولدا فاختنه وإن ركب زيد فخذ ركابه وإن قدم من السفر فاستقبله وإن تزوجت فلا تضيّع حق زوجتك وإذا قرأت الدرس فاحفظه قال سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) إلى غير ذلك مما لا يحصى. (٣)

فكما انه لا مفهوم للامثلة المذكورة ، فان الختان مثلا عند انتفاء رزق الولد منتف بانتفاء

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٢٤ ـ ١٢٥

(٢) الحجرات / ٦.

(٣) فرائد الأصول : ص ٧٢.

١٨٤

موضوعه عقلا ، فكذلك في المقام ينتفي وجوب التبين عن الخبر عند انتفاء مجيء الفاسق به ، وليس الانتفاء إلّا لانتفاء موضوعه عقلا ؛ إذ مع عدم مجيء الفاسق بالخبر لا خبر فاسق هناك حتى يبحث عن وجوب تبينه أو عدمه. وبالجملة فالآية لا مفهوم لها أو كان مفهومها هي السالبة بانتفاء الموضوع ، وهو عقلي كما هو المفهوم في كل قضية حملية.

ولعل المعيار في الشرطية المحققة للموضوع موجود في الآية الكريمة ، وهو اتحاد الموضوع في القضية مع شرط الجزاء.

وأجاب عنه في الكفاية بأن الموضوع في القضية هو النبأ الذي جيء به ، والواجب هو التبيّن ، والشرط لوجوب التبيّن هو مجيء الفاسق ، فالقضية حينئذ لا تكون مسوقة لبيان تحقق الموضوع ، وقال : أن تعليق الحكم بايجاب التبيّن عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفائه ، ولا يرد على هذا التقرير أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم له أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع ، فافهم نعم لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق به كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع. (١)

وعليه فالموضوع في القضية هو النبأ ، والشرط للجزاء ـ وهو وجوب التبين ـ هو مجيء الفاسق بالنبإ ، وبينهما مغايرة ولا اتحاد ، فليس الشرط محققا للموضوع بعد وجود المغايرة ، كما لا يخفى.

ويشبه التقرير المذكور في الكفاية ما افاده في مصباح الاصول في محتملات دلالة القضية الشرطية على المفهوم من : أن الموضوع هو الجائي بالنبإ كما يستفاد من قوله عزوجل : (إِنْ جاءَكُمْ) والواجب هو التبين ، وقد علق وجوب التبين على شرط ، وهو كون الجائي فاسقا ، ويكون مفاد الكلام حينئذ أن الجائي بالنبإ أن كان فاسقا فتبيّنوا ، فتدل القضية على المفهوم وانتفاء وجوب التبيّن عند انتفاء كون الجائي بالنبإ فاسقا. (٢)

__________________

(١) الكفاية : ج ٢ : ٨٣.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٦١.

١٨٥

وكيف كان فقد اورد المحقق الاصفهاني على صاحب الكفاية بان ما ذهب اليه خلاف ظاهر الآية الكريمة ، لان متلو أداة الشرط هو مجيء الفاسق ، لا فسق الجائي كي ينتفي الحكم بانتفاء كونه فاسقا مع حفظ مجيء الخبر حيث قال : لا يخفى عليك أن ظاهر الآية من حيث وقوع مجيء الفاسق بوجوده الرابط في تلو الشرطية : أن المعلق عليه مجيء الفاسق بنحو وجوده الرابط ، فينتفي الحكم بانتفائه ، لا فسق الجائي به بوجوده الرابط كي ينتفي الحكم بانتفاء كونه فاسقا مع حفظ مجيء الخبر ، فان الواقع موقع الفرض والتقدير هو مجيء الفاسق ، لا فسق الجائي ، فكيف يكون المجيء مفروغا عنه؟! وبالجملة فرق بين ما لو قيل أن كان الجائي بالخبر فاسقا وما لو قيل إن كان الفاسق جائيا بالخبر ، ومفاد الآية تحليلا هو الثاني ، وما يجدي في المقام هو الأول. (١)

وتبعه في مصباح الاصول حيث قال ـ بعد ذكر محتملات الآية الشريفة بحسب مقام التصور ومقام الثبوت ـ والظاهر منها في مقام الاثبات بحسب الفهم العرفي هو هذا ، (وهو ما ذكره المحقق الاصفهاني) وأوضحه في مصباح الاصول حيث قال : وأمّا أن كان الموضوع هو الفاسق ، وله حالتان : لان الفاسق قد يجيء بالنبإ وقد لا يجيء به ، وعلق وجوب التبين على مجيئه بالنبإ ، ويكون مفاد الكلام حينئذ أن الفاسق إن جاءكم بنبإ فتبيّنوا فلا دلالة للقضية على المفهوم ؛ لان التبيّن متوقف على مجيئه بالنبإ عقلا ، فتكون القضية مسوقة لبيان الموضوع ؛ إذ مع عدم مجيئه بالنبإ كان التبين منتفيا بانتفاء موضوعه ، فلا مفهوم للقضية الشرطية في الآية المباركة.

وقال أيضا : لا فرق بين الآية الشريفة وبين قولنا أن اعطاك زيد درهما فتصدق به من حيث المفهوم ، والظاهر من هذا الكلام بحسب متفاهم العرف وجوب التصدق بالدرهم على تقدير اعطاء زيد اياه ، واما على تقدير عدم اعطاء زيد درهما فالتصدق به منتف بانتفاء موضوعه.

وذلك لأنّ الموضوع بحسب فهم العرف هو زيد ، وله حالتان : فانه قد يعطي درهما وقد

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٧٥.

١٨٦

لا يعطيه ، وقد علق وجوب التصدق بالدرهم على اعطائه اياه ، وهو متوقف عليه عقلا ؛ إذ على تقدير عدم اعطاء زيد درهما يكون التصدق به منتفيا بانتفاء موضوعه ، فالقضية مسوقة لبيان الموضوع ، ولا دلالة لها على المفهوم ، وانتفاء وجوب التصدق بالدرهم عند اعطاء غير زيد ايّاه. والآية الشريفة من هذا القبيل بعينه ، فلا دلالة لها على المفهوم ، ولا أقل من الشك في أن مفادها هو المعنى الأول أو الثاني أو الثالث ، فتكون مجملة غير قابلة للاستدلال بها على حجية خبر العادل. (١)

ويمكن أن يقال : أن المستظهر من القضايا الشرطية في الأحكام القانونية هو جعل طبيعة الموضوع مقسما بين المنطوق والمفهوم ، وحينئذ لا يكون الشرط قيدا له إلّا اذا قامت قرينة على التقييد. ومن المعلوم أن الموضوع حينئذ لا يساوي مع الشرط ، بل هو اعم منه ، ومقتضاه هو كون الحكم المشروط مترتبا على حصة من الطبيعي ، فحينئذ يدل على المفهوم بالنسبة الى الحصص الاخرى فيما اذا انتفى الشرط ، كما لا يخفى.

ففي مثل السلام مما له أحكام مختلفة ، إذا قيل إذا جاءكم مؤمن بسلام فأجيبوه كان ظاهره انه أن لم يجئ مؤمن بسلام فلا يجب الجواب بالسلام. ووجه ذلك أن السلام مما له أحكام مختلفة ، ويستظهر من الجملة الشرطية أن الموضوع هو طبيعة السلام وله أحكام ، وليس الموضوع هو السلام الخاص الذي جاء به المؤمن حتى تكون القضية مسوقة لبيان تحقق الموضوع ويتوقف على الموضوع المذكور عقلا ولا يكون له مفهوم.

ففي الآية الكريمة يكون النبأ موضوعا طبيعيا لا موضوعا خاصا ، وقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) يدل على حكم من أحكام هذه الطبيعة ، وحيث أن الموضوع مع عدم الشرط محفوظ ، فللقضية حينئذ مفهوم ، وهو أنه اذا لم يجئ فاسق بنبإ بل جاء عادل فلا يجب التبيّن ، هذا بخلاف الشرطية المحققة للموضوع ؛ فان الموضوع فيها لا يكون محفوظا بدون الشرط ، كما لا يخفى.

__________________

(١) مصباح الأصول : ٢ : ١٦١ و ١٦٢.

١٨٧

ومما ذكرنا يظهر النظر في قياس المقام بمثل قولهم أن اعطاك زيد درهما فتصدق به ، فان المقيس عليه ليس الموضوع إلّا الخاص المذكور ، ولا مجال لتجريد الموضوع عن الخصوصيات ؛ لانه مع الخصوصيات يكون موردا لوجوب التصدق كما لا يخفى.

وبعبارة اخرى : ليس الموضوع هو طبيعة العطاء حتى يقال أن كان ذلك من زيد فيجب التصدق به وإن لم يكن فلا يجب ، بل الموضوع هو حكم عطاء خاص وهو عطاء زيد ؛ والتجريد عند العرف مخصوص بالموضوعات التي تكون لها عند العرف أحكام عديدة كالنبإ والسلام ونحوهما ، لا مثل عطاء خاص كعطاء زيد.

ولقد افاد وأجاد في نهاية الأفكار حيث قال : لا شبهة في أن استخراج المفهوم من القضايا يحتاج الى تجريد ما هو الموضوع المذكور فيها في طرف المفهوم من القيود التي اريد استخراج المفهوم من جهتها شرطا أو وصفا أو غاية ، ففي مثل أن جاءك زيد يجب اكرامه لا بد في استخراج مفهوم الشرط منه من تجريد الموضوع الذي هو زيد من اضافته الى المجيء بجعله عبارة عن نفس الذات مهملة ، وإلّا ففي فرض عدم تجريده منه لم يبق مجال لاستخراج المفهوم منه ؛ لكونه حينئذ من السالبة بانتفاء الموضوع ، فان الموضوع وما يرجع اليه الضمير في قوله يجب اكرامه يكون عبارة عن زيد المقيد بالمجيء. ومن الواضح أن الانتفاء عند الانتفاء حينئذ لا يكون إلّا من باب السلب بانتفاء الموضوع من جهة انتفاء المقيد بانتفاء قيده. وهذا بخلاف تجريده عن الخصوصية ؛ اذ معه كان المجال لحفظ الموضوع في طرف المفهوم ، فأمكن استخراج مفهوم الشرط من القضية المزبورة ... الى أن قال : واذا عرفت ذلك نقول : أن المحتملات المتصورة في الشرط في الآية الشريفة ثلاثة :

منها : كون الشرط فيها نفس المجيء خاصة مجردا عن متعلقاته ، وعليه يتم ما افاده الشيخ من انحصار المفهوم فيها بالسالبة بانتفاء الموضوع ؛ فان لازم الاقتصار في التجريد على خصوص المجيء هو حفظ اضافة الفسق في ناحية الموضوع بجعله عبارة عن النبأ المضاف الى الفاسق ، ولازمه هو كون الانتفاء عند الانتفاء من باب السلب بانتفاء الموضوع ؛

١٨٨

لضرورة انتفاء الموضوع ـ وهو النبأ الخاص ـ بانتفاء الشرط المزبور.

ومنها : كون الشرط هو المجيء مع متعلقاته ، ولازمه بعد تجريد الموضوع عن اضافته الى المجيء الخاص هو كون الموضوع نفس النبأ مجردا عن اضافته الى الفاسق أيضا ، لا النبأ الخاص كما في الفرض السابق.

وعليه يكون للغاية مفهومان : أحدهما السالبة بانتفاء الموضوع ، وثانيهما السالبة بانتفاء المحمول ؛ لان عدم مجيء الفاسق بالنبإ يعم مجيء العادل به ، فلا يلزم من عدم مجيئه به انتفاء ما يتبين عنه بقول مطلق حتى ينحصر المفهوم في القضية بالسالبة بانتفاء الموضوع.

ومنها : كون الشرط عبارة عن الربط الحاصل بين المجيء والفاسق الذي هو مفاد كان الناقصة ، ولازمه بمقتضى ما ذكرنا هو الاقتصار في التجريد على خصوص ما هو المجعول شرطا اعني النسبة الحاصلة بين المجيء والفاسق ... الى أن قال :

ولكن الأخير منها في غاية البعد ؛ لظهور الجملة الشرطية في الآية في كون الشرط هو المجيء أو هو مع اضافته الى الفاسق ، لا الربط الحاصل بين المجيء والفاسق بما هو مفاد كان الناقصة مع خروج نفس المجيء عن الشرطية كي يلزمه ذكر من كون الموضوع فيها هو النبأ المجيء به.

ويتلوه في البعد الوجه الأول الذي مرجعه الى كون الشرط هو المجيء فقط ؛ فان ذلك أيضا مما ينافي ظهور الآية المباركة ، فان المتبادر المنساق منها عرفا كون الشرط هو المجيء بما هو مضاف الى الفاسق ، بل وهو المتبادر عرفا في امثال هذه القضية نحو أن جاءك زيد بفاكهة يجب تناولها ؛ لظهوره في كون الشرط لوجوب التناول هو مجيء زيد بها.

وعليه فكما يجب تجريد الموضوع في المقام عن اضافته الى المجيء كذلك يجب تجريده عن متعلقاته ، فيكون الموضوع وما يتبين عنه نفس طبيعة النبأ ، لا النبأ الخاص المضاف الى الفاسق ، ولازمه جواز التمسك باطلاق المفهوم في الآية ؛ لعدم انحصاره حينئذ بخصوص السالبة بانتفاء الموضوع ، فتمام الاشكال المزبور ناش عن تخيل كون الموضوع لوجوب التبين

١٨٩

هو النبأ الخاص المضاف الى الفاسق ، وإلّا فمع فرض تجريده عن تلك الخصوصية لا يبقى مجال للاشكال المزبور. (١)

ولقد أفاد واجاد ، ولكنه لم يفد وجه تجريد الموضوع عن الخصوصيات وجعله موضوعا في القضية بنحو يكون موجودا ولو مع عدم الشرط. وقد عرفت الوجه في ذلك ؛ فانه حصيلة كون القضايا قضايا قانونية لا شخصية خارجية وكون الموضوعات مما له أحكام عديدة كالنبإ والسلام ونحوهما ، فاذا ورد عن الشارع مثل (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) يستظهر منه عرفا أن الشارع في مقام بيان أحكام طبيعي النبأ ؛ لانه مما يبتني عليه أمور المجتمع الاسلامي. هذا يوجب تجريد الموضوع عن الخصوصيات الدالة عليه الشرط وجعله موضوعا للقضية الحقيقة ، ويكون الشرط المذكور حكم حصة من حصص موضوع القضية الحقيقية. ولعل جعل الشرط (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) دون «أن جاءكم عادل» من جهة اهمية بيان حكم هذه الحصة في ذلك الزمان ؛ لما حكي من قصة الوليد.

وبالجملة أمثال هذه القضايا ترجع عند العرف الى تجريد الموضوع وجعله موضوعا للقضية الحقيقية ، ولا فرق فيها بين أن يقال أن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أو يقال أن جاءكم عادل بنبإ فلا يجب التبين بل يجب القبول ، ففي كلا التقديرين يكون الموضوع مجردا عن خصوصيات متلو الشرط والشرط في مقام بيان حصة من الموضوع ، وحينئذ يكون له مفهوم ، كما لا يخفى.

فالوجه في تجريد الموضوع هو حكم العرف بأن الموضوع اعم ، ولا يختص بالخصوصيات المذكورة في متلو الشرط ، وإلّا فالاحتمالات المذكورة يمكن تصويرها في بعض القضايا المحققة للموضوع أيضا كقوله أن رزقت ولدا فاختنه حيث يمكن أن يجعل الموضوع هو الولد ويقال أن رزقت به فاختنه ، فمفهومه أن لم ترزقه فلا يجب عليك ختانه سواء وجد الولد أو لم يوجد ، كما أن تقيد الموضوع في بعض القضايا أمر ممكن. ودعوى

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ١١١ ـ ١٢٢.

١٩٠

وجوب تجريد الموضوع عن جميع الخصوصيات ، محتاج الى الدليل ، ولا دليل له إلّا الاستظهار العرفي بحسب اختلاف الموضوعات واهميتها ، فلا تغفل.

هذا ، مضافا الى أن الوجه الثالث غير بعيد ؛ فان مفاده يرجع الى أن الجائي بالخبر إن كان فاسقا فيجب التبين وإن لم يكن كذلك فلا يجب ، ولا يضر كون المجيء من قيود النبأ ؛ فان المجيء بما هو المجيء يكون من قيوده. وأما خصوصية كونه من فاسق فهو مما يفيده الشرط ، وعليه فالموضوع على الوجه الثالث هو مجرد النبأ المجيء به ، وهو أعم ، فتدبّر جيدا.

لا يقال : التحقيق أن تجريد النبأ عن الاضافة الى الفاسق لا يخرج المعلق عليه عن كونه محققا للموضوع ؛ اذ لا حقيقة للنبإ إلّا بصدوره من مخبر ، وكون المعلق عليه ذا بدل لا يخرجه عن كونه محققا للموضوع ؛ فانّ المناط انتفاء الموضوع بانتفاء المعلق عليه. ومن الواضح انتفاء النبأ بانتفاء مجيء الفاسق والعادل ، بخلاف مثل أن جاءك زيد فأكرمه ؛ فان زيدا محفوظ ولو مع انتفاء المجيء وانتفاء كل ما يفرض بدلا للمجيء. (١)

لأنا نقول : الظاهر هو الخلط بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، وما ذكره لا يتم في الاولى ؛ فان المقصود إن كان أن النبأ لا يتحقق في الخارج من دون مخبر فلا كلام فيه ، ولكن يمكن مع ذلك ملاحظة طبيعة النبأ في الذهن بحيث تحكي عن حصصها في الخارج ، وبيان حكم حصصها باعتبار اختلاف مخبريها بأن يقال : إن كان المخبر في النبأ فاسقا فليس نبأه حجة ، وإن كان عادلا فنبأه حجة ، كما أن الامر كذلك في مثل قولنا : السلام إن كان من مؤمن فجوابه واجب ؛ فان مفهومه انه إن كان من كافر فلا يجب ، مع أن السلام لا حقيقة له إلّا بصدوره من المتكلم في الخارج.

ولكن ذلك لا ينافي امكان ملاحظة الموضوع بنحو القضية الحقيقية مستقلا عند اعتبار القضية ، ومعنى استقلاله هو انه اعم ، ومع كونه اعم فمفهومه هو انتفاء الحكم بانتفاء حصة من الموضوع الملحوظ مستقلا ؛ لظهور الشرط في كونه علة منحصرة للحكم المعلق عليه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ : ٧٦.

١٩١

هذا مضافا الى أن ما ذكره من أن حقيقة النبأ لا يتصور إلّا بالصدور من مخبر يصح فيما اذا كان المقصود من النبأ هو معناه المصدري ، واما اذا اريد من النبأ معناه الاسم المصدري مع قطع النظر عن مخبره فيمكن لحاظه مستقلا في عالم الخبر. نعم ظاهر قوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ، هو معناه المصدري ، فتدبّر جيدا.

لا يقال : إن كان المراد أن الموضوع هو طبيعة النبأ المقسم لنبأ العادل والفاسق فاللازم على تقدير تحقق الشرط وجوب التبيّن في طبيعة النبأ وإن كانت متحققة في ضمن خبر العادل ، وإن كان المراد أن الموضوع هو النبأ الموجود الخارجي فيجب أن يكون التعبير باداة الشرط باعتبار الترديد ؛ لأن النبأ الخارجي ليس قابلا لأمرين ، فعلى هذا ينبغي أن يعبّر بما يدل على المضي لا الاستقبال. (١)

لانا نقول : مضافا الى النقض بمثل العالم إن كان فقيها يجب اكرامه فانّه لا يدل على وجوب اكرام طبيعة العالم ، بل يدل على اكرام الفقيه ، مع أن العالم هو طبيعة العالم وتقسم لكل صنف من اصناف العالم ـ يمكن الجواب عنه حلّا بما في نهاية الدراية من أنّه على تقدير جعل الموضوع طبيعي النبأ ليس المراد من الطبيعة المطلقة بنحو الجمع بين القيود بحيث يكون المراد منه الطبيعة المتحققة في ضمن نبأ العادل والفاسق معا.

بل المراد هو اللابشرط القسمي أي طبيعي النبأ الغير الملحوظ معه نسبة الى الفاسق ولا عدمها وإن كان هذا الطبيعي يتحصّص من قبل المعلق عليه وجودا وعدما ، فيتحقق هناك حصتان : إحداهما موضوع وجوب التبين ، والاخرى موضوع عدم وجوب التبيّن ، ولا منافاة بين أن يكون الموضوع الحقيقي لكل حكم حصة مخصوصة وأن يكون الموضوع في الكلام رعاية للتعليق المفيد لحكمين منطوقا ومفهوما نفس الطبيعي الغير الملحوظ معه ما يوجب تحصّصه بحصتين وجودا وعدما. (٢)

__________________

(١) الدرر : ٣٨٤.

(٢) نهاية الدراية : ٢ : ٧٦.

١٩٢

لا يقال : أن الموضوع وإن كان ذات النبأ وطبيعته إلّا أن الموضوع في الأحكام هو الطبيعي الموجود في الخارج ، وتكون الذات مأخوذة مفروضة الوجود ، وليس الحال فيه كالمتعلق.

وعليه فموضوع الحكم هو النبأ الموجود. ومن الواضح أن النبأ الموجود لا يخلو الحال فيه إما أن يكون نبأ فاسق أو نبأ عادل ، ولا يقبل الانقسام الى كلتا الحالتين ، ولازم ذلك هو استعمال الاداة الداخلة على مجيء الفاسق في معنى الفرض والتقدير ، نظير ما لو رأى المولى شبحا فقال لعبده : إن كان هذا زيدا فأكرمه ؛ فان الشبح لا يقبل عروض الزيدية عليه تارة والعمرية أخرى ، بل هو أما زيد أو عمرو ، فالاداة تستعمل في معنى الفرض والتقدير ، لا في معنى الشرطية ؛ إذ ليس هناك جامع بين الحالتين يتوارد عليه النفي والاثبات كي يعلّق الاثبات على شيء ، بل الشبح يدور بين متباينين. وما نحن فيه من هذا القبيل ، ولا يمكن استفادة المفهوم منه ؛ لعدم قابلية النبأ الموجود للانقسام الى كلتا الحالتين. (١)

لانا نقول : مضافا الى النقض بمثل العالم إن كان فقيها يجب تقليده ، فان الموضوع فيه مفروض الوجود ، ومع ذلك يدل على المفهوم ـ أن هذا مبني على كون القضية خارجية واشتباه الموضوع الخارجي ، والمفروض خلافه ؛ لأن القضية حقيقية والموضوع طبيعي النبأ في ايّ فرد وجد ولا اشتباه في الخارج. ومن المعلوم أن طبيعي النبأ بالنحو المذكور له افراد مختلفة بحسب الوجود الخارجي ، فلعل حصة من الطبيعي الموجود في الخارج هو حكمه ، فاذا خصّص بعض الحصص الموجودة من الطبيعة بحكم عند شرط كذا يدل بمفهومه على انتفاء هذا الحكم عن غير هذه الحصص من سائر حصص الطبيعة الموجودة ، ولا ريب في أن هذا مفهوم مستفاد من تعليق الحكم على حصة من الطبيعة عند شرط كذا ، فلا تغفل.

إن قلت : أن ما هو عمدة الملاك في ثبوت اصل المفهوم للشرط على تقدير تسليمه لا يتأتى في المقام.

__________________

(١) منتقى الاصول : ٤ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

١٩٣

بيان ذلك : أن عمدة الملاك هو التمسك باطلاق الشرط بلحاظ تأثيره في الجزاء بقول مطلق سواء قارنه أو سبقه شيء آخر أولا. وهذا كما قيل يلازم العلية المنحصرة ؛ إذ لو كان غيره شرطا كان التأثير له لو سبقه ولهما أو للجامع بينهما لو قارنه ، وهذا ما ينفيه الاطلاق.

ولا يخفى أن هذا المعنى انما يتم لو فرض أن تأثير غير الشرط المذكور في الكلام في تحقق الجزاء ينافي تأثير الشرط المذكور فيه بقول مطلق.

أما لو فرض عدم منافاته لذلك ، بل كان تأثير غيره في الجزاء لا ينافي تأثيره فيه ولو وجد متأخرا عن غيره لم ينفع الاطلاق في اثبات العلية المنحصرة كما لا يخفى ، وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ فانه لو فرض انه يجب التبيّن عن خبر العادل فهذا لا ينافي وجوب التبيّن عن خبر الفاسق ولو وجد بعد خبر العادل ؛ لان كلّا منهما موضوع مستقل.

وبعبارة اخرى : أن وجوب التبيّن في الآية الشريفة كناية عن عدم الحجية ، ومن الواضح أن نفي الحجية عن خبر العادل لا ينافي نفي الحجية عن خبر الفاسق سواء كانا معا أو كان أحدهما متقدما والآخر متأخرا ، وعليه فلا ينفع التمسك باطلاق الآية الشريفة في اثبات انحصار الشرط. (١)

قلت : أن الملاك في ثبوت المفهوم هو أمران : أحدهما هو افادة الشرط للاناطة ، وثانيهما هو افادة اطلاق الشرط أن العلة للجزاء منحصرة في الشرط المذكور من دون حاجة الى الضميمة وليس له البدل ، وهذا يقتضي عدم شرطية شيء آخر للجزاء ، وإلّا فهو مناف لدلالة الاطلاق على انحصار الشرط المذكور في ترتب سنخ الجزاء.

وهذا المعنى موجود في المقام ؛ فان اطلاق قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) يدلّ على أن سنخ الجزاء ـ وهو وجوب التبين ـ مترتب على خصوص مجيء الفاسق ، لا غيره وهو مجيء العادل ، ولا بضميمة الغير ؛ فانه لو كان للغير تأثير لزم أن يقال : أن جاءكم فاسق أو عادل أو جاءكم فاسق وعادل وجب التبيّن ، وحيث اقتصر على قوله أن جاءكم

__________________

(١) منتقى الاصول : ٤ : ٢٦٠ و ٢٦١.

١٩٤

فاسق دل على أن مجيء الفاسق علة تامة منحصرة لترتب سنخ الجزاء وهو وجوب التبين. وعليه فتأثير غير الشرط المذكور في الجزاء المذكور ينافي تأثير الشرط بنحو العلة التامة المنحصرة المدلول عليها بالاطلاق في الشرط.

نعم لو لم يدل اطلاق الشرط إلّا على مجرد علية الشرط لحصة من الجزاء تمّ ما ذكر ؛ لعدم منافاة تأثير شيء آخر في حصة اخرى من الجزاء ، ولكنه خلاف المفروض كما لا يخفى ، فاذا دلت القضية على العلية المنحصرة لعدم الحجية في حصص من النبأ كنبإ الفاسق ينافيها اثبات عدم الحجية في غير تلك الحصص ، كما لا يخفى.

إن قلت : امكان رجوع الآية الى أن النبأ المجاء به إن كان الجائي به العادل فلا تبيّنوه ، فيكون النبأ موجودا وموضوعا ومجاء به عندنا ، فتخرج القضية عن الانتفاء بانتفاء الموضوع ، غير سديد ؛ لان ذلك البيان يجري في مثل إن رزقت ولدا لا مكان أن يكون المعنى الولد المرزوق إن كنت رزقت به فاختنه ، والمفهوم حينئذ ليس من السلب بانتفاء الموضوع ، مع أن العرف لا يساعد ذلك ، فكما أن العرف لا يساعد هناك فكذلك لا يساعد ذلك في المقام. (١)

قلت : إنّ المناط كما اعترفت هو العرف ، ففي مثل أن رزقت ولدا لا داعي الى ارجاع القضية الى الموضوع الكلي ؛ لانه قضية شخصية ناظرة الى الولد المرزوق للمخاطب ، هذا بخلاف القضايا الشرعية الكلية ؛ فان المقصود منها ليس قضية شخصية ، بل المراد منها هو بيان الأحكام الكلية لموضوعها الكلي. وهذا وجه الفرق بين تلك القضايا والقضايا الشخصية ، وحيث أن الآية الكريمة ليس المقصود منها هو بيان حكم مورد وشخص خاص ، فيحمل الموضوع فيها على الموضوع الكلي بالمناسبات المذكورة ، فلا تغفل.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره حيث قال الظاهر من الآية كون الموضوع هو النبأ لا نبأ الفاسق حيث إنّ قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا في قوة ان

__________________

(١) راجع ، تحريرات في الاصول : ج ٦ ص ٤٧٥.

١٩٥

يقال النبأ إن جاء الفاسق به يجب التبيّن فإنّه لا فرق بين العبارتين أصلا ولا مجال للإشكال والشك والارتياب فى أن الموضوع فى العبارة الثانية التى في قوة الأولى هو النبأ. (١)

فتحصل مما تقدم انه بناء على ثبوت المفهوم للقضايا الشرطية وحجيته لا اشكال في الآية من جهة كونها صغرى لتلك الكبرى ؛ لما عرفت من أن الموضوع فيها هو النبأ اذا جاء به الفاسق فتبيّنوا ، فالموضوع في القضية لا يساوي مع موضوع الحكم المشروط وهو وجوب التبين بشرط مجيء الفاسق ؛ لان الشرط حصة خاصة من ايجاد الموضوع لا تمامه ، وعليه يمكن أن يوجد النبأ بنحو آخر ، وهو مجيء العادل وعليه فحصر التبين في نبأ الفاسق يدل على حجية نبأ العادل.

قال الشهيد الصدر قدس‌سره : وليعلم أن الشرط يمكن أن يصنّف الى ثلاثة انحاء :

الأول أن يكون الشرط عبارة عن سنخ تحقق الموضوع ونحو وجوده بحيث لا يتصور للموضوع وجود إلّا بالشرط كقولك اذا رزقت ولدا فاختنه ، فان الفرق بين الشرط أو الموضوع للحكم في المثال كالفرق بين الايجاد والوجود.

الثاني : أن يكون الشرط اجنبيا عن وجود الموضوع ، وانما هو امر طارئ كقولك أن جاءك زيد فأكرمه.

الثالث : أن يكون الشرط نحوا من وجود الموضوع ولكنه غير منحصر به بل يمكن أن يوجد الموضوع بنحو آخر ، كما هو في الآية الكريمة لو جاءت بعنوان النبأ اذا جاءكم به الفاسق فتبينوا فان مجيء الفاسق يراد به انباؤه وايجاد النبأ ، إلّا أنه لا ينحصر وجوده به ؛ إذ يعقل وجوده بإنباء العادل أيضا ، فالشرط في هذا القسم حصة من الايجاد ، فكانه قال النبأ اذا أوجده الفاسق فتبينوا.

ولا اشكال في عدم المفهوم على النحو الاول ، كما لا اشكال في ثبوته في النحو الثاني ... الى أن قال (في ثبوت المفهوم في النحو الثالث) : أن الموضوع ذاتا محفوظ حتى مع انتفاء الشرط ؛

__________________

(١) المحاضرات سيدنا الاستاذ ٢ : ١٢٦.

١٩٦

اذ الشرط حصة خاصة من ايجاد ذلك الموضوع ، فلا يكون انتفاؤه مساوقا مع انتفاء الموضوع ليكون الانتفاء عقليا أو التقييد مستحيلا.

وهكذا يثبت أن الصحيح ثبوت المفهوم في القسم الثالث كالقسم الثاني ، واما تشخيص أن الآية من ايّ هذه الاقسام ، فاذا كان مفادها «نبأ الفاسق اذا جيء به أو جاءكم الفاسق به فتبيّنوا» كان من القسم الأول لا محالة ؛ لان انتفاء نبأ الفاسق بانتفاء مجيئه عقلي.

وإذا كان مفادها «النبأ اذا جاء به الفاسق فتبينوا» كان من القسم الثالث كما اشرنا.

واذا كان مفادها نبأ المخبر يجب التبين عنه اذا كان الجائي به فاسقا كان من القسم الثاني ؛ لان فسق المخبر بخبر حالة طارئة بلحاظ الموضوع.

ولا ينبغي الاستشكال في أن المستظهر من الآية المعنى الثاني الوسط ، فتكون الشرطية من القسم الثالث الذي فيها مفهوم بحسب طبعها. (١)

ثم أن وجه استظهار أن الموضوع لا ينحصر وجوده في وجود الشرط هو العرف ، فانه يستظهر من القضايا الشرعية أن الموضوع فيها كلي ، وليس الموضوع فيها كالموضوع في القضايا الخارجية ، وحمل القضايا الشرعية التي لا تختص بقوم دوم قوم ولا بزمان دون زمان على القضايا الخارجية يستبعده العرف ، وهو كاف في استظهار أن الموضوع كلي ولا ينحصر وجوده في وجود الشرط حتى يكون الشرط محققا للموضوع ، كما أن العرف يستظهر من قولهم اذا جاءك المؤمن بسلام فأجبه أن الموضوع هو طبيعة السلام ولا تنحصر وجودها في وجود الشرط.

وعليه فلا حاجة الى وجه آخر مثل ما حكي عن الشهيد الصدر قدس‌سره من أن وجه الاستظهار هو رجوع الضمير الواقع موضوعا لوجوب التبين الى النبأ ، وهو مطلق ليس مقيدا بالفاسق ؛ إذ لم يقل أن جاءكم نبأ الفاسق لكي يتحصص. (٢)

__________________

(١) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٥١ ـ ٣٥٣.

(٢) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٥٣ ذيل الصفحة.

١٩٧

حتى يرد عليه بان هذا المقدار الظاهر غير كاف للاستظهار ؛ لان الضمير يرجع الى المقصود من مرجعه أو المقيد لا مطلقه ، فلو قال اذا جاءك رجل فأكرمه لا يدل على كفاية اكرامه رجل ولو غير الجائي ، بل المستفاد منه لزوم اكرام الرجل الجائي الملحوظ في الشرط رغم عدم اضافة الرجل الى المجيء ، كذلك الحال في المقام ، فان المقصود التبين عن النبأ الذي جاء به الفاسق لا مطلق النبأ ، خصوصا وأن الضمير في وجوب التبين مقدر وليس ظاهرا. (١)

ثم لا يذهب عليك أن الشهيد الصدر قدس‌سره ذهب في النهاية الى عدم دلالة آية النبأ على المفهوم ، واستدل عليه بان الآية لم تفترض النبأ موضوعا في المرتبة السابقة على تحقق الشرطية والتعليق ، بل قد افترض مجموع مفاد الجملة الشرطية بافتراض واحد. ومن هنا لا يكون لها مفهوم.

نعم لو قال : النبأ اذا جاءكم فاسق به فتبيّنوا أو قال أن جاءكم فاسق بالنبإ فتبينوا كان النبأ الموضوع للحكم في الجزاء مفروضا بقطع النظر عن التعليق بافتراض مسبق اما لتقديمه كموضوع للحكم أو للتعريف المشعر بذلك والمستبطن للافتراض ، ونفس الشيء يقال في أن اعطاك زيد درهما فخذه وأن اعطاك زيد الدرهم فخذه ، حيث لا مفهوم للاولى بخلاف الثانية. ولعل هذا هو الوجه الفني لذهاب الشيخ الأعظم الى عدم المفهوم في الآية الكريمة. (٢)

وذلك لما عرفت من أن العرف بمناسبة الحكم والموضوع وكلية القضايا الشرعية وعدم اختصاصها بالموارد الخاصة يفهم أن الموضوع في الآية الكريمة مقدم رتبة على تحقق الشرط ، كما ذكرنا انهم يستفيدون من قولهم اذا جاءك المؤمن بسلام فأجبه أن الموضوع هو السلام ومقدم على الشرطية ، ولذا يفهمون منه المفهوم ، فكذلك في المقام.

لا يقال : أن اللازم في المفهوم هو حفظ الموضوع في المنطوق ، والمفهوم والموضوع في الآية

__________________

(١) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٥٣ ذيل الصفحة.

(٢) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٥٦.

١٩٨

الكريمة هو الفاسق. وعليه فمفهوم الشرط في الآية لا يدل إلّا على عدم وجوب التبين عند عدم مجيء الفاسق بالنبإ لا عند مجيء العادل بالنبإ ؛ إذ اللازم في المفهوم هو حفظ الموضوع في المنطوق ، والمفهوم ، ولذا نقول : قولهم اذا جاء زيد فاكرمه لا يدل مفهومه إلّا على أن زيدا اذا لم يجئ لا تكرمه ، واما عمرو يجب اكرامه أو لا يجب فهو ساكت عنه ، نعم يمكن التمسك بمفهوم الوصف أو اللقب. بالنسبة اليه ، كما سيأتي أن شاء الله تعالى.

لانا نقول : نعم لو كانت القضية الشرطية هي اذا جاء الفاسق بالنبإ ، وأما اذا كانت القضية بحكم العرف كما ذكرنا النبأ اذا جاءكم فاسق به فتبينوا فالموضوع هو النبأ لا الفاسق ، وهو محفوظ في المفهوم والمنطوق.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه دلالة الآية الكريمة على مفهوم الشرط ، فليتدبّر.

الوجه الثاني :

الاستدلال بمفهوم الوصف في الآية الكريمة بدعوى أن حيثية الخبر الواحد لو كانت مقتضية لحرمة العمل لكان ذكر كلمة الفاسق لغوا ، فذكره يدل على دخالته في ثبوت الحكم ، أعني حرمة العمل بدون تبين عند العمل. (١)

وهذا الاستدلال متفرّع على دلالة الوصف على المفهوم ، فيستدل حينئذ بمفهوم الوصف. وتوضيحه ـ كما في مصباح الاصول ـ أن التبين ليس واجبا نفسيا ، بل هو شرط لجواز العمل بالخبر ؛ اذ التبين بلا تعلقه بعمل من الاعمال ليس بواجب يقينا بل لعله حرام ؛ فان التفحص عن كونه صادقا أو كاذبا يكون من باب التفحص عن عيوب الناس. ويدل على كون الوجوب شرطيا مع وضوحه في نفسه التعليل المذكور في ذيل الآية الشريفة ، وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) ، فيكون مفاد الآية الشريفة أن العمل بخبر الفاسق يعتبر فيه التبين عنه ، فيجب التبين عنه في مقام العمل به ، ويكون المفهوم بمقتضى التعليق على الوصف أن العمل بخبر غير الفاسق لا يعتبر فيه التبين عنه ، فلا يجب التبين عن خبر غير

__________________

(١) نهاية الاصول : ص ٤٩٢.

١٩٩

الفاسق في مقام العمل به. (١) وما لم يجب التبين عنه عند العمل يكون حجة.

ويمكن أن يقال : أن التقريب والتوضيح فرع دلالة الوصف على المفهوم ، وهو ممنوع ، قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : بأن المحقّق في محله عدم اعتبار المفهوم في الوصف ، خصوصا في الوصف الغير المعتمد على موصوف محقق ، كما في ما نحن فيه ؛ فانه اشبه بمفهوم اللقب. (٢)

ودلالة الوصف على أن الحكم ليس ثابتا للطبيعة ، وإلّا لكان ذكر الوصف لغوا لا تكفي لافادة نفي الحكم عن غير مورد الوصف مطلقا ؛ لانه فرع كون الوصف علة تامة منحصرة ، وهو ممنوع.

وقال في مصباح الاصول أيضا : والاستدلال بمفهوم الوصف غير تام ؛ لان الوصف وإن كان يدل على المفهوم ، إلّا أن مفهوم الوصف هو أن الحكم ليس ثابتا للطبيعة اينما سرت ، وإلّا لكان ذكر الوصف لغوا. واما كون الحكم منحصرا في محل الوصف بحيث ينتفي بانتفائه فهو خارج عن مفهوم الوصف ، ويحتاج الى اثبات كون الوصف علة منحصرة. ولا يستفاد ذلك من نفس الوصف ، فان تعليق الحكم على الوصف لو سلم كونه مشعرا بالعلية لا يستفاد منه العلة المنحصرة يقينا ، بل يحتمل وجوب التبين عن خبر العادل أيضا اذا كان واحدا ، ويكون الفرق بين العادل والفاسق أن خبر الفاسق يجب التبين عنه ولو مع التعدد بخلاف خبر العادل ؛ إذ مع التعدد يكون بينة شرعية لا يجب التبين عنها. فتحصّل : انه لا يستفاد من مفهوم الوصف انتفاء وجوب التبين عند انتفاء وصف الفسق. (٣)

نعم لو علم أن المتكلم في مقام بيان العلة المنحصرة لوجوب التبين واكتفى بالفاسق دل الوصف على المفهوم ، ولكن من أين حصل ذلك العلم ، فلا تغفل.

ومما ذكر يظهر ما في المحكى عن سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره من أنه لا كلام في دلالة الوصف المذكور في القضية على أن له مدخليته في الحكم بنحو من الانحاء فان ذلك مما

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٥٢ و ١٥٣.

(٢) فرائد الاصول : ص ٧٢.

(٣) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٥٢ و ١٥٣.

٢٠٠