عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

١
٢

٣
٤

٥
٦

تتمة

المقصد السابع

في الاصول العملية

٧
٨

الفصل الثاني : في أصالة التخيير

واعلم إذا دار الأمر بين المحذورين اللذين لا ثالث لهما كالدوران بين الفعل والترك مثل وجوب شيء وحرمته فقط فالأصل هو التخيير وعبّر عنه بالدوران بين المحذورين لعدم امكان الاحتياط بينهما.

وسبب الدوران إما هو فقد النص وعدم نهوض الدليل والحجة على تعيين أحدهما بعد نهوضه عليه اجمالا كما إذا اختلفت الأمة على القولين وهما الوجوب والحرمة بحيث علم عدم القول الثالث أو اجمال الدليل من جهة الحكم كما إذا دار مفاد الأمر بين الإيجاب والتهديد أو من جهة الموضوع كما إذا أمر بالتحرز وكان مرددا بين فعل شيء وتركه أو تعارض النصين أو الاشتباه من جهة الأمور الخارجية وإن كان الأخير من المسائل الفقهية ولكنّ لا بأس بذكرها لتمامية النفع كما ذكروا الشبهة الموضوعية في البراءة مع أنّها من المسائل الفقهية أيضا وإنّما قيدنا الدوران بالوجوب والحرمة فقط لأنّ احتمال شيء آخر من الأحكام غير الإلزامية يوجب رجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف فيمكن الأخذ فيه بالبراءة ويخرج عن الدوران بين المحذورين والعلم بأصل الالزام كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الدوران بين المحذورين لا يتحقّق إلّا إذا لم يكن أحد الحكمين بخصوصه موردا للاستصحاب وإلّا فهو يوجب انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي فيمكن الرجوع فيه إلى البراءة.

فإذا عرفت محلّ الكلام فتحقيق الحال في الدوران بين المحذورين يقتضي التكلم في مقامات.

٩

المقام الأوّل : في دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة ولا يخفى أنّه إذا حلف مثلا على سفر معين وتردد في أنّه حلف على فعله أو تركه فالأقوال المذكورة أو المحتملة هنا متعددة.

١) الحكم بالإباحة الظاهرية نظير الحكم بالإباحة عند دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب كما هو ظاهر الكفاية أو الحكم بالبراءة العقلية أو الحكم بالبراءة الشرعية.

٢) التوقف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع بدعوى أنّه لا دليل على عدم جواز خلو الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل كما هو ظاهر الشيخ في فرائد الاصول.

٣) تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب بدعوى أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة.

٤) الحكم بالتخيير الشرعي كالتخيير بين الخبرين المتعارضين.

٥) الحكم بالتخيير العقلي بين الفعل والترك بمناط الاضطرار والتكوين عند عدم ترجيح أحدهما على الآخر وهذا هو المختار وسيأتي بيانه إن شاء الله.

أمّا القول الأوّل فقد استدل له بامور :

الأمر الأوّل : هو الاستدلال بعموم أدلة الإباحة الظاهرية مثل قوله عليه‌السلام كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه وقوله عليه‌السلام كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه وغير ذلك من أدلتها حتّى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي إذ الظاهر من قوله عليه‌السلام حتّى تعلم أو حتّى يرد فيه نهي هو الحكم بالحلية والإباحة ما دام لم يحصل العلم أو لم يرد النهي عن شيء تفصيلا فمع الإجمال يصدق أنّه لم يعلم تفصيلا أو لم يرد عنه النهي تفصيلا فمقتضى العموم وعدم وجود المانع لا عقلا ولا نقلا هو الحكم بالاباحة الظاهرية.

١٠

يمكن أن يقال : أوّلا : كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره إنّ أدلة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب (١) ووجهه ظاهر لاختصاص تلك الأدلة بما إذا كان طرف الحرمة هي الإباحة والحلية وليس في باب الدوران بين المحذورين احتمال الإباحة والحلية بل يكون مقابل الحرمة هو الوجوب كما لا يخفى.

وثانيا : كما أفاد في مصباح الاصول إنّ أدلة الإباحة الشرعية مختصة بالشبهات الموضوعية فلا تجري في ما إذا دار الأمر بين المحذورين في الشبهات الحكمية فالدليل أخصّ من المدعى (٢).

وثالثا : كما أفاد المحقّق النائيني قدس‌سره لا يمكن جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال لأنّ مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك وذلك يناقض العلم بالإلزام وإن لم يكن لهذا العلم أثر عملي وكان وجوده كعدمه لا يقتضي التنجيز إلّا أنّ العلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا فإنّ الحكم الظاهري إنّما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي فمع العلم به وجدانا لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلّق به العلم به (٣).

أجاب عنه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ الحلية إنّما هي في مقابل الحرمة لا الحرمة والوجوب وعليه فالحكم بالحلية لازمه رفع الحرمة التي هو أحد الطرفين لا رفع الالزام الموجود في البين فما هو مرتفع لم يعلم وجدانا وما هو معلوم لا ينافيه الحلية والحاصل أنّ الدّليل الحل لا يكون مفاده الرخصة في الفعل والترك ضرورة أنّ الحلية إنّما هي في مقابل الحرمة لا الوجوب فدليل أصالة الإباحة يختص بالشبهات التحريميّة وليس في الأدلة ما يظهر منه الرخصة في الفعل والترك إلّا قوله كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي أو أمر على

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٣٨.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٢٩.

(٣) فرائد الاصول / ج ٣ ، ص ١٦٢.

١١

رواية الشيخ ومضى الإشكال فيه.

هذا مضافا إلى أنّ مناقضة الترخيص الظاهري مع الالزام الواقعي ليس إلّا كمناقضة الأحكام الواقعية والظاهرية والجمع بينهما هو الجمع بينهما (١).

يمكن دفع ذلك بأنّ مقتضى اختصاص أصالة الإباحة بالشبهات التحريمية هو أن نقول بعدم شمولها لمثل المقام من جهة أنّ الشبهة فيه وجوبية أيضا لدوران الأمر فيه بين الوجوب والحرمة فالقول باختصاص أصالة الإباحة بالشبهات التحريمية ينافي توجيه شمولها للدوران بين المحذورين ومع الغمض عن ذلك فالمناقضة بين الرخصة في الفعل والترك والعلم الإجمالي بالالزام موجودة بالوجدان.

ثمّ إنّ تنظير المقام بالأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية كما ترى لأنّ موضوع الأحكام الظاهرية هو الشك في الأحكام الواقعية ولا شك في المقام بالنسبة إلى المعلوم بالإجمال وعدم كونه مباحا يقينا فكيف يمكن الحكم مع العلم المذكور بالاباحة ظاهرا.

الأمر الثاني : هو الاستدلال بالبراءة العقلية بدعوى أنّ الوجوب والحرمة غير معلومين فمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم العقوبة لا على الوجوب ولا على الحرمة.

يرد عليه أوّلا : أنّ العلم بالجنس وهو الإلزام يكفي في ارتفاع موضوع البراءة العقلية والشاهد عليه أنّه لا يجري البراءة العقلية إذا علم المكلّف بأنّ هذا إما خمر حرام أو ذاك مائع خاصّ يجب شربه بنذر أو حلف أو نحوهما فإنّ العلم بأصل الإلزام بينهما بيان ويوجب الاحتياط بينهما بترك هذا وفعل ذاك ولا مجال للبراءة العقلية في خصوص الأطراف بعد العلم بجنس التكليف وليس ذلك إلّا لارتفاع موضوع البراءة العقلية وهو عدم البيان بالعلم بجنس التكليف (٢).

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٤٢.

(٢) راجع تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ١٨٠.

١٢

ولذلك قال في الكفاية لا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنّه لا قصور فيه هاهنا (١).

وثانيا : كما أفاد في نهاية الأفكار أنّ جريان البراءة العقلية يختص بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان فمع فرض حصول الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار والتكوين لا ينتهي الأمر إلى الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان. وإن شئت قلت إنّ الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان إنّما هو في ظرف سقوط العلم الإجمالي عن التأثير والمسقط له حيثما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار فلا يبقى مجال لجريان البراءة العقلية والشرعية نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك (٢).

ودعوى : أنّ حكم العقل بالتخيير بعد اجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في طرفي الفعل والترك وإلّا فلو احتمل عدم قبحه بالنسبة إلى خصوص أحد الطرفين لم يحكم بالتخيير فعلا.

وإن شئت قلت إنّ مجرى الاضطرار غير مجرى القاعدة فإنّما هو المضطر إليه هو أحدهما وأمّا خصوص الفعل أو الترك فليس موردا للاضطرار فلو فرض كون الفعل واجبا ومع ذلك فقد تركه المكلّف فليس عدم العقاب لأجل الاضطرار إليه لكون الفعل مقدورا بلا إشكال بل لقبح العقاب بلا بيان ومثله الترك حرفا بحرف (٣).

مندفعة : بأنّ قبل حكم العقل بالتخيير يمنع العلم الإجمالي عن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان إذ لا موضوع لها بعد العلم الإجمالي فإنّه بيان وبعد حكم العقل بالتخيير بمناط الاضطرار لا حاجة إلى البراءة العقلية للترخيص نظرا إلى حصول الترخيص في الرتبة السابقة.

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٢) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٣) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٤٠.

١٣

ودعوى : إمكان ورود القاعدتين في عرض واحد كما ترى إذ مع العلم الإجمالي لا موضوع للبراءة العقلية حتّى يمكن فرض ورودها في عرض قاعدة حكم العقل بالتخيير ثمّ إنّ الاضطرار ليس إلى عنوان أحدهما لعدم خصوصية هذا العنوان بل الاضطرار إلى معنون هذا العنوان وهو الفعل والترك وعليه فيتحد مجرى الاضطرار ومجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر ما في مباحث الحجج من أنّ المدعى اجراء البراءة (بعد الفراغ عن عدم منجزية العلم الإجمالي عن احتمال الوجوب أو الحرمة في نفسه) كما لو لم يكن علم اجمالي بالإلزام فتنطبق البراءة العقلية لاثبات التأمين من ناحيته فهذا ملاك تام في نفسه ولو كان ملاك الاضطرار الذي يسقط العلم الإجمالي عن البيانية تاما أيضا فما ينفى بالبراءة العقلية غير ما ينفى بملاك الاضطرار وعدم امكان ادانة العاجز عن الوظيفة العملية (١).

وذلك لما عرفت من تقدم رتبة حكم العقل بالتخيير وإلّا فلا مجال لدعوى الفراغ عن عدم منجزية العلم الإجمالي فمع تقدم رتبة حكم العقل يكون التأمين حاصلا فلا حاجة إلى تحصيله من ناحية البراءة العقلية وقاعدة البراءة العقلية تكون في طول حكم العقل بالتخيير لا في عرضه حتّى يقال ملاك كلّ واحد منهما تام ولا تزاحم بينهما فلا تغفل.

الأمر الثالث : هو الاستدلال بعموم أدلة البراءة الشرعية مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «رفع عن امتي ما لا يعلمون» بدعوى أنّه يعم الطرفين إذ المرفوع هو ما كان وجوده ثقلا على الامة والوجوب أو الحرمة ممّا يثقل على الامة وهكذا المرفوع هو ما كان مصداقا لما لا يعلمون وكلّ واحد من الوجوب أو الحرمة مصداق لما لا يعلمون لأنّ كلّ واحد من الوجوب والحرمة غير معلوم والمجعول في الشرع هو خصوص الوجوب أو الحرمة لا الجامع بينهما وعليه فاطلاق الموصول في ما لا يعلمون يعم كلّ واحد من المحتملين ويحكم برفع كليهما.

وفيه أوّلا : أنّ العلم الإجمالي متعلّق بالوجوب أو الحرمة لعدم موضوعية عنوان أحدهما

__________________

(١) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ١٥٥.

١٤

بل هذا العنوان مشير إلى معنونه وهو الوجوب أو الحرمة وعليه فلا مجال للبراءة الشرعية لأنّ مع العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة لا يصدق موضوعها إذ المرفوع هو ما لا يعلمونه مطلقا لا تفصيلا ولا إجمالا والمقام ممّا يعلم إجمالا وإن لم يعلم بالتفصيل فلا تجري البراءة الشرعية مع العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة. قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ الظاهر من أحاديث البراءة عدم شمولها لأطراف العلم لأنّ المراد من العلم فيها هو الحجة أعم من العقلية والشرعية لا العلم الوجداني وقد شاع إطلاق العلم واليقين على الحجة في الأخبار كثيرا والمفروض أنه قامت الحجة في أطراف العلم على لزوم الاجتناب على أنّ المنصرف أو الظاهر من قوله «ما لا يعلمون» كونه غير معلوم من رأى بمعنى المجهول المطلق لا ما علم وشك في انطباق المعلوم على هذا وهذا (١).

وثانيا : كما في منتقى الاصول أنّ الحكم بالبراءة شرعا إنّما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع وبملاك معذورية المكلّف بالنسبة إلى الواقع المحتمل وهذا إنّما يصحّ فيما كان احتمال التكليف قابلا لداعوية المكلّف وتحريكه نحو المكلّف به بحيث يكون المكلّف في حيرة منه وقلق واضطراب فيؤمنه الشارع أمّا إذا لم يكن الأمر كذلك بل كان المكلّف آمنا لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره وما نحن فيه كذلك لأنّ احتمال كلّ من الحكمين بعد انضمامه واقترانه باحتمال الحكم المضاد له عملا لا يكون بذي أثر في نفس المكلّف ولا يترتب عليه التحريك والداعوية لأنّ داعوية التكليف ومحركيته بلحاظ ما يترتب عليه من أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصلحة أو دفع مفسدة واذا فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركا للمكلف لا محالة إلى أن قال : ومن هنا يظهر أنّه لا مجال لاجراء البراءة العقلية في خصوص كلّ من الحكمين إذ لا موضوع لها بعد خروج المورد عن مقسم التعذير والتنجيز (٢).

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) منتقي الاصول / ج ٥ ، ص ٢٥ ـ ٢٦.

١٥

وثالثا : أنّ مع تقدم حكم العقل بالتخيير لا ثقل للوجوب أو الحرمة لأنّ العقل يحكم بالترخيص والتخيير بين الفعل والترك ومع عدم الثقل كيف يرفع الثقل بعموم رفع ما لا يعلمون.

ورابعا : أنّ الحكم بالبراءة شرعا لا معنى له في المقام لأنّ البراءة من الأحكام الظاهرية ومن المعلوم أنّ الأحكام الظاهرية لا بدّ لها من آثار شرعية وإلّا لكانت لغوا وجعل البراءة فيما نحن فيه لا أثر له بعد حكم العقل بالترخيص والتخيير بين الفعل والترك.

ودعوى : أنّ الملحوظ في الحكم الظاهري هو كلّ واحد من الوجوب والحرمة مستقلا باعتبار أنّ كلّ واحد منهما مشكوك فيه مع قطع النظر عن الآخر فيكون مفاد رفع الوجوب ظاهرا هو الترخيص في الترك ومفاد رفع الحرمة ظاهرا هو الترخيص في الفعل فكيف يكون جعل الحكم الظاهري لغوا (١).

مندفعة : بأنّ هذا يتم فيما إذا لم يكن دوران بين المحذورين وإلّا فالترخيص حاصل بضرورة الاضطرار ولا حاجة معه إلى جعل الترخيص وملاحظة كلّ طرف من الوجوب والحرمة مستقلا عن الآخر خروج عن محلّ الكلام وهو دوران الأمر بين المحذورين وملاحظة كلّ طرف مع الآخر تنافي الحكم بالبراءة للعلم الإجمالي بوجود أحد الأمرين من الوجوب أو الحرمة فتحصّل ممّا ذكرناه أنّه لا مجال للبراءة عقلية كانت أو شرعية كما لا مجال للإباحة الشرعية في الدوران بين المحذورين من التوصليات فيما إذا كانت الواقعة واحدة هذا كلّه بالنسبة إلى القول الأوّل.

وأما القول الثاني وهو التوقف فلعله من جهة توهم عدم تمامية القواعد العقلية والشرعية عند قائله ولكنّ لا مجال له بعد ما سيأتي إن شاء الله تعالى من تمامية القول الخامس من التخيير العقلي.

وأما القول الثالث وهو تقديم جانب الحرمة بملاك أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٣٠.

١٦

ففيه أوّلا : أنّ إطلاق ذلك ممنوع والشاهد له وضوح تقديم الصلاة على ازالة النجاسة عن المسجد في ضيق الوقت أو تقديم حفظ النفس على حرمة الغصب فيما إذا توقف الحفظ على التصرف في مال الغير من دون إذنه.

وثانيا : كما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره أنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة وإلّا لم تصلح للالزام إذ مجرد فوت المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت لا يصلح وجها لالزام شيء على المكلّف ما لم يبلغ حدا يكون في فواته مفسدة وإلّا لكان أصغر المحرمات أعظم من ترك أهم الفرائض مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر (١).

وثالثا : كما في مصباح الاصول وعلى تقدير التسليم فإنّما يتم ذلك فيما إذا كانت المفسدة والمصلحة معلومتين وأمّا لو كان الموجود مجرد احتمال المفسدة فلا نسلم أولوية رعايته من رعاية احتمال المصلحة كيف وقد عرفت عدم لزوم رعاية احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة كما إذا دار الأمر بين الحرمة وغير الواجب فلا وجه للزوم مراعاة احتمال المفسدة مع احتمال المصلحة أيضا (٢) ويشهد لذلك عدم وجود البناء على رعاية مجرد احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة فضلا عن ما إذا احتمل وجود المصلحة.

نعم ربما يستدل لتقديم جانب الحرمة في الدوران بين المحذورين بأنّ مقتضى القاعدة في الدوران بين التعيين والتخيير هو الأخذ بما يحتمل فيه التعيين وهو الحرمة.

وفيه : أنّ ما يحتمل فيه التعيين ربّما يكون الوجوب فلا وجه لتخصيصه بجانب الحرمة هذا مضافا إلى ما أورد عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنّ هذه القاعدة غير جارية في أمثال المقام ممّا يكون الحاكم فيه العقل فإنّ العقل إمّا أن يستقل بالتخيير وإمّا أن يستقل بالتعيين فليس في المقام شك على كلّ تقدير وإنّما الشك في الأحكام التوقيفية التي لا يدركها العقل إلّا أن يقال إنّ احتمال أن يرد من الشارع حكم توقيفي في ترجيح جانب الحرمة ولو لاحتمال

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٣٩.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٢٩.

١٧

شمول أخبار التوقف لما نحن فيه كاف في الاحتياط والأخذ بالحرمة (١).

يمكن أن يقال : إنّ أخبار التوقف بعد تسليم اختصاصها بالشبهة التحريمية وعدم شمولها للشبهة الوجوبية لا تدلّ بعد ما عرفت إلّا على الاستحباب جمعا بينها وبين الأخبار الدالة على البراءة والإباحة فلا يوجب الأمر الاستحبابي وجوب ترجيح جانب الحرمة مع أنّ المراد من الأولوية هي الأولوية اللزومية لا المرجحية فتأمل.

نعم ذهب في الكفاية إلى أنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه (٢).

ويمكن الجواب عنه كما في مصباح الاصول بأنّ الوجه في تقديم محتمل الأهمية فيما إذا لم يكن لشيء منهما إطلاق هو أنّ كلا من الحكمين يكشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم وعجز المكلّف عن استيفائهما ممّا يقتضي جواز تفويت أحدهما فعند احتمال أهمية أحد الحكمين بخصوصه يقطع بجواز استيفاء ملاكه وتفويت ملاك الآخر على كلّ تقدير.

وأما تفويت ملاك ما هو محتمل الأهميّة ولو باستيفاء ملاك الآخر فلم يثبت جوازه فلا مناص حينئذ من الأخذ بمحتمل الاهمية.

وهذا الوجه للزوم الأخذ بالتعيين غير جار في المقام إذ المفروض أنّ الحكم المجعول واحد مردد بين الوجوب والحرمة فليس في البين اطلاقان وملاكان ونسبة العلم الإجمالي إلى كلّ من الحكمين على حدّ سواء فالحكم بالتخيير باق على حاله (٣). وبالجملة مورد تقديم محتمل الأهميّة فيما إذا تزاحم الملاكان وليس هذا إلّا إذا كان المجعول متعددا وإلّا فلا مورد للتزاحم ولا للتقديم المذكور كما في المقام.

وأما القول الرابع وهو الحكم بالتخيير الشرعي نظير التخيير في الأخذ باحد الخبرين المتعارضين فلا دليل عليه بخلاف الخبرين فإنّ التخيير فيهما على القول به للأخبار الواردة

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٣٩.

(٢) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٠٧.

(٣) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٣٣.

١٨

فيه ولذا قال في الكفاية وقياسه بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل فإنّ التخيير بينهما على تقدير كون الأخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين.

وعلى تقدير أنّها من باب الطريقية فإنّه وإن كان على خلاف القاعدة إلّا أنّ أحدهما تعينا أو تخييرا حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط صار حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعينا أو التخيير تخييرا وأين ذلك ممّا إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا وهو حاصل والأخذ بخصوص أحدهما ربّما لا يكون إليه بموصل. نعم لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة وإحداثهما الترديد بينهما لكان القياس في محله لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا فتأمل جيدا (١).

وبعبارة اخرى التخيير في المسألة الاصولية بمعنى الأخذ بأحد الحكمين في مقام الفتوى لا دليل له المقام وإن قام دليل عليه في الخبرين المتعارضين.

والتخيير بمعنى الأخذ بأحدهما من الفعل أو الترك في مقام العمل تخيير عقلي وهو حاصل وجعل التخيير الشرعي بينهما مستحيل لأنّه لا محالة يكون بمعنى طلب أحدهما وهو حاصل بطبعه في المتناقضين والضدين لا ثالث لهما إذ المكلّف يأتي بأحدهما في نفسه فلا حاجة إلى طلبه لأنّه تحصيل الحاصل المحال ولذا قال السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره ولأجل ذلك منع عن الترتب في مثلها فإنّ المكلّف عند تركه لأحدهما يأتي بالآخر بطبعه فلا مجال للأمر به حينئذ لأنّه من تحصيل الحاصل (٢).

وأما القول الخامس فيكفيه ما أفاده المحقّق العراقي قدس‌سره من أنّه لا شبهة في حكم العقل بالتخيير بينهما بمعنى عدم الحرج في الفعل والترك نظرا إلى اضطرار المكلّف وعدم قدرته

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

(٢) التنقيح / ج ٢ ، ص ٣٩١.

١٩

على مراعات العلم الإجمالي بالاحتياط وعدم خلو الواقعة تكوينا من الفعل أو الترك فيسقط العلم الإجمالي حينئذ عن التأثير بعين اضطراره الموجب لخروج المورد عن قابلية التأثر من قبله بداهة أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون مؤثرا في التنجيز في ظرف قابلية المعلوم بالإجمال لأن يكون داعيا وباعثا للمكلف نحوه وهو في المقام غير متصور حيث لا يكون التكليف المردّد بين وجوب الشيء وحرمته صالحا لداعوية على فعل الشيء أو تركه.

وبذلك نقول : أنّه لا يصلح المقام للحكم التخييري أيضا فإنّ الحكم التخييري شرعيا كان كما في باب الخصال أو عقليا كما في المتزاحمين إنّما يكون في مورد يكون المكلّف قادرا على المخالفة بترك كلا طرفي التخيير فكان الأمر التخييري باعثا على الاتيان بأحدهما وعدم تركهما معا. لا في مثل المقام الذي هو من التخيير بين النقيضين فإنّه بعد عدم خلو المكلّف تكوينا عن الفعل أو الترك لا مجال للأمر التخييري بينهما واعمال المولوية فيه لكونه لغوا محضا إلى أن قال :

فينحصر التخيير في المقام حينئذ بالعقلي المحض بمناط الاضطرار والتكوين بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح لا بمناط الحسن والقبح كما هو ظاهر (١).

ولقد أفاد وأجاد قدس‌سره ولكن لقائل أن يقول : إنّ المراد من حكم العقل بالتخيير هو ادراكه أنّ زمام الواقعة بيد المكلّف بعد تساوي الطرفين أي الفعل والترك.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره إذا كان طرفا الفعل والترك مساويا في نظر العقل يحكم بالتخيير لقبح الترجيح بلا مرجح فلا يبقى مترددا وبالجملة ادراك قبح الترجيح بلا مرجح ملازم لادراك التخيير وهذا هو حكمه بالتخيير ومجرد عدم خلو الإنسان من أحد النقيضين لا يوجب عدم حكم العقل بعدم التعيين الذي هو ادراك التخيير (٢).

ثمّ لا يذهب عليك أنّ التخيير إنّما يكون عند تساوي المحتملين ملاكا بنظر العقل وأمّا مع

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٢) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٠