عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

رؤية الهلال ويكون مفاد الاصول هو العكس فمقتضى القاعدة هو التخيير ؛ لدوران الأمر بين المحذورين ، لانّ مخالفة الاصول مخالفة للشمول القطعي لحديث (لا تنقض) وطرح الاخبار يوجب مخالفة للعلم الإجمالي ، وهذا بخلاف ما اذا قلنا بحجية الخبر فانّ مع الخبر لا يبقى موضوع للاصول ، كما لا يخفى.

وإن كانت الأخبار نافية والأصول نافية فلا مانع من جريان الأصول أيضا ؛ لوجود موضوعها وعدم لزوم المخالفة العملية بناء على عدم حجية الخبر ، وإلّا فلا يبقى موضوع للاصول المذكورة ، كما لا يخفى.

وإن كانت الأخبار مثبتة والاصول نافية فلا مجال لجريان الاصول فيما اذا حصل من جريانها العلم القطعي بمخالفتها مع الواقع المعلوم بالعلم الإجمالي ، بخلاف ما اذا لم يحصل العلم المذكور ، فالمسألة مبنية على جريان الاصول في بعض اطراف المعلوم بالاجمال وعدمه ، هذا بخلاف ما اذا قلنا بحجية الخبر فانّ مع الخبر لا يبقى موضوع للاصول مطلقا ، كما لا يخفى.

فالثمرة بين حجية الخبر وبين لزوم العمل بالخبر بالدليل العقلي واضحة ؛ فإنّ مع حجيّة الخبر يقدم الخبر على الأصل في جميع الصور.

وبما ذكرناه يظهر صحة ما أفاد الشيخ قدس‌سره من أن معنى حجية الخبر كونه دليلا متبعا في مخالفة الاصول العملية ، وهذا المعنى لا يثبت بالدليل المذكور ، فلا تغفل.

ومنها : ما حكي عن صاحب الوافية من انّا نقطع ببقاء التكليف الى يوم القيامة سيما بالاصول الضرورية كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها مع انّ جلّ اجزائها وشرائطها وموانعها انما يثبت بالخبر الغير القطعي بحيث نقطع بخروج حقايق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بالخبر الواحد.

والجواب عنه هو الجواب عن الوجه الأول الذي اعتمد عليه الشيخ الأعظم سابقا ، هذا مضافا الى أنّ اختصاص دائرة العلم الاجمالي بالأجزاء والشرائط يوجب خروج الأخبار

٣٢١

الدالة على الواجبات أو المحرمات النفسية والأخبار الدالة على الاستحباب والكراهة والاباحة عن الحجية ، مع أنّ المدعى هو حجية جميع الأخبار ، وعليه فالدليل أخص من المدعى.

التنبيه التاسع :

أنّ الأدلة الشرعية الدالة على حجية الخبر الواحد قاصرة الشمول بالنسبة الى الموضوعات لاختصاصها بالأحكام ومعالم الدين ، نعم لا بأس بالتمسك ببناء العقلاء على حجية الخبر الواحد في الموضوعات أيضا ؛ لعدم اختصاص البناء بموارد الأحكام ، والمفروض هو عدم ثبوت ردع عن ذلك.

ويمكن أن يقال : يكفي في الردع الأخبار الواردة في اعتبار التعدد في الموضوعات ، وهي متعددة.

منها : خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة. (١)

أورد عليه :

أوّلا : بأنها ضعيفة السند ؛ لعدم ثبوت وثاقة مسعدة بن صدقة.

وثانيا : بأنه لم يثبت حقيقة شرعية للبينة في المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، بل هي لغة تشمل مطلق الحجة ولو كانت خبر العدل الواحد.

وثالثا : بأنّه لو سلمنا ارادة البينة المصطلحة فالحصر المستفاد منه إنّما هو بالاضافة الى مورده مما ثبتت الحلية فيه بالامارة أو الاستصحاب ، وأما غيره فالرواية أجنبية عنه ، وإلّا لزم تخصيص الأكثر لثبوت الحرمة بالاستصحاب والاقرار وحكم الحاكم. (٢)

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٤.

(٢) دروس في فقه الشيعة : ج ١ ص ١١٥.

٣٢٢

ويمكن الجواب عن الاشكالات المذكورة على خبر مسعدة بانّ اعتماد الصدوق على كتاب مسعدة ، مضافا الى ما ذهب اليه السيد المحقق البروجردي رحمه‌الله على المحكي من وحدته مع مسعدة بن زياد يكفي في وثاقة مسعدة ، هذا مع وقوعه في اسناد كامل الزيارات ، فتأمّل.

ثم أن البينة الاصطلاحية شائعة مع عصر الصادقين عليهما‌السلام وحملها على البينة اللغوية لا موجب له.

وأما تخصيص الرواية بموردها فلا وجه له ؛ لانّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوصية المورد.

ودعوى لزوم تخصيص الأكثر لو لم تخصص بموردها مندفعة بأنّ التخصيص العنواني لا يستلزم ذلك ، فافهم.

وعليه فالحصر في الرواية حصر حقيقي لا اضافي ، وهو يصلح لردع السيرة العقلائية على حجية خبر الثقة في الموضوعات ، ولكن بعد في النفس شيء من ناحية ضعف السند ومن جهة عدم تمامية الدلالة.

ومنها : الأخبار الواردة في لزوم شهادة العدلين كخبر عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال : كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة. (١) ومورده وإن كان الميتة ، ولكن يمكن الغاء الخصوصية ، إلّا أنّ الرواية ضعيفة بضعف بعض رواته.

وصحيحة منصور ابن حازم المروية في رؤية الهلال : فان شهد عندك شاهدان مرضيان بأنّهما رأياه فاقضه. (٢)

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أن عليا عليه‌السلام كان يقول : لا أجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين. (٣)

وصحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يجوز شهادة النساء في الهلال ، ولا يجوز إلّا بشهادة رجلين عدلين. (٤)

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦١ من أبواب الاطعمة المباحة ح ٢.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب أحكام شهر رمضان : ح ٤.

(٣) الوسائل : الباب ١١ من أبواب أحكام شهر رمضان ح ١.

(٤) الوسائل : الباب ١١ من أبواب أحكام شهر رمضان.

٣٢٣

وغير ذلك من الأخبار ممّا دلّ على لزوم شهادة عدلين في ثبوت الهلال. وتقريب الاستدلال بها على عدم كفاية قول الثقة أنها دلت على اعتبار البينة ، ولا خصوصية لمورد الهلال ، فمع دلالة تلك الأخبار لا مجال للأخذ ببناء العقلاء.

ويمكن الجواب عنه بأنّه : لا اشكال في دلالتها على لزوم شهادة عدلين في ثبوت الهلال ، وإنّما الكلام في أن هذه الأخبار مختصة بموردها أو يعم غيرها ، والغاء الخصوصية مشكل مع أنّ مورد هذه الروايات مما لا يحصل عادة الوثوق النوعي بشهادة واحد من الثقات أو العدول ؛ لعدم رؤية الآخرين الذين في صدد الرؤية ، فاعتبار شهادة العدلين في مثل هذه الموارد لا ينافي وجود بناء العقلاء في غيرها مما يحصل الوثوق النوعي بشهادة أحد من الثقات كإخبار الثقة بعزل الوكيل كما صرح بكفايته في خبر هشام بن سالم (١) أو إخبار البائع الثقة باستبراء الامة كما في خبر حفص بن البختري (٢) أو إخبار الثقة بالوصية كما في خبر اسحاق بن عمار (٣) أو إخبار الثقة بدخول الوقت كما في خبر ذريح (٤) وغير ذلك من الموارد.

ومنها : خبر علقمة قال : قال الصادق عليه‌السلام : وقد قلت له : يا ابن رسول الله أخبرني عمن تقبل شهادته ومن لا تقبل. فقال : يا علقمة كل من كان على فطرة الاسلام جازت شهادته. قال : فقلت له : تقبل شهادة مقترف بالذنوب؟ فقال : يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الانبياء والاوصياء عليه‌السلام ؛ لأنهم المعصومون دون سائر الخلائق. فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنبا ، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله داخل في ولاية الشيطان. (٥)

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢ من أبواب كتاب الوكالة : ح ١.

(٢) الوسائل : كتاب التجارة الباب ١١ من أبواب بيع الحيوان : ح ٢.

(٣) الوسائل : الباب ٩٧ من أبواب الوصايا : ح ١.

(٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب الاذان والاقامة : ح ١.

(٥) الوسائل : الباب ٤٠ من أبواب الشهادات : ح ١٣.

٣٢٤

بدعوى أنّ قوله (أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان) يدل على أنّ الخبر الواحد عن الذنب لا يثبت شيئا ، ولا يضر بذلك دلالة الرواية على أنّ الاصل هو العدالة ، مع أنّ مقتضى أكثر الاخبار عدم كفاية الأصل المذكور.

واللازم هو حمل الرواية على أنّ المركوز في ذهن السائل من العدالة هو ما لا يحتمل في حقه ترك أوامر الله تعالى كما أفاد الفاضل الشعراني أو حملها على ما اذا كان له حسن الظاهر أو غير ذلك.

لانّ المقصود من الاستدلال هو هذه الفقرة ، ولكن الرواية ضعيفة لضعف طرقها.

ومنها : موثقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام : أنّ شهادة الأخ لاخيه تجوز إذا كان مرضيا ومعه شاهد آخر. (١)

ولا يخفى عليك أن شهادة الأخ لأخيه لا تخلو عن مظنة الاتهام ، وعليه فاعتبار التعدد في مثله لا يكون دليلا على ردع بناء العقلاء على خبر الثقة في الموضوعات ، هذا مضافا الى أنّ اعتبار التعدد في مقام القضاء لا ينافي اعتبار خبر الثقة في سائر الموارد.

ومنها : موثقة طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي عليهم‌السلام : أنّه كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلّا شهادة رجلين على رجل (٢) ، وهو صريح في عدم كفاية شهادة رجل واحد.

ولكن يمكن أن يقال : أن المقصود من الرواية بقرينة رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عن علي عليه‌السلام : أنّه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حدّ (٣) هو الشهادة على الشهادة ، ولو سلم أن المراد هو الشهادة على شيء فهو مختص بباب القضاء ، ولا يشمل غيره.

والحاصل : أن الروايات المذكورة محمولة على موارد خاصة كمورد القضاء أو مورد

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤٠ من أبواب الشهادات : ح ١٩.

(٢) الوسائل : الباب ٤٤ من أبواب الشهادات : ح ٢.

(٣) الوسائل : الباب ٤٥ من تلك الأبواب : ح ١.

٣٢٥

الشهادة على الشهادة أو مورد لا يحصل الوثوق النوعي بخبره حتى عند عرف العقلاء.

وبعد حمل هذه الروايات على تلك الموارد فلا وجه لرفع اليد عن بناء العقلاء في موارد ثبوته ؛ لوجود البناء وعدم ثبوت الردع وإن كان مقتضى الاحتياط هو مراعاة التعدد ، كما لا يخفى.

التنبيه العاشر :

أن حجية الظن الخاص اما تكون بمعنى جعل غير العلم علما بالتعبد فمع هذا التعبد يجوز الاخبار عن الشيء ولو لم يحصل العلم الوجداني به ويترتب على المخبر به آثاره الواقعي لقيام الحجة عليه وحينئذ تشمل حجية الخبر جميع الامور التكوينية والتاريخية كما سيأتى أن شاء الله تعالى في التنبيه الثاني من تنبيهات الانسداد. واما تكون الحجية بمعنى كون الظنّ منجّزا ومعذّرا ، فيختصّ حجّية الظنّ الخاص بما اذا كان مؤدى الخبر اثرا شرعيا فلا تعمّ الامور التكوينية والتاريخية اذ لا مورد للمعذرية والمنجزيّة بالنسبة اليها وجواز الاخبار عن تلك الاشياء متفرع على العلم بها والمفروض عدم حصول العلم بها ولا يجوز الاخبار التى بما في الرواية من الثواب والعقاب بل اللازم ان يقال عند الأخبار بهما روى انّه من صام فى رجب كان له كذا.

ولذا قال السيد المحقق الخوئي قدس‌سره لا يجوز على مبنى من ذهب الى أن الحجية بمعنى جعل المنجز او المعذر الإخبار البتّى بما في الروايات من الثواب على المستحبات او الواجبات بل لا بد من نصب قرينة دالة على انه مروي عن الائمة عليهم‌السلام بان يقال روى انّه من صام في رجب كان له كذا ، راجع التنبيه الثاني من تنبيهات الانسداد.

ومما ذكرنا يظهر حكم ما اذا قلنا بان حجية الظن الخاص تكون بمعنى جعل المماثل اذ لا يصلح ذلك إلّا في دائرة الاحكام الشرعية ، فلا تعمّ غيرها اذ لا حكم شرعي فيه حتى يجعل مماثله عند الاخبار به فتدبر جيدا.

٣٢٦

الخلاصة

التنبيهات

التّنبيه الأوّل :

أنّ اعتبار الأخبار من باب التعبّد لا الإرشاد إلى بناء العقلاء واعتبار الوثوق والاطمئنان النّوعي بمؤدّاه ولذا يجوز الأخذ بإطلاق الأخبار ولو لم يثبت إطلاق البناء.

والشاهد لذلك وقوع التعبّد بالرّاجح من المتعارضين عند ترجيح أحدهما بإحدى المرجّحات مع أنّ المرجّحات المذكورة في الأخبار لا توجب الاطمئنان النوعي بالمؤدّى أو وقوع التعبّد بالتخيير عند عدم وجود المرجّحات مع أنّ البناء حينئذ على التساقط.

وهكذا يعتضد ذلك أيضا بوقوع التعبّد بالأخبار ولو مع كثرة الوسائط مع أنّه لا يحصل الاطمئنان أحيانا بسبب كثرة الوسائط أو بوقوع التعبّد بتقديم أخبار ثقات الشّيعة على أخبار ثقات العامّة عند اختلافهما مع أنّه لا فرق بينهما عند العقلاء كما لا يخفى.

كلّ ذلك شاهد على أنّ اعتبار الأخبار من باب الإمضاءات التعبّديّة لا الإرشاد المحض إلى بناء العقلاء.

إنّا لا نقول لا بناء من العقلاء على اعتبار أخبار الثّقات بل نقول لا وجه لحمل أدلة اعتبار الأخبار على الإرشاد بل هي تفيد التعبّد بالأخبار والمستفاد منها هو الأعم ممّا عليه بناء العقلاء وممّا ذكر ينقدح أنّه لا وجه لحمل سيرة المسلمين أيضا على السّيرة العقلائيّة.

التّنبيه الثّاني :

أنّ ممّا استدلّ به لحجّيّة أخبار الثّقات هو استقرار سيرة المسلمين على استفادة الأحكام الشّرعيّة من أخبار الثّقات المتوسّطة بينهم وبين المعصوم عليه‌السلام أو المجتهد ولا يعتنون باحتمال الخلاف.

اورد عليه أوّلا : بأنّه كيف يجتمع استقرار السّيرة المذكورة مع اختلاف جماعة من العلماء مثل السيّد والقاضي وابن زهرة والطّبرسي وابن إدريس في جواز العمل بمطلق الخبر فإنّ هؤلاء العلماء ومقلّديهم يخالفون في العمل ومع مخالفتهم لا مجال لدعوى قيام سيرة المسلمين على العمل بالخبر الواحد.

٣٢٧

اللهمّ إلّا أن يقال : ما من سيرة إلّا تخالفها جماعة ألا ترى أنّ السّيرة على رجوع الجاهل إلى العالم ومن ذلك خالف فيه الأخباريّون فالملاك في تحقّق السّيرة هو قيام غالب النّاس بحيث يكشف عن رأي الشّارع وهو حاصل وإن خالفها جماعة فتدبّر.

وثانيا : بأنّه لو سلّم اتّفاقهم على ذلك لم يحرز أنّهم اتّفقوا بما هم مسلمون أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين.

ويمكن الجواب عنه بأنّه لا موجب لإرجاع سيرة المسلمين إلى سيرة العقلاء بعد ما نرى من الاختلاف بينهما في جواز العمل وعدمه في بعض الأحوال كحال كثرة الوسائط أو حال التعارض وترجيح أحدهما بالصّفات أو بالمخالفة مع العامّة أو بالموافقة مع الكتاب أو التخيير عند عدم المرجّحات فإنّ الاختلاف المزبور يشهد على أنّ سيرتهم ثابتة بما هم مسلمون لا بما هم عقلاء فتدبّر جيّدا.

وعليه فسيرة المسلمين كالأخبار في إفادة حجّيّة خبر الثقات مطلقا سواء حصل الاطمئنان النوعي أو لا.

نعم لا يبعد تقييدها بما دلّت عليه أخبارنا من تقديم الثّقة الإمامي على الثّقة العامي عند المخالفة.

ودعوى اختصاص السّيرة المذكورة بما إذا حصل الاطمئنان بحيث لا يعتني باحتمال الخلاف ممنوعة لوجدان السّيرة المتشرّعة على نقل الثّقات ولو لم يحصل الاطمئنان النّوعي إذ لا دلالة بين كون الرّاوي ثقة وأمينا وبين الوثوق بصدور ما أخبر به لاحتمال الخطأ والاشتباه وتعمّد الكذب فيما إذا أحرز الوثاقة بقيام البيّنة أو بحسن الحال.

نعم يمكن الدعوى المذكورة في سيرة العقلاء فإنّها كما أفاد سيّدنا الاستاذ استقرّت على العمل بخبر الثّقة من جهة الوثوق به حيث بنقل الثّقة أو العادل تحصيل الوثوق غالب من قوله حيث لا يحتمل عرفا تعمّده للكذب في شخص هذا الخبر ففي الحقيقة العمل يكون على طبق الوثوق والاطمئنان.

٣٢٨

التّنبيه الثّالث :

أنّه لا يخفى عليك وقوع التعبّد بالخبر الواحد الثّقة بعد ما عرفت من الأخبار الكثيرة الدالّة على حجّيّة قول الثّقات.

ودعوى أنّ التعبّد في خبر الثّقة لا مجال له لأنّ وثاقة الشخص إمّا تحصل بالجزم بها من طريق المعاشرة أو بشهادة الإمام عليه‌السلام بالوثاقة الموجبة للجزم به لعدم احتمال الخطأ فيها وفي مثلها لا يتوقّف قبول قول الثّقة على التعبّد للجزم بصدقه بلا تردّد وحيث إنّ الإرجاعات الواردة في الأخبار من هذا القبيل فلا يستفاد منها التعبّد بل تتكفّل الإرشاد إلى وثاقته فيترتّب عليها القبول عقلا للجزم بصدقه لا تعبّدا فما نحتاج إلى التعبّد.

مندفعة بأنّ النصوص لا تنحصر في النّصوص التي هي إرجاعات المعصوم عليه‌السلام وقد عرفت النصوص الدالّة على تقرير العامّة على العمل بما روى الثّقات عندهم عن علي عليه‌السلام.

كخبر شبيب بن أنس وداود بن فرقد وأيضا عرفت النّصوص الدالّة على اعتماد أصحابنا على نقل الثّقات ولم ينهوا عنه والنّصوص الدالّة على التوجّه النهي عن أخبار غير ثقات العامّة هو الخيانة ومقتضاها هو جواز النقل عنهم عند انتفاء الخيانة.

والأخبار الدالّة على مفروغية كون خبر الثّقة في نفسه حجّة وإنّما السؤال عن حاله عند ابتلائه بالمعارض وإلى غير ذلك من الرّوايات الدالّة على حجّيّة خبر الثقات ولو لم نعاشرهم ولم يثبت توثيقهم بسبب قول الإمام المعصوم عليه‌السلام هذا مضافا إلى أنّ بعض الإرجاعات معلّل بعنوان الكلّي من الثّقة المأمون ومن المعلوم أنّ هذا العنوان الكلّي ليس ممّا أخبر عنه الإمام عليه‌السلام بوثاقته حتّى لا يتوقّف قبوله على التعبّد لحصول الجزم به.

وأيضا أنّ الإرجاعات إلى الموثّقين بتوثيق الإمام لا يخصّص بمن سمع من الإمام عليه‌السلام توثيقه بل الأمر كذلك لمن سمع من الواسطة ومن المعلوم أن بعد وجود الواسطة قد لا يحصل القطع والجزم بوثاقة الواسطة ومع عدم الجزم بها يمكن التعبّد.

وبالجملة لا مجال لإنكار التعبّد رأسا وجعل الأخبار إرشادا كما لا يخفى.

٣٢٩

التّنبيه الرّابع :

أمّا الوثوق الفعلي بالصدور بمنزلة العلم بالصدور فكما أنّ العلم حجّة عقلا ولا يحتاج إلى الإمضاء فكذلك ما يقوم مقامه من الوثوق الفعلي ثمّ إنّ العلم والوثوق الفعلي لا يكون مشمولا للآيات النّاهية عن العمل بالظنّ لخروج العلم أو الوثوق الفعلي عنها بالتخصّص.

وعليه فإذا وثقنا وثوقا فعليّا بصدور خبر ولو كان مرسلا أو مسندا بسند ضعيف فالخبر حجّة عقلا ويصلح للاستشهاد إليه للوثوق الفعلي.

ولعلّ من هذا الباب اعتماد الأصحاب على ما روي بسند صحيح عن أصحاب الإجماع لأنّ ذلك يكشف عن احتفاف رواياتهم بقرائن توجب الوثوق الفعلي لهم بصدورها وإن وقع في الطريق غير الثّقات أو كان الطّريق مرسلا أو مرفوعا.

هذا بناء على أنّ معنى اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم بمعنى تحقّق الإجماع على تصحيح المروي لا الرّاوي وحينئذ يكون الإجماع كاشفا عن احتفاف الرّاوي بامور توجب الوثوق الفعلي بوثاقته.

وأيضا يمكن أن يكون من هذا الباب اعتماد الأصحاب على المتون المنقولة في كتب علي بن بابويه وهداية الصّدوق ونهاية الشّيخ وغيرهم فإنّهم اطمأنوا بالاطمئنان الفعلي بصدورها بسبب عمل الأصحاب بها وحينئذ إن حصل لنا ذلك الاعتماد الفعلي فهو حجّة ولعلّ اعتماد جلّ الأصحاب أو كلّهم مع اختلاف مشاربهم واستعداداتهم حاك عن مقرونية المتون أو المروي بالقرائن المحسوسة التي تصلح لإيجاد الوثوق والاطمئنان الفعلي لنا أيضا وإلّا لما أجمعوا عليه مع اختلاف مبانيهم.

التّنبيه الخامس :

أنّه لا يبعد دعوى أنّ الوثوق النوعي بالصّدور ممّا يصلح للاحتجاج عند العقلاء وإن لم يقرن بالوثوق الفعلي أو لم يكن الرّاوي ثقة وذلك لأنّ الوثوق النوعي طريق عقلائي ولذا يصحّ احتجاج الموالي على عبيدهم بذلك ودعوى اختصاص الطريق العقلائي بخصوص

٣٣٠

نقل الثّقات مندفعة لصحيحة الاحتجاج المذكور ألا ترى أنّ الإنسان إذا اطمأن بأنّ سفر البحر وركوب السّفينة لا يوجب الغرق لنفسه وماله وحصل له هذا الاطمئنان من أخبار المخبرين يقدم على هذا السفر مع انّه محتمل مع ذلك للغرق ولكن يعامل معه معاملة المعدوم.

وهذا مرتكز في نفوسهم والارتكاز يمنع عن خطور خلافه في ذهن نوع الأفراد ومع عدم خطور خلافه في الذهن لا يخطر ببالهم أنّ حجّيّة هذا الأمر الارتكازي موقوف على عدم منع المولى بل الاطمئنان المذكور حجّة فعليّة تنجيزيّة فلذا لو ورد من الشّارع النهي عن العمل بالظنّ ينصرف عندهم إلى غير الاطمئنان النوعي ويعاملون مع الاطمئنان المذكور معاملة العلم وإن كان غير علم.

ولو كان للشارع طريقة اخرى لزم عليه أن يبيّنها ويظهرها بالتّصريح والتّنصيص وحيث لم يرد شيء في ذلك يكشف أنّ الشّارع اكتفى بطريقة معمولة عند النّاس.

ودعوى أنّ المسلم هو حجّيّة خبر الثّقة وإلّا فمجرّد الوثوق بصدوره إذا كان الرّاوي غير ثقة غير معلوم الحجّيّة لو لم يكن معلوم العدم أترى أنّه إذا حصل الثّقة بصدق الخبر من طريق الرّؤيا مثلا فهذا الخبر حجّة عند العقلاء كلّا ومن الواضح أنّ موضوع الأخبار هو كون راوي الخبر ثقة وجعله طريقا إلى الثّقة بالصّدور لو كان فإنّما هو بإلغاء الخصوصيّة العقلائيّة ولا يوافق عليها العقلاء هنا بل هم يرون خبر الثّقة حجّة.

مندفعة بما عرفت من وجود البناء على حجّيّة الوثوق والاطمئنان النّوعي بالصّدور من دون حاجة إلى إلغاء الخصوصيّة والشّاهد عليه صحّة الاحتجاج المذكور ولا ملازمة بين وجود البناء على حجّيّة الوثوق النّوعي والاطمئنان بالصدور في المرتكزات العرفيّة وبين حجّيّة الوثوق الحاصل بالرؤيا لأنّ الحجّيّة تابعة لوجود البناء فإذا علمنا به في المرتكزات دون الحاصل بالرؤيا اختصّت الحجّيّة بالمرتكزات العرفيّة كما لا يخفى.

التّنبيه السّادس :

في انجبار الخبر الضّعيف بعمل المشهور ولا يذهب عليك أنّ عمل الأصحاب بالخبر

٣٣١

الضعيف يوجب الوثوق بالصّدور كما أنّ إعراضهم عن العمل بالخبر ولو كان صحيحا يكشف عن اختلاله بشرط أن لا يكون الإعراض اجتهاديا وإلّا فلا يكشف عن شيء كما لا يخفى.

ودعوى أنّ الخبر الضّعيف لا يكون حجّة في نفسه على الفرض وكذلك فتوى المشهور أو عملهم غير حجّة على الفرض وانضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة لا يوجب الحجّيّة فإنّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلّا العدم.

وعمل المشهور ليس توثيقا عمليّا للمخبر حتّى يثبت بذلك كونه من الثّقات فيدخل في موضوع الحجّيّة لأنّ العمل مجمل لا يعلم وجهه فيحتمل أن يكون عملهم به كما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب نظرهم واجتهادهم لا لكون المخبر ثقة عندهم هذا بالنّسبة إلى الكبرى.

وأمّا الصّغرى وهي استناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى فإثباتها أشكل من إثبات الكبرى لأنّ القدماء لم يتعرّضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضّعيف فمن أين يستكشف عمل القدماء بخبر ضعيف واستنادهم غاية الأمر أنّا نجد فتوى منهم مطابقة لخبر ضعيف ومجرّد المطابقة لا يدلّ على أنّهم استندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر إذ يحتمل كون الدّليل عندهم غيره فتحصّل أنّ القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور غير تامّ صغرى وكبرى.

مندفعة أوّلا : بأنّ انضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة ربّما يكون موجبا للحجّيّة ألا ترى في الخبر المتواتر أنّ كلّ خبر ليس في نفسه حجّة ولكن مع الانضمام وحصول التواتر يكون حجّة والوجه في ذلك هو تراكم الاحتمالات إلى أن تصير ظنّا ثمّ مع تراكم الظّنون وحصول الاطمئنان أو العلم فالعلم والاطمئنان حجّة.

وهكذا الأمر في المقام فالخبر وإن لم يكن في نفسه حجّة ولكن مع اقترانه بمثل عمل الأصحاب يحصل الاطمئنان بالصدور إذ الأصحاب لم يعملوا بما ليس بحجّة فعملهم

٣٣٢

يكشف عن اقتران الخبر بما يوجب الاطمئنان بصدوره وعليه فلا مجال للمناقشة في الكبرى ثمّ دعوى عدم إحراز عمل الأصحاب مناقشة صغرويّة وهكذا احتمال كون عملهم اجتهاديّا والبحث بعد فرض الاستناد والعلم به والكشف عن اقتران الخبر بالقرائن المحسوسة بحيث لو اطّلعنا عليه لوثقنا بالصدور كما وثقوا به.

وثانيا : بأنّ الكلام في الوثوق بالصدور لا توثيق المخبر فالقول بأنّ العمل بخبر ضعيف لا يدلّ على توثيق المخبر أجنبيّ عن المقام.

وثالثا : بأنّ المتون المفتى بها في عبارات بعض القدماء كعلي بن بابويه والصدوق في الهداية والشّيخ في النّهاية وغيرهم روايات وأخبار استندوا إليها في الفتاوى ويكفي في الوثوق بصدورها عملهم بها والفتوى بها فلا وجه للقول بأنّ القدماء لم يتعرّضوا للاستدلال بالروايات في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر.

ورابعا : بأنّ مطابقة فتوى القدماء للخبر الضّعيف وإن لم تدلّ على استنادهم إلى خصوص الخبر الضعيف لاحتمال أن يكون الدّليل عندهم غيره ولكن تصلح للوثوق بصدور مضمون الخبر لأنّ القدماء لم يفتوا من دون دليل فإذا أجمعوا على الفتوى بشيء يكشف ذلك عن وجود دليل تامّ الدّلالة على ذلك سواء كان هو الخبر الضّعيف أو غيره ممّا يكون مطابقا له في المضمون وعلى كلّ تقدير يحصل الوثوق بصدور مضمون الخبر وإن لم يعلم استنادهم إلى خصوص الخبر الضّعيف فلا تغفل.

فتحصّل أنّ القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور أو فتاويهم تامّ كبرى وصغرى عند إحراز عملهم بالخبر الضعيف أو بما يطابقه في المضمون فتدبّر جيّدا.

وهكذا يتمّ القول بأنّ إعراض المشهور عن العمل بالخبر مع وضوح صحّته وتماميّة دلالته يوجب الوهن في الخبر ويكشف عن اختلال في الرّواية من ناحية الصّدور وإلّا فلا وجه لإعراضهم مع تماميّة السّند والدلالة ولا فرق في ذلك بين الشهرة والإجماع واختصاص الوهن بإعراض الإجماع عن الخبر لا وجه له.

٣٣٣

التّنبيه السّابع :

أنّه لا تفاوت في حجّيّة الآحاد من الأخبار بين المنقولة بالواسطة وبين المنقولة بلا واسطة في شمول أدلّة الاعتبار من السيرة وبناء العقلاء والرّوايات الدالّة على حجّيّة الخبر الواحد وتخصيص الأدلّة بالمنقولة بلا واسطة لا وجه له.

ودعوى أنّ الخبر مع الواسطة خبر عن الموضوع لا الحكم الشّرعي الكلّي والمشهور عدم حجّيّة الخبر في الموضوعات بل لا بدّ فيها من قيام البيّنة إذ ليس في النّصوص الدالّة على اعتبار الخبر ما يدلّ على حجّيّة الخبر مع الواسطة.

والأخبار التي بأيدينا كلّها من هذا القبيل لأنّها منقولة بالواسطة فالنّصوص الدالّة على اعتبار الأخبار لا تنفع في إثبات حجّيّتها.

ويشهد له خبر مسعدة بن صدقة الذي فيه : والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة بناء على أنّ المراد من البيّنة هي البيّنة الاصطلاحيّة.

مندفعة أوّلا : بأنّ مورد خبر مسعدة بن صدقة هي الموضوعات الصّرفة التي لا ارتباط لها مع الحكم بل هي مجرّد الموضوع وهذا بخلاف المقام فإنّ الخبر عن الخبر ينتهي إلى نقل الحكم وعليه فلا يكون المقام مشمولا لخبر مسعدة بن صدقة ولا أقل من الشكّ ومعه فلا يرفع اليد عن عموم أدلّة اعتبار أخبار الآحاد بما هو مشكوك في مفهومه من جهة اختصاصه بمورده أو عدمه هذا مضافا إلى ما فيه من ضعف السّند.

وثانيا : بأنّه لو سلّمنا شمول مثل خبر مسعدة بن صدقة للمقام فيقدّم أدلّة اعتبار الخبر لقوّة ظهورها في شمول الخبر مع الواسطة كقوله عليه‌السلام «ائت أبان ابن تغلب فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا فما رواه لك فأروه عنّي» ومن المعلوم أنّ الأمر بالرّواية عن الرّواية من دون شرط يشمل الرّواية مع الواسطة أيضا هذا مضافا إلى أنّ قوله عليه‌السلام «فأروه عنّي» يدلّ على الأمر بالرّواية عن الرّواية وهي الرّواية مع الواسطة ، وكغيره من الرّوايات المتعدّدة المتضافرة الدالّة على جواز الرّواية ولو مع الواسطة أو تقرير الرّواية ولو مع الواسطة أو الرّواية مع الواسطة.

٣٣٤

وثالثا : بقيام السّيرة القطعيّة على عدم الفرق بين المنقولة بدون الواسطة وبين المنقولة مع الواسطة فتحصّل أنّه لا إشكال في شمول أدلّة الاعتبار للمنقولة مع الواسطة هذا بحسب مقام الإثبات.

وأمّا بحسب مقام الثّبوت فقد يشكل في ذلك إمّا بأنّ معنى حجّيّة الخبر هو وجوب التّصديق بمعنى لزوم ترتّب الأثر الشّرعي على الخبر وعليه فالحكم بحجّيّة الخبر مع الواسطة يتوقّف على أمرين : أحدهما إحراز نفس الخبر. وثانيهما وجود أثر شرعي حتّى يحكم بترتّبه عليه ومن المعلوم أنّ في المقام لا يحرز الواسطة ولا أثرها إلّا بنفس حجّيّة الخبر ولازم ذلك هو تقدّم المتأخّر مضافا إلى لزوم اتحاد الحكم والموضوع.

وتوضيح ذلك أنّ خبر الكليني محرز لنا بالوجدان ومع الإحراز المذكور يحكم بحجّيّته ووجوب تصديقه بالمعنى المذكور بمقتضى أدلّة حجّيّة الأخبار وأمّا خبر من يروي عنه الكليني ممّن كان متقدّما عليه وخبر المتقدّم عليه ممّن تقدّم عليه من الرواة إلى أن ينتهي إلى الإمام المعصوم عليه‌السلام فهو غير محرز لنا بالوجدان وإحرازه بنفس الحكم بحجّيّة خبر الكليني والحكم عليه بنفس هذه الحجّيّة يستلزم أن يكون الخبر المحرز من ناحية هذه الحجّيّة متقدّما على نفس هذه الحجّيّة مع أنّه متأخّر عنها فالحكم بالحجّيّة في المقام مع هذه الخصوصيّة يوجب أن يتقدّم المتأخّر وهو محال.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الإشكال ناش من توهّم كون الحكم بالحجّيّة حكما شخصيّا والقضيّة قضيّة خارجيّة وأمّا إذا كان الحكم بالحجّيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة فلا يلزم هذا الإشكال أصلا فإنّ الحكم بحجّيّة خبر الكليني يوجب إحراز خبر من يروي عنه الكليني فبعد الإحراز المذكور يشمل القضيّة الحقيقيّة لفرد آخر منها لا عين الفرد الثّابت بخبر الكليني.

ومع تعدّد الحكم بتعدّد الأفراد لا يلزم أيضا إشكال اتّحاد الحكم والموضوع إذ الحكم يوجب ترتيب ما للمخبر به وهو خبر من يروي عنه الكليني ليس بنفس شخص الحكم في

٣٣٥

دليل حجّيّة خبر الكليني بوجوب تصديق خبر العادل بل يكون بفرد آخر من أفراد القضيّة الحقيقيّة وقد يشكل ذلك إمّا بأنّ التعبّد بحجّيّة الخبر يتوقّف على أن يكون المخبر به بنفسه حكما شرعيا أو ذا أثر شرعي مع قطع النظر عن دليل حجّيّة الخبر ليصحّ التعبّد بالخبر بلحاظه وإلّا فالتعبّد بحجّيّة الخبر فيما لم يكن له حكم شرعي أو أثر شرعي لغو محض ولا ارتباط له بالشرع ومقتضى ذلك أنّ دليل الحجّيّة لا يشمل الأخبار مع الواسطة لأنّها ليست إلّا الخبر عن الخبر وهذا الإشكال يجري في أخبار جميع سلسلة الرّواة إلّا الخبر المنتهى إلى قول الإمام عليه‌السلام.

ويمكن الجواب بأنّ الطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر وإن لم يكن المخبر ملتفتا إلى الملازمة فحينئذ نقول يكفي في حجّيّة خبر العادل انتهاؤه إلى أثر شرعي فكما أنّ الطريق إلى الحكم الشّرعي العملي طريق إليه ويشمله أدلّة الحجّيّة فكذلك الطريق إلى طريق الحكم الشّرعي أيضا طريق إلى الحكم الشرعي ويشمله أدلّة الحجّيّة.

وعليه فنفس خبر العادل كخبر الشّيخ الطّوسي عن خبر العادل كالشّيخ المفيد إلى أن ينتهي إلى المعصوم عليه‌السلام يكون موجبا لكشف الظنّ النوعي بقول المعصوم فتشمله أدلّة التعبّد. فيكون حجّة ولا حاجة إلى شمول أدلّة التعبّد بنفس الوسائط حتّى يقال لا أثر للوسائط.

التّنبيه الثّامن :

أنّه ربّما يستدلّ على حجّيّة الخبر بالوجوه العقليّة.

منها أنّا نعلم إجمالا بصدور أكثر الأخبار أو كثير منها واحتمال الجعل لا يكون في جميع الأخبار فإذا ثبت العلم الإجمالي بوجود الأخبار الصّادرة فيجب الاحتياط بالعمل لكل خبر مع عدم المعارض والعمل بمظنون الصّدور أو مظنون المطابقة للواقع عنه وجود المعارض.

وفيه أنّ مقتضى هذا الدّليل هو وجوب العمل بالخبر المقتضي للتّكليف لأنّه الذي يجب العمل به وأمّا الأخبار النّافية للتّكليف فلا يجب العمل بها كما لا يخفى وأيضا معنى حجّيّة

٣٣٦

الخبر كونه دليلا متّبعا في مخالفة الاصول العمليّة والأصول اللفظيّة مطلقا وهذا لا يثبت بالدليل المذكور.

لا يقال إنّ العلم الإجمالي بورود التخصيص في بعض العمومات يوجب سقوط أصالة العموم أو الإطلاق عن الحجّيّة.

لأنّا نقول نعم ولكن العلم الإجمالي بإرادة العموم أو الإطلاق في بعض العمومات يقتضي وجوب الاحتياط بالعمل بجميع العمومات والمطلقات الدالّة على التّكاليف الإلزاميّة والخاصّ المذكور لا يكون حجّة ليكون موجبا لانحلال العلم الإجمالي وحينئذ فالثمرة بين القول المذكور بالاحتياط من جهة العلم الإجمالي وبين القول بحجّيّة الخبر واضحة حيث إنّه إن قلنا بحجّيّة الخبر فهو مقدّم على العامّ أو المطلق وإن قلنا بوجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط فالخبر ليس مقدّما على العامّ أو المطلق بل يجب العمل بالعموم أو المطلق كما لا يخفى.

ويظهر الثّمرة أيضا إذا كان مفاد كلّ من العامّ أو الخاصّ حكما إلزاميا بأن يكون مفاد العام وجوب إكرام العلماء ومفاد الخاص حرمة إكرام العالم الفاسق مثلا فعلى القول بحجّيّة الأخبار لا إشكال في تقديم الخاصّ على العمومات وتخصيصها به وعلى القول بوجوب العمل بالأخبار من باب الاحتياط فلا يمكن الاحتياط في الفروض ويكون المقام نظير دوران الأمر بين المحذورين والعقل يحكم حينئذ بالتّخيير.

هذا معنى الكلام في بيان الثّمرة بين حجّيّة الخبر وبين لزوم العمل بالخبر بالدّليل العقلي بالنّسبة إلى الاصول اللّفظية.

وأمّا بالنّسبة إلى الاصول العمليّة فإن كانت الأخبار نافية والأصول مثبتة فلا إشكال في تقديم الاصول المثبتة لوجود موضوعها وهو الشكّ بعد عدم حجّيّة الخبر بخلاف ما إذا كان الخبر حجّة فإنّه مقدّم على الاصول المثبتة إذ لا يبقى موضوع الاصول المذكورة مع الخبر الحجّة كما لا يخفى وإن كانت الأخبار مثبتة وكانت متوافقة مع الاصول فلا إشكال أيضا في

٣٣٧

جريان الاصول المذكورة على القول بوجوب الخبر من باب الاحتياط دون القول بحجّيّة الخبر فإنّه لا ورود لموضوع الاصول حينئذ بناء على المعروف.

وإذا لم يكونا متوافقين كأن يكون مفاد الأخبار حرمة الجمعة ومفاد الاصول هو العكس فمقتضى القاعدة هو التخيير لأنّ مخالفة الاصول مخالفة للشمول القطعي لحديث (لا تنقض) وطرح الأخبار يوجب مخالفة العلم الإجمالي بخلاف ما إذا قلنا بحجّيّة الخبر فإنّ مع الخبر لا يبقى موضوع للاصول.

وإن كانت الأخبار نافية والاصول نافية فلا مانع من جريان الاصول لوجود موضوعها ولا يلزم من ذلك المخالفة العمليّة على عدم حجّيّة الخبر.

وإن كانت الأخبار مثبتة والاصول نافية فالمسألة مبنيّة على جريان الاصول في بعض أطراف المعلوم بالإجمال وعدمه بخلاف ما إذا قلنا بحجّيّة الخبر فإنّ مع الخبر لا يبقى موضوع للاصول مطلقا.

فانقدح أنّ معنى حجّيّة الخبر كونه دليلا متّبعا في مخالفة الاصول العمليّة وهذا المعنى لا يثبت بلزوم العمل بالخبر بالدّليل العقلي.

التّنبيه التّاسع :

أنّ الأدلّة الشرعيّة الدالّة على حجّيّة الخبر الواحد قاصرة الشمول بالنّسبة إلى الموضوعات لاختصاصها بالأحكام ومعالم الدّين.

نعم يمكن التمسّك ببناء العقلاء على حجّيّة الخبر الواحد في الموضوعات بعد عدم اختصاص بنائهم بموارد الأحكام والمفروض عدم ثبوت الردع عن ذلك البناء أشكل ذلك بأنّ البناء المذكور مردوع بمثل الأخبار الواردة في اعتبار التعدّد في الموضوعات وهذه الأخبار متعدّدة.

منها خبر مسعدة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثّوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة

٣٣٨

والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو ضرع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة.

بدعوى أنّه يدلّ على حصر حقيقي فيستفاد منه عدم حجّيّة الخبر الواحد في الموضوعات ما لم يتعدّد ويصدق عليه البيّنة.

أورد عليه أوّلا : بضعف السّند لعدم ثبوت وثاقة مسعدة بن صدقة وإن حكي عن السيّد المحقّق البروجردي اتّحاده مع مسعدة بن زياد.

وثانيا : بأنّه لم يثبت حقيقة شرعيّته للبيّنة ولعلّ المراد منها معناه اللغوي وهو الحجّة وهي تصدق على الخبر الواحد اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ البيّنة الاصطلاحيّة شائعة في عصر الصادقين عليهما‌السلام وحملها على البيّنة اللغويّة لا موجب له.

وثالثا : بأنّه لو سلّمنا إرادة البيّنة المصطلحة فالحصر المستفاد منها إنّما هو بالإضافة إلى موردها ممّا ثبتت الحلّيّة فيه بالأمارة أو الاستصحاب وأمّا غيره فالرّواية أجنبيّة عنه وإلّا لزم تخصيص الأكثر لثبوت الحرمة بالاستصحاب والإقرار وحكم الحاكم اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التّخصيص الأكثر لا يلزم إذا كان التّخصيص عنوانيّا.

فنتحصّل أنّه لم يثبت ردع عن بناء العقلاء.

ومنها الأخبار الواردة في لزوم شهادة العدلين في الموارد الخاصّة كالميتة ورؤية الهلال بدعوى أنّها تدلّ على عدم كفاية قول الثّقة وحيث لا خصوصية لتلك الموارد فيستفاد منها عدم جواز الاكتفاء بقول الثّقة في جميع الموارد ولهذا يثبت الردع عن بناء العقلاء.

واجيب عن ذلك بأنّ هذه الأخبار مختصّة بمواردها وإلغاء الخصوصيّة مشكل فاعتبار شهادة العدلين في مثل هذه الموارد لا ينافي وجود بناء العقلاء في غيرها ممّا يحصل الوثوق النّوعي بشهادة أحد من الثقات.

التّنبيه العاشر :

أنّ حجّيّة الظنّ الخاصّ إمّا تكون بمعنى جعل غير العلم علما بالتعبّد فمع هذا التعبّد يجوز

٣٣٩

الإخبار عن الشيء ولو لم يحصل العلم الوجداني به ويترتّب على المخبر به آثاره الواقعي لقيام الحجّة عليه وحينئذ تشمل حجّيّة الخبر جميع الأمور التكوينيّة والتاريخيّة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في التّنبيه الثّاني من تنبيهات الانسداد.

وإمّا تكون الحجّيّة بمعنى كون الظنّ منجّزا ومعذّرا فيختصّ حجّيّة الظنّ الخاصّ بما إذا كان مؤدّى الخبر أثرا شرعيّا فلا تعمّ الامور التكوينيّة والتاريخيّة إذ لا مورد للمعذّريّة والمنجّزيّة بالنّسبة إليها وجواز الإخبار عن تلك الأشياء متفرّع على العلم بها والمفروض عدم حصول العلم بها ولا يجوز الإخبار الّتي بما في الرّواية من الثواب والعقاب فاللّازم أن يقال عند الإخبار بهما روى أنّه من صام في رجب مثلا كان له كذا.

٣٤٠