عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غابت له الشمس في مكان كذا وكذا وصلّى المغرب بالشجرة وبينهما ستة أميال ، فأخبرته بذلك في السفر فوضعه في الحضر. (١) يدل التعليل على أن عدم الحفظ والضبط منشأ الايراد ، وإلّا فلا ايراد على من كان ضابطا وموثقا.

ومنها مثل ما ورد في أنّ بعض العامة ذكر منابع فتاواه للامام عليه‌السلام ومن جملتها الاخذ بالاخبار والآثار المنقولة بنحو اخبار الآحاد والاخذ بالقياس والاستحسان ، ولم ينه الامام عن الاخذ بالاخبار والآثار في عين نهيه عليه‌السلام عن العمل بالقياس والاستحسان أو بقول من لا حجية لقوله وهذا شاهد على أن الاعتماد على نقل الثقات مورد امضاء الامام عليه‌السلام كخبر داود بن فرقد عن رجل عن سعيد بن ابي الخطيب عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام في حديث أنه قال لابن ابي ليلى : فبأي شيء تقضي؟ قال : بما بلغني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن علي وعن أبي بكر وعن عمر. قال : فبلغك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن عليا اقضاكم؟ قال : نعم. قال : فكيف تقضي بغير قضاء علي عليه‌السلام؟! وقد بلغك هذا الحديث. (٢) ومن المعلوم أن مراده من البلوغ هو البلوغ بنحو الآحاد ، لقلة التواتر جدا ، ومع ذلك لم يردعه الامام عليه‌السلام عن ذلك ، بل نهاه عن العمل بما ورد عمن لا حجية لقوله ، كما لا يخفى.

وكخبر شبيب بن انس عن بعض أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : أن أبا عبد الله عليه‌السلام قال لأبي حنيفة : يا أبا حنيفة إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنة كيف تصنع؟ فقال : أصلحك الله أقيس وأعمل فيه برأيي. فقال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة أن أول من قاس ابليس. (٣) حيث دل على أن العمل بالآثار والسنة المنقولة جائز بين العامة والخاصة ، وانما المنهي هو الاخذ بالقياس والاستحسان.

ومنها ما ورد في أن أصحابنا الامامية موظفون بالعمل بما روى ثقات العامة فيما اذا لم يخالفه نقل ثقات الخاصة ، كما روى الشيخ الطوسي في العدّة عن الصادق عليه‌السلام : أنه اذا نزلت

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٨ من أبواب المواقيت : ح ١٧.

(٢) الوسائل : الباب ٣ من أبواب صفات القاضي : ح ٩.

(٣) الوسائل : الباب ٦ من أبواب صفات القاضي : ح ٢٧.

٢٦١

بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا الى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به. (١)

والظاهر من العدّة أنّه اعتمد على هذه الرواية ، بل مقتضى قوله «لاجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث ابن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم من العامة عن ائمتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه» أن الاصحاب اعتمدوا عليها وعملوا بها.

ومنها ما ورد في كيفية وقوع المخالفة بين روايات أهل البيت عليهم‌السلام وروايات ثقات العامة مثل موثقة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه. قال : أن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن. (٢) هذا الحديث يدل على أن قول من لم يتهم بالكذب وكان مورد الاعتماد حجة بين السائل والمسئول عنه وانما يرفع اليد عنه عند المخالفة للنسخ.

والحاصل : أن مع وجود هذه الروايات وتعددها لا وجه لحصر الروايات في خمسة عشر وانكار التواتر ، فلا تغفل.

وثانيها : أنه لا وجه لافراد بعض الروايات الدالة على حجية نقل الثقات عن مجموعة الأخبار كصحيحة عبد الله بن أبي يعفور ويونس بن يعقوب الدالة على مفروغية حجية خبر الثقة.

وكخبر محمّد بن عيسى قال : وجدت الحسن بن علي بن يقطين بذلك أيضا قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك اني لا أكاد أصل اليك أسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج اليه من معالم ديني فقال : نعم. (٣)

بل لا وجه لافراد صحيحة الحميري عن جملة الأخبار المذكورة الدالة على أن علة جواز الاعتماد هي الوثاقة والامانة.

__________________

(١) عدة الاصول : ص ٣٧٩.

(٢) الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي : ح ٤.

(٣) جامع الأحاديث ١ : ص ٢٢٦.

٢٦٢

وثالثها : لا وجه للتشكيك في سند خبر محمّد بن عيسى بقوله انه غير صحيحة السند مع أن سند الاخبار لا يلاحظ في المتواترات.

ورابعها : أن الانصاف هو تواتر الأخبار الدالة على حجية خبر الثقات ؛ لانّ مجموع الاخبار يكون بحد يحصل القطع بان خبر الثقات حجة عند العامة والخاصة خصوصا أن التعليلات الواردة فيها تصلح لشرح المراد من بقية الأخبار التي لا يتضح أن الحجية من ناحية العدالة أو الوثاقة ، فانّ مثل قوله عليه‌السلام (فانّه الثقة المأمون) أو (فانهما الثقتان المأمونان) يدل على أن المعيار في الاعتماد هو الوثاقة والامانة. عليه فالارجاعات الى الأشخاص الذين يكونون على مرتبة عظيمة ليست دالة على اعتبار الأزيد من الوثاقة والامانة وأن كانوا في الدرجات العالية ، ولو سلم عدم تمامية الأخبار لافادة التواتر المعنوي فلا وجه لانكار التواتر الاجمالي.

وبالجملة فمع وجود التواتر المعنوي يعتمد في حجية خبر الثقات على دلالة مجموع الاخبار بعد حمل بعضها على البعض ، كما أن مع وجود التواتر الاجمالي يعتمد فيها على دلالة المقطوع منها وهو حجية خبر العدول كخبر الحميري وهو يدل على حجية خبر كل ثقة.

وكيف ما كان فلا تصل النوبة الى الاعتماد على الظن الشخصي الاطمئناني كما ذهب اليه الشهيد السيد الصدر قدس‌سره ، فلا تغفل.

٢٦٣

الخلاصة

والبحث فيه يقع في جهات :

الجهة الأولى :

أنّ جماعة من القدماء كالسّيد والقاضي وابن زهرة وابن إدريس ذهبوا إلى عدم حجّيّة الخبر الواحد.

أدلّة المانعين :

واستدلّ المانعون بوجوه :

منها الآيات الدالّة على حرمة اتّباع غير العلم كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وحرمة القول بغير العلم كقوله عزوجل : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

والدالّة على عدم كفاية الظنّ كقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

ومن المعلوم أنّ الخبر الواحد ليس بعلم وإسناده إلى الله قول بغير علم وبالأخرة ظنّ والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

وفيه أنّ أدلّة اعتبار الخبر الواحد قطعيّة وعليه لا يبقى مورد لهذه الآيات لورود أدلّة الاعتبار بالنّسبة إليها.

وبعبارة اخرى أنّ المراد من العلم في الآيات هو الحجّة ومعنى الآيات هو المنع عن اتّباع غير الحجّة وعن القول بغير الحجّة وأنّ غير الحجة لا يغني من الحق شيئا ومع قيام أدلّة اعتبار الخبر الواحد يكون الخبر الواحد من مصاديق الحجّة فلا مورد بعد ذلك للآيات المذكورة فأدلّة الاعتبار واردة بالنّسبة إلى الآيات المذكورة والتعبير بالحكومة لا يخلو من الإشكال بعد كون المراد من العلم هو الحجّة وإن أبيت عن الورود أو الحكومة فلا خفاء في كون أدلّة اعتبار الخبر الواحد موجبة لتخصيص تلك الآيات قضاء لتقديم الخاصّ على العامّ.

ودعوى أنّ قوله عزوجل : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) آب عن التخصيص

٢٦٤

ممنوعة لأنّ الظنون مختلفة في غالبية الإصابة وعدمها فإذا كان بعضها كالخبر أغلب إصابة فلا مانع من تخصيصها بما كان أغلب إصابة.

ومنها : الأخبار الكثيرة ، وهي على طوائف :

الطّائفة الأولى :

الرّوايات الواردة في لزوم الموافقة مع الكتاب والسّنّة في حجّيّة الأخبار وجواز العمل بها كقول أبي عبد الله عليه‌السلام فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه.

بدعوى أنّ المستفاد منها أنّ خبر الواحد ليس بنفسه حجّة.

يمكن الجواب عنه بأنّ الموافقة للكتاب أو السّنّة مذكورة من باب المثال لأمارة الصدق ومن الجائز أنّ ما روته الثّقات أيضا من الأمارات وعليه فما من الحصر في امثال هذه الرّوايات اضافي وملحوظ بالنّسبة إلى ما كان مخالفا للقرآن والسّنة وليس في مقام حصر أمارة الصدق في الموافقة المذكورة.

الطّائفة الثّانية :

الرّوايات الدّالّة على المنع عن العمل بالخبر الذي لا يوافق الكتاب والسّنّة كقوله عليه‌السلام كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسّنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف.

والجواب أنّ المتفاهم العرفي من هذه الأخبار هو اشتراط عدم المخالفة فيندرج في الطّائفة الثّالثة الدّالّة على مردوديّة المخالف ولا كلام فيه وإنّما الكلام في المراد من المخالفة ، والظاهر أنّ المراد من المخالف للقرآن هو المناقض له ولا إشكال في مردوديّته.

ودعوى تعميم المخالفة لمثل مخالفة العموم والخصوص والإطلاق والتقييد لا يساعده العرف مع إمكان الجمع بينهما.

لا يقال إنّ الرّوايات المتباينة غير مقبول عند الأصحاب ولا يحتاج إلى النّهي عنه وعليه فليكن المراد من المخالفة هي مخالفة العموم والخصوص والإطلاق والتقييد لأنّا نقول إنّ خصماء أهل البيت عليهم‌السلام كانوا يأخذون الاصول ويدسّون الأحاديث المخالفة فيها ولم يرووها حتّى لا يقبلها الأصحاب.

٢٦٥

هذا مضافا إلى ضرورة صدور الأخبار المخالفة للقرآن بمخالفة العموم والخصوص والإطلاق والتقييد.

الطّائفة الرّابعة :

الأخبار الدالّة على اشتراط الأخذ بالأخبار بوجود شاهد من الكتاب والسّنّة كقول أبي عبد الله عليه‌السلام عند السّؤال عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلّا فالذي جاءكم أولى به.

وفيه أنّ هذه الأخبار من الأخبار العلاجية عند تعارض الأخبار لترجيح بعض الأطراف على البعض ولا ارتباط لها بأصل حجّيّة الخبر الواحد بل المستفاد من أخبار العلاجية هو أنّ الحجّيّة الذّاتية مفروغ عنها.

أدلّة المثبتين

استدلّ المجوّزون للعمل بخبر الواحد بالأدلّة الأربعة.

١ ـ أمّا الكتاب فبآيات :

منها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

وتقريب الاستدلال بوجوه :

الوجه الأوّل :

هو الاستدلال بمفهوم الشرط بتقريب أنّه سبحانه وتعالى علّق وجوب التبيّن عن الخبر على مجيء الفاسق فينتفى عند انتفائه عملا بمفهوم الشرط وإذا لم يجب التثبّت عند مجيء غير الفاسق فإذا يجب القبول وهو المطلوب أو الردّ وهو باطل.

أورد عليه بأنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبإ وعدم التبيّن هنا لأجل عدم

٢٦٦

ما يتبيّن فالجملة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع كما في قول القائل إن رزقت ولدا فاختنه فكما لا مفهوم لقوله إن رزقت الخ فكذلك هي المقام لأنّه الانتفاء ليس إلّا لانتفاء الموضوع عقلا إذ مع عدم مجيء الفاسق بالخبر لا خبر فاسق حتّى لزم التبيّن فيه.

والمعيار في الشرطية المحقّقة للموضوع موجود في الآية الكريمة وهو اتّحاد الموضوع في القضيّة مع شرط الجزاء.

واجيب عنه بأنّ الموضوع في القضيّة هو النبأ الذي جيء به والواجب هو التبين والشرط لوجوب التبيّن هو مجيء الفاسق فالقضيّة حينئذ لا تكون مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

وعليه فالموضوع في القضيّة هو النبأ والشرط للجزاء هو مجيء الفاسق بالنبإ وبينهما مغايرة ولا اتّحاد فليس الشّرط محقّقا للموضوع بعد وجود المغايرة بين الموضوع في القضيّة وشرط الجزاء.

ونوقش فيه بأنّ الموضوع إن كان هو الفاسق وله حالتان لأنّ الفاسق قد يجيء بالنبإ وقد لا يجيء به وعلّق وجوب التبيّن على مجيئه بالنبإ ويكون مفاد الكلام حينئذ أنّ الفاسق إن جاءكم بنبإ فتبيّنوا فلا دلالة للقضيّة على المفهوم لأنّ التبيّن متوقف على مجيئه بالنبإ عقلا فتكون للقضيّة مسوقة لبيان الموضوع إذ مع عدم مجيئه بالنبإ كان التبين منتفيا بانتفاء موضوعه.

ويمكن أن يقال إنّ الموضوع في الأحكام القانونيّة هو الطبيعة وحتّى تكون مقسما بين المنطوق والمفهوم وعليه فلا يكون الموضوع متّحدا مع الشرط بل هو أعمّ منه ومقتضاه هو كون الحكم المشروط مترتّبا على حصّة من الطبيعي فالجملة حينئذ تدلّ على المفهوم بالنّسبة إلى الحصص الأخرى فيما إذا انتفى الشرط ففي مثل السّلام ممّا له أحكام مختلفة إذا قيل إذا جاءكم مؤمن بسلام فأجيبوه كان ظاهره أنّه إن لم يجيء مؤمن بسلام فلا يجب الجواب بالسّلام. والوجه في ذلك أنّ السّلام ممّا له أحكام مختلفة ويستظهر من الجملة

٢٦٧

الشّرطية أنّ الموضوع هو طبيعة السّلام وله أحكام مختلفة وليس الموضوع هو السّلام الخاصّ الذي جاء به المؤمن حتّى تكون القضيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ففي الآية الكريمة يكون النبأ موضوعا طبيعيّا لا موضوعا خاصّا وقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) يدلّ على حكم من أحكام هذه الطبيعة وعليه فحيث إنّ الموضوع محفوظ مع عدم الشرط وهو طبيعة النبأ تدلّ الجملة على المفهوم وهو أنّه إذا لم يجيء فاسق بنبإ بل جاء به عادل فلا يجب التبيّن.

ودعوى أنّ الموضوع إن كان هو طبيعة النبأ فاللازم على تقدير الشرط وجوب التبيّن في طبيعة النبأ وإن كانت متحقّقة في ضمن خبر العادل وإن كان المراد أنّ الموضوع هو النّبأ الموجود الخارجي فيجب أن يكون التعبير بأداة الشرط باعتبار الترديد لأنّ النّبأ الخارجي ليس قابلا لأمرين.

مندفعة أوّلا : بالنقض بمثل قولهم العالم إن كان فقيها يجب إكرامه فإنّه لا يدلّ على وجوب إكرام طبيعة العالم ولو لم يكن فقيها.

وثانياً بالحلّ وهو أنّ الموضوع على تقدير كونه طبيعيا ليس المراد منها الطبيعة المغلقة بنحو الجمع بين القيود بحيث يكون المراد منه الطبيعة المتحقّقة في ضمن نبأ العادل والفاسق معا بل المراد هو اللابشرط القسمي أي طبيعي النبأ الغير الملحوظ معه نسبة إلى الفاسق ولا عدمها وإن كان هذا الطبيعي يتحصّص من قبل المحقّق عليه وجودا وعدما.

فيتحقّق هناك حصّتان إحداهما موضوع وجوب التبيّن والاخرى موضوع عدم وجوب التبين ولا منافاة بين أن يكون الموضوع الحقيقي لكلّ حكم حصّة مخصوصة وأن يكون الموضوع في الكلام رعاية للتعليق المفيد لحكمين منطوقا ومفهوما نفس الطّبيعي الغير الملحوظ معه ما يوجب تحصّصه بحصّتين وجودا وعدما.

لا يقال إنّ الموضوع وإن كان ذات النبأ وطبيعته إلّا أنّ الموضوع في الأحكام هو الطّبيعي الموجود في الخارج وتكون الذات مأخوذة مفروضة الوجود وليس الحال فيه كالمتعلّق.

٢٦٨

وعليه فالنبأ الموجود وهو موضوع الحكم وهو لا يخلو للحال فيه إمّا أن يكون نبأ فاسق أو نبأ عادل ولا يقبل الانقسام إلى كلتا الحالتين.

ولا يمكن استفادة المفهوم منه لعدم قابليّته النبأ الموجود للانقسام إلى كلتا الحالتين واللازم من ذلك هو استعمال الأداة الدّاخلة على مجيء الفاسق في معنى الفرض والتقدير ينظر ما لو رأى المولى شبحا فقال لعبده إن كان زيدا فأكرمه فإنّ الشبح لا يقبل عروض الزيدية عليه تارة والعمروية أخرى بل هو إمّا زيد أو عمرو فالأداة تستعمل في معنى الفرض والتقدير لا في معنى الشّرطية إذ ليس هناك جامع بين الحالتين يتوارد عليه النفي والإثبات كي يعلّق الإثبات على شيء بل الشبح يدور بين المتباينين وما نحن فيه من هذا القبيل ولا يمكن استفادة المفهوم منه لعدم قابليّة النبأ الموجود للانقسام إلى كلتا الحالتين.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ ذلك منقوض بمثل العالم إن كان فقيها يجب تقليده فإنّ الموضوع فيه مفروض الوجود ومع ذلك يدلّ على المفهوم وثانيا : أنّ ما ذكر من المناقشة مبني على كون القضيّة خارجيّة واشتباه الموضوع الخارجي والمفروض خلافه لأنّ القضيّة حقيقيّة والموضوع هو طبيعيّ النبأ ولا اشتباه في الخارج فإذا خصّص بعض الحصص الموجودة من الطبيعي بحكمه عند شرط كذا يدلّ بمفهومه على انتفاء هذا الحكم عن غير هذه الحصص من سائر حصص الطبيعة الموجودة ولا ريب في أنّ هذا مفهوم مستفاد من تعليق الحكم على حصّة من الطبيعة عند شرط كذا.

فتحصّل ممّا تقدّم أنّ الموضوع هو النبأ لا نبأ الفاسق لأنّ قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) في قوة أن يقال إنّ النبأ إن جاء الفاسق به يجب التبيّن فيه فإنّه لا فرق بين العبارتين أصلا ولا إشكال في المفهوم بناء على ثبوت المفهوم للقضايا الشّرطية وحجّيّته.

ودعوى عدم دلالة الآية على المفهوم من جهة أنّ النبأ لم يفرض في الآية موضوعا في المرتبة السابقة على تحقّق الشرطية والتعليق بل قد افترض مجموع مفاد الجملة الشرطية بافتراض واحد ومن هنا لا يكون لها مفهوم.

٢٦٩

مندفعة بأنّ العرف بمناسبة الحكم والموضوع وكلّية القضايا الشرعية وعدم اختصاصها بالموارد الخاصّة يفهم أنّ الموضوع في مثل الآية الكريمة مقدّم رتبة على تحقّق الشرط كما مرّ أنّ العرف يستفيدون من قولهم إذا جاءكم المؤمن بسلام فأجبه أنّ الموضوع هو السّلام ومقدّم على الشرطية ولذا يفهمون منه المفهوم فكذلك في المقام هذا غاية ما يمكن أن يقال لو قيل في إثبات دلالة الآية الكريمة بمفهوم الشرط على حجّيّة خبر العادل فافهم.

الوجه الثّاني :

الاستدلال بمفهوم الوصف في الآية الكريمة وهو أنّ وجوب التبيّن معلّق على خبر الفاسق وعليه فذكر الفاسق يدلّ على دخالته في ثبوت حرمة العمل بدون التبيّن والمفهوم منه بمقتضى التعليق على الوصف أنّ العمل بخبر غير الفاسق لا يعتبر فيه التبيّن فلا يجب التبيّن عن خبر غير الفاسق ومعنى ذلك هو حجّيّة خبر العادل.

وفيه أنّ التقريب المذكور فرع دلالة الوصف على المفهوم وهو ممنوع فإنّ دلالة الوصف على مدخليته في الحكم بنحو من الأنحاء وإن لم يكن لإنكارها سبيل ولكن لا دلالة له في دخالته في أصل الحكم ولا طريق إلى استظهار أنّه دخيل في أصل الحكم أو مرتبة من مراتبه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الترديد في الأحكام التكليفيّة التي تكون ذا مراتب كالوجوب والاستحباب والحرمة والكراهيّة وأمّا إذا كان الحكم من الأحكام الوضعيّة كالحجّيّة ممّا ليس لها مراتب فدخالة الوصف تكون حينئذ في أصل الحكم ومقتضاه هو دلالته على المفهوم.

ولكن ذلك لا يخلو عن المناقشة وهو أنّ دلالة الوصف على المفهوم منوطة باستفادة كون الوصف علّة منحصرة فمع عدم إحراز ذلك لا دلالة على المفهوم ولا فرق في ذلك بين أن يكون الحكم ذا مراتب أو لا يكون.

مانعية التّعليل عن انعقاد المفهوم

لا يذهب عليك أنّه لو تمّ ما ذكر من دلالة الكريمة على المفهوم لا يخلو الاستدلال بها عن

٢٧٠

إشكال آخر وهو أنّ مقتضى عموم التعليل وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يؤمن عن الوقوع في النّدم من العمل به وإن كان المخبر عادلا وعليه فيكون التعليل معارضا مع المفهوم الدالّ على عدم لزوم التبيّن في خبر العادل والترجيح مع ظهور التعليل.

واجيب عنه أوّلا : بأنّ المفهوم أخصّ مطلق من عموم التعليل لأنّ الخبر المفيد للعلم خارج عن المفهوم والمنطوق وعليه يكون المفهوم منحصرا في الخبر المفيد لغير العلم من العادل وهو أخصّ من عموم التعليل الدالّ على وجوب التبيّن في الخبر مطلقا سواء كان عن عادل أو غير عادل ولو قدّم التعليل على مفهوم الشرط وحمل المفهوم على الخبر المفيد للعلم من العادل لزم لغويّة الشرط هذا مضافا إلى أنّ خبر العادل المفيد للعلم ليس محل الكلام ولزوم العمل به مفروغ عنه.

بل يمكن أن يقال لا منافاة ولا معارضة بين المفهوم والتعليل لأنّ التعليل يدلّ على المنع عن العمل بما يكون في معرض النّدامة وهو ما ليس بحجّة ومن المعلوم أنّه لا ينافي الأخذ بالحجّة فإنّه ليس في معرض النّدامة والمفهوم يدلّ على حجّيّة خبر العادل والتعليل يدلّ على المنع عن العمل بغير الحجّة فمورد المفهوم خارج عن مورد التعليل خروجا تخصّصيّا كما لا يخفى.

ودعوى أنّ دلالة الشرطيّة على المفهوم مبتنية على ظهور الشرط في القضيّة في كونه علّة منحصرة بحيث ينتفي الحكم بانتفائه وأمّا إذا صرّح المتكلّم بالعلّة الحقيقيّة وكان التّعليل أعمّ من الشّرط أو كان غير الشرط فلا معنى لاستفادة العلّية فضلا عن انحصارها مثلا إذا قال قائل إن جاءك زيد فأكرمه ثمّ صرّح بأنّ العلّة إنّما هو علمه فنستكشف منه أنّ المجيء ليس بعلّة ولا جزء منها.

مندفعة بما عرفت من عدم المنافاة بين التعليل والشرط المذكور فإنّ مقتضاه هو أنّ التّعليل مؤكّد للشرط المذكور فإنّ العرضيّة للندامة من ناحية عدم الحجّيّة منحصرة في الشرط المذكور وهو نبأ الفاسق فليس التعليل مفيدا لأمر هو أعمّ من الشرط أو لأمر مغاير

٢٧١

للشرط المذكور حتّى ينافي علّيّة الشرط أو انحصارها وقياس الآية الكريمة بمثل قوله إن جاءك زيد فأكرمه ثمّ التصريح بأنّ العلّة إنّما هو علمه في غير محلّه. فإنّ مجيء زيد غير العلم بخلاف المقام فإنّ نبأ الفاسق في قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبإ يشير إلى أنّ العلّة هو عدم إفادة خبر الفاسق العلم بمعنى الحجّة وهو غير مناف لما أفاده التعليل من أنّ الإقدام على ما ليس بحجة يكون في معرض الندامة بل هما متوافقان.

ولعلّ منشأ توهّم المنافاة بين المفهوم والتّعليل هو حمل الجهالة في قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) على عدم العلم بالواقع بقرينة كون الجهالة مقابلة للتبيّن وهو بمعنى تحصيل العلم وإحراز الواقع ومعلوم أنّ الجهالة بهذا المعنى مشترك بين خبري العادل والفاسق وهو يوجب تعميم علّة التبيّن ويحصل المنافاة مع انحصار علّة التبيّن في خبر الفاسق فلا ينعقد ظهور المفهوم ولكن المنافاة فيما إذا اريد من الجهالة خصوص عدم العلم بالواقع ومن التبيّن خصوص تحصيل العلم وإحراز الواقع وأمّا إذا قلنا إنّ المرتكز في الإخبارات والإنباءات هو الاكتفاء بالحجّة فالتبيّن هو التفحّص عن حجّيّة الخبر والجهالة في مقابلها وهو عدم التفحّص والإقدام مع عدم إحراز الحجّة ومن المعلوم أنّ الجهالة بهذا المعنى ليست مشتركة بين خبري العادل والفاسق فلا منافاة مع التعليل وانحصار علّة التبيّن في خبر الفاسق.

واجيب ثانيا : عن مانعيّة التعليل للمفهوم بحمل الجهالة على السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله عند العقلاء مستشهدا بقوله عزوجل : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فإنّ النّدامة لا تكون إلّا على فعل سفهي لا يكون على طريقة العقلاء فلا يعمّ التعليل المذكور لمثل الاعتماد على خبر العادل.

اورد عليه أوّلا : بأنّ حمل الجهالة على السفاهة خلاف الظاهر من لفظ الجهالة.

وثانيا : أنّ قوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) يساعد مع كون الجهالة بمعنى عدم الحجّة فإنّ العمل بالحجّة ممّا لا تترتّب عليه الندامة بخلاف العلم بما ليس بحجّة فلا

٢٧٢

منافاة بين التّعليل والمفهوم من الآية ولا حاجة إلى حمل الجهالة على السّفاهة.

واجيب ثالثا : عن مانعية التعليل مع المفهوم بأنّ المفهوم حاكم على التعليل فإنّه يحكم في خبر العادل بأنّه محرز وكاشف عن الواقع وعلم في عالم التشريع فيخرج خبر العادل عن عموم التّعليل تعبّدا ولا يمكن أن يعارضه أصلا لكي يوجب عدم انعقاده.

اورد عليه بأنّ حكومة سائر الأدلّة على هذا التّعليل المشترك وجيهة وأمّا حكومة المفهوم المعلّل منطوقه بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم المثبت لحجّيّة خبر العادل حتّى يرتفع به الجهالة تنزيلا فهو دور واضح.

وذلك لأنّ حكومة المفهوم متفرّعة على عدم شمول التعليل للمفهوم والمفروض أنّ عدم شمول التّعليل متوقّف على حكومة المفهوم وهو دور هذا مع الفحص عمّا في دعوى دلالة أدلّة الاعتبار على أنّ خبر العادل علم تشريعا.

واجيب رابعا : عن مانعية التّعليل بأنّ خبر غير الفاسق الذي تدلّ الآية على حجّيّته حجّة ، وطريق عند العقلاء أيضا والعقلاء يعبّرون عن جميع الطرق المعتبرة عندهم بالعلم سواء في ذلك الظّواهر وخبر الثّقات وغيرهما ويرون مفهوم العلم عاما للقطع الذي لا يحتمل الخلاف ولموارد قيام الطرق المعتبرة وإذا اعتبروا شيئا طريقا يرون قيام هذا الطريق على شيء وصولا إلى الواقع لا بمعنى تنزيل شيء منزلة آخر بل بمعنى واقع الوصول كما في القطع حرفا بحرف.

وحينئذ فالآية المباركة إذا القيت إليهم فهموا منها بمقتضى الشّرطية المذيلة بالتّعليل المذكور أنّ النبأ إذا لم يأت به الفاسق بل غير الفاسق فهو طريق موصل إلى الواقع ليعمل به من دون حاجة إلى التبيّن ولا يتصوّر فيه إصابة القوم بجهالة للوصول إلى الواقع فهو خارج عن مورد التعليل ويكون المفهوم بلا معارض.

يمكن أن يقال إنّ قطعيّة أدلّة الاعتبار لا توجب كون المعتبر داخلا في العلم والقطع وإن اطلق عليه العلم بمعنى الحجّة إذ احتمال الخلاف ليس موهونا في جميع موارد الظّواهر أخبار الثّقات.

٢٧٣

ومع وجود احتمال الخلاف وجدانا كيف يقال إنّ هذه الطرق وصول واقعي فالصحيح في الجواب عن المانعية هو ما مرّ من أنّ التعليل لا يدلّ على عدم جواز الإقدام بغير العلم مطلقا بل مفاده هو ذلك فيما إذا كان الإقدام في معرض حصول النّدامة واحتمال ذلك منحصر فيما لم يكن الإقدام حجّة.

وعليه فالآية الكريمة بمفهومها تدلّ على حجّيّة خبر العادل وبتعليلها يدلّ على عدم جواز العمل بغير الحجّة فلا منافاة بين مفهومها وتعليلها.

ومنها قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

وتقريبها بوجوه.

الوجه الأوّل :

أنّ سياق الآية يدلّ على مطلوبيّة الإنذار والحذر ووجوبهما لظهور كلمة لو لا في التحضيض ولا حاجة في إثبات ذلك إلى بيان مفاد كلمة لعلهم وأنّ المراد منها هو مطلوبيّة مدخولها.

وبالجملة ظاهر صدر الآية أنّ ما أمر بالنّفر إليه بمثابة من الأهميّة بحيث لو لا لزوم مثل اختلال النّظام ونحوه لوجب على الجميع النفر إليه ولكن لزوم هذه الأمور منع من ايجاب النّفر على الجميع فعلى هذا لم لا يكون النفر لازما لبعضهم حتّى يرشدوا أنفسهم وغيرهم بسبب اطلاعهم على الدّين.

الوجه الثاني :

أنّ كلمة لعلّ بعد انسلاخها عن معنى الترجّي الحقيقي لعدم إمكانه في حقّه تعالى تدلّ على محبوبيّة التحذّر عند الإنذار فإذا ثبتت محبوبيّة التحذر ثبت وجوبه شرعا إذ لا معنى لندب التحذّر عن العقاب الأخروي مع قيام المقتضي للعقوبة إذ مع عدم المقتضي لها لا مطلوبيّة ولا حسن للتحذّر لعدم الموضوع له والمفروض ثبوت المطلوبيّة.

٢٧٤

أورد عليه أوّلا : بأنّ التحذر يمكن أن يكون لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة والتحذّر حينئذ حسن وليس بواجب ما دام لم يقم حجّة على التّكليف.

واجيب عنه بأنّ الإنذار والتحذّر بملاحظة ترتّب العقوبة أنسب من أن يكون بملاحظة المصالح والمفاسد إذا المتعارف في مقام الإنذار هو الحثّ على العمل بالاحكام بذكر ما يترتب على الفعل أو الترك من العقوبات الاخرويّة لا المصالح والمفاسد هذا مضافا إلى أنّ الإنذار لعموم النّاس لا للخواصّ وأرباب العقول حتّى يصحّ الإنذار باعتبار المصالح والمفاسد وعامّة النّاس لا يتوجّهون إلى المصالح والمفاسد المكنونة في الأحكام لأنّها من الامور الخفيّة الّتي لا يطّلعون عليها ولو بنحو الإجمال.

اورد عليه ثانيا : بأنا لو سلّمنا دلالة كلمة «لعلّ» على المطلوبيّة فالحذر المطلوب إن كان هو الحذر من العقاب المساوق مع وجوب التحذّر بلحاظه فهذا الفرض يساوق عرفا كون الإنذار بلحاظ العقاب أيضا لأنّ ظاهر الآية أنّ الحذر من نفس الشيء المخوف المنذر به وهو يعني أنّ الإنذار فرض في طول العقاب والمنجّزيّة ومثله يكشف عن الحجّيّة.

وإن كان المراد الحذر من المخالفة للحكم الواقعي بعنوانها فمطلوبيّة هذا الحذر لا يلزم منها وجوبه لإمكان أن يكون مستحبا.

يمكن أن يقال إنّ التحذّر باعتبار العقاب لا باعتبار المخالفة للحكم الواقعي والمصالح والمفاسد ولكن منجّزيّة الإمارة أعني قول العادل كمنجّزيّة العلم فكما أنّ العلم بالحكم يوجب التنجّز بنفس العلم ويكون حجّة على الحكم فكذلك إخبار العادل بالوجوب أو الحرمة وترتّب العقاب يوجب التنجّز لغير المخبر بنفس الإخبار وإن كان الحكم منجّزا على نفس المخبر قبل إخباره بسبب العلم به سابقا فلا منافاة بين أن يكون الحكم منجّزا على المخبر قبل إخباره ولا يكون منجّزا على السّامع قبل إخباره ويصير منجّزا عليه بنفس الإخبار وعليه فحيث إنّ المنجّزيّة بالنّسبة إلى السّامع تحصل بنفس الإخبار يكشف ذلك عن كون

٢٧٥

إخبار العادل حجّة على السامع وبالإخبار يحصل التنجّز والإنذار معا والمحال هو تنجّز الحكم بنفس الإنذار بالنّسبة إلى المخبر لا السّامع فلا تغفل.

الوجه الثّالث :

أنّ التحذّر غاية للإنذار الواجب لكونه غاية للنّفر الواجب كما تشهد له كلمة «لو لا» التحضيضيّة.

وعليه فإذا أوجب الإنذار وجب التحذّر إذ الغاية المترتّبة على فعل الواجب ممّا لا يرضى الآمر بانتفائه سواء كان من الأفعال المتعلّقة للتكليف أم لا كما في قولك توضّأ لتصلّي.

اورد عليه في الكفاية بعدم انحصار فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّدا لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النّفر لا لبيان غائية التحذّر ولعلّ وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم وعليه فالآية تدلّ على وجوب التحذّر عند إحراز أنّ الإنذار بمعالم الدّين.

ويمكن الجواب عنه بأنّ التحذّر وإن لم يكن له في نفسه إطلاق نظرا إلى أنّ الآية غير مسوقة لبيان غائيّة الحذر بل لا يجاب النّفر إلّا أنّ إطلاقه يستكشف بإطلاق وجوب الإنذار ضرورة أنّ الإنذار واجب مطلقا من كلّ متفقه سواء أفاد إنذاره العلم للمنذر أم لا وحينئذ فلو كانت الفائدة منحصرة في التحذّر كان التحذّر واجبا مطلقا وإلّا لزم اللغويّة أحيانا.

ودعوى أنّ الفائدة غير منحصرة في التحذّر بل لإفشاء الحقّ وظهوره بكثرة إنذار المنذرين فالغاية حينئذ تلازم العلم بما أنذروا به.

مندفعة بأنّ ظاهر الآية أنّ الغاية المترتّبة على الإنذار والفائدة المترقّبة منه هي التحذّر لا إفشاء الحق وظهوره.

فالمراد من الآية الكريمة والله العالم لعلّهم يحذرون بالإنذار لا بإفشاء الحق بالإنذار كما أنّ ظاهرها هو التحذّر بما انذروا لا بالعلم بما انذروا به.

٢٧٦

بل نفس وجوب الإنذار كاشف عن أنّ الإخبار بالعقاب المجهول إنذار ولا يكون ذلك إلّا إذا كان الإخبار بالعقاب حجّة وإلّا فالإخبار المحض لا يحدث للخوف ولو اقتضاء حتّى يكون مصداقا للانذار حتّى يجب شرعا وممّا ذكر يظهر ما في كلام بعض أساتيذنا من أنّه لم يتبيّن أنّ الغاية هو التحذّر حتّى يتمسّك بإطلاقه لإثبات المطلوب لاحتمال أن يكون احتمال الحذر غاية حتّى يحصل العلم وذلك لما عرفت من أنّ ترتّب التحذّر على نفس الإنذار لا يبقى مجالا لتقدير العلم والإفشاء كما لا يخفى.

لا يقال احتمال وجود المانع في إيجاب الغاية على الغير يمنع عن الجزم بوجوب الغاية وهي التحذّر.

لأنّا نقول إنّ هذا الاحتمال غير سديد لوهنه بعد كون التحذّر مقصدا لوجوب ذي الغاية وعدم وجود مانع معقول فيه.

ودعوى أنّ هذه الآية مربوطة بباب الجهاد من جهة السّياق فإنّ سورة البراءة مرتبطة بالمشركين والجهاد معهم ومن المعلوم أن النّفر إلى الجهاد ليس للتّفقه والإنذار نعم ربّما يترتّبان عليه بعنوان الفائدة كما إذا شاهد المجاهدون في سفر الجهاد آيات الله وظهور أوليائه وغلبتهم على الكفّار بها للفرقة المتخلّفة الباقية في المدينة المنوّرة وعليه فالإنذار ليس غاية للنّفر الواجب حتّى تجب الغاية بوجوب ذيها وهو النفر بل الإنذار من قبيل الفائدة المترتّبة على النّفر إلى الجهاد أحيانا مندفعة بأنه لا دليل على أنّ النفر للجهاد ومجرّد ذكر الآية المباركة في آيات الجهاد لا يدلّ على ذلك بل الظاهر من عنوان التّفقه والإنذار مضافا إلى بعض الرّوايات هو كون النّفر ليس للجهاد.

والقول بأنّ النفر مختصّ بالجهاد ولكن أمر في الآية أيضا بتخلّف جمع ليتفقّهوا وينذروا النّافرين عند رجوعهم عن الجهاد.

خلاف الظاهر فإنّ الضمير في قوله (لِيَتَفَقَّهُوا) راجع إلى النافرين لا إلى الفرقة الباقية

٢٧٧

فانحصر الأمر في اختصاص الآية المباركة بالنفر للتفقّه والمعنى أنّ المؤمنين ليسوا بأجمعهم أهلا للنّفر فلو لا نفر من كلّ فرقة وقبيلة منهم طائفة والمستفاد من ذلك أنّ المقتضي لنفر الجميع موجود بحيث لو لم يكن مانع عنه لأمروا جميعا بالنّفر والتّفقه ولكنّهم ليسوا أهلا لذلك لاختلال نظامهم وتفرّق أمر معاشهم وحينئذ فلم لا يجعلون الاحتياج إلى المطالب الدينيّة في عرض سائر احتياجاتهم فيوجّهون طائفة منهم إلى تحصيلها كما يتوجّه كلّ طائفة منهم إلى جهة من الجهات الاخرى المربوطة بأمر المعاش كالزراعة والتجارة ونحوهما فسياق الآية ينادي بأعلى صوته إلى مطلوبية الإنذار والحذر ووجوبهما وهذا هو الظاهر من الآية وتشهد له أخبار كثيرة حيث استشهد الأئمّة عليهم‌السلام بالآية لوجوب النفر للتفقّه والتعليم والتعلّم.

إن قلت : إنّ مقتضى ما ذكر هو اختصاص الآية بالنّفر للتفقّه والإنذار المحقّق بقول العادل وإن لم يوجب اليقين والعلم وهذا لا يتناسب مع الرّوايات الواردة في استشهاد الإمام بالآية الكريمة على وجوب معرفة الإمام لأنّ الإمامة ممّا لا تثبت إلّا بالعلم وعليه فالاستناد بالآية لحجّيّة الدّليل الدّيني لا يفيد العلم كالخبر الواحد كما ترى.

قلت : لا مانع من شمول إطلاق التفقّه والإنذار للمعرفة بالحقائق الاعتقادية والإنذار بها أيضا لأنّ هذا الاعتقاد أيضا تفقّه ويكفي ذلك في وجوب الإنذار وهو يكفي في وجوب التحذّر من مخالفة هذا الاعتقاد وإن لم يحصل للمخاطب بنفس الإنذار قطع فإنّ التحذّر في الفقه بالعمل وهو محقّق بنفس إنذار عدل واحد والتحذّر في الاعتقادات بالاعتقاد وحصوله يحتاج إلى تكرار الإنذار والاستماع حتّى يحصل العلم. وبالجملة يختلف التحذّر باختلاف موارد الإنذار وإطلاق الآية يعمّ جميع الموارد وتطبيق الآية على التّفقّه في الأحكام والتّفقّه في المعارف ممّا يشهد على إطلاقها كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الإنذار إمّا مطابقي وإمّا ضمني وكلاهما مشمولان للآية الكريمة وعليه فكلّ رواية تدلّ على حكم من الأحكام الإلزاميّة تدلّ بالدّلالة الضّمنيّة على العقاب وأمّا الأخبار التي

٢٧٨

لا إنذار فيها لكون الحكم المذكور فيها غير إلزامي فهي مشمولة للآية الكريمة بعدم القول بالفصل في حجّيّة الأخبار.

ودعوى أنّ المأخوذ في الآية هو عنوان التفقّه وعليه فلا تشمل الآية فيما أنذر الرّاوي بعنوان أنّه أحد من الرّواة فتختصّ الآية بحجّيّة فتوى الفقيه للعامي ولا دلالة لها على حجّيّة خبر العامي مع أنّ الكلام فيها.

مندفعة بأنّ المراد منه من عنوان التفقّه في المقام ليس هو عنوان التفقّه الاصطلاحي بل المراد منه هو التفقه بمعناه اللغوي وهو الفهم والعلم وهو معلوم الحصول باستماع الرّوايات مع المعرفة بمفادها وإن كانت المعرفة مشكّكة وتختلف الرّواة فيها بحسب اختلاف استعداداتهم فإذا كان إخبار العادل في المنذرات حجّة يتعدّى منها إلى غيرها بإلغاء الخصوصيّة.

لا يقال إنّ الآية تكون في مقام النّهي عن النّفر العام كما يشهد له صدر الآية أعني قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) لا إيجاب النّفر للبعض حتّى يترتّب عليه وجوب التّحذر فالحثّ على لزوم التنجّزيّة وعدم النّفر العام لا على نفر طائفة من كل فرقة للتفقّه.

لأنّا نقول إنّ هذا المعنى أي النّهي عن النّفر العامّ للجهاد متفرّع على أنّ الآية واردة في النّفر للجهاد وقد عرفت أنّه لا معين لذلك ومجرّد كون السورة والآيات السابقة واللاحقة مرتبطة بالجهاد لا يكفي في تعيين هذا المعنى بل لعلّ وجه ذكر هذه الآية في هذا الموضع هو تنبيه المسلمين بلزوم تعلّم أحكام الجهاد.

وليس في المقام رواية صحيحة تدلّ على أنّ النفر للجهاد بل الشواهد الدّاخلية في نفس الآية لا تساعد ذلك إذ الضمير في قوله ليتفقّهوا يرجع إلى النّافرين المذكورين في الصّدر فهو شاهد على أنّ المراد من الصّدر هو النّفر للتّفقّه هذا مضافا إلى أنّ لازم ذلك هو أن يكون المراد من قوله عزوجل بعد الصّدر (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) هو النّفر للجهاد

٢٧٩

لا للتّفقّه ومقتضاه هو رجوع الضّمير في قوله ليتفقّهوا ولينذروا قومهم إلى الفرقة الباقية في المدينة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدلّ على وجوب تعلّم الفقه والأحكام عليهم على وجوب إنذارهم النّافرين بعد رجوعهم ببيان ما تعلّموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غيابهم وهو خلاف الظّاهر فإنّ الطائفة أقرب بالضمير من الفرقة ومقتضاة هو رجوع الضّمير إلى الطائفة النّافرة للتفقّه كما أنّ ارجاع الضمير إلى الفرقة النّافرة للجهاد وإرادة الشهود من التّفقّه بالنّسبة إلى ما رأوه في سفر الجهاد من الغلبة والنصرة وبعض التعليمات النازلة حال الحرب خلاف ظاهر إطلاق التّفقّه في الدين فإنّه أنسب بالرجوع إلى الفرقة النّافرة للتّفقه والتّفقه المطلقة لا يحصل بتمامه وكماله في النفر للجهاد وإن لم يخل النفر للجهاد عن تعلّم بعض الأحكام كما لا يخفى.

فتحصل أنّ النّفر واجب للتّعلم والتفقّه وصدر الآية الكريمة إخبار عن عدم تمكّن جميع المؤمنين من النّفر للتفقّه فمع عدم تمكّنهم للنفر المذكور أوجبه الله سبحانه وتعالى على كلّ طائفة من كلّ فرقة بنحو الوجوب الكفائي ليتفقّهوا ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وتحذّر قومهم بمجرّد إنذارهم من دون توقّف على شيء آخر من العلم وهذا مساوق لحجّيّة قول المنذر.

لا يقال : إنّه لو كان مفاد الآية وجوب الحذر عند الشكّ لا يكون دليلا على حجّيّة قول المنذر لأنّ الحذر واجب في الشّبهة قبل الفحص بحكم العقل فقول المنذر إنّما ينتج في إبداء الاحتمال وبمجرّد ذلك يجب على المكلّف إمّا الاحتياط أو تعلّم الحكم وبعبارة اخرى كلّ من الخوف والحذر العملي واجب عند الشكّ قبل الفحص ولو لم يكن قول المنذر حجّة شرعا كما دلّ عليه أخبار عديدة مذكورة في محالها.

لأنّا نقول إنّ الإشكال المذكور جار في كلّ أمارة فإنّ الاجتناب عن فعل محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب قبل الفحص واجب ومع ذلك أفادت أدلّة الاعتبار حجّيّة الأمارات وخاصية الأمارات تظهر بعد الفحص فإنّها إذا دلّت على حرمة شيء أو وجوب شيء

٢٨٠