عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

ذكره لصرف المقدمة لما بعده ، وهو ايضا بعيد مخالف لشأن نزول الآية وقول المفسرين. (١)

لانا نقول : أوّلا : أن هذا المعنى اي النهي عن النفر العام للجهاد متفرع على أن الآية واردة في النفر للجهاد ، وقد عرفت انه لا معين لذلك ، ومجرد كون السورة والآيات السابقة أو اللاحقة مرتبطة بالجهاد لا يكفي في تعيين هذا المعنى ، بل لعل وجه ذكر هذه الآية في هذا الموضع هو تنبيه المسلمين بلزوم تعلم احكام الجهاد كما افاد بعض الاعلام. وكيف كان لا اجد رواية صحيحة تدل على أن المراد من قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) هو النهي عن النفر العام للجهاد ، بل قوله (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ، يشهد بكون الصدر في النفر للتفقه.

وثانيا : أن لازم ما ذكر هو أن يكون قوله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) دالّا على أن النفر للجهاد.

وعليه ففي قوله (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) احتمالان :

احدهما : لزوم تفقه الفرقة الباقية مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعلمهم للاحكام والآداب منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاذا رجعت الطائفة النافرة تنذرهم الفرقة الباقية ببيان ما نزل من الآيات في غيابهم ويعلّمونهم السنن والفرائض التي تلقوها في غيابهم.

وثانيهما : لزوم تفقه الفرقة النافرة في الدين بما رأت من آيات الله وحصل لهم بذلك بصيرة في الدين بظهور المسلمين وغلبتهم مع قلّتهم على المشركين ونصرتهم على اعدائهم ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم.

وكلاهما خلاف الظاهر :

اما الأوّل : فلما مرّ من أن الضمير في قوله ليتفقهوا ولينذروا راجع الى الطائفة النافرة ، لا الفرقة الباقية ؛ لانها اقرب اليه منها.

وأما الثاني : فهو وإن كان خاليا عن الاشكال المذكور ؛ لانّ الضمير فيه راجع الى الفرقة

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

٢٢١

النافرة لا الباقية ، ولكن لا يساعده ظهور كلمة التفقه في الدين ؛ فان المستفاد منه هو عمومية التفقه بالنسبة الى مسائل الدين والاسلام ، وهو لا يحصل بتمامه في النفر للجهاد وإن لم يخل النفر للجهاد أحيانا عن الغلبة والنصرة وبعض التعليمات النازلة في سفر الجهاد ، إلّا أن اطلاق التفقه في الدين انسب بالنفر لتعلم الأحكام والمعارف

وثالثا : أن المستفاد من الروايات هو لزوم النفر للتعلم وعدم جواز ترك النفر لذلك كصحيحة يعقوب بن شعيب ويونس بن عبد الرحمن ومحمّد بن مسلم : أفيسع الناس اذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟! فقال : اما اهل هذه البلدة فلا ـ يعني المدينة ـ وأن غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ، أن الله عزوجل يقول (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الى قوله (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). (١)

هذا مضافا الى قوله عليه‌السلام في خبر عبد الله بن المؤمن الانصاري : فأمرهم أن ينفروا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا اليه فيتعلموا (٢) وغير ذلك.

فتحصل أن النفر واجب للتعلم والتفقه وصدر الآية يدل على عدم تمكن جميع المؤمنين من النفر لتحصيل العلم فلا يجب عليهم النفر بالوجوب العيني بل اللازم عليهم هو النفر بنحو الوجوب الكفائى فالآية غير مرتبطة بالنفر للجهاد ومجرد ذكرها عقيب قوله تعالى وما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله (٣) لا يكون قرينة على أن المراد من قوله وما كان المؤمنون الآية هو النهى عن النفر العمومى للجهاد فتدبر جيدا.

ودعوى : أن معنى النفر يناسب الخروج الى الجهاد ؛ لانه في الاصل بمعنى «جهيدن» كما في قوله تعالى (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ). (٤)

مندفعة : بأنّ النفر وأن كان كذلك في الاصل ، ولكن لا يكون كذلك في الاستعمالات

__________________

(١) كنز الدقائق : ج ٥ ص ٥٧٢ ـ ٥٧٣.

(٢) كنز الدقائق ٥ : ٥٧٢ ـ ٥٧٣.

(٣) التوبة / ١٢٠.

(٤) المدّثر / ٥٠ و ٥١.

٢٢٢

العرفية عند نزول الآية وصدور الروايات. والشاهد عليه هو تطبيق الآية الكريمة على النفر للتفقه في الدين في الروايات المستفيضة ، مع أن المعنى المذكور غير ملحوظ فيه كما لا يخفى.

وهكذا لا مجال لدعوى غلبة استعمال مادة النفر في النفر الى الجهاد بحيث تمنع عن ارادة النفر للتفقه ؛ وذلك لمنع الغلبة أولا : وعلى تقدير تسليمها فالمنع عن ارادة النفر للتفقه صحيح ما لم يقترن بالقرينة ، ويكفي في المقام قوله (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) لصرفه الى النفر للتفقه ، هذا مضافا الى تطبيق الآية في الروايات المستفيضة على النفر للتفقه ، فراجع.

لا يقال : أن الآية نزلت في المؤمنين حيث حلفوا على عدم التخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا سرية حيث انه صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا خرج الى الجهاد لا يتخلف عنه إلّا المنافقون ، فانزل الله وحيا واخبر بعيوب المنافقين وبيّن نفاقهم ، وعليه فقوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، اخبار في مقام الانشاء ، ويدل على النهي عن النفر العام.

لانا نقول : لا ارى دليلا صحيحا يدل على شأن النزول المذكور إلّا نسبة ذلك الى القيل أو بعض المرسلات عن الامام الباقر عليه‌السلام كما في مجمع البيان. ومن المعلوم انه لا اعتبار به ، هذا مضافا الى أن مقتضى الروايات الكثيرة أن النفر في الآية الكريمة هو النفر للتفقه في الدين ، ولازمه أن يكون المراد من النفر في قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا) هو النفر للتفقه أيضا. وعليه فالمراد من التفقه في قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا) ليس هو انشاء النهي ، بل هو اخبار عن عدم تمكن المؤمنين جميعا لهذا الواجب لما يلزم من اختلال النظام ، فلهم عذر في عدم اقدامهم جميعا للنفر للتفقه ، ولكن لا عذر لهم في عدم نفر طائفة منهم لهذا الواجب المهم ، فيجب النفر على جماعة من كل قوم ، فلا تغفل.

لا يقال : لو كان مفاد الآية وجوب التحذر عند الشك لا يدل ذلك على حجيّة قول المنذر لأنّ الحذر واجب فى الشبهة قبل الفحص فقول المنذر يوجب ابداء الاحتمال وبمجرد ذلك يحكم العقل الفحص فقول المنذر يوجب ابداء الاحتمال وبمجرد ذلك يحكم العقل على المكلف اما بالاحتياط او تعلم الحكم وبعبارة اخرى كل من الخوف والحذر العملى واجب

٢٢٣

عند الشك قبل الفحص ولو لم يكن قول المنذر حجة شرعا كما دلّ عليه اخبار عديدة مذكورة فى محالها (١)

لأنّا نقول : هذا الإشكال جار في كل أمارة من الأمارات فإنّ الاجتناب عن فعل محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب قبل الفحص واجب ومع ذلك أفادت أدلة الاعتبار حجّيتها ولا يكون الأمارات لغوا والوجه فى ذلك أن بعد الفحص لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط والتعلّم بخلاف الأمارات فإذا دلّت الأمارات بعد الفحص على حرمة شيء أو وجوب شيء وجوب الاجتناب عن فعل ما دلّت الأمارات على حرمته وعن ترك ما دلّت على وجوبه فلا تكون اعتبار الأمارات لغوا وهكذا الأمر فى المقام فإنّ بعد الفحص لا مجال لحكم العقل وفي نفس الحال يدل الآية الكريمة على وجوب المتحذّر بقيام خبر العادل فلا يكون اعتبار الخبر الواحد لغوا كما لا يخفى.

ودعوى أن ظاهر الآية الكريمة مدخليته كون النافرين جماعة في وجوب النفر ووجوب الإنذار ووجوب الحذر ومع احتمال خصوصية هذا الظاهر فلا مجال لرفع اليد عنه وعليه فالآية اجنبية عن المدعى ولا ترتبط بإثبات حجّية قول المنذر الواحد عند الشك في قوله إنّه هل هو حكم الله الواقعي أولا لأنّ مفاد الآية هو وجوب نفر الجماعة بما هى الجماعة لا الفرد وأين ذلك بما نحن بصدده. (٢)

مندفعة بأنّ لازم اعتبار الجماعة هو عدم وجوب الانذار لو نفر جماعة من فرقة ثم تفقهوا ولكن عرض لهم الموت وبقى فرد واحد منهم وعليه فلا يجب على هذا الفرد الإنذار وهو كما ترى هذا مضافا إلى أنّ مقام التعلّم والإنذار ممّا لا توقّف لهما على الجماعة يشهد على أنّ المراد من الطائفة هو الاستغراق أعني كلّ فرد فرد منها لا الجماعة كما أنّه لم يعتبر في المنذر بفتح الذال أن يكون جماعة باعتبار لفظ القوم في الآية الكريمة.

__________________

(١) المحاضرات سيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٣٧.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٣٤ ـ ١٣٦.

٢٢٤

فتحصّل أنّ النفر واجب للتعلم والتفقّه والإنذار وصدر الآية الكريمة إخبار عن عدم تمكّن جميع المؤمنين لذلك فأوجب الله سبحانه وتعالى مع عدم تمكنهم للنفر المذكور جميعا على كل طائفة من كل فرقة بنحو الوجوب الكفائى ليتفقهوا ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ويتحذّر قومهم بمجرد إنذارهم من دون تقييد التحذّر بحصول العلم كما لا يخفى.

قال السيد المحقق الخوئى قدس‌سره : والانصاف أنّ دلالة هذه الآية على حجية الخبر أظهر وأتم من دلالة آية النبأ. (١)

ومنها ـ اي من الآيات التي استدل بها لحجيّة الخبر ـ آية الكتمان ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). (٢)

بتقريب أن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الاظهار ، وإلّا لزم لغوية حرمة الكتمان ووجوب الاظهار.

ألا ترى أنهم حكموا بحجية اخبار المرأة عن كونها حاملا واستدلوا عليه بقوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ).

وفيه : أوّلا ـ كما افاده المحقق الاصفهاني قدس‌سره ـ أن الآية الكريمة اجنبية عما نحن فيه ؛ لان موردها ما كان فيه مقتضى القبول لو لا الكتمان ؛ لقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) فالكتمان حرام في قبال ابقاء الواضح والظاهر على حاله ، لا في مقابلة الايضاح والاظهار ، وما هو نظير ما نحن فيه آية كتمان النساء ما خلق الله في ارحامهن ، فالملازمة انما تجدي في مثلها ، لا فيما نحن فيه. (٣)

ولذلك قال في نهاية الافكار : أن سوق الآية انما هو في اصول العقائد ردا على اهل

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ / ١٨٤.

(٢) البقرة / ١٥٩.

(٣) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٩.

٢٢٥

الكتاب الذين اخفوا شواهد النبوة وبيناتها وكتموا علائم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي بيّنها الله سبحانه لهم في الكتب السالفة ، فلا ترتبط بما نحن بصدده. (١)

ودعوى : أن الكتمان وأن كان هو اخفاء الحقيقة إلّا أنه الاخفاء النسبي لا المطلق ، أي الابراز من ناحية المخبر لا مطلقا ، فمن لا يكون قوله مفيدا للعلم لعدم وثاقته مثلا ايضا يصدق الكتمان على اخفائه للحقيقة. (٢)

مندفعة : بأنّ الكلام ليس في معنى الكتمان ، بل الكلام في أن مورد الآية الكريمة اجنبية عما نحن فيه كما افاده المحقق الاصفهاني قدس‌سره ، فلا تغفل. فالآية مختصة بوجوب القبول للامور التى حرم كتمانها من الحق والبينات والقبول فيها موقوف على العلم بخلاف المقام.

وثانيا : بأنّ الآية الكريمة لا تتعرّض لبيان حرمة الكتمان حتى يؤخذ بإطلاقها لكونها في مقام بيان ترتّب بعض آثار الكتمان ولذا قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره في محكي كلامه ليست الآية بصدد الإطلاق وبيان حرمة الكتمان بل هي بظاهرها تكون بصدد بيان ما يترتب على إخفاء الحق وكتمانه من اللعن وأمّا أنّه يحرم مطلقا أو في بعض الموارد فلا تعرض له فيها وبالجملة ليست الآية بصدد البيان من هذه الجهة فلا يصح الأخذ بالإطلاق وعلى هذا فمن المحتمل اختصاص وجوب الاظهار بما اذا كان هناك رجاء حصول العلم ووضوح الحق بإذاعته وإفشائه. (٣)

ففيه ما عرفت من أن مورد الآية هو ما كان واضحا بنفسه من دون حاجة الى ايضاحه بكثرة الافشاء ، كما لا يخفى.

ومنها ـ أي من الآيات التي استدل بها لحجية الخبر ـ : قوله سبحانه وتعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ

__________________

(١) نهاية الافكار : ج ٣ ص ١٣٠.

(٢) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٨١ ـ ٣٨٢.

(٣) المحاضرات سيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٣٩.

٢٢٦

وَالزُّبُرِ)(١) بدعوى أن وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول ، وإلّا لغا وجوب السؤال ، واذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصح أن يسأل عنه ويقع جوابا له ؛ لان خصوصية المسبوقية بالسؤال لا دخل فيه قطعا ، فاذا سئل الراوي الذي هو من اهل العلم عما سمعه عن الامام في خصوص الواقعة فاجاب باني سمعته يقول كذا وجب القبول بحكم الآية ، فيجب قبول قوله ابتداء اني سمعت الامام يقول كذا ؛ لان حجية قوله هو الذي اوجب السؤال عنه ، لا أن وجوب السؤال اوجب قبول قوله ، كما لا يخفى.

أورد عليه أوّلا : بان المراد من اهل الذكر بمقتضى السياق علماء اهل الكتاب ، وعليه فالآية اجنبية عن حجية الخبر. (٢)

ويمكن أن يقال : أن العبرة بعموم الوارد ، ولا ينافيه خصوص المورد ، وتطبيق اهل الذكر على علماء اهل الكتاب يكون من باب تطبيق الكلي على بعض مصاديقه ، وليس من باب استعمال الكلي في الفرد كما لا يخفى. وعليه فلا منافاة لدلالة السياق على أن مورد الآية هو علماء اهل الكتاب مع كلية الوارد وهو قوله (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ويشهد لكلية الوارد تطبيق الآية على غير اهل الكتاب في الأخبار الدالة على أن المراد هم الأئمة المعصومون عليهم‌السلام إذ اختصاص أهل الذكر بالأئمّة عليهم‌السلام مقطوع العدم بلحاظ المورد كما سيأتى.

هذا مضافا إلى ما أفاده سيدنا الأستاذ المحقق الداماد قدس‌سره في محكي كلامه من أنّه إنّ أريد أن ظاهر الآية بقرينة المورد إرادة السؤال عن أهل الكتاب (فقط) فالذى يستفاد منها بالملازمة وجوب قبول قوله دون غيره ممن أقرّ بالشهادتين وهو ممنوع إذ لا يحتمل وجوب قبول قول أهل الكتاب وعدم وجوب قبول قول المقرّ بالشهادتين (٣)

واورد عليه ثانيا : بان ظاهر النصوص المستفيضة أن اهل الذكر هم الأئمة عليهم‌السلام ، لا غير و

__________________

(١) النحل / ٤٣ و ٤٤.

(٢) فرائد الاصول : ص ٨٢.

(٣) المحاضرات لسيدنا الأستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٤٢.

٢٢٧

قد عقد في اصول الكافي بابا لذلك ، وقد ارسله في المجمع عن علي عليه‌السلام. (١) فلا وجه للتمسك بها في حجية قول الرواة الثقاة.

ويمكن الجواب عنه ايضا بان تطبيق اهل الذكر على الائمة المعصومين عليهم‌السلام من باب كونهم اكمل المصاديق ، لا من باب حصر العنوان فيهم ، وإلّا فلا يناسب مع مورد الآية ، كما عرفت.

قال المحقق الاصفهاني قدس‌سره : أن قصر مورد الآية على خصوص الأئمة عليهم‌السلام لا يلائم مورد الآية كما لا يخفى على من راجعها وظنّي ـ والله اعلم ـ أن اهل الذكر في كل زمان بالنسبة الى ما يطلب السؤال عنه مختلف ، فالسؤال عن كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجب أن يكون ملكا وملكا وانه لا يمتنع عليه الطعام والشراب لا بد من أن يكون من غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته عليهم‌السلام لانهم محل الكلام ، بل عن العلماء العارفين باحوال الانبياء السابقين ، والسؤال عن مسائل الحلال والحرام في هذه الشريعة المقدسة لا بد من أن ينتهي الى الأئمة عليهم‌السلام ؛ فانهم عيبة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحملة احكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالمصداق حيث انه في هذا الزمان منحصر فيهم من حيث لزوم انتهاء الأمر اليهم فلذا فسّر اهل الذكر بهم عليهم‌السلام ، والله العالم. (٢)

حاصله : أن عنوان اهل الذكر كلي وينطبق على مصاديقه المختلفة بحسب اختلاف موارد الحاجة. قال سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره في محكى كلامه وبالجملة المراد من اهل الذكر في الآية مطلق من يعد من اهل العلم في زمانه وانما ورد من الأئمة عليهم‌السلام أن مصداق هذا المفهوم الكلى في زماننا نحن فقط دون غيرنا فهو من قبيل انحصار الكلى في الفرد فتدبر جيدا. (٣)

وأورد عليه ثالثا : كما في فرائد الاصول والكفاية بان الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم لا للتعبد بالجواب ، كما يقال في العرف : سل أن كنت جاهلا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٨٢.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٩٠.

(٣) المحاضرات سيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٤٣.

٢٢٨

ومن المعلوم أن السؤال حينئذ طريق لحصول العلم. ويؤيده أن الآية واردة في اصول الدين وعلامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي لا يؤخذ فيها بالتعبد اجماعا. (١)

ويمكن الجواب عنه بما في نهاية الدراية بان الظاهر هو السؤال لكي يعلموا بالجواب لا بامر زائد على الجواب ، فيكشف عن حجية الجواب ؛ فانه على فرض الحجية يكون حجة قاطعة للعذر مصححة لاطلاق العلم عليه ، وإلّا فلا.

نعم بين هذه الآية والآيتين المتقدمتين فرق حيث انه لا امر بالجواب هنا حتى يتمسك باطلاقه لصورة عدم افادة العلم كما في ايجاب الانذار وحرمة الكتمان ، فيمكن ايجاب السؤال الى أن يحصل العلم بالجواب ولو بجواب جماعة. (٢)

والانصاف هو عدم اطلاق الآية بعد عدم وجوب أمر بالجواب وامكان ارادة ايجاب السؤال ولو بالتكرار حتى يحصل العلم بسبب الاجوبة المتعددة ، ولا دلالة للآية على حصول العلم بالجواب الاول حتى يكون ذلك تعبدا. ولذلك قال في الكفاية أن الظاهر من الآية ايجاب السؤال لتحصيل العلم ، لا للتعبد. (٣)

واما الايراد على الاستدلال بالآية الكريمة بعد تسليم دلالتها على لزوم التعبد بالجواب بانه لا دلالة لها على التعبد بما يروي الرواة ؛ بما هم رواة ؛ لعدم اطلاق اهل الذكر والعلم عليهم ، مع أن لصدق هذا العنوان مدخلية في الحكم ، وعليه فتختصّ دلالة الآية بحجية فتوى اهل الفتوى.

ففيه أن عنوان اهل الذكر والاطلاع من العناوين المشككة ، ويصدق على الرواة ايضا ؛ لصدق الذكر والعلم على معرفة الحلال والحرام من دون اعمال نظر ورأي ، وحيث لم يقيد عنوان اهل الذكر بمرتبة خاصة يعم تلك المعرفة ايضا ، ولذلك يصدق عنوان اهل العلم والذكر على العالمين بالفتاوى والمسائل من دون أن يكونوا مجتهدين ، والرواة كالعالمين بالمسائل الذين لا يكونون مجتهدين في زماننا هذا.

__________________

(١) راجع فرائد الاصول : ص ٨٢ وكفاية الاصول : ج ٢ ص ٩٥.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٩٠.

(٣) الكفاية : ص ٩٥.

٢٢٩

ودعوى : أن المراد من العلم هو خصوص الرأي والاعتقاد ، كما في منتقى الاصول. (١)

مندفعة : بأنه لا وجه لتخصيص العلم والذكر بذلك.

كما أن دعوى أن اهل الذكر هم اهل القرآن ، فلا يشمل الرواة ولا العالمين بالفتاوى.

مندفعة بان ذلك ينافي مورد الآية الكريمة ؛ فان موردها هو اهل الكتاب ، فانطباق اهل الذكر على اهل البيت واهل القرآن لا يساوي كونه بمعناه ، كما لا يخفى.

فتحصّل : أن الاستدلال بالآية الكريمة على وجوب التعبد بالجواب لا يخلو عن اشكال.

نعم ربما يقرب الاستدلال بالآية بأنها ارجاع وارشاد الى طريقة معروفة عقلائية ، وهي رجوع الجاهل بالشيء الى العالم به والسؤال منه والعمل بما يقوله بما أن قوله طريق معتبر الى ما يعلمه ويخبر عنه ، فهي متضمنة لحجية خبره وطريقيته. ومن الواضح انه لا يعتبر ولا يشترط في هذه الطريقة العقلائية سوى أن يكون المسئول عالما بما يسأل عنه من دون فرق بين أن يكون الشيء الذي يعلمه أمرا محسوسا أو غير محسوس ولا أن يكون عالما بهذا الشيء فقط أو به وبغيره ، بل هذه الطريقة جارية في كل شيء لا يعلمه الانسان وكان من الناس من يعلمه فاذا كان له حاجة فعليه أن يسأل العالم ويتبع قوله بما أن قوله طريق اليه ، وحينئذ فهذه الآية الشريفة دليل لفظي على امضاء الطريقة العقلائية وبناء العقلاء على طريقية الخبر الواحد. (٢)

ولكن هذا التقريب يرجع الى الاستدلال ببناء العقلاء في حجية الاخبار ، لا الاستدلال بالآيات من باب التعبد الذي هو محل البحث في المقام.

هذا ، مضافا الى أن مورد الآية هو الشك في النبوة والمعتبر فيه هو تحصيل العلم القطعي ، لا الظن النوعي الذي قد يقترن مع الشك الشخصي أو الظن على الخلاف كما في خبر الثقات عند العقلاء.

__________________

(١) منتقى الاصول : ج ٤ ص ٢٩٢.

(٢) تسديد الاصول : ج ٢ ص ٩٣ و ٩٤.

٢٣٠

ودعوى : أن الشبهات التي كانت حول النبوة عند نزول الآية الكريمة ممّا ينحسم أصله بالرجوع الى العالم واهل الذكر ونفس جوابه.

مندفعة : بأن الشبهات مختلفة ولعل بعضها كذلك ، ولكن الحكم بكون جميعها كذلك تحكم ، كما لا يخفى.

٢ ـ واما الأخبار فبطوائف :

الطائفة الاولى :

هي التي وردت في الخبرين المتعارضين ودلّت على الأخذ بالاعدل والاصدق والمشهور والتخيير عند التساوي :

مثل مقبولة عمر بن حنظلة (١) عن الامام الصادق عليه‌السلام حيث قال : الحكم ما حكم به اعدلهما وافقههما واصدقهما في الحديث واورعهما ، ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر. قال : فقلت : فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال : فقال : ينظر الى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند اصحابك ؛ فان المجمع عليه لا ريب فيه ... الى أن قال : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به الحديث.

وموردها وإن كان في الحكمين ، إلّا أن ملاحظة جميع الرواية تشهد بأن المراد بيان المرجح للروايتين اللتين استند اليهما الحاكمان. (٢)

ولا يخفى عليك أن مع التعارض لا وثوق بالصدور ، ومع ذلك دلت المقبولة على أن الخبر لا يكون ساقطا. ومنه يعلم أن التعبد به ليس من باب بناء العقلاء ، وإلّا فلا يحصل الوثوق في الراجح بمجرد الأفضلية في صفات الراوي او المطابقة مع الكتاب أو المخالفة مع العامة ، ومع

__________________

(١) الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١.

(٢) فرائد الاصول : ص ٨٤.

٢٣١

عدم الوثوق لا بناء خصوصا مع عدم وجود الرجحان ، بل يحكمون حينئذ بالتساقط.

ثم أن هذا الخبر باعتبار قوله (خذ بأعدلهما) ظاهر في اعتبار العدالة. اللهمّ إلّا أن يقال : أن قوله في الذيل (فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ... الخ) يشهد على أن الملاك في حجية الاخبار هو نقل الثقات. وعليه فالاعدلية ملاك الترجيح في تقديم احد المتعارضين على الآخر ، فلا تغفل.

ونحو هذه الرواية مرفوعة زرارة قال : يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما نأخذ؟ قال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر. قلت : يا سيدي انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال : خذ بأعدلهما عندك واوثقهما في نفسك. فقلت : انهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقال عليه‌السلام : انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم ، قلت : ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين كيف اصنع؟ فقال : اذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت : انهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف اصنع؟ فقال عليه‌السلام : اذن فتخير احدهما فتأخذ به وتدع الآخر. (١)

ولا يخفى ايضا أن مع كون طرفي المعارضة مشهورين لا وثوق بأحدهما من حيث الصدور ومع ذلك لا يكون الخبر ساقطا ، بل يقدم الراجح من حيث الصفات على غيره ، وليس ذلك إلّا حجية تعبدية.

ثم أن دلالتها على اعتبار العدالة وعدمه مثل المقبولة. ومثل رواية ابن ابي الجهم المروية في الاحتجاج مرسلا عن الرضا عليه‌السلام قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم ايهما الحق؟ قال : فاذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما اخذت. (٢) ومثل خبر موسى بن اكيل عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن رجل يكون بينه وبين اخ له منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما؟ قال : وكيف يختلفان؟ قال : حكم كل

__________________

(١) المستدرك : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٢.

(٢) الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٤٠.

٢٣٢

واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، فقال : ينظر الى اعدلهما وافقههما في دين الله فيمضي حكمه. (١)

ولا يذهب عليك ان مع التصريح بعدم العلم والوثوق بالحق قال بحجية كل واحد من باب التخيير ، وليس ذلك إلّا حجية تعبدية.

اورد عليه بانه لا اطلاق لهذه الطائفة من الأخبار ؛ لان السؤال عن الخبرين المتعارضين اللذين فرض السائل كل واحد منهما حجة يتعين العمل به لو لا التعارض ، ولا نظر للسائل بالنسبة الى اعتبار خبر كل عدل ، بل نظره الى حجية الخبر في حال التعارض.

يمكن أن يقال ـ كما افاد في نهاية الأفكار ـ أن هذه الأخبار ظاهرة الدلالة بالملازمة على حجية خبر الواحد في نفسه عند عدم ابتلائه بالمعارض. (٢)

والاولى أن يقال أن : هذه الطائفة من الاخبار تدل على مفروغية حجية الاخبار في نفسها ، وإلّا لما سألوا عن صورة تعارضها ، كما لا يخفى. قال في مصباح الاصول : الاخبار العلاجية تدل على أن حجية الاخبار في نفسها كانت مفروغا عنها عند الائمة عليهم‌السلام واصحابهم ، وانما توقفوا عن العمل من جهة المعارضة فسألوا عن حكمها. ومن الواضح انه ليس مورد الأخبار العلاجية الخبرين المقطوع صدورهما ، لان المرجحات المذكورة فيها لا تناسب العلم بصدورهما ، وأن الظاهر من مثل قوله (يأتي عنكم خبران متعارضان) كون السؤال عن مشكوكي الصدور ، مضافا الى وقوع المعارضة بين مقطوعي الصدور بعيد في نفسه. (٣)

وتعتضد تلك المفروغية المذكورة بما صرح به الشيخ في عدة الاصول من قوله : اني وجدت الفرقة المحقة مجمعة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتى أن واحدا منهم اذا افتى بشيء لا يعرفونه

__________________

(١) الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٤٥.

(٢) نهاية الأفكار : ج ٣ ص ١٣٢.

(٣) مصباح الاصول : ج ٢ ص ١٩١ ـ ٢٩٢.

٢٣٣

سألوه من اين قلت هذا ، فاذا احالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الامر في ذلك وقبلوا قوله ، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمة عليهم‌السلام ومن زمن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أن العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما اجمعوا على ذلك ولا نكروه ؛ لان اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو. (١)

ومما ذكرناه يظهر ما في نهاية الاصول من أن التعارض كما يوجد في الخبرين غير المقطوعين كذلك ربما يوجد في المتواترين أو المحفوفين بما يوجب القطع بصدورهما ، فصرف بيان العلاج للتعارض لا يدل على حجية الخبر الذي لم يقطع بصدوره. (٢)

وذلك لان حمل هذه الروايات على الصورة المذكورة بعيد جدا ، فاذا عرفت أن المراد منها هو تعارض غير مقطوعى الصدور تكشف تلك الاخبار عن كون حجية غير المقطوع عند عدم المعارضة مفروغا عنها.

وينقدح أيضا مما ذكرناه ما في مباحث الحجج حيث قال : يمكن ارادة الحجية القطعية كما اذا كان الخبر قطعي السند ، وليست هذه الطائفة من أخبار الترجيح والعلاج في مقام البيان من ناحية حجية اصل الخبر ليتمسك باطلاقها. (٣)

وذلك لما عرفت من أن فرض المعارضة ليس بين المقطوعين لبعد ذلك وندرته ، بل فرض المعارضة بين غير المقطوعين ، وعليه تكشف الاخبار العلاجية عن كون حجية الاخبار غير المقطوعة مع قطع النظر عن المعارضة مفروغا عنها عند الأئمة عليهم‌السلام واصحابهم.

نعم يشكل التمسك بهذه الاخبار لاثبات أن الحجة المفروغ عنها هو خبر الثقة بعد ما عرفت من اعتبار الاعدلية.

يمكن الجواب عنه بان مقتضى امعان النظر فيها أن الملاك هو كون الراوى ثقة ، ولا ينافيه

__________________

(١) عدة الاصول : ص ٣٣٧.

(٢) نهاية الاصول : ص ٥٠٩.

(٣) مباحث الحجج : ج ١ ص ٣٨٩.

٢٣٤

اعتبار الاعدلية في تقديم احد المتعارضين على الآخر ويشهد له قوله في المقبولة (فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ... الحديث).

أو قوله في المرفوعة (فقلت : انهما عدلان مرضيان موثقان الحديث) اللهمّ إلّا أن يقال : أن المراد من الثقة والموثق بعد ما عرفت من اعتبار الاعدلية هو العادل ، فافهم.

الطائفة الثانية :

هي التي تدل على ارجاع آحاد الرواة الى اشخاص معينين من ثقات الرواة مثل قوله عليه‌السلام : اذا اردت الحديث فعليك بهذا الجالس ، مشيرا الى زرارة (١) وفيه : انه يحتمل أن يكون المعتبر هو العدالة وأن ارجاعه عليه‌السلام من جهة كون المجالس المذكور عادلا عنده.

وقوله عليه‌السلام : نعم في موثقة الحسن بن علي بن يقطين بعد ما قال الراوي افيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه. (٢) فان الظاهر منه أن قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند السائل والمسئول عنه فسأل عن وثاقة يونس ليترتب عليه اخذ المعالم منه.

وقوله عليه‌السلام : عليك بالاسدي ، يعني أبا بصير. (٣) وفيه : انه لعل ذلك لكون ابي بصير عادلا.

وقوله عليه‌السلام ـ في جواب السائل فممن آخذ معالم ديني؟ ـ من زكريا ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا (٤) ، ولكنه ظاهر في اعتبار العدالة.

وقوله عليه‌السلام : واما ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام فلا يجوز لك أن تردّه. (٥) وفيه : انه لعل ذلك لكونه عادلا.

وقوله لابن ابي يعفور بعد السؤال ـ عمن يرجع اليه اذا احتاج أو سئل عن مسألة ـ فما

__________________

(١) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ١٩.

(٢) جامع الاحاديث : ج ١ ص ٢٢٦.

(٣) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ١٥.

(٤) الوسائل الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٢٧.

(٥) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ١٧.

٢٣٥

يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي ، فانه قد سمع ابي وكان عنده مرضيا وجيها. (١) وفيه : انه لعل ذلك لكونه عادلا ، هذا مضافا الى توصيفه بكونه مرضيا عند الامام ووجيها عنده.

وقوله عليه‌السلام : ائت ابان بن تغلب ، فانه قد سمع مني حديثا كثيرا ، فما رواه لك فاروه عنّي. (٢) وفيه : أنه لعل ذلك لكونه عادلا.

وقوله عليه‌السلام : في صحيحة احمد بن اسحاق : العمري ثقتي ، فما ادّى اليك عني فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له واطع فانه الثقة المأمون.

وقوله عليه‌السلام : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا اليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما واطعهما فانهما الثقتان المأمونان. (٣)

قال شيخنا الأعظم : بعد نقل اكثر الروايات المذكورة : وهذه الطائفة أيضا مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على اعتبار خبر الثقة المأمون. (٤)

أورد عليه بان المراد من الثقات في هذه الارجاعات هم الأشخاص الذين لا يكذبون ، لكونهم على مرتبة عظيمة من التقوى والجلالة حتى وثق بهم الامام عليه‌السلام ، فهذه الاخبار لا تدل على حجية خبر كل ثقة ، بل تدل على ثقات اهل البيت وهم العدول. نعم لا بأس بالاخذ بمثل ما ورد في مثل يونس بعد سؤال الراوي عن كون يونس ثقة ، فان المراد بالثقة هو الثقة عند الناس لا العدل.

اللهمّ إلّا أن يقال : أن المراد من الثقة يختلف بحسب الموارد ، وليس المراد منه في مورد السؤال هو الصدق المخبري مع أن المورد من الفقهاء والسائل يريد أن يأخذ آرائه ، بل المراد أنه مورد الاطمئنان لاخذ الآراء أو لا يكون كذلك.

ولكن الانصاف أن هذا المعنى بعيد ، والظاهر منه أن المراد من الثقة هو الثقة عند الناس

__________________

(١) جامع الاحاديث : ج ١ ص ٢٢٥.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٣٠.

(٣) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي : ح ٤.

(٤) فرائد الاصول : ص ٨٥.

٢٣٦

أي صادق في إخباره بل لعله الظاهر من التعليل الوارد في صحيحة احمد بن اسحاق في مورد العمرى فانه الثقة المأمون.

الطائفة الثالثة :

هي الأخبار الدالة على وجوب الرجوع الى الرواة والثقات والعلماء ، على وجه يظهر منها عدم الفرق بين فتاويهم بالنسبة الى اهل الاستفتاء وروايتهم بالنسبة الى اهل العمل بالرواية.

مثل قول الحجة عجّل الله فرجه لاسحاق بن يعقوب : واما الحوادث الواقعة فارجعوا الى رواة حديثنا ، فانهم حجتي عليكم ، وانا حجة الله. (١)

قال الشيخ الأعظم : لو سلم أن ظاهر الصدر الاختصاص بالرجوع في حكم الوقائع الى الرواة اعني الاستفتاء منهم ، إلّا أن التعليل بانهم حجته يدل على وجوب قبول خبرهم (٢) ؛ لان التعليل يعمم ، ومقتضى التعميم هو وجوب قبول خبره أيضا كفتواه.

ولقائل أن يقول : أن جعل الحجية للرواة المجتهدين لا يدل على حجية نقل كل راو ، فهو اخص من المدعى.

ومثل الرواية المحكية في العدة عن الصادق عليه‌السلام : اذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا الى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به (٣) ؛ لدلالتها على جواز الاخذ بروايات الشيعة ، بل بروايات العامة عن ثقاتهم مع عدم وجود المعارض من رواية الخاصة.

والظاهر من العدة انه اعتمد عليها حيث ذكر قول الامام باسمه مع انه لم يذكر في العدة غالبا شيئا من الروايات ، هذا مضافا الى انه صرح بعده باعتماد الاصحاب عليها حيث قال : ولاجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث ابن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم من العامة عن ائمتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه ، فراجع.

__________________

(١) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٩.

(٢) فرائد الاصول : ص ٨٥.

(٣) عدة الاصول : ص ٣٧٩.

٢٣٧

ومثل ما رواه في الاحتجاج عن تفسير الامام العسكري عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال : هذه لقوم من اليهود : الى أن قال : وقال رجل للصادق عليه‌السلام : اذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلدون علمائهم ... الى أن قال : فقال عليه‌السلام : بين عوامنا وعلمائهم وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة ، وتسوية من جهة اما من حيث الاستواء فان الله تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذمّ عوامهم.

وأما من حيث افترقوا فان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح واكل الحرام والرشا وتغيير الاحكام عن وجهها بالشفاعات والنسابات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به اديانهم وأنهم اذا تعصّبوا ازالوا حقوق من تعصّبوا عليه واعطوا ما لا يستحقه من تعصّبوا له من اموال غيرهم وظلموهم من اجلهم ... الى أن قال :

فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا انه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بما يؤدّيه اليهم عمن لا يشاهدوه (لم يشاهدوه) ووجب عليهم النظر بأنفسهم في امر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ اذ كانت دلائله أوضح من أن يخفى واشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوام ائمّتنا اذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها واهلاك من يتعصبون عليه وأن كان لاصلاح امره مستحقا وبالترفرف بالبر والاحسان على من تعصّبوا له وأن كان للاذلال والاهانة مستحقا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم.

فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لامر مولاه فللعوام أن يقلدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم.

فاما من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة ، وانما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا اهل البيت لذلك ؛ لان الفسقة يتحمّلون عنّا

٢٣٨

فيحرفونه بأسره لجهلهم ويضعون الاشياء على غير وجوهها لقلة معرفتهم ، وآخرون يتعمدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم الى نار جهنم الحديث. (١)

قال الشيخ الأعظم بعد نقل هذا الخبر : دل هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق على جواز قبول قول من عرف بالتحرز عن الكذب وأن كان ظاهره اعتبار العدالة بل ما فوقها ، لكن المستفاد من مجموعه أن المناط في التصديق هو التحرز عن الكذب ، فافهم. (٢)

ومثل ما عن ابي الحسن الثالث عليه‌السلام فيما كتبه جوابا عن سؤال احمد بن حاتم بن ماهويه واخيه عمن آخذ معالم ديني : فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما على كلّ مسن في حبّنا وكل كثير القدم في امرنا ، فانهما كافوكما أن شاء الله تعالى. (٣) ولكن هذا العنوان غير عنوان الثقة فلا يشمل ما إذا لم يكن الثقة واجدا لهذا العنوان

ومثل قوله عليه‌السلام لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ، فانك أن تعدّيتهم اخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا اماناتهم ، انهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدلوه الحديث. (٤)

بدعوى أن ظاهرهما وأن كان الفتوى ، إلّا أن الانصاف شمولهما للرواية بعد التامل كما في سابقتهما ، والمراد هو المنع عن قبول روايات غير الثقات منهم جمعا بينه وبين ما افاده الشيخ الطوسي قدس‌سره في العدة ونقلناه آنفا.

ومثل ما عن الامام العسكري عليه‌السلام في كتب بني فضال حيث قالوا ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ قال : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا. (٥)

يعني لا اشكال في اخذ الرواية عنهم من جهة كونهم فطحية اذا كانوا من الثقات.

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ح ٢٠.

(٢) فرائد الاصول : ص ٨٦.

(٣) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٤٥.

(٤) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٤٢.

(٥) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ١٣.

٢٣٩

قال الشيخ قدس‌سره : دل بمورده على جواز الاخذ بكتب بني فضال وبعدم الفصل على كتب غيرهم من الثقات ورواياتهم.

ومثل ما ورد مستفيضا : حديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق خير لك من الدنيا وما فيها من ذهب وفضة ، وفي بعضها يأخذه صادق عن صادق (١) بناء على أن المراد من الصادق هو الراوي الذي يصدق في خبره.

ومثل التوقيع المروي في رجال الكشي : وعن علي بن محمّد بن قتيبة عن احمد بن ابراهيم المراغي قال : ورد على القاسم بن العلاء وذكر توقيعا شريفا فيه : فانه لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا قد عرفوا بانا نفاوضهم سرّنا ونحمله اياه اليهم. (٢)

ولكنه اخص من المدعى ؛ فان ثقاتنا غير عنوان الثقة ، هذا مضافا الى أن كون الراوي من اهل السرّ من خصيصة الاوحدي من العدول والثقات.

ومثل مرفوعة الكناسي عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله عزّ ذكره (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء وليس عندهم ما يتحملون به الينا ، فيسمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون اموالهم ويتعبون ابدانهم حتى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا فينقلوه اليهم ، فيعيه هؤلاء ، ويضيّعه هؤلاء ، فاولئك الذين يجعل الله عزّ ذكره لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون. (٣)

بدعوى انها دلت على جواز العمل بالخبر وأن نقله من يضيّعه ولا يعمل به (٤) بناء على حمله على الثقة جمعا بينه وبين ما اعتبر الوثوق في العمل بالخبر الواحد.

الطائفة الرابعة :

هي الأخبار الدالة على جواز العمل بخبر الواحد : مثل النبوي المستفيض بل المتواتر : من

__________________

(١) جامع الاحاديث : ج ١ ص ٢٢٣ و ٢٥٣.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٤٠.

(٣) جامع الأحاديث : ج ١ ص ٢٣٨ ح ٦١.

(٤) فرائد الاصول : ص ٨٧.

٢٤٠