عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة أن تنزلها على أنّ مضامينها تفسير للآيات أو تاويل أو بيان لما يعلم يقينا شمول عموماتها له لأنّه أظهر الأفراد وأحقها بحكم العامّ أو ما كان مرادا بخصوصه وبالنصّ عليه في ضمن العموم عند التنزيل أو ما كان هو المورد للنزول أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم.

وعلى أحد الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد فيها أنّه تنزيل وأنّه نزل به جبرئيل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات.

كما يحمل التحريف فيها على تحريف المعنى ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفر عليه‌السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي ففيها وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده وكما يحمل ما فيها من أنّه كان في مصحف امير المؤمنين عليه‌السلام أو ابن مسعود وينزل على أنّه كان فيه بعنوان التفسير والتاويل.

ومما يشهد لذلك قول امير المؤمنين عليه‌السلام للزنديق كما فى نهج البلاغة وغيره ولقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التنزيل والتأويل إلى آخر ما ذكره من الشواهد والقرائن. (١)

وقال السيد المحقق البروجردي قدس‌سره : وأمّا الأخبار الواردة في التحريف فهي وإن كانت كثيرة من قبل الفريقين ولكنه يظهر للمتتبع أنّ أكثرها بحيث يقرب ثلثيها مرويّة عن كتاب أحمد بن محمّد السياري من كتّاب آل طاهر وضعف مذهبه وفساد عقيدته معلوم عند من كان مطلعا على أحوال الرجال.

وكثير منها يقرب الربع مروي عن تفسير فرات بن ابراهيم الكوفي وهو أيضا مثل السياري في فساد العقيدة هذا مع أنّ أكثرها محذوف الواسطة او مبهمها.

وكثير منها معلوم الكذب مثل ما ورد من كون اسم على عليه‌السلام مصرّحا به في آية التبليغ وغيرها إذ لو كان مصرحا به لكان يحتج به علي عليه‌السلام في احتجاجاته مع غيره في باب الإمامة

__________________

(١) آلاء الرحمن : ١ / ٢٩ ـ ٢٦.

٦١

ومثل ما ورد في قوله (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أنّه كان في الأصل (ترابيا) ونحو ذلك مما يعلم بكذبها إلى أن قال وبالجملة فوقوع التحريف مما لا يمكن أن يلتزم به. (١)

وثالثا : بأنّ الآيات والروايات الدالة على مصونيّة عن التحريف والتغيير والتبديل وعروض الباطل تعارض الأخبار الدالة على التحريف منها قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢) بتقريب أنّ الآية الكريمة تدلّ مع التأكيدات المتعدّدة على أنّ الأيادى الجائرة لن تتمكن من تحريف الذكر وهو القرآن ومعنى الآية انّا بقدرتنا الكاملة نحفظه عن الضياع والتحريف والتغيير والتبديل وعروض الباطل. والقول بأنّ المراد من الذكر هو الرسول لا القرآن كما ورد استعمال الذكر فيه في قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ). (٣)

غير سديد بما أفاده السيد المحقق البروجردى قدس‌سره من أنّه لا يناسب لفظ التنزيل لأنّ المراد منه هو الإنزال التدريجى والإنزال التدريجى يناسب القرآن لا الرسول. (٤)

هذا مضافا إلى ما أفاده السيد الخويى قدس‌سره أنّ هذه الآية مسبوقة بقوله تعالى (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) ولا شبهة في أنّ المراد بالذكر في هذه الآية أعنى قوله (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) هو القرآن فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد من الذكر فى آية الحفظ هو القرآن أيضا. (٥)

ودعوى أنّ المراد من الحفظ هو حفظه عن تطرق الشبهات مندفعة بأنّ التحريف مضيع

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٤٨٤ ـ ٤٨٣.

(٢) الحجر / ٩

(٣) طلاق / ١١ ـ ١٠.

(٤) نهاية الاصول : ١ / ٤٨٤.

(٥) البيان : ١٤٤.

٦٢

لاصله فهو كما أفاد السيد المحقق البروجردى قدس‌سره أسوأ حالا من تشكيك المشككين وتطرق الشبهات إليه. (١)

فتحصّل أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب الذي هو منزّل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون تذكارا للناس مصون عن التحريف والتضييع ومحفوظ عند الناس بحيث يمكن لهم أن يصلوا إليه فى كل عصر وزمن ولا مجال للإشكال على الاستدلال بالآية المذكورة بأنّ احتمال وجود التحريف في هذه الآية نفسها يمنع عن الاستدلال بها إذ لو اريد أن يثبت عدم التحريف بنفس الآية كان من الدور الباطل وذلك لأنّ احتمال التحريف بالزيادة منفي بإجماع المسلمين وإنّما الكلام في التحريف بالنقصان وعليه فالآية الكريمة التي يكون مصونة عن التحريف بالزيادة تدلّ على عدم وقوع التحريف بالنقصان كما لا يخفى.

وعليه فكلّ رواية تدلّ على التحريف بالنقصان مخالف للآية الكريمة ومردود بها.

ومنها قوله تعالى ، وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. (٢)

بتقريب أنّ الآية تدلّ على نفى طبيعة الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب ولا شبهة في أنّ التحريف من أوضح أفراد الباطل فإنّ ما نقص يبطل بفصله من الكتاب كما يبطل الكتاب بالزيادة فيه ويخرج عن محض الوحى فيجب أن لا يتطرق التحريف إلى الكتاب العزيز.

هذا مضافا إلى أنّ توصيف الكتاب بالعزة كما أفاد السيد المحقق الخوئى قدس‌سره يقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع (٣)

إذ العزيز هو القادر الذى لا يغلب عليه. واحتمال إرادة حفظه من خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل لا يناسبه عموم نفى الباطل هذا مع أنّ توصيف الكتاب العزّة بما له

__________________

(١) نهاية الاصول : ١ / ٤٨٥.

(٢) فصلت / ٤٢ ـ ٤١.

(٣) البيان : ١٤٦.

٦٣

من الامتيازات الداخلية والخارجية تمنع عن غلبة الأيادي الجائرة بمثل التحريف عليه.

ومنها قوله تعالى في سورة القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩))

تدل هذه الآيات على أنّ الله تعالى جعل جمع القرآن وقراءته حتما على نفسه ووعده لنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليطمئنّ بحفظه ومنعه عن التعجيل في قراءته لغرض الحفظ والجمع ومن المعلوم أنّ وعده تعالى لا يتخلّف إذا التخلّف ناش إمّا من جهة عروض العوارض كالنسيان أو من جهة العجز وكلاهما محالان في الله تعالى.

قال في الميزان الذى يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدمة والمتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمنة أدبا إلهيا كلّف النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتأدب به حينما يتلقى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد ولا يحرك به لسانه وينصت حتى يتمم الوحى فالآيات الأرباع في معنى قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه. (١)

والمعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض وقراءته عليك فلا يفوتنا شيء منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

ودعوى أنّ معنى هذه الآيات أنّ النبي كان يحرّك لسانه عند الوحى بما ألقى إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهى عنه بالآيات وأمر بالانصات حتى يتمّ الوحى فضمير «لا تحرّك به» للقرآن أو الوحى باعتبار ما قرء عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

مندفعة بأنّه لا يلائم سياق الآيات تلك الملاءمة نظر إلى ما فيها من النهي عن العجل والأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرء وكذا إنّ علينا جمعه وقرآنه فذلك كله أظهر فيما تقدم منها في هذا المعنى. (٢)

__________________

(١) طه / ١١٤.

(٢) الميزان : ٢٠ / ١٩٦ ـ ١٩٥.

٦٤

وأيّد الاستاذ الشهيد المطهرى الاحتمال الثاني بقوله سنقرئك فلا تنسى ولكن جوابه هو أظهرية الآيات المذكورة في الاحتمال الاوّل ووجه الاظهرية أنّ الأمر باتباع قراءته تعالى ناظر إلى عدم التقدم لا الى التكرار خوفا من النسيان إذ لو اريد التكرار بالنسبة إلى ما قرأه الله تعالى لا مجال للأمر بالاتبّاع عن قراءته فإنّ الاتباع حاصل بل التكرار مؤكد للاتباع هذا مضافا إلى أنّه لا معنى للنهي عن التعجيل حينئذ. ودعوى أنّ المراد من الآيات المذكورة هو قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة كما يدلّ عليه سياق الآيات المتقدمة والمتاخرة والمقصود منها هو تقريع وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التى فيها أعمالك يعنى اقرأ كتابك ولا تعجل فإنّ هذا الذى هو على نفسه بصيرة إذا راى سيّئاته ضجر واستعجل فيقال له توبيخا لا تعجل وتثبت لتعلم الحجة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثم إنّ علينا بيانه لو أنكرت.

مندفعة بأنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة مما قبلها وما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى. (١)

هذا مع أنّ كتاب العمل قرأه المكلّف لا أنّ الله تعالى قرأه ولزم عليه المتابعة. وعليه فلا يساعد قوله إنّ علينا جمعه وقرآنه كما لا مجال لقوله فاتبع قرآنه بعد قراءته تعالى وهكذا لا يساعد حمل الآيات منه على أنّ المراد هو النهي عن التفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلا ولو كنت غير مكذب ولا مستهزئ «لتعجل به» اي بالعلم به «إنّ علينا جمعه وقرانه» أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه ونوحى شرح وصفه اليك في القرآن فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له.

ثم إنّ علينا بيانه أى إظهار ذلك بالنفخ في الصور وعدم المساعدة لأنّه يحتاج إلى تقديرات وهى لا تخلوا عن التكلّف وتعسّف ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الميزان : ٢٠ / ١٩٦.

٦٥

ومنها أخبار الثقلين الدالّة على أنّهما باقيان بين الأمة غير مفترقان وأنّ التمسك بهما يوجب الهداية وينفى الضلالة ومقتضى عمومية ذلك لجميع الآحاد والأزمان هو صيانتهما عن التحريف وعروض الخطأ والاشتباه إذ مع نفوذ الخطأ والتحريف لا يكون الكتاب متروكا عندهم.

هذا مضافا إلى أنّه لا يصلح المحرّف لتضمين الهداية ونفي الضلالة. ولا مجال لاحتمال كفاية وجود القرآن واقعا عند المعصوم لأنّه حينئذ لا يكون متروكا بين ايديهم والمفروض أنّ مفاد الحديث هو ترك القرآن في جامعة المسلمين هذا مضافا إلى أنّ التمسك الذي أمر به لا يمكن إلّا بإمكان الوصول إليه وعليه فلا بد من أن يكون القرآن موجودا بين الأمة في زمان حياته وبعد مماته حتى يمكن لهم أن يتمسكوا به ويحفظوا بالتمسك به عن الضلال.

وأيضا تدلّ هذه الأخبار على وجود العترة واقترانهم مع الكتاب وكونهما باقيان بين الأمّة لرفع الضلالة إذا التمسك بالعترة يتحقق بوجود العترة العالمة بأوامر الله ونواهيه بين الأمّة مع إمكان أخذ أوامرهم ونواهيهم.

نعم الأخذ المذكور لا يتوقف على الاتصال المباشرى بالإمام والمخاطبة معه شفاها فإنّ ذلك لا يتيسّر لجميع المكلفين حتى في زمان الحضور فضلا عن الغيبة بل ذلك يحصل بوسيلة الرواة والفقهاء الناقلين لكلماتهم الذين أمروا بالرجوع إليهم في الحوادث الواقعة لأخذ الأوامر والتكاليف المأتيّة من ناحيتهم عليهم‌السلام فالقرآن ومكتب أهل البيت موجودان بين الأمّة ويصلحان للهداية ونفي الضلالة لمن أراد من دون اختصاص بزمان أو مكان.

ثم إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي لا يساعد مع تضييع بعض القرآن في عصره فإنّ المتروك حينئذ هو بعض الكتاب لا جميعه مع أنّ الظاهر من الكلام المذكور هو ترك الكتاب بجميعه بين الأمّة في زمان حياته وبعد مماته بل هذه الروايات كما أفاد السيد الخوئى قدس‌سره تدلّ بالصراحة على تدوين القرآن وجمعه في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرّقات إلّا على نحو المجاز والعناية والمجاز لا يحمل اللفظ

٦٦

عليه من غير قرينة فإنّ لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزئا غير مجتمع فضلا عما إذا لم يكتب وكان محفوظا في الصدور. (١)

والحاصل أنّ حديث الثقلين يدلّ على تدوين القرآن وجمعه في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركه بين الأمة إلى التالي لتمسك الناس بهما وذلك يدلّ على بقائه على ما هو عليه في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون تحريف ونقصان وحيث إنّ حديث الثقلين متواتر وقطعي يقدم على كل خبر ورواية يدلّ على التحريف بنحو من الأنحاء كما لا يخفى.

ومما ذكر يظهر أن إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل وعليه فليس معنى جمع القرآن في عصر عثمان هو جمع الآيات والسور في مصحف بل المقصود من جمعه كما افاد السيد الخوئى قدس‌سره هو أنّه جمع المسلمين على قراءة واحدة وأحرق المصاحف الأخرى التى تخالف ذلك المصحف وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة وقد صرح بهذا كثير من أعلام اهل السنة قال الحارث المحاسبى المشهور عند الناس إنّ جامع القرآن عثمان وليس كذلك إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات. (٢)

ولم ينتقد على عثمان أحد من المسلمين وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين وتخريق صفوفهم وتفريق وحدتهم بل كان يؤدّي إلى تكفير بعضهم بعضا ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقيّة المصاحف وأمره أهالى الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين حتى سمّوه بحرّاق المصاحف. (٣)

وأيضا ينقدح مما تقدّم ضعف الاستدلال على التحريف بما ورد من أنّ عليا عليه‌السلام كان له

__________________

(١) البيان : ١٦٧ ـ ١٥٢.

(٢) الاتقان : ١ / ١٠٣.

(٣) البيان : ١٧٢ ـ ١٧١.

٦٧

مصحف مشتمل على التأويل والتنزيل وهو غير المصحف الموجود وقد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه. (١)

وفيه أوّلا : أنّه لا يقاوم ما عرفت من الأدلة الدالّة على عدم التحريف.

وثانيا : أنّ اشتمال مصحفه عليه‌السلام على التأويل والتنزيل لا يدلّ على زيادات آياته على المصحف الموجود لإمكان أن يكون مصحفه مشتمل على متن القرآن وشرحه من ناحية وقت نزولها ومورده وتأويل الآيات ومرجعها وغير ذلك ومن المعلوم أنّ القرآن المشتمل على المتن والشرح غير المصحف الموجود.

قال السيد الخوئي قدس‌سره إنّ اشتمال قرانه عليه‌السلام على زيادات ليست في القرآن الموجود وإن كان صحيحا إلّا أنّه لا دلالة في ذلك على أنّ هذه الزيادات كانت من القرآن وقد أسقطت منه بالتحريف بل الصحيح أنّ تلك الزيادات كانت تفسيرا بعنوان التأويل أو بعنوان التنزيل شرحا للمراد وأنّ هذه الشبهة مبتنية على أن يراد من لفظي التأويل والتنزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآنا واطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ حملا له على خلاف ظاهره إلّا أنّ هذين الإطلاقين من الاصطلاحات المحدثة وليس لهما في اللغة عين ولا أثر ليحمل عليها هذا اللفظان (التنزيل والتأويل) الواردان في الروايات الماثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام وإنّما التأويل في اللغة مصدر مزيد فيه وأصله الأول بمعنى الرجوع ومنه قولهم أوّل الحكم إلى أهله أي رده اليهم) وقد يستعمل التأويل ويراد منه العاقبة وما يؤول إليه الأمر ومنه قوله تعالى (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وقوله تعالى نبّئنا بتأويله) وقوله تعالى (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) وقوله تعالى (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) وغير ذلك من موارد استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم وعلى ذلك فالمراد بتأويل القرآن ما يرجع إليه الكلام وما هو عاقبته سواء كان ذلك ظاهرا يفهمه العارف باللّغة العربية أم كان خفيّا لا يعرفه إلّا الراسخون في العلم.

__________________

(١) مقدمه تفسير البرهان : ٢٧ ، تفسير الصافى : مقدمة السادسة ص ١١.

٦٨

وأمّا التنزيل ، فهو أيضا مصدر مزيد فيه وأصله النزول وقد يستعمل ويراد به ما نزل ومن هذا القبيل إطلاقه على القرآن في آيات كثيرة منها قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وعلى ما ذكرناه فليس كل ما نزل من الله وحيا يلزم أن يكون من القرآن ، فالّذي يستفاد من الروايات في هذا المقام أنّ مصحف علي عليه‌السلام كان مشتملا على زيادات تنزيلا أو تأويلا ولا دلالة في شيء من هذه الروايات على أنّ تلك الزيادات هي من القرآن إلى أن قال الالتزام بزيادة مصحفه بهذا النوع من الزيادة أي الزيادة في القرآن قول بلا دليل مضافا إلى أنّه باطل قطعا ويدلّ على بطلانه جميع ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن. (١)

ولا يخفى عليك أنّ التنزيل وإن كان اصطلاحا فيما نزل من القرآن لا يدل الخبر المذكور على الزيادة لما عرفت من إمكان أن يكون المراد أنّ مصحفه مشتمل على المتن والشرح والمتن منه هو التنزيل والشرح منه هو التفسير والتأويل ، وبالجملة هذا الخبر لا يدلّ على التحريف أصلا.

رابعا : بما أفاده شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنّ وقوع التحريف في القرآن على القول به لا يمنع من التمسك بالظواهر لعدم العلم الإجمالي باختلال الظواهر بذلك مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشبهة الغير المحصورة مع أنّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة أمكن القول بعدم قدحه لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلقة بالأحكام الشرعية العمليّة التى أمرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب فافهم. (٢) وتبعه المحقق الخراساني في الكفاية (٣)

وقوله فافهم لعله إشارة إلى المناقشات التي تكون حول المسألة وقد أوردها المحقق الأصفهاني قدس‌سره مع الجواب عنها في نهاية الدراية :

__________________

(١) البيان : ١٧٤ ـ ١٧٢.

(٢) فرائد الاصول : ٤٠.

(٣) كفاية : ٢ / ٦٤ ـ ٦٣.

٦٩

منها أنّ الخروج عن محل الابتلاء لا يجدي في رفع الإجمال عن بعض أطراف العلم وإن كان مجديا في عدم تنجز التكليف على خلاف الظاهر.

اجاب عنه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بأنّ الظهور الذاتي محفوظ في الجميع وإنّما المعلوم بالإجمال أنّ بعضها غير حجة لا لارتفاع ظهوره حيث لا يرتفع الظهور بعد انعقاده. اذ الواقع لا ينقلب عما هو عليه ولا يرتفع كشفه عن المراد الجديّ الذي هو ملاك الحجية أيضا بل حجيته لحجّة أقوى وإذا كان بعض الأطراف بنفسه غير حجّة (من جهة خروجه عن محل الابتلاء) فلا جرم لا علم إجمالى بورود الحجّة على خلاف الحجة هذا في القرينة المنفصلة ... وأمّا فى المتصلة فربّما يتوهم الفرق بين المجمل وغيره نظرا إلى سراية إجماله إلى الظاهر فلا ظهور كى يكون حجّة بخلاف غيره ...

وفيه أنّ الظهور الذاتى محفوظ حتى في المجمل والظهور الفعلي مرتفع حتى فى المبيّن والفرق بينهما بانعقاد الظهور الفعلي في غير الموضوع له إذا كان المتصل مبيّنا دون ما إذا كان مجملا والميزان في اتباع الظهور هو الفعلي وهو مشكوك في كليهما فلا بدّ من دعوى بناء العقلاء على المعاملة مع هذا العلم الإجمالي معاملة الشك البدوي نظرا إلى خروج أحد الظاهرين عن محل الابتلاء فالقرينة المحتملة هنا يبنى على عدمها فيتم الظهور الفعلي كما مرّ في غير ما نحن فيه. (١)

حاصله أنّ الظهور في آيات الأحكام التي تكون مورد الابتلاء منعقد ولا دليل على ارتفاعه بعد انعقاده وهكذا لا يرتفع كشفه عن المراد الجدّي بل تقديم المخالف عند ثبوته من باب تقديم أقوى الحجّتين وإذا كان بعض الأطراف خارجا عن الابتلاء فلا علم بوجود المخالف الأقوى حتى يتقدم على الظاهر بالفعل ولا فرق في ذلك بين أن يكون احتمال المخالف احتمال المنفصل أو احتمال المتصل لبناء العقلاء على المعاملة مع هذا العلم الإجمالي معاملة الشك البدوى وعليه فالعلم الاجمالي بوجوده مع كون أحد الظاهرين خارجا عن محل

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٦٥.

٧٠

الابتلاء لا يؤثر في حدوث الإجمال في الظاهر الذي يكون موردا للابتلاء والاحتمال يبنى على عدمه.

فتحصّل أنّ الخروج عن محل الابتلاء يجدي في رفع الإجمال عن بعض أطراف العلم الإجمالي كما يجدي في عدم تنجّز التكليف على خلاف الظاهر الذى يكون مورد الابتلاء.

ولكن يمكن أن يقال إنّ البناء دليل لبّى وثبوته في مورد الكلام يحتاج إلى الإحراز.

نعم يمكن أن يقال بقيام الدليل التعبدى على الحجّية وهى الروايات الدالّة على وجوب عرض الأخبار المتعارضة بل مطلق الأخبار على كتاب الله وعلى ردّ الشروط المخالفة للكتاب والسنة فإنّ هذه الروايات قد صدرت عن الصادقين عليهما‌السلام بعد التحريف على تقدير تسليم وقوعه. فيعلم من هذه الروايات أنّ التحريف على تقدير وقوعه غير قادح في الظهور. (١) وقال سيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره وبالجملة قد وقع التعبد بالأخذ بظاهر الكتاب وهذا يكفى في جواز الأخذ ولو احتمل وقوع التحريف واقعا نظير التعبد بسائر الحجج الشرعية في الظاهر مع احتمال كون الواقع على خلافها ولعل المصلحة فيه غلبة مصادفة هذه الظواهر مع الواقع فتامّل جيّدا. (٢)

التنبيه الرابع :

أنّه قد عرفت حجيّة الظهورات في تعيين المرادات من دون تفاوت بين مواردها وعليه فمع العلم بالظهورات وإرادتها فلا إشكال وأمّا مع عدم العلم بهما فإن كان لأجل احتمال وجود القرينة معه بحيث لو كان الكلام مقترنا مع القرينة فلا ظهور للكلام ، فحينئذ ربّما يقال بأنّ المقام يقتضي التمسك بأصالة الظهور لا بأصالة عدم وجود القرينة بدعوى أنّ العقلاء لا اعتناء لهم باحتمال وجود القرينة بل يأخذون بأصالة الظهور.

يمكن أن يقال : لا مجال للأخذ بأصالة الظهور مع احتمال اقتران الكلام مع وجود القرينة إذ

__________________

(١) مصباح الاصول : ٢ / ١٢٤.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ١٠٣.

٧١

مع احتمال الاقتران لا علم بالظهور فاللازم فيه هو أن يرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم وجود القرينة والاقتران المذكور فمع البناء على عدم وجود الاقتران المذكور يتحقق الظهور فيؤخذ به ففي مثله يرجع الأصالة الوجودية إلى الأصالة العدمية ومما ذكر يظهر ما في الكفاية من أنّ الظاهر أنّه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء لا أنّه يبنى عليه بعد البناء على عدمها كما لا يخفى ، فافهم. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ مع عدم جريان أصالة عدم وجود الاقتران المذكور لا مجال لانعقاد الظهور حتى يؤخذ به كما لا مجال للأخذ بأصالة الظهور مع احتمال غفلة المتكلم عن مراده بل اللازم هو الرجوع إلى أصالة عدم الغفلة قبل الأخذ بأصالة الظهور كما لا يخفى.

وإن كان عدم العلم بالظهور وإرادته من جهة احتمال وجود القرينة منفصلا عن الكلام فالحق هو انعقاد الظهور إذ المانع المنفصل لا يمنع عن الظهور بل الحق أنّه لا يمنع عن كشفه عن المراد إذ المانع عن إرادته ليس بوجوده الواقعي بل بوجوده الواصل والمفروض أنّه لم يصل ففي هذه الصورة يؤخذ بأصالة الظهور ولا حاجة إلى رجوعها إلى أصالة عدم وجود المانع لأنّ المانع عند العقلاء هو الكاشف الأقوى الواصل فمع عدم وصوله الوجداني لا مانع قطعا فيؤخذ بأصالة الظهور ولو فيما لا تجري فيه أصالة عدم القرينة كما إذا كان الشك في قرينية المنفصل.

وإن كان عدم العلم بالظهور والإرادة من جهة احتمال قرينيّة الموجود في الكلام فلا أصل في المقام إذ مع احتمال قرينيّة الموجود لا ينعقد الظهور فلا مجال للأخذ بأصالة الظهور كما لا مجال لأصالة عدم قرينيّة الموجود إذ لا حالة سابقة لها بل يعامل معه العقلاء معاملة المجمل وإن أمكن التعبد بأصالة الظهور ولكنه لم يثبت.

فتحصّل أنّ إطلاق القول برجوع الاصول الوجودية إلى الاصول العدمية أو إطلاق القول بعدم الرجوع إليها لا يخلو عن النظر بل الصحيح هو التفصيل بحسب الموارد كما عرفت.

__________________

(١) كفاية : ٢ / ٦٥.

٧٢

وإن كان عدم العلم بالظهور ناشئا عن الشك في الموضوع له لغة أو الشك في المفهوم من اللفظ عرفا فلا دليل على تعيين شيء بمجرد الظنّ فإنّ الأصل يقتضى عدم حجيّة الظنون خرج منه الظنون المتيقنة استفادتها من الألفاظ وأمّا الظنون غير المتيقنة استفادتها فلا دليل على اعتبارها.

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : والأوفق بالقواعد عدم حجيّة الظنّ هنا لأنّ الثابت المتيقّن هى حجيّة الظواهر وأمّا حجيّة الظن في أنّ هذا ظاهر فلا دليل عليه. (١)

وذلك واضح فإنّ مع عدم العلم بالظهورات فلا يجوز التمسّك بما دلّ على حجيّة الظواهر فإنّه تمسّك بالعام في الشبهات الموضوعية كما لا يخفى.

هذا بناء على ما ذهب إليه المحقّقون كالشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني من وجود بناء العقلاء على عدم وجود القرينة فيما إذا شكّ في وجود القرينة مطلقا ولكن استشكل سيدنا الاستاذ المحقق الداماد في محكي كلامه في تحقق بناء العقلاء اذا وصل إلى غير المقصود بالإفهام كلام المتكلم ولو كان بألفاظه كما إذا كان بالكتابة في قرطاس واحتمل وجود القرينة بينه وبين المقصود بالإفهام ولم يكن في البين ما يوجب الاطمئنان بعدمها كما في المكاتبات والمكالمات الرمزيّة السرّية التى كان البناء فيها على إخفاء المطالب الواقعية إذ ليس أصالة عدم وجود القرينة أصلا متبعا عند العقلاء في هذا المورد. (٢)

ويمكن أن يقال إنّ الإشكال المذكور فيما إذا لم يكن المقصود بالإفهام ناقلا لغيره بعنوان الوظيفة العامة وإلّا فلا مجال للإشكال في وجود البناء كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الاصول : ٤٥.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقق الداماد ٢ / ٩٥ ـ ٩٦.

٧٣

الخلاصة

الظّهورات اللفظيّة

في الأمارات التي ثبتت حجّيتها بالأدلّة أو قيل بثبوتها.

وأعلم أنّ الأصل ، هو عدم حجّيّة الظنّ وحرمة التعبّد به ، ولكن يخرج عن هذا الأصل عدّة من الظّنون من جهة قيام الأدلّة على حجيّتها ، وهي كما تلي :

ولا يخفى أنّ الظّهورات الكلاميّة حجّة عند العقلاء ، ولذا يحكمون بوجوب اتّباعها في تعيين المرادات واستقرّ بنائهم عليها في جميع مخاطباتهم من الدعاوى والأقارير والوصايا والشّهادات والإنشاءات والإخبارات.

وليست طريقة الشّارع في إفادة مراداته مغايرة لطريقة العقلاء في محاوراتهم ، بل هي هي لأنّه يتكلّم مع النّاس بلسانهم ويشهد له إرجاعات الشّارع إلى الظّهورات واحتجاجاته بها ثمّ إنّ الظّهورات الكلاميّة تتحقّق من ظهور المفردات والهيئات التركيبية في معانيها من دون فرق بين كون ذلك بالوضع أو القرائن المتّصلة المذكورة في الكلام أو بالقرائن الحالية المقرونة وغير ذلك.

ولو شكّ في استعمال كلمة في معناها الوضعي أم لا فمقتضى أصالة الحقيقة هو استعمالها فيه فيتحقّق ظهور الكلمة فيه بأصالة الحقيقة.

ولو شكّ في وجود القرينة على خلاف المعنى الموضوع له وعدمه فمقتضى أصالة عدم القرينة هو العدم ، فيتحقّق الظّهور بأصالة عدم القرينة.

ولو شكّ في التخصيص أو التقييد فمقتضى أصالة العموم أو الاطلاق هو ظهور الكلام في العموم والاطلاق بتلك الاصول.

ولو شكّ في الخطأ والسهو والنسيان فمقتضى اصالة العدم هو الظّهور وعدم حدوث هذه الامور.

ولو شكّ في أنّ هذه الظّهورات مرادة بالارادة الجدّية أو لا ، فمقتضى أصالة التطابق بين الارادة الاستعماليّة والجدّية هي ارادتها جدّا.

٧٤

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الحجّيّة لا تختص بالمعاني الحقيقيّة بل المعاني المجازيّة التي تستفاد من الكلام بالقرينة تكون حجّة أيضا لأنّ الملاك في الحجّيّة هو الظّهورات وهي موجودة فيها.

ثمّ لا فرق في الحجّيّة في الظّهورات بين من قصد افهامه وغيره ما لم يقم قرينة على اختصاص الحكم بمن قصد افهامه.

كما لا تفاوت في الحجّيّة بين أن تكون النّصوص شرعية أو عرفية ، ولا بين الشّرعية أن تكون النّصوص قرآنيّة أو روائيّة.

ولكن مع ذلك اختلف في بعض الأمور المذكورة ، فالأولى هو أن نذكر بعض تلك الموارد مع الجواب عنه ونقول بعون الله وتوفيقه يقع الكلام في أمور :

الأمر الأوّل :

أنّ المحكى عن المحقق القمّي قدس‌سره هو اختصاص حجّيّة الظّهورات الكلاميّة بمن قصد إفهامه وهذه الظّهورات المقصودة بالافهام على قسمين أحدهما الخطابات الشّفاهية الّتي كان المقصود منها افهام المخاطبين بها ، وثانيهما الكتب المصنفة لرجوع كل ناظر إليها وأما الأخبار الواصلة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الأطهار عليهم‌السلام بعنوان الجواب عن الأسئلة أو الكتاب العزيز فالظهور اللفظي الحاصل منهما ليس حجّة لنا إلّا من باب الظّنّ المطلق الثابت حجّيته عند انسداد باب العلم لعدم كوننا مقصودين بالافهام فيهما فان المقصودين من الافهام في القرآن أهل البيت عليهم‌السلام وهكذا المقصودين من الافهام في الاجوبة المذكورة هم الذين سألوا وبعبارة اخرى ادعى المحقق القمّي امرين ، أحدهما أنّ الأخبار الواصلة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بعنوان السؤال والجواب وهكذا الكتاب العزيز ليست كالمؤلفات حتى نكون من المقصودين بالافهام فيها.

وثانيهما أنّه لا تجري الأصول العقلائيّة كأصالة عدم القرينة في ظواهر الكلمات والجملات بالنّسبة إلى غير المقصودين بالافهام لاختصاص تلك الاصول بامور جرت العادّة بأنّها لو كانت لوصلت إلينا دون غيرها ممّا لم يكن كذلك وعليه فلا دليل على عدم

٧٥

الاعتناء باحتمال إرادة الخلاف إذا كان الاحتمال المذكور مسببا عن اختفاء امور لم يجر العادة القطعيّة أو الظنيّة بأنها لو كانت لوصلت إلينا.

يمكن أن يقال أوّلا : إنّا نمنع عدم كون الأخبار الواصلة كالكتب المؤلفة فإنّها وإن كانت كثيرا ما بعنوان الأجوبة عن الأسئلة ولكن تكون في مقام بيان وظائف النّاس من دون دخالة لخصوصيّة السائلين ولا لعصر دون عصر سيما إذا كان السؤال من مثل زرارة ومحمّد بن مسلم فأنّهما في مقام أخذ الجواب لصور المسائل بنحو يكون من القوانين الكلّية وأيضا نمنع اختصاص الظّهورات القرآنيّة لقوم دون قوم بعد جريان القرآن كمجرى الشمس ويشهد لذلك دعوته جميع النّاس في كل عصر إلى التدبّر في آياته والاتّعاظ بمواعظه فكما تكون في الكتب المؤلفة من المقصودين بالافهام فكذلك بالنّسبة إلى الأخبار المذكورة والقرآن الكريم.

وثانياً : إنّا ننكر عدم حجّيّة الظّهورات اللّفظية بالنّسبة إلى غير المقصودين بالافهام ما لم يحرز أنّ بناء المتكلم على القاء الرّموز والاكتفاء بالقرائن الخفية المعلومة بين المتكلم والسامع لجريان أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام أيضا عند العقلاء ويشهد لذلك سيرة أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام فإنّهم كانوا يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم كما يعملون بما يسمعون من أئمّتهم عليهم‌السلام.

فما ذهب إليه المحقّق القمّي محل منع صغرى وكبرى ، أما الصغرى فلما عرفت من أنّا من المقصودين بالافهام وأمّا الكبرى فلما ذكرنا من جريان أصالة عدم القرينة بالنّسبة إلى غير المقصودين بالافهام عند العقلاء فلو سلمنا أنّا غير مقصودين بالافهام لكانت الظّهورات حجة لنا أيضا.

ودعوى اتكال الأئمّة عليهم‌السلام على القرائن المنفصلة مندفعة بأنّه وإن كانت صحيحة إلّا أنّه لا يقتضي اختصاص حجّيّة الظّهورات بمن قصد افهامها بل مقتضاه هو الفحص عن القرائن ومع عدم الظّفر يؤخذ بالظهورات.

٧٦

واحتمال التقطيع لا يمنع عن انعقاد الظّهور بعد كون المقطعين عارفين بأسلوب الكلام العربي وملتزمين برعاية الأمانة.

لا يقال لا يمتنع أن ينصب المتكلم قرينة لا يعرفها سوى من قصد افهامه وعليه فلا يمكن لمن لم يقصد افهامه ان يحتج بكلام المتكلم على تعيين مراده إذ لعلّه نصب قرينة خفيّة عليه علّمها المخاطب فقط لأنّا نقول إنّ محل الكلام فيما إذا صدر من المتكلم كلام متوجّه إلى مخاطب لا بما هو مخاطب خاص كما هو المفروض فإنّ غرض الشّارع ليس إلّا بثّ الأحكام بين النّاس فلا مجال لاحتمال الرّموز المانع من النّشر والبثّ كما لا يخفى.

وفي مثل هذا المورد لا يبعد دعوى البناء على عدم القرينة بعد الفحص ولا حاجة إلى حصول الاطمئنان بعدم وجود القرينة كما يظهر من سيدنا الأستاذ المحقق الداماد قدس‌سره فلا تغفل.

الأمر الثّاني :

أنّ المناط في حجّيّة الكلام واعتباره هو ظهوره عرفا في المراد الاستعمالي والجدّي ولو كان هذا الظّهور مسبّبا عن القرائن الموجودة في الكلام وهذا هو الذي بنى عليه العقلاء في إفادة المرادات بين الموالي والعبيد وغيرهم من أفراد الإنسان.

ولا يشترط في حجّيّة الظّهور المذكور حصول الظّنّ الشّخصي بالوفاق أو عدم قيام الظّنّ غير المعتبر على الخلاف بل هو حجّة ولو مع قيام الظّنّ غير المعتبر على الخلاف أو عدم حصول الظنّ بالوفاق ولذا لا يعذّر عند العقلاء من خالف ظاهر الكلام من المولى بأحد الأمرين.

ودعوى أنّ توقّف الأصحاب في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرح الخبر المذكور مع اعترافهم بعدم حجّيّة الشهرة يشهد على أنّ حجّيّة الظّهورات متوقفة على عدم قيام الظنّ غير المعتبر على خلافها.

مندفعة بأنّ وجه التوقّف أو الطرح مزاحمة الشهرة للخبر من حيث الصّدور إذ

٧٧

لا يحصل الوثوق بالصدور مع مخالفة المشهور مع أنّ الوثوق بالصدور لازم في حجّيّة الخبر لا مزاحمة الشهرة للخبر من جهة الظّهور كما هو محل الكلام.

وهذا واضح فيما إذا كان المطلوب هو تحصيل الحجّة والأمن من العقوبة لوجود بناء العقلاء على كفاية العمل بالظواهر مطلقا.

وأمّا إذا كان المطلوب هو تحصيل الواقع لا الاحتجاج كما إذا احتمل المريض إرادة خلاف الظّاهر من كلام الطبيب لا يعمل بمجرّد الظّهور ما لم يحصل الاطمئنان الشخصي بالواقع ولكنّه خارج عن محل الكلام.

وهكذا الظّهورات الواردة في غير الأحكام الشرعيّة كالامور الواقعيّة يكون اللّازم في اعتبارها هو حصول الاطمئنان الشخصي بالامور المذكورة إذ لا معنى للتعبّد بالنّسبة إليها إلّا إذا أدرجت في موضوع الأحكام كالإخبار بها عن الله سبحانه وتعالى في يوم القيامة فحينئذ يصحّ التعبّد بها بهذا الاعتبار كما لا يخفى.

ثمّ إنّ محلّ الكلام فيما إذا انعقد الظّهور فلا يتوقّف اعتباره على وفاق الظنّ الشخصي ولا على عدم قيام الظنّ غير المعتبر على خلافه.

وأمّا إذا اكتنف الكلام بما يصلح أن يكون صارفا عن الظّهور فلا ظهور حتّى يكون حجّة نعم لو لم يكتنف ما يصلح أن يكون صارفا بالكلام انعقد الظّهور ويحكمون بنفي احتمال الانصراف وارتفاع الإجمال كما إذا قال المولى أكرم العلماء ثمّ ورد قول آخر من المولى لا تكرم زيدا واشترك الزيد بين العالم والجاهل فلا يرفع اليد عن ظهور العام في العموم وشموله لزيد العالم بمجرد صدور لا تكرم زيدا بل يرفعون الإجمال بواسطة العموم ويحكمون بأنّ المراد من قوله لا تكرم زيدا هو الجاهل منهما.

ثمّ إنّ الظّهورات الكلاميّة وإن كانت من الظّنون ولكن حجّيّتها شرعا من الضروريّات إذ لا طريق للشارع في إفادات مراده إلّا ما بنى عليه العقلاء في تفهيم مقاصدهم من الظّهورات وعليه فظنّية الظّهورات لا تنافي قطعيّة اعتبارها.

٧٨

وإذا اتّضح ذلك فالآيات الناهية عن العمل بالظنّ منصرفة عن العمل بالظهورات المذكورة لأنّ الأخذ بها أخذ في الحقيقة بالقطع والضرورة.

ثمّ لا يذهب عليك بعد ما عرفت من حجّيّة الظّهور العرفي أنّ الظّهور العرفي لا يتعدّد بتعدّد الآحاد والأشخاص لتقوم الظهور العرفي باستظهار نوع الأفراد وهو غير قابل للتعدّد نعم يمكن الاختلاف بين الآحاد في كون شيء أنّه ظاهر في ذلك عرفا أو غير ظاهر.

بأن يدّعى كلّ واحد من طرفي الاختلاف ظهور الكلام عرفا فيما ادّعاه وحينئذ يمكن تعدّد دعوى الظّهور العرفي ولكنّ الظّهور العرفي بحسب واقع العرف واحد والحجّيّة مخصوصة به.

وممّا ذكر يظهر عدم صحّة ما يتوهّم في زماننا هذا من حجّيّة الظنّ الشخصي في الألفاظ والعبارات ولو مع عدم مراعاة القواعد الأدبيّة والعقلائيّة بدعوى أنّ لكلّ شخص استظهارا. وهو حجّة له ضرورة اختصاص أدلّة اعتبار الظّهورات بالظهورات العرفيّة لا الشخصيّة وللظهورات العرفيّة قواعد وضوابط ينتهي ملاحظتها وإعمالها إلى الظّهور النوعي.

ودعوى أنّ التفسيرات المختلفة من القرآن الكريم تؤيّد حجّيّة الظّهورات الشخصيّة مندفعة ، بأنّ التفسيرات المختلفة إن أمكن إرجاعها إلى معنى جامع فهو ظهور عرفي وإن لم يمكن ذلك فليس كلّها بصحيح بل الصحيح هو واحد منها وهو ما يستظهر بالاستظهار العرفي والبقية من التفسير بالرأي وهو منهي عنه بالأخبار القطعيّة.

ربما يقاس جواز الأخذ بالظّنون الشخصيّة بجواز الأخذ بالقراءات المختلفة للقرآن الكريم ولكنّه مع الفارق فإنّ القراءات المختلفة وإن لم تكن جميعها بصحيحة ومطابقة للواقع لأنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن قامت الأدلّة الخاصّة على جواز الاكتفاء بواحد منها تسهيلا للأمر هذا بخلاف المقام فإنّه لا دليل على جواز الاكتفاء بالظنّ الشخصي.

وفي الختام أقول وليس المدّعى عدم لزوم التعمّق الزائد حول النصوص والظواهر

٧٩

العرفيّة لكشف المطالب والاستنباط بل هو لازم بتأكيد ولكن الواجب هو مراعاة القواعد الأدبيّة والاصول العقلائيّة وإلّا فمع عدم مراعاتها لا حجّيّة لتلك الظّنون كما لا يخفى.

الأمر الثالث :

أنّه لا فرق في حجّيّة الظّهورات بين المحاورات العرفيّة وبين النقلية الشرعية كما لا تفاوت في النقليّة بين الظّهورات القرآنيّة وبين الظّهورات الحديثيّة.

وذلك لعموم دليل حجّيّة الظّهورات وهو بناء العقلاء والمفروض أنّ الشّارع لم يخترع طريقا آخر لإفادة مراداته.

ولكن ذهب جماعة من الأخباريّين في الأعصار الأخيرة إلى عدم جواز الأخذ بظهورات الكتاب العزيز فيما إذا لم يرد التفسير عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام واستدلّوا لذلك بوجوه :

منها : الأخبار الدالّة على اختصاص فهم القرآن بالنبيّ والأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم ، ومن جملة هذه الأخبار خبر زيد الشحّام عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال في حديث له مع قتادة المفسّر ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به. (١)

بدعوى أنّ مع اختصاص فهم القرآن بهم عليهم‌السلام لا مجال للاستظهار من الآيات الكريمة لغيرهم ومع فرض الإمكان لا حجّيّة له.

ويمكن الجواب أوّلا : بأنّ المراد من الاختصاص المذكور هو اختصاص فهم القرآن وهو لا ينافي إمكان الاستظهار من جملة من الآيات وحجّيّتها بعد الاستظهار مع مراعاة شرائط الحجّيّة كالفحص عن القيود وملاحظة القرائن المتّصلة والمنفصلة.

وردع الإمام عليه‌السلام لمثل أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى بظاهر القرآن يرجع إلى ردعه عن الاستقلال في الفتوى من دون مراجعة إلى أهل البيت عليهم‌السلام أو من دون ملاحظة القرائن المتّصلة والمنفصلة.

__________________

(١) روضة الكافي : ٣١٢.

٨٠