عمدة الأصول - ج ٥

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٨

الشك فيهما شك في الزائد على المقدار العلم الاجمالي ، وهو محل البراءة من دون كلام.

فالأولى في نفي وجوب الاحتياط العسري هو الاتكال الى الوجهين الأولين ؛ فان رفع الحكم العقلي بوجوب الموافقة القطعية لا يوجب رفع التكليف الواقعي وإن صح الحكم بنفي التكليف في موارد الشك والوهم مع بقاء وجوب الاحتياط في موارد الظن ؛ لبقاء وجود العلم الاجمالي بين خصوص موارد الظن ، فلا تغفل.

أـ وأمّا عدم جواز الرجوع الى فتوى الغير فهو واضح ضرورة أنه لا يجوز ذلك إلّا للجاهل لا للفاضل الذي اعتقد خطأ المجتهد الذي يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي ، بل رجوعه اليه من قبيل رجوع العالم الى الجاهل.

ب ـ وهكذا لا مجال للرجوع الى القرعة في الشبهات الحكمية ؛ لاختصاصها بالشبهات الموضوعية في الجملة ، كما لا يخفى.

ج ـ وأمّا عدم جواز الرجوع الى الاصول العملية ، فان كان الأصل مثبتا للتكليف ولم يكن من الاصول المحرزة كاصالة الاشتغال فلا مانع من الرجوع إليها ؛ لعدم منافاتها مع العلم الاجمالي ، بل هي مساعدة معه.

د ـ وإن كان الاصل مثبتا للتكليف وكان من الاصول المحرزة كالاستصحاب المثبت للتكليف فهو على قسمين :

أحدهما : ما إذا لم يعلم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة فيه ، كما اذا كان الكأسان نجسين ولم يعلم تطهير أحدهما فلا مانع من جريان استصحاب النجاسة وجواز الرجوع اليه ، كما لا يخفى.

وثانيهما : هو ما اذا علم اجمالا بالانتقاض ، كما اذا كان الكأسان نجسين وعلم بتطهير أحدهما ، وحينئذ فان قلنا بأنّ المانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي هو لزوم المخالفة العملية فلا مانع من جريان الاستصحاب في المقام ؛ لعدم لزوم المخالفة العملية مع فرض كون الاستصحاب مثبتا للتكليف.

٣٦١

وإن قلنا بأنّ المانع هو نفس العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة ولو لم يلزم المخالفة العملية ، فلا يجري الاستصحاب المثبت للتكليف في المقام ؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في الجملة ، كما هو المفروض.

والمقرر في محله أن الجملة الثانية في حديث لا تنقض وهو قوله (ولكن تنقضه بيقين آخر) تأكيد للجملة الاولى ؛ لظهور الجملة الثانية في كون اليقين الآخر يقوم مقام الشك ، ومن المعلوم أنّ الذي يقوم مقام الشك هو اليقين التفصيلي ، لا اليقين الاجمالي ؛ لانه مشوب بالشك ، وعليه فمقتضى دليل الاستصحاب هو عدم جواز نقض اليقين بالشك مطلقا سواء كان مقرونا بالعلم الاجمالي أولا ، ومع الاطلاق المذكور يجري الاستصحاب مع العلم الاجمالي بالانتقاض أيضا ، ولا يلزم من ذلك التناقض في مدلول دليل الاستصحاب ؛ إذ العلم الاجمالي على الفرض المذكور ليس بناقض ، وانّما الناقض هو اليقين التفصيلي ، والمفروض أنّه مفقود في المقام.

هذا ، مضافا الى ما أفاده في الكفاية من أنه لا مانع من جريان الاستصحاب حتى على القول بأنّ العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب ولو لم يلزم منه مخالفة عملية ، بدعوى تناقض حرمة النقض في كل واحد من الاطراف بمقتضى قوله (لا تنقض) مع وجوب النقض في البعض كما هو قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر) ، وذلك لأنّ الاستنباط تدريجي ، والمجتهد لا يكون ملتفتا الى جميع الاطراف دفعة ليحصل له الشك الفعلي بالنسبة الى جميع الاطراف ، ويكون جريان الاستصحاب في جميع الاطراف في عرض واحد موجبا للعلم الاجمالي بالانتقاض ، ومع العلم الاجمالي بالانتقاض يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له.

وبالجملة فمع فرض صحة هذا القول ليس له صغرى في المقام مع عدم الالتفات الى جميع الاطراف. (١)

__________________

(١) راجع الكفاية : ج ٢ ص ١٢١ ـ ١٢٢.

٣٦٢

ولكن يشكل ذلك بما في مصباح الاصول من أن الاستنباط وإن كان تدريجيا والمجتهد لا يكون ملتفتا الى جميع الشبهات التي هي مورد الاستصحاب دفعة ، إلّا أنّه بعد الفراغ عن استنباط الجميع وجمعها في الرسالة مثلا يعلم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد التي جرى فيها الاستصحاب ، فليس له الافتاء بها. (١)

فالعمدة هو ما عرفت من أن العلم الاجمالي بالانتقاض لا يمنع عن جريان الاستصحاب ؛ لانّ الناقض المذكور في دليل الاستصحاب هو العلم التفصيلي لا العلم الاجمالي ، وعليه فلا مانع من الرجوع الى الأصول العملية المثبتة ، فالقول بعدم جواز الرجوع الى الاصول العملية ولو كانت مثبتة غير سديد. اللهمّ إلّا أن يقال : أن منظور الانسدادي من عدم الرجوع الى الاصول هي الاصول العملية النافية.

ه ـ وإن كان الأصول العملية نافية فالرجوع اليها ممنوع فيما اذا كان في الرجوع إليها محذور الخروج عن الدين أو الاهمال بالنسبة الى التكاليف الواقعية المعلومة ، كما هو الظاهر لكثرة الاصول النافية ، نعم لو لم يكن في الرجوع إليها محذور الخروج عن الدين وكان العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية منحلا مع العلم بموارد التفصيل بضميمة موارد جريان الاصول المثبتة للتكليف ، فلا مانع من الرجوع الى الاصول النافية ، ولكن ذلك مجرد فرض ؛ لانّ موارد العلم الاجمالي أكثر من موارد المعلوم بالتفصيل ولو بضميمة موارد الاصول المثبتة ، ومعه فلا يجوز الرجوع الى الاصول النافية ، للزوم المخالفة العملية مع العلم الاجمالي بالتكليف.

هذا ، مضافا الى لزوم المناقضة من شمول (لا تنقض) عند من يجعل المانع هو المناقضة في المدلول.

ودعوى : عدم كون الشك فعليا إلّا في بعض أطرافه وكان بعض اطرافه الآخر غير ملتفت اليه فعلا اصلا كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام ، فلا يكاد يلزم المناقضة

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٢٨.

٣٦٣

من جريان حديث (لا تنقض) في أطراف المعلوم بالاجمال ؛ فانّ قضية (لا تنقض) ليس إلّا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك ، وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له. (١)

مندفعة : بما مر آنفا من أن الاستنباط وإن كان تدريجيا إلّا أنّ المفتي بعد الفراغ عن استنباط جميع ما في رسالته يعلم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض موارد جريان الاستصحاب. ومقتضاه هو الكشف عن عدم شمول دليل الاستصحاب لتلك الموارد.

وكيف ما كان فلا يجوز الرجوع الى الاصول النافية مع لزوم المخالفة العملية من جريانها ، مضافا الى لزوم المناقضة في مدلول دليل الاستصحاب بناء على أن الناقض أعم من العلم الاجمالي.

ربما يقال : أن عدم جواز الرجوع الى الاصول النافية صحيحة فيما اذا دار الامر بين المظنونات والمشكوكات والموهومات ، بخلاف ما اذا قلنا بأنّ دائرة الاحتياط بين المظنونات ؛ فانه يجوز الرجوع في غيرها الى الاصول النافية.

وتوضيح ذلك : أن بعد ما كانت موضوعات التكاليف في موارد الظن والشك والوهم بها مختلفة ، ففي موارد الظن الشاملة للشهرات والاجماعات المنقولة وأخبار الثقات ونحوها يحصل علم اجمالي بانطباق كثير من هذه الظنون على الواقع ووجود تكاليف الزامية فيها ، والعقل يحكم بالاحتياط فيها.

وهذا بخلاف موارد الشك والوهم في التكليف فلا علم اجمالا ولو بتكليف واحد فيها ، فالعلم الاجمالي الكبير منحل بالعلم الاجمالي في خصوص دائرة المظنونات والشك البدوي في غيرهما ، وحينئذ العقل يحكم بالاحتياط في المظنونات والبراءة في غيرها ، ولا يلزم حينئذ عسر ولا حرج.

ولازمه وإن كان الاحتياط في ظن التكليف لكنه لا من ناحية تمامية دليل الانسداد ، بل

__________________

(١) راجع الكفاية : ج ٢ ص ١٢٢.

٣٦٤

ببركة انحلال العلم الاجمالي الكبير وحكم العقل بالاحتياط في المظنونات (١) ، ويجوز حينئذ الرجوع الى الاصول النافية في غير دائرة المظنونات ؛ لانّ الشك فيها شك بدوي ، ولا يلزم من جريان الاصول النافية فيها خروج عن الدين أو مخالفة عملية ؛ لعدم العلم بالتكليف في دائرة المشكوكات والموهومات بعد انحلال المعلومات بالاجمال في دائرة المظنونات.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه لا دليل على انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف في الدائرة الكبيرة بمجرد احتمال انطباقه مع العلم الاجمالي في دائرة المظنونات التي لا دليل على اعتبارها ؛ لمعارضة هذا الاحتمال باحتمال الانطباق ولو بالنسبة الى بعضها في طرف المشكوكات والموهومات ، فدعوى انطباق المعلوم بالاجمال على خصوص العلم الاجمالي في طرف المظنونات بحيث لا يحتمل انطباقه ولو بعضها على طرف الآخر من المشكوكات والموهومات كما ترى ؛ إذ لا ترجيح بينهما بعد عدم اعتبارهما ، فتأمّل.

وأمّا المقدمة الخامسة فلا كلام بالنسبة اليها ؛ لانّ كل مورد يدور الامر فيه بين ترجيح المرجوح على الراجح أو العكس يحكم العقلاء بلزوم ترجيح الراجح على المرجوح وقبح العكس ، وهذه كبرى ثابتة عند العقل والعقلاء.

وحينئذ مع فرض تمامية مقدمات الانسداد ودوران الامر في المقام بين ترجيح الامتثال الظني وبين ترجيح الامتثال الشكي أو الوهمي فلا اشكال في تقديم ترجيح الامتثال الظني على الامتثال الشكي أو الوهمي للقاعدة المذكورة ؛ إذ المفروض أنه لا طريقة للشارع في الامتثال غير طريقة العقلاء ، وعليه فاللازم بعد الاخذ بالعلم التفصيلي والاصول المثبتة هو الرجوع الى التكاليف المظنونة دون المشكوكة أو الموهومة ، هذا اذا لزم من الاحتياط في جميع الاطراف عسر وحرج كما هو المفروض. وإلّا فاللازم هو الاحتياط التام في جميع الاطراف لبقاء العلم الاجمالي بالتكاليف.

ولكن الكلام في تمامية المقدمات المذكورة بالنسبة الى المقام.

__________________

(١) راجع تسديد الاصول : ج ٢ ص ١١٦.

٣٦٥

وقد عرفت في المقدمة الثانية أن العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة ينحل بالعلم الاجمالي في الدائرة الصغيرة ، وهي دائرة الاخبار ؛ إذ مع حجية الأخبار والعلم بوجود تكاليف فعلية بها بمقدار المعلوم بالاجمال لا يبقى علم بالتكليف في غيرها ، فيجوز الرجوع فيه الى الاصول العملية النافية ، فلا يدور الامر بين الامتثال الظني والامتثال الشكي أو الوهمي حتى يلزم ترجيح الظني على غيره ، بل اللازم هو الاخذ بمفاد الاخبار بعد ثبوت حجيتها ، فمع عدم الدوران بين الراجح والمرجوح فلا مجال لتطبيق كبرى قبح ترجيح المرجوح على المقام ، كما لا يخفى. هذا مضافا الى أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح فيما اذا لم يكن المرجوح من ناحية اخرى ففي مثل المقام وأن كان الظن بالنسبة الى الاحتمال والوهم راجحا ولكن ربما يكون المحتمل اقوى واهم من الظنون بحسب الملاك بحيث يجب مراعاته فمجرد الدوران بين الظن والشك لا يوجب ترجيح الظن على الشك بل يتوقف التقديم على اثبات ان المحتمل ليس باقوى واهم من الظنون بحسب الملاك وإلّا فالمقدم هو المحتمل فلا ينتج المقدمات ترجيح الظن في مطلق موارد دوران الامر بين الظن والشك ، او الوهم. فالاولى هو اضافة مقدمة اخرى على المقدمات وهي أن المحتمل والمشكوك ليس بحسب الملاك اقوى واهم من الظن فلا تغفل.

وبالجملة فمع ثبوت حجية الأخبار الآحاد وانحلال العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية فيها لوفائها بها لا مجال لدليل الانسداد في المقام ، كما لا يخفى.

نعم ربما تتم مقدمات دليل الانسداد في غير المقام من موارد الامتثال. كما اذا ترددت القبلة بين الجهات الاربعة وظن بها في بعضها المعين ولم تقم بينة على طرف منها ولم يجر اصل محرز في طرف منهما ولم يمكن الاحتياط لضيق الوقت ، فمع تنجز التكليف وعدم الانحلال وعدم امكان الاحتياط يتعين الاخذ بالظن ؛ لقبح ترجيح المرجوح على الراجح في مقام الامتثال.

وهكذا يمكن التمسك بدليل الانسداد في الظنون الرجالية أو اللغوية وغيرهما إذا تمت المقدمات فيها ، فتدبّر جيدا.

٣٦٦

فتحصّل : أن الظن المطلق لا دليل على حجيته بعد كون المفروض هو انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف الشرعية في دائرة الظنون الخاصة المعتبرة من الأخبار الآحاد ؛ لعدم تمامية مقدمات الانسداد بالنسبة الى الظن المطلق ، فلا تغفل.

٣٦٧

الخلاصة

ولا يخفى أن الظنّ المطلق يكون في مقابل الظنّ الخاص كالظنّ الحاصل من الخبر أو ظهورات الألفاظ والأدلّة التي مضت لحجّيّة الخبر من الآيات والرّوايات وغيرهما دلّت على حجّيّة الظنّ الخبري بخلاف أدلّة المقام فإنّها تدلّ على اعتبار الظنّ المطلق ولا نظر لها إلى خصوص الظنّ الخبري.

ثمّ إنّ الأدلّة التي اقيمت على حجّيّة الظنّ المطلق على قسمين :

الأوّل : ما لا يختصّ بزمان الانسداد بل يشمل زمان الانفتاح وزمان إمكان تحصيل العلم أو العلمي بالأحكام الواقعية.

والثاني : ما يختصّ بزمان انسداد باب العلم أو العلمي وهو الذي يعبّر عنه بالظنّ الانسدادي ولذا يقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل :

في الوجوه التي ذكروها لحجّيّة الظنّ المطلق من دون اختصاص لها بزمان الانسداد وهي متعدّدة :

الوجه الأوّل :

أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضرر وحيث إنّ دفع الضّرر لازم فالواجب حينئذ هو لزوم التبعيّة عما ظنّه من الحكم الإلزامي وهذا هو معنى الحجّيّة سواء كان زمان الانسداد أو زمان الانفتاح أورد عليه بأنّ الصغرى ممنوعة سواء كان المراد من الضّرر المظنون هو العقوبة أو المفسدة أمّا إذا كان المراد من الضرر المظنون هو العقوبة فلأنّ استحقاق العقوبة على الفعل أو الترك ليس ملازما للوجوب والتحريم بوجودهما الواقعي بل من آثار تنجيز التّكليف ولا ينجّز التّكليف إلّا بالوصول والظنّ غير المعتبر لا يكون وصولا كيف وقد يتحقّق التحريم الواقعي ومع ذلك نقطع بعدم العقاب كالحرام والواجب المجهولين جهلا بسيطا أو مركّبا بل استحقاق الثواب والعقاب إنّما هو على

٣٦٨

تحقّق الإطاعة والمعصية اللّتين لا يتحقّقان إلّا بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظنّ المعتبر بهما والظنّ غير المعتبر ليس وصولا لهما ومع عدم الوصول يقبح العقاب عليه لأنّه عقاب بلا بيان نعم لو لم نقل باستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان كان احتمال العقوبة في فرض الظنّ الغير المعتبر بالحكم موجودا ولكنّه كما ترى.

كلام حول حقّ الطّاعة

ربما يقال إنّ حقّ الطّاعة لله تعالى ثابت على عبيده وعلى هذا يحكم العقل بوجوب إطاعته ولو في موارد احتمال التّكليف وهذا الإدراك العقلي لا يختصّ بالتكاليف المعلومة بل هو موجود في المحتملات والمظنونات ما لم يرخص الشّارع في ترك التحفّظ والاحتياط وعليه فالبراءة العقليّة لا أصل لها لأنّه إذا كان حقّ الطاعة يشمل التكاليف المشكوكة فهو بيان رفع البيان فلا يكون عقاب الله للمكلّف إذا خالفها قبيحا لأنّ المكلّف يفرط في حقّ مولاه بالمخالفة فيستحقّ العقوبة ومع عدم جريان قاعدة قبح العقاب فاحتمال العقوبة موجود ومع وجود احتمال العقوبة في المظنونات والمشكوكات يجب رفعه لقاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل أو المظنون ويتمّ البرهان.

ويمكن الجواب بأنّ كبرى لزوم إطاعة الله كسائر الكبريات العقليّة والنقليّة تتوقّف على إحراز الموضوع وبدونه لا تنتج الحكم بلزوم الإتيان بشيء أو الترك فالمحتملات لا يحرز كونها إطاعة للمولى ومع عدم الإحراز فلا يترتّب عليها وجوب الإطاعة واحتمال العقوبة فيها ينتفي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد اختصاص حقّ الطّاعة بالتّكاليف المعلومة بالعلم الوجداني أو العلمي عند العقلاء.

والشّارع لم يتّخذ في باب الامتثال طريقة غير طريقة العقلاء ولو لا ذلك لبيّنها ولو بيّنها لشاعت ولبانت في مثل هذه المسألة التي تكون مورد الابتلاء.

لا يقال إنّ مورد جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند العقلاء مختصّ بموارد إمكان

٣٦٩

البيان ومع ذلك لم يتبيّن وأمّا إذا لم يمكن البيان كما إذا منع شخص أن يتكلّم المولى ونعلم بأنّ المولى أراد بيان وجوب شيء أو حرمته ففي مثله لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وجميع الموارد المحتملة للتّكاليف تكون من هذا القبيل فإنّ المولى الشّرعي مع حدوث الموانع من الظّلمة والكذبة لا يتمكّن من البيان فلا يجوز الأخذ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في تلك الموارد لنفي العقوبة المحتملة عند العقلاء ومعه فاحتمال العقوبة موجود ويتمّ البرهان بضميمة كبرى وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل لأنّا نقول موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ثلاثة أحدها : الموارد التي أمكن للمولى البيان ولم يبيّن ولا إشكال في جريان القاعدة فيها من دون فرق بين المولى الحقيقي وسائر الموالي.

وثانيها : الموارد التي لا إشكال في عدم جريانها فيها وهي التي فرض العلم بوجود الإرادات الحتميّة للمولى مع عدم تمكّنه من البيان لوجود المانع ونحوه فإنّ العلم بالإرادة في حكم البيان ولا مورد للقاعدة مع البيان كما لا يخفى.

وثالثها : الموارد التي يشكّ فيها أنّها من قبيل الأولى أو الثانية ففي هذه الموارد تجري القاعدة عند العقلاء إلّا في بعض مهامّ الامور إذ لا بيان ومع عدم البيان تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ودعوى العلم بالإرادة الحتميّة مع عدم التّمكن من البيان بعد العلم بحصول الموانع من الظّلمة والكذبة مندفعة بأنّ المفروض هو الشكّ في الإرادة والواقع بحسّ الموارد ومع الشكّ لا بيان كما لا يخفى.

ودعوى أنّه لا إشكال في أنّ العقلاء بما هم كذلك لا يتوقّفون في محتمل المطلوبيّة ولا يقتحمون في محتمل المبغوضيّة في مقاصدهم وأغراضهم في شيء من الموارد وإذا كانوا كذلك في الامور الرّاجعة إليهم فبطريق أولى في الامور الراجعة إلى مواليهم لأنّهم يرون العبد فانيا في مقاصد الموالى وبمنزلة أعضائه وجوارحه بحيث يجب أن يكون مطلوبه مطلوب المولى وغرضه غرضه فإذا كان العبد في اموره بحيث ينبعث أو يرتدع باحتمال النفع والضّرر

٣٧٠

فيجب عليه بطريق أولى أن يرتدع بمجرّد احتمال كون هذا مطلوبا للمولى أو كون ذاك مبغوضا له وإذا كان هذا حكم العقلاء بما هم عقلاء فكيف يحكم العقل بقبح العقاب.

مندفعة بأنّه لو سلّمنا وجود البناء في الموارد المذكورة فلا يمكن الاستدلال به في مثل المقام بالأولوية لأنّ بناء الشّارع على الأخذ بالسهولة وهذا الفرق يمنع عن التعدّي عن موارد البناء المذكور إلى المقام بالأولويّة.

هذا مضافا إلى أنّ وجود البناء في الموارد التي شكّ في أصل الإرادة والتّكليف فيها غير ثابت سواء تمكّن عن البيان أو لم يتمكّن فلا تغفل.

الوجه الثّاني :

أنّه لو لم يأخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح وعليه فيجب الأخذ بالظنّ المطلق وهذا هو معنى حجّيّة الظنّ.

واجيب عنه بالمنع عن الكبرى بدعوى أنّه ليس ترجيح المرجوح في جميع الموارد قبيحا لأنّ المرجوح قد يوافق الاحتياط فالأخذ به في هذا الصورة ليس قبيحا وفيه أنّ المرجوح المطابق للاحتياط ليس العمل به ترجيحا للمرجوح بل هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح مثلا إذا ظنّ عدم وجوب شيء وكان وجوبه مرجوحا فحينئذ الإتيان به من باب الاحتياط ليس طرحا للراجح في العمل لأنّ الإتيان لا ينافي عدم الوجوب.

فالأولى هو أن يجاب عنه بمنع الصغرى فنقول إنّ الاستدلال بذلك إن كان في صورة الانفتاح كما هو محلّ الكلام في هذا المقام فلا دوران حينئذ لأنّ بعد قيام العلم أو العلمي بالنّسبة إلى الأحكام الواقعيّة فينحلّ العلم الإجمالي بالأحكام في موارد العلم والعلمي ولا علم بوجودها بين مورد الظنّ وبين طرفه من الشكّ والوهم حتّى يقال لزم الأخذ بالظنّ لئلّا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وحينئذ فمع عدم العلم بوجود الأحكام الشرعيّة بني الظنّ وطرفه من الشكّ والوهم يرجع إلى البراءة العقلية أو الشرعية في جميع الأطراف ولا يلزم من ترجيح المرجوح على الراجح لأنّ نسبة البراءة إلى جميع الأطراف متساوية.

٣٧١

وإن كان الاستدلال بذلك في صورة الانسداد ولزوم الأخذ بالظنّ أو طرفه من الشكّ والوهم دار الأمر بين ترجيح الظنّ وترجيح طرفه ولكنّه يتوقّف على تماميّة مقدّمات الانسداد وإلّا فلا تصل النوبة إلى الدوران بين ترجيح الراجح وترجيح المرجوح لأنّ اللازم عليه في هذه الصورة هو أن يعمل بموارد الانحلال أو يعمل بالاحتياط في جميع الأطراف لقاعدة الاشتغال فتحصّل أنّه لا دليل على حجّيّة الظنّ المطلق في حال الانفتاح.

المقام الثّاني :

في دليل الانسداد وهذا الدّليل الذي استدلّ به على حجّيّة الظنّ المطلق في زمان الانسداد مركّب من عدّة مقدّمات يستقلّ العقل مع ثبوتها بكفاية الإطاعة الظنّية أو يستكشف بها مشروعيّة التبعيّة عن الظنّ في مقام الامتثال وهذه المقدّمات خمسة :

المقدّمة الاولى :

أنّه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة الإسلاميّة وأطراف هذا العلم الإجمالي لا يختصّ بموارد الأخبار.

المقدّمة الثانية :

أنّه ينسد باب العلم أو العلمي بالنّسبة إلى المعلوم بالإجمال.

المقدّمة الثالثة :

أنّه لا يجوز إجمال التكاليف وترك التعرّض لامتثالها لتنجّزها بسبب العلم الإجمالي.

المقدّمة الرابعة :

أنّه لا مجال للرجوع إلى الوظائف المقرّرة للجاهل بالأحكام من الاحتياط التّام للزوم الاختلال أو العسر والحرج ومن الرجوع إلى فتوى الغير الذي يعتقد الانفتاح لمنافاته مع العلم بالانسداد ومن الرّجوع إلى القرعة لعدم جواز الأخذ بها في الشّبهات الحكمية ومن الرّجوع إلى الاصول العمليّة للزوم المخالفة العملية من جريانها إن كانت نافية ولغير ذلك.

المقدّمة الخامسة :

أنّ ترجيح المرجوح على الرّاجح قبيح.

٣٧٢

فإذا تمّت المقدّمات المذكورة ودار الأمر بين الامتثال الظّنّي والشكّي أو الوهمي لا يجوز التنازل إلى الشكّي أو الوهمي في مقام الامتثال لأنّه ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح. هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال على حجّيّة الظنّ المطلق.

ملاحظات حول دليل الانسداد

أمّا المقدّمة الأولى فهي وإن كانت بديهيّة إلّا أنّ العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة ينحلّ بالعلم الإجمالي في الدائرة الصّغيرة وهي الأخبار ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص دائرة الأخبار وعليه فمع تماميّة سائر المقدّمات لم يثبت إلّا وجوب العمل بالظنون الحاصلة من الأخبار لا الظنّ المطلق.

وأمّا المقدّمة الثانية ففيها منع عدم وفاء الدّليل العلمي بمعظم الأحكام وإن انسدّ باب العلم وذلك لما يحكم به الوجدان من عدم بقاء العلم الإجمالي بالأحكام بعد الأخذ بأخبار الثّقات وغيرها من يقينيّات والمعلومات التفصيليّة وقد مرّ أنّ الأخبار الواردة عن الثّقات حجّة وإن لم تفد الوثوق النوعي وهكذا عرفت حجّيّة الخبر الموثوق الصّدور وإن لم يكن رواتها من الثقات ومن المعلوم أنّ أخبار الثقات والأخبار الموثوق بها مع ضميمة اليقينيّات والمعلومات التفصيلية وافية بمعظم الفقه ومعها ينحلّ العلم الإجمالي ولا مجال لمقدّمات الانسداد.

نعم لو قلنا بحجّيّة خصوص أخبار العدول أو خصوص ما يفيد الوثوق الفعلي أو الوثوق النّوعي لما حصل الانحلال وحينئذ يكون لمقدّمات الانسداد مجال.

وبالجملة يختلّ دليل الانسداد بمنع هذه المقدّمة ولا ثمرة للبحث عن سائر المقدّمات إلّا في المشابهات للمقام مع ثبوت المقدّمة الثانية فيها كدعوى الانسداد في ترجمة الرجال بعد وجود العلم الإجمالي بوجوب الأخذ برواياتهم وانسداد باب العلم والعلمي في ذلك الباب فيمكن الاعتماد على الظنّ الحاصل من التراجم بأحوال الرجال.

٣٧٣

وأمّا المقدّمة الثّالثة فلا إشكال في تماميّتها لتنجّز التكاليف بسبب العلم الإجمالي ولا يجوز في مقام الامتثال الاقتصار على المعلوم بالتفصيل وإلّا لزم الخروج عن الدين.

وأمّا المقدّمة الرابعة فهي تامّة بالنّسبة إلى الاحتياط المخلّ بالنّظام لعدم رضا الشّارع بذلك وأمّا بالنّسبة إلى لزوم العسر والحرج من الاحتياط فقد يمنع عدم وجوبه بدعوى عدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط إذا كان الاحتياط بحكم العقل لعدم العسر في متعلّق الحكم الشرعي ولا في نفس الحكم وإنّما العسر من ناحية الجمع بين محتملات التّكليف وهو لا يجب إلّا بحكم العقل والحكم العقلي ليس بمنفي بقاعدة نفي العسر والحرج.

ويمكن أن يقال إنّ المنفي نفس الحرج أو الضّرر من أيّ سبب حصل سواء كان منشأهما هو الحكم الشّرعي أو موضوعه أو الحكم العقلي الاقتضائي كوجوب الاحتياط وهذا هو الظّاهر من تعلّق النّفي بنفس الحرج أو الضرر إذ جعل المنفي وهو الضّرر أو الحرج عنوانا مشيرا إلى الضّارّ أو الموجب للحرج أو الحكم الشرعى خلاف الظّاهر لأنّ لفظ الضّرر أو الحرج اسم مصدر وليس عنوانا لغيره كالضّارّ أو الحكم الشرعي العسري أو الضّرري حتّى يكون النفي راجعا إلى الفعل الضرري أو الحرجي أو الحكم الشرعي وعليه فتمّت هذه المقدّمة.

لا يقال لو كان المراد من نفي الضّرر أو الحرج هو نفي نفس الضرر أو الحرج تشريعا لكان مفاد لا ضرر ولا حرج هو نفي حرمة الضرر أو الحرج وهذا ممّا لم يلتزم به أحد.

وعليه فيدور الأمر بين أن يكون المراد من النفي هو النهي عن الإضرار والضّرر بالغير أو النّفس كما هو الحال في مثل قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) فإنّ المراد منه نهي المحرم عن هذه الامور حال الإحرام.

أو أن يكون المراد من النفي هو النفي التشريعي بمعنى نفي الحكم الضّرري أو الحرجي في الشريعة وهو الظاهر من أدلّة نفي الحرج والضرر بقرينة ما في بعض الرّوايات من أنّه لا ضرر في الإسلام أو في الدين.

٣٧٤

لانّا نقول إنّ دليل لا ضرر ولا حرج بقرينة كونهما في مقام الامتنان وإفادة سهولة الإسلام والدين لا ينفيان الحرمة بل النفي فيهما هو التجويز ومعناه أنّ الضرر أو الحرج لا يجوّزه الشّارع لا بالنّسبة إلى الغير ولا بالنّسبة إلى النفس وبهذا الاعتبار يفيد نفي نفس الضّرر أو الحرج وعليه تشريع تجويزهما من أيّ جهة كانت يستلزم نفي الموضوع الضّرري أو الحكم الشّرعي بل الاحتياط العقلي أيضا لأنّ الحكم العقلي في أطراف العلم الاجمالي اقتضائي والحكم الاقتضائي قابل لأن يرفعه الشّارع ولا فرق في شموله للحكم العقلي بين المباني المذكورة من كون مفاد لا ضرر أو لا حرج نفي نفس الضّرر أو الحرج أو نفي الموضوع الضرري أو الحرجي أو نفس الحكم الشّرعي ثمّ قوله في الإسلام أو في الدّين لا يوجب تخصيص النّفي بالأحكام الشّرعية لأنّ الدين أو الإسلام ظرف النفي لا المنفي هذا مضافا إلى أنّ القيدين المذكورين لم يردا في الرّوايات المعتبرة.

وأمّا عدم جواز الرّجوع إلى فتوى الغير فهو واضح ضرورة أنّه لا يجوز ذلك إلّا للجاهل لا للفاضل الذي اعتقد خطأ المجتهد الذي يدّعي انفتاح باب العلم أو العلمي بل رجوعه إليه من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل.

وأمّا الرّجوع إلى القرعة في الشّبهات الحكمية فلاختصاصها بالشّبهات الموضوعيّة في الجملة كما لا يخفى.

وأمّا عدم جواز الرّجوع إلى الاصول العمليّة فإن كان الأصل مثبتا للتكليف ولم يكن من الاصول المحرزة كأصالة الاشتغال فلا مانع من الرجوع إليها لعدم منافاتها مع العلم الإجمالي بل هي مساعدة معه.

وإن كان الأصل مثبتا وكان من الاصول المحرزة كاستصحاب المثبت للتكليف فهو على قسمين أحدهما ما إذا لم يعلم بانتقاض الحالة السابقة كما إذا كان الكأسان نجسين ولم يعلم تطهير أحدهما فلا مانع من جريان استصحاب النجاسة وجواز الرجوع إليه وثانيهما ما إذا علم إجمالا بالانتقاض كما إذا كان الكأسان نجسين وعلم بتطهير أحدهما وحينئذ فإن قلنا

٣٧٥

بأنّ المانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي هو لزوم المخالفة العمليّة فلا مانع من جريان الاستصحاب في المقام لعدم لزوم المخالفة العمليّة مع فرض كون الاستصحاب مثبتا للتكليف وإن قلنا بأنّ المانع هو نفس العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السّابقة ولو لم يلزم المخالفة العمليّة فلا يجري الاستصحاب للتكليف في المقام للعلم بانتقاض الحالة السابقة في الجملة وإن كان الاصول العمليّة نافية فالرّجوع إليها ممنوع فيما إذا كان في الرّجوع إليها محذور الخروج عن الدين أو الإهمال بالنّسبة إلى التكاليف الواقعيّة المعلومة كما هو الظّاهر لكثرة الاصول النافية.

وأمّا المقدّمة الخامسة فلا كلام بالنّسبة إليها لأنّ كلّ مورد يدور الأمر فيه بين ترجيح المرجوح على الراجح أو العكس يحكم العقلاء بلزوم ترجيح الراجح على المرجوح وقبح العكس وهذه كبرى ثابتة عند العقل والعقلاء.

وحينئذ مع فرض تماميّة المقدّمات المذكورة ودوران الأمر بين ترجيح الامتثال الظّني وبين ترجيح الامتثال الشكّي أو الوهمي فلا إشكال في تقديم ترجيح الامتثال الظنّي للقاعدة المذكورة والمفروض أنّه لا طريقة للشارع غير طريقة العقلاء وعليه فاللازم بعد الأخذ بالعلم التفصيلي والاصول المثبتة هو الرجوع إلى التكاليف المظنونة دون المشكوكة أو الموهومة هذا إذا لزم من الاحتياط في جميع الأطراف عسر وحرج كما هو المفروض وإلّا فاللّازم هو الاحتياط التامّ في جميع الأطراف لبقاء العلم الإجمالي بالتّكاليف.

ولكن الكلام في تماميّة المقدّمات وقد عرفت في المقدّمة الثانيّة أنّ العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة ينحلّ بالعلم الإجمالي في الدائرة الصّغيرة وهي دائرة الأخبار إذ مع حجّيّة الأخبار والعلم بوجود تكاليف فعليّة فيها بمقدار المعلوم بالإجمال لا يبقى علم بالتكاليف في غيرها فيجوز الرّجوع فيه إلى الاصول العملية النافية فلا يدور الأمر بين الامتثال الظنيّ والامتثال الشكّي أو الوهمي حتّى يجب ترجيح الظنّي على غيره.

بل اللازم حينئذ هو الأخذ بمفاد الأخبار بعد ثبوت حجّيتها ولا ينتج المقدّمات ترجيح

٣٧٦

الظنّ في مطلق موارد دوران الأمر بين الظنّ والشكّ أو الوهم وبالجملة فمع ثبوت حجّيّة الأخبار الآحاد وانحلال العلم الإجمالي بالتّكاليف الواقعيّة فيها لوفائها بها لا مجال لدليل الانسداد في المقام.

نعم ربّما تتمّ مقدّمات دليل الانسداد في غير المقام من موارد الامتثال كما إذا تردّدت القبلة بين الجهات الأربعة وظنّ بها في بعضها المعيّن ولم تقم بيّنة على طرف منها ولم يجر أصل محرز في طرف منهما ولم يكن الاحتياط لضيق الوقت فمع تنجّز التّكليف وعدم الانحلال وعدم إمكان الاحتياط يتعيّن الأخذ بالظنّ لقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح في مقام الامتثال.

فتحصّل أنّ الظنّ المطلق لا دليل على حجّيّته بعد كون المفروض هو انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الشّرعية في دائرة الظّنون الخاصّة المعتبرة من الأخبار الآحاد لعدم تماميّة مقدّمات الانسداد بالنّسبة إلى الظنّ المطلق فلا تغفل.

التنبيهات

التنبيه الأول :

أنه لا مجال لحجية الظن المطلق لا عقلا ولا شرعا بعد ما عرفت من عدم تمامية مقدمات الانسداد ؛ إذ العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة ينحل بأخبار الثقات بناء على حجية الأخبار ، ومعه لا مجال لحجية الظن المطلق ، بل لو لم نقل بحجية الأخبار ولكن انحلّ العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة بالعلم الاجمالي في دائرة المظنونات وجب العمل بالمظنونات من باب كونها أطراف المعلوم بالاجمال ، ومقتضى العلم الاجمالي هو الاحتياط في الاطراف لا من باب حكم العقل بحجية الظن على تقرير الحكومة ، ولا من باب كشف العقل عن حجية الظن شرعا. وهذا واضح بعد عدم تمامية مقدمات دليل الانسداد.

وأمّا اذا تمت مقدمات دليل الانسداد بأن لا ينحل العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة فهل يكون النتيجة هي حجية الظن المطلق أو لا تكون؟

٣٧٧

فقد ذهب السيد المحقّق الخوئي قدس‌سره الى أنّ النتيجة حينئذ هي التبعيض في الاحتياط ، لا حجية الظن عقلا ولا شرعا حيث قال قدس‌سره : وملخّص ما ذكرناه في هذا البحث أن انسداد باب العلم والعلمي موقوف على عدم حجية الأخبار سندا ودلالة ، وقد أثبتنا حجيتها سندا ودلالة ، وباثبات حجيتها ينفتح باب العلمي وينحل العلم الاجمالي ، فلا مانع من الرجوع الى الاصول العملية في غير موارد قيام الأخبار.

ومع الغض عن ذلك وتسليم عدم حجية الأخبار كان مقتضى العلم الاجمالي هو الاحتياط والأخذ بجميع الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة الدالة على التكليف ؛ لانّ العلم الاجمالي الأول قد انحل بالعلم الثاني والثاني بالثالث على ما تقدم بيانه ، وهذا الاحتياط لا يوجب اختلال النظام ولا العسر والحرج ؛ فانّ جماعة من أصحابنا الأخباريين قد عملوا بجميع هذه الأخبار ، ولم يرد عليهم الحرج ولا اختل عليهم النظام.

وعلى تقدير تسليم عدم انحلال العلم الاجمالي الأول بدعوى العلم بأنّ التكليف ازيد من موارد الأخبار لا بد من التبعيض في الاحتياط على نحو لا يكون مخلا بالنظام ولا موجبا للعسر والحرج ، فلو فرض ارتفاع المحذور بالغاء الموهومات وجب الاحتياط في المشكوكات والمظنونات ، واذا لم يرتفع المحذور بذلك يرفع اليد عن الاحتياط في جملة من المشكوكات ويحتاط في الباقي منها وفي المظنونات ، وهكذا الى حدّ يرتفع محذور الاختلال والحرج ، ويختلف ذلك باختلاف الاشخاص والازمان والحالات الطارئة على المكلف والموارد ، ففي الموارد المهمة التي علم اهتمام الشارع بها كالدماء والاعراض والاموال الخطيرة لا بد من الاحتياط حتى في الموهومات منها ، وترك الاحتياط في غيرها بما يرفع معه محذور الاختلال والحرج.

فتحصّل : أن مقدمات الانسداد على تقدير تماميتها عقيمة عن اثبات حجية الظن لا بنحو الحكومة ؛ لما عرفت من عدم معقولية حجية الظن بحكم العقل ، إذ العقل ليس بمشرع ليجعل الظن حجة ، وانّما شأنه الادراك ليس إلّا ، فالجعل والتشريع من وظائف المولى ،

٣٧٨

والعقل يدرك ويرى المكلف معذورا في مخالفة الواقع مع الاتيان بما يحصل معه الظن بالامتثال على تقدير تمامية المقدمات ، ويراه غير معذور في مخالفة الواقع على تقدير ترك الامتثال الظني والاقتصار بالامتثال الشكي أو الوهمي ، وهذا هو معنى الحكومة. (١)

ولا بنحو الكشف ؛ لتوقفه على قيام دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط ، ولم يقم ، فتكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، لا حجية الظن. (٢)

وعليه فمقدمات دليل الانسداد على تقدير تماميتها لا تنتج حجية الظن بحكم العقل أو الشرع ، نعم يرى العقل من أخذ بالظن في مقام الامتثال معذورا غير مستحق للعقاب على مخالفة الواقع ، ومن لم يأخذ بالظن في مقام الامتثال مستحقا للعقاب على مخالفة الواقع. والحكومة بهذا المعنى لا بد منه.

ولكن ذهب في نهاية الأفكار الى أنّ الحق هو تقرير دليل الانسداد على نحو الحكومة العقلية ، بمعنى مثبتية الظن للتكليف عقلا الراجع الى تنزل الشارع من العلم الى الظن في مقام الاثبات ، لا في مقام الاطاعة والاسقاط.

واستدل لذلك بأنّ مسلك التبعيض يبتني على منجزية العلم الاجمالي وعدم انحلاله بكشف وجود منجز آخر في البين بمقدار الكفاية ، وهي ممنوعة جدا ؛ لقيام الاجماع والضرورة على بطلان الخروج من الدين ، ولو فرض عدم علم اجمالي رأسا أو فرض عدم منجزيته للتكليف ؛ إذ بمثله يكشف عن وجود مرجع آخر في البين بمقدار الكفاية غير العلم الاجمالي موجب لانحلاله ، ولذلك جعلنا هذا المحذور هو العمدة في المستند ؛ لعدم جواز الاهمال ، مضافا الى ما أوردنا عليه سابقا من لزوم سقوطه عن المنجزية أيضا بمقتضى الترخيص المطلق في طرف الموهومات بل المشكوكات من جهة الاضطرار أو الحرج والعسر المقارن للعلم الاجمالي ، فبعد سقوط العلم الاجمالي يتعين تقرير الحكومة ؛ إذ بعد

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٤٠.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ص ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٣٧٩

انسداد باب العلم والعلمي وعدم ثبوت جعل من الشارع ولو بمثل ايجاب الاحتياط يحكم العقل بلزوم اتخاذ طريق في امتثال الأحكام بمقدار يرتفع به محذور الخروج عن الدين ، ويتعين في الظن باعتبار كونه أقرب الى الواقع من الشك والوهم ، فيحكم بلزوم الأخذ به ، والرجوع فيما عداه الى البراءة. ومع حكم العقل بذلك لا مجال للكشف لاحتمال ايكال الشارع في حكمه بلزوم تعرض الأحكام الى هذا الحكم العقلي ؛ إذ مع الاحتمال المزبور لا يبقى طريق لكشف جعل من الشارع في البين. (١)

ولا يخفى عليك أنه لا يبعد دعوى العلم الاجمالي بوجود تكاليف عديدة بين المظنونات مع قطع النظر عن العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة ، ولذا قلنا بانحلال العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة بوجود العلم الاجمالي في دائرة المظنونات ، ومن المعلوم أن انحلال العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة أو عدم منجزيته لا يضر بوجود العلم الاجمالي في دائر المظنونات ومنجزيته.

وعليه فمقتضى العلم الاجمالي في دائرة المظنونات هو وجوب الاحتياط التام في أطرافها لا من باب كون الظن مثبتا للحكم ولا من باب التبعيض في الاحتياط ، بل من باب كون المظنونات هي أطراف المعلوم بالاجمال.

ودعوى : انحلال العلم الاجمالي في أطراف المظنونات بعنوان ما لولاه لزم الخروج عن الدين.

مندفعة : بأنّ الانحلال المذكور لو تم لا يوجب أن يكون الظن مثبتا للحكم ، بل العنوان المذكور يكون في دائرة المظنونات ، واللازم في اتيان هذا العنوان هو الاحتياط في أطراف المظنونات حتى يمتثل. هذا ، مضافا الى ما مر سابقا من أن الترخيص في بعض أطراف المعلوم بالاجمال لا يوجب سقوط العلم الاجمالي عن التنجيز فيما اذا كانت التكاليف متعددة.

وعليه فلو لم نقل بانحلال العلم الاجمالي في الدائرة الكبيرة فلا محيص عن حكم العقل

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ٣ ص ١٦١ ـ ١٦٢.

٣٨٠